الأسباب والأعمال التي يُضاعف بها الثواب
تأليف الشيخ العلامة عبد الناصر السعدي
شرح محمد بن إبراهيم الحمد
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا الكتاب المفيد هو شرح لرسالة صغيرة الحجم، كبيرة القدر والمعنى، والتي سطرتها يراع الإمام الفذ العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله رحمةً واسعة، وهي تشتمل على ذكر الأسباب والأعمال التي يضاعف بها الثواب، وهي في مجلمها تدور حول نماذج من العمل الصالح والأسباب التي تؤدي إلى مضاعفة ثوابه، والطرق الموصلة إلى ذلك.
وهي جواب مسدد، لسؤال عظيم، يترتب عليه ثواب جزيل، وقد ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى -لمضاعفة العمل أسباباً عديدة، وضوابط جامعة يدخل تحتها أفراد كثيرة.
وقد جاءت هذه الرسالة بأسلوب سهل میسور، وفي قالب مرغب مُقرب، وهذا الباب من أبواب العلم لطيف شريف، يفتح أمام العبد آفاقاً من الخير، وينهض به إلى أعلى مقامات العبادة والسعادة ويرقى بالأمة إلى أقصى مراتب السيادة والمجادة، ويغلق أبواباً من الشر لا تحصى، ويدعو إلى تنزيل الأعمال منازلها، وأن يُجعل لكل مقام ما يليق به..
وبالجملة فهذه الرسالة جمعت خيراً كثيراً، واحتوت على وصايا نافعة قد لا تجده في غيرها، كما أن الشرح مفيدٌ أيضاً، وفيه من الفوائد والدرر الشيء الكثير.
وفي هذا المقال البسيط (تفريغ لمقدمات الشارح):
-مقدمة الشيخ الشارح محمد بن إبراهيم الحمد.
-نبذة يسيرة عن حياة الشيخ السعدي.
-دراسة مجملة لرسالة السعدي:
أ-أهمية الرسالة.
ب-تعريف بالرسالة.
ج- مجمل ما اشتملت عليه الرسالة.
د-الأسباب التي ذكرها في هذه الرسالة إجمالاً.
هـ-طريقة الشرح.
-نص رسالة الشيخ السعدي -رحمه الله.
مقدمة الشيخ الشارح محمد بن إبراهيم الحمد
في زمن كثر فيه المال، وتنوعت التجارات، وانتشرت المرابحات، وصار لهذه وتلك أقوى الدعايات. فاجتذبت نفراً غير قليل من الناس؛ فصاروا يسألون عنها، ويتواصون بها؛ رغبة في المال، وحرصاً على تنميته، وخوفاً من معرة الفقر، ومذلة الحاجة.
ولا تثريب عليهم في ذلك؛ إذ لابد للناس من دنياهم، ولا مأئمة في صنيعهم إذا لم يكن من طريق محرم، ولا حرج في جمع الدنيا من الوجوه المباحة ما لم يكن صاحبها عن الواجبات في شغل شاغل.
ولقد ذكر الله - تعالى - التجارة في معرض الحط من شأنها حيث شغلت عن طاعة في قوله - تعالى -: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (الجمعة: ١١).
ولما رجعوا عن صنيعهم، وأخذوا بأدب الشريعة في إيثار الواجبات الدينية، وعدم الانقطاع عنها إلى الاشتغال بالتجارة ونحوها ـ ذكرها، ولم يهضم من حقها شيئاً، فقال - تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله} (النور: ۳۷).
فأثبت لهؤلاء الكُمَّل أنهم تجار وباعة، ولكنهم لم يشتغلوا بضروب منافع التجارة عن فرائض الله، وهذا قول المحققين في الآية.
وكما أذن الإسلام في اكتساب الأموال، واستثمار أرباحها من وجوهها المعتدلة أذن في الاستمتاع بها، وترويح الخاطر بنعيمها؛ شريطة الاقتصاد.
وأما الآيات الواردة في سياق التزهيد، والحط من متاع الحياة الدنيا فلا يقصد منها ترغيب الإنسان؛ ليعيش مجانباً للزينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق.
وإنما يُقصد منها - فيما يبدو - حكم أخرى كتسلية الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ومَنْ قَصُرَتْ أيديهم عن تناولها؛ لئلا تضيق صدورهم على آثارها أسفاً.
ومنها تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاع ما في طبيعتها من الشره، والطمع؛ لئلا يخرجا بها عن قصد السبيل، ويتطوَّحا بها في الاكتساب إلى طرق غير لائقة.
فاستصغار متاع الدنيا، وتحقيرُ لذائذها في نفوس الناس يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويُكبرُ بهممهم عن جعلها قبلة يولون وجوههم شطرها حيثما كانوا.
وقد بين لنا العيان أن الإنسان متى عكف على ملاذ الحياة، ولم يصْحُ فؤاده عن اللهو بزخارفها ماتت عواطفه، ونسي، أو تناسى من أين تؤتى المكارم، والمروءة، ودخل مع الأنعام في حياتها السافلة.
وأما ما ثبت عن بعض السلف من نبذ الزينة، والإعراض عن العيش الناعم عند القدرة عليه، أو في حال وجوده - فلا يريدونه قربة بنفسه، ولكن يبتغون به الوسيلة إلى رياضة النفس، وتدريبها على مخالفة الشهوات؛ لتستقر تحت طوع العقل بسهولة، وتتمكن من طرح أهوائها الزائغة بدون كلفة؛ فلو وثق الإنسان من نفسه بحسن الطاعة لم تكن في مجانبته للطيبات مزية ولا مؤاخذة.
وبعد هذه الجولة العجلى في نظر الشارع إلى المال، وإباحته سائر المعاملات والمرابحات ما لم تكن مخالفة للشرع، وإذنه بالاستمتاع بالمال ما لم يشغل عن طاعة - نصل إلى مربط الفرس، وبيت القصيد وهو التجارة الأخروية، والمعاملة مع الله - عز وجل .. التجارة الرابحة، والمعاملة المنجحة التي لا تخضع لحسابات البشر، ولا لمقاييسهم المادية
فتلك هي المقدمة، وهي التي يجب أن تكون الأصل، لا أن تكون هي الفرع، ولا أن تكون الدنيا هي الأصل.
قال الله - عز وجل - في شأن قارون وما قال له قومه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدار الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: ۷۷).
أما إذا عكس الأمر ـ كما هو الحال عند فئام من الناس - فصارت الدنيا هي الأصل، والآخرة هي الفرع، أو لم تخطر لهم بالبال، ولم تكن في الحسبان - هو الوبال، والخبال، والخسران المبين.
جاء في الحديث المرفوع عن أنس بن مالك: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفس؛ ليبارك له فيه، ولا يأخذه بإشراف وهلع، بل يكون المال عنده بمنزلة الخلاء الذي يحتاج إليه من غير أن يكون له في القلب مكانة، والسعي فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء».
وقال في موضع آخر: «فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده؛ فيكون هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً».
وقال أبو حازم سلمة بن دينار: « أوحى الله - عز وجل - إلى الدنيا: من خدمك فأتعبيه، ومن خدمني فاخدميه» . وجاء في بعض الآثار: ابن آدم بع نصيبك من الدنيا بالآخرة تربحهما جميعاً، ولا تبع الآخرة بالدنيا تخسرهما جميعاً).
وقال بعض السلف: «أنت محتاج إلى الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج؛ فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مَرَّ على نصيبك من الدنيا، فانتظمه انتظاما».
وبعد: فهذه توطئة ومدخل بين يدي شرح هذه الرسالة الصغيرة في حجمها الكبيرة في معناها والتي رَقَمَتْها يراعةُ إمام فذ، وعالم جهبذ بأسلوب سهل میسور، وفي قالب مرغب مُقرب. أما المؤلف فهو العلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي.
أما الرسالة فهي: الأسباب والأعمال التي يضاعف بها الثواب، وهي جواب مسدد، لسؤال عظيم، يترتب عليه ثواب جزيل، كيف لا وهذه الرسالة تدور حول العمل الصالح ومضاعفته، والطرق الموصلة إلى ذلك، كيف لا وهي تدل على خير عظيم بسبب عمل يسير، وتدفع إلى مزيد من البر والإحسان، وترفع الآخذ بها درجات، فهي - بحق - ميدان فسيح للمرابحة والتجارة التي لا تبور.
ثم إن كثيراً من تلك الأسباب التي سيرد ذكرها وشرحها لا تحتاج إلا إلى نية واحتساب؛ إذ العبد يؤديها أحياناً هكذا من تلقاء نفسه؛ فإذا استحضر النية، واستشعر الثواب، وحرص على إيقاع العمل على أحسن وجوهه - تضاعف ثوابه، وعظم أجره. ولقد ذكر المؤلف لمضاعفة العمل أسباباً عديدة، وضوابط جامعة يدخل تحتها أفراد كثيرة.
ولا ريب أن هذا باب من أبواب العلم لطيف شريف يفتح آفاقاً من الخير، وينهض بالعبد إلى أعلى مقامات العبادة والسعادة ويرقى بالأمة إلى أقصى مراتب السيادة والمجادة، ويغلق أبواباً من الشر لا تحصى، ويدعو إلى تنزيل الأعمال منازلها، وأن يُجعل لكل مقام ما يليق به.
وكم حصل من الجهل أو التفريط بهذا الأصل - وهو معرفة مراتب الأعمال، وأسباب مضاعفتها - من ضياع للفرص، وحرمان الأمة من خير عظيم، وطاقات كثيرة. تظفر بها مجتمعة في غير هذا الموضع.
ولعل السبب في شرحها لَفْتُ الأنظار إليها، والرغبة في أن تأخذ حقها من الذيوع؛ لما لها من الأهمية التي مرَّ ذكر لشيء منها، وسيمر ـ أيضاً ـ شيء من ذلك.
وقبل الشروع في شرح تلك الرسالة يحسن الوقوف على شيء من سيرة كاتبها، وعلى شيء من المباحث التي تبين محتوياتها ومكنوناتها، وعلى الطريقة التي سيسير عليها الشرح.
المبحث الأول نبذة يسيرة عن حياة الشيخ عبدالرحمن السعدي
أولاً: نسبه ومولده ونشأته:
هو الشيخ العلامة الزاهد الورع الفقيه الأصولي المفسر عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله ابن ناصر بن حمد آل سعدي، من نواصر بني تميم. ولد في الثاني عشر من شهر الله المحرم سنة ألف وثلاثمائة وسبع للهجرة النبوية الشريفة.
توفيت أمه سنة ۱۳۱۰هـ ، وتوفي والده سنة ١٣١٣هـ فعاش يتيم الأبوين. كان والده من أهل العلم والصلاح ، وكان إماماً في مسجد المسوكف في عنيزة.
ولما توفي والده عطفت عليه زوجة والده وأحبته أكثر من حبها لأولادها، فصار عندها موضع العناية؛ فلما شب عن الطوق صار في بيت أخيه الأكبر حمد؛ فنشأ نشأة صالحة كريمة.
وكان الشيخ عبد الرحمن معروفاً منذ نشأته بالصلاح، والمحافظة على الصلاة الجماعة، كما اشتهر بفطنته، وذكائه، ورغبته الشديدة في العلم.
ثانياً: وصفه الخلقي: كان ذا قامة متوسطة، شعره كثيف، ووجهه مستدير ممتلئ طلق ، ولحيته كثيفة ، ولونه أبيض مشرب بحمرة. وكان شعره في شبيبته في غاية السواد، وبعدما كبر قليلاً صارت لحيته في غاية البياض؛ حيث ابيضت لحيته وهو في الثامنة والعشرين من عمره تقريباً ـ كما أفاد مع بذلك ابنه محمد، وكان على وجه حسن، ونور، وصفاوة.
ثالثاً: أخلاقه:
كان له آية باهرة في الأخلاق؛ فكان رحيماً بالناس، متودداً لهم، مجباً لنفعهم، صبوراً عليهم. وكان ذا دعابة ومرح، طلق المحيا، لا يُعْرَفُ الغضب في وجهه، وكان ينزل الناس منازلهم ويحرص على القرب منهم وإجابة دعواتهم، وزيارة مرضاهم، وتشييع جنائزهم. وكان على جانب كبير من عفة اليد ونزاهة العرض، وعزة النفس، وكان محباً لإصلاح ذات البين؛ فما من مشكلة تعرض عليه إلا ويسعى في حلها برضا من جميع الأطراف؛ لما ألقى الله عليه من محبة الخلق له، وانقيادهم لمشورته.
رابعاً: أعماله:
قام بأعمال جليلة أعظمها دروسه العلمية، وخطبه المنبرية، وتأسيسه وتشجيعه لكثير من الأعمال والمشاريع الخيرية. وكان بلدته عنيزة في جميع الأمور؛ فهو المدرس، والواعظ، وإمام مرجع الجامع، وخطيبه.
وهو المفتي، وكاتب الوثائق ومحرر الوصايا وعاقد الأنكحة، ومستشار الناس فيما ينوبهم، كل ذلك كان يؤديه حسبة الله دون مقابل مادي.
عرض عليه القضاء عام ١٣٦٠هـ فتأبى، وتكدر كثيراً حتى إنه كان يغمى عليه في بعض الأوقات، وكان لا يشتهي الطعام، حتى يسر الله له التخلص منه. وكان يشرف على المعهد العلمي في عنيزة عندما أُسس عام ١٣٧٣هـ فكان يشرف عليه دون مقابل.
خامساً: مرضه ووفاته:
أصيب عام ١٣٧١هـ قبل وفاته بخمس سنين بمرض ضغط الدم، وتصلب الشرايين، فكان يعتريه مرة بعد أخرى إلى أن توفاه الله قبل طلوع فجر يوم الخميس ٢٣ سنة ١٣٧٦ هـ عن تسع وستين سنة.
سادساً: علمه:
حرص الشيخ له منذ نشأته على طلب العلم، وأمضى حياته في العلم حفظاً ودراسة، وتحصيلاً، وتدريساً لا يصرفه عنه صارف.
وكانت له اليد الطولى، والأثر العظيم في النهضة العلمية في بلده عنيزة خاصة، وفي العالم الإسلامي عامة، ولا زالت آثاره تتجدد إلى يومنا هذا. وقد تخرج عليه أعداد من الطلاب، وترك عدداً كبيراً من المؤلفات النافعة في التفسير والحديث، والأصول، والعقيدة، والفقه، والآداب ونحو ذلك.
ومن هذه المؤلفات : تفسيره المعروف بـ : تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ومنها خلاصة التفسير والقواعد الحسان، والفتاوى، وبهجة قلوب الأبرار، وغيرها.
ومن الطلاب الذين درسوا عليه: الشيخ عبدالله بن عقيل - حفظه الله - والشيخ عبدالعزيز السلمان والشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ عبد الله البسام - رحمهم الله تعالى.
المبحث الثاني دراسة مجملة للرسالة
أولاً : أهمية الرسالة:
لهذه الرسالة أهمية عظيمة ، ولقد مر في المقدمة شيء من ذلك، ومما يبرز تلك الأهمية بإجمال ما يلي:
۱ ـ مسيس الحاجة إليها؛ إذ نحن في زمن شاع فيها التكالب على الدنيا كما مر .. وهذه الرسالة تقود إلى الآخرة، وتطفئ من حدة الشره، وترغب في الإقبال على العمل الصالح؛ فهي جديرة بالشرح والبسط.
٢- أنها تضمنت نفائس من العلم ودلت على أبواب كثيرة من الخير على وجازتها ـ كما سيأتي عند الحديث عما اشتملت عليه ..
٣- أنها صدرت من عالم رباني له وزنه، ومكانته، وقبوله.
٤- أنها تبين عن علم جم، ودقةٍ في الاستنباط، وحسن نظر في النصوص، ومراعاة المقاصد الشريعة.
٥- أنها صالحة للخاصة والعامة، ولذوي الغنى واليسار، وذوي الفقر والفاقة.
٦- أنها تحيي الأمل، وتفتح باب الرجاء لمن ظهر له من نفسه أن لا خير فيه، ولا نفع يرتجى من ورائه.
٧- أنها تعين على اختصار كثير من الجهود والأعمال.
ثانياً: تعريف بالرسالة:
هذه الرسالة جاءت في المجلد الذي يحمل مسمى (الفتاوى) وهو ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي والذي طبعه مركز صالح ابن صالح الثقافي.
وهذا المجلد يحتوي على فتاوى كثيرة تحت مسمى «الفتاوى السعدية». وهذه الرسالة تقع في أربع صفحات ونصف حيث جاءت في ص ٣٥-٣٩ من الفتاوى وقد جاءت ضمن القسم الأول فيما يتعلق بأصول الدين والحديث، وقد عنون لها بـ : في الأسباب والأعمال التي يتضاعف بها الثواب.
وقد صدرت بالسؤال التالي -المسألة التاسعة: ما هي الأسباب التي يضاعف بها الثواب؟ وربما يكون هذا السؤال قد ورد على الشيخ له فأجاب عليه، وربما يكون مِنْ وَضع الشيخ؛ حيث كان يأخذ بهذه الطريقة أحياناً؛ حيث يورد أسئلة يرى أن الحاجة تدعو إليها، ثم يجيب عن تلك الأسئلة.
ثالثاً : مجمل ما احتوت عليه تلك الرسالة:
احتوت هذه الرسالة على مباحث عظيمة ، ومطالب عالية، ووصايا نافعة، ومسائل علمية دقيقة ربما لا تجتمع في غير هذا الموضع على قصره ووجازته.
وإليك فيما يلي إجمالاً لما اشتملت عليه:
١ - تقرير أن الأصل في الحسنة مضاعفتها إلى عشر.
٢ - بيان أن المضاعفة قد تزيد على عشر إلى أضعاف كثيرة إذا حصل موجبها.
٣-ذكر الأسباب والأصول العامة للمضاعفة، وهي إما متعلقة بالعامل، أو بالعمل نفسه، أو بزمانه، أو بمكانه، أو بآثاره.
٤-الشروع بذكر الأسباب التي يضاعف بها الثواب مفصلة وسيأتي ذكرها في المبحث الذي يلي هذا المبحث.
٥- التنويه بشأن الإخلاص، وبيان أنه داخل في أكثر الأسباب التي يضاعف بها الثواب.
٦- بيان أن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما يقوم بالقلوب من حقائق الإيمان.
٧- تقرير القاعدة المشهورة التي مفادها أن العمل المفضول قد يعرض له ما يصيره فاضلاً.
٨-بيان أفضلية أهل الإخلاص، والإحسان، والذكر.
رابعاً: الأسباب التي ذكرها المؤلف لمضاعفة الثواب:
ذكر المؤلف أصولاً عامة للمضاعفة - كما مر في الفقرة الماضية .. ثم شرع بذكر أسباب المضاعفة على سبيل التفصيل، وهذه الأسباب - أيضاً - أشبه بالضوابط والأصول، ويدخل تحتها أفراد كثيرة يصعب حصرها.
وبعض هذه الأسباب قريب من بعض، بل داخل في بعض، وقد تجتمع في شخص، أو زمان، أو مكان. وقد أوصلها الله إلى سبعة عشر سبباً، وإليكها على سبيل الإجمال:
١ - تحقيق الإخلاص والمتابعة.
۲- صحة العقيدة، وقوة الإيمان والإرادة والرغبة في الخير.
٣-عموم نفع العمل للإسلام وعظم وقعه وأثره، ويدخل تحت ذلك أمور كثيرة: الجهاد البدني والمالي، والجهاد في تعلم العلم وتعليمه، والمشاريع الخيرية العامة.
٤-الشراكة في الخير المتعدي والاجتماع على العمل.
٥- التسبب في الخير، ودلالة الناس عليه.
٦ - كبر النفع للعمل، كالإنجاء من المهالك، وإزالة الأضرار، وكشف الكرب.
٧-حسن الإسلام، وحسن الطريقة، وترك الذنوب.
٨-رفعة العامل، ومقامه العالي في الإسلام.
٩- الصدقة من الكسب الطيب.
۱۰ - شرف الزمان.
۱۱ - شرف المكان.
۱۲ - العبادة في الأوقات التي حث الشارع على قصدها.
١٣ - القيام بالأعمال الصالحة عند المعارضات: النفسية، والخارجية.
١٤ ـ الاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان والمراقبة، وحضور القلب في العمل.
١٥ - الآثار الحسنة للعمل الصالح في نفع العبد، وزيادة إيمانه، ورقة قلبه، وما جرى مجرى ذلك.
١٦ - إسرار العمل إذا اقتضاه المقام.
١٧ - إعلان العمل إذا كان هو الأنسب ، كما إذا حصل بذلك التأسي.
هذه هي الأسباب التي ذكرها على سبيل الإجمال، ويمكن أن تزيد لو حصل تشقيق لها، وتفريق لبعضها عن بعض.
خامساً: طريقة الشرح:
الطريقة التي سيسير عليها شرح هذه الرسالة سيكون بمشيئة الله على النحو التالي:
١- يكتب من متن الرسالة سطر أو سطران أو أكثر، أو أقل في أعلى خصوصاً إذا كانت الألفاظ واضحة.
٢-يتم تخريج الأحاديث الواردة في المتن.
٣- قد يُعمد إلى شرح الفقرة عموماً دون التعرض لتحليل الألفاظ وشرحها.
٤- يُرجع في الشرح إلى التفاسير، وكتب شروح الحديث، والمعاجم وغيرها.
٥- يُرجع - في الأغلب - في الشرح إلى كتب الشيخ عبد الرحمن السعدي، وقد يكون العزو إلى النقول مع الشرح ، وقد يكون أسفل الصفحة، أي تحت الهامش الأول. إذ خير ما يُفسِّر كلامه كلامه، خصوصاً وأن آثاره كثيرة، وغالباً ما يجمل الكلام في موضع، ويبسطه في موضع آخر.
٦ - ربط بعض ما في المتن ببعض الأمور المستجدة في حياة الناس.
٧- الإكثار من الأمثلة والأفراد التي تندرج تحت الأصول والضوابط العامة؛ ليتبين المقصود بصورة أجلى وأوضح، ولتحصل الفائدة المرجوة لطبقات أكثر الصفحة.
٨- ثم يشرع في ترقيم ما يراد شرحه في الهامش أسفل الصفحات.
٩- قد يجمل الشرح في بعض المواضع، وقد يفصل في بعضها الآخر؛ حسب الحاجة والأهمية.
هذه ـ في الجملة - صورة مجملة تقريبية للطريقة التي سيسير عليها الشرح.
نصّ رسالة الشيخ السعدي -رحمه الله تعالى:
سُئل الشيخ العلّامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، عن أسباب مضاعفة ثواب الأعمال الصالحة، فأجاب رحمه الله بجواب نفيس؛ حيث ذكر أسبابًا متنوعة لمضاعفة ثوابها، مستدلًا بنصوص الوحيين ومراعيًا مقاصد الشريعة ومصالحها.
قال رحمه الله: الجواب؛ وبالله التوفيق: أما مضاعفة العمل بالحسنة إلى عشر أمثالها، فهذا لا بد منه في كل عمل صالح، كما قال تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام:160).
وأما المضاعفة بزيادة عن ذلك، وهي مراد السائل، فلها أسباب: إما متعلقة بالعامل، أو بالعمل نفسه، أو بزمانه، أو بمكانه، وآثاره.
فمن أهم أسباب المضاعفة أن يحقق العبد في عمله الإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول؛ فالعمل إذا كان من الأعمال المشروعة، وقصد العبد به رضى ربه وثوابه، وحقق هذا القصد بأن يجعله هو الداعي له إلى العمل، وهو الغاية لعمله، بأن يكون عمله صادرًا عن إيمان بالله ورسوله.
وأن يكون الداعي له لأجل أمر الشارع، وأن يكون القصد منه وجه الله ورضاه. كما ورد هذا المعنى في عدة آيات وأحاديث، كقوله تعالى: {إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27)، أي: المتقين اللهَ في عملهم بتحقيق الإخلاص والمتابعة، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»، وغيرها من النصوص.
والقليل من العمل مع الإخلاص الكامل يرجح بالكثير الذي لم يصل إلى مرتبته في قوة الإخلاص، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة تتفاضل عند الله بتفاضل ما يقوم بالقلوب من الإيمان والإخلاص.
ويدخل في الأعمال الصالحة التي تتفاضل بتفاضل الإخلاص ترك ما تشتهيه النفوس من الشهوات المحرمة إذا تَرَكَها خالصًا من قلبه، ولم يكن لتركها من الدواعي غير الإخلاص، وقصة أصحاب الغار شاهد بذلك.
ومن أسباب المضاعفة وهو أصل وأساس لما تقدم: صحة العقيدة، وقوة الإيمان بالله وصفاته، وقوة إرادة العبد، ورغبته في الخير؛ فإن أهل السنة والجماعة المحضة، وأهل العلم الكامل المفصل بأسماء الله وصفاته، وقوة لقاء الله، تُضَاعَفُ أعمالهم مضاعفةً كبيرةً لا يحصل مثلها، ولا قريب منها لمن لم يشاركوهم في هذا الإيمان والعقيدة.
ولهذا كان السلف يقولون: "أهل السُّنَّة إن قعدت بهم أعمالهم قامت بهم عقائدهم، وأهل البدع إن كثرت أعمالهم، قعدت بهم عقائدهم". ووجه الاعتبار أن أهل السنة مهتدون، وأهل البدع ضالون. ومعلومٌ الفرق بين من يمشي على الصراط المستقيم، وبين مَن هو منحرف عنه إلى طرق الجحيم، وغايته أن يكون ضالًا متأولًا.
ومن أسباب مضاعفة العمل: أن يكون من الأعمال التي نفعُها للإسلام والمسلمين له وقعٌ وأثرٌ وغَناء، ونفع كبير، وذلك كالجهاد في سبيل الله: الجهاد البدني، والمالي، والقولي، ومجادلة المنحرفين؛ كما ذكر الله نفقة المجاهدين ومضاعفتها بسبعمائة ضعف.
ومن أعظم الجهاد: سلوك طرق التعلّم والتعليم؛ فإن الاشتغال بذلك لمن صحت نيته لا يوزنه عمل من الأعمال، لما فيه من إحياء العلم والدين، وإرشاد الجاهلين، والدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، والخير الكثير الذي لا يستغني العباد عنه؛ فمن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل له به طريقًا إلى الجنة. ومن ذلك المشاريع الخيرية التي فيها إعانة للمسلمين على أمور دينهم ودنياهم التي يستمر نفعها ويتسلسل إحسانها، كما ورد في (الصحيح): «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له».
ومن الأعمال المضاعفة: العمل الذي إذا قام به العبد، شاركه فيه غيره، فهذا أيضًا يضاعف بحسب مَن شاركه، ومَن كان هو سبب قيام إخوانه المسلمين بذلك العمل؛ فهذا بلا ريب يزيد أضعافًا مضاعفة على عملٍ إذا عمله العبد لم يشاركه فيه أحد، بل هو من الأعمال القاصرة على عاملها، ولهذا فضّل الفقهاء الأعمال المتعدية للغير على الأعمال القاصرة.
ومن الأعمال المضاعفة: إذا كان العمل له وقع عظيم، ونفع كبير، كما إذا كان فيه إنجاء من مَهْلَكة وإزالة ضرر المتضررين، وكشف الكرب عن المكروبين. فكم من عمل من هذا النوع يكون أكبر سبب لنجاة العبد من العقاب، وفوزه بجزيل الثواب، حتى البهائم إذا أزيل ما يضرها كان الأجر عظيمًا. وقصة المرأة البغيّ التي سقت الكلب الذي كاد يموت من العطش، فغُفر لها بَغْيُها، شاهدةٌ بذلك.
ومن أسباب المضاعفة: أن يكون العبد حَسَن الإسلام، حَسَن الطريقة، تاركًا للذنوب، غير مُصِرّ على شيء منها، فإن أعمال هذا مضاعفة، كما ورد بذلك الحديث الصحيح: «إذا أحسن أحدكم إسلامه؛ فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف...» الحديث.
ومن أسبابها: رفعة العامل عند الله، ومقامه العالي في الإسلام، فإن الله تعالى شكور حليم، لهذا كان أجر نساء النبي صلى الله عليه وسلم مضاعفًا. قال تعالى: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (الأحزاب:31).
وكذلك العالم الرباني، وهو العالم العامل المعلّم تكون مضاعفة أعماله بحسب مقامه عند الله، كما أن أمثال هؤلاء إذا وقع منهم الذنب، كان أعظم من غيرهم، لما يجب عليهم من زيادة التحرُّز، ولما يجب عليهم من زيادة الشكر لله على ما خصهم به من النعم.
ومن الأسباب: الصدقةُ من الكسب الطيب، كما وردت بذلك النصوص.
ومنها: شرفُ الزمان، كرمضان وعشر ذي الحجة ونحوها.
وشرف المكان كالعبادة في المساجد الثلاثة، والعبادة في الأوقات التي حث الشارع على قصدها، كالصلاة في آخر الليل، وصيام الأيام الفاضلة ونحوها، وهذا راجع إلى تحقيق المتابعة للرسول المكمل صلى الله عليه وسلم، مع الإخلاص للأعمال المنمّي لثوابها عند الله.
ومن أسباب المضاعفة: القيامُ بالأعمال الصالحة عند المعارضات النفسية، والمعارضات الخارجية؛ فكلما كانت المعارضات أقوى والدواعي للترك أكثر؛ كان العمل أكمل، وأكثر مضاعفة، وأمثلة هذا كثيرة جدًّا، ولكن هذا ضابطها.
ومن أهم ما يضاعف فيه العمل: الاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان والمراقبة، وحضور القلب في العمل، فكلما كانت هذه الأمور أقوى؛ كان الثواب أكثر، ولهذا ورد في الحديث: «ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها»، فالصلاة ونحوها وإن كانت تجزئ إذا أتى بصورتها الظاهرة، وواجباتها الظاهرة والباطنة، إلا أن كمال القبول، وكمال الثواب، وزيادة الحسنات، ورفعة الدرجات، وتكفير السيئات، وزيادة نور الإيمان بحسب حضور القلب في العبادة.
ولهذا كان من أسباب مضاعفة العمل حصولُ أثره الحسن في نفع العبد، وزيادة إيمانه، ورقّة قلبه، وطمأنينته، وحصول المعاني المحمودة للقلب من آثار العمل؛ فإن الأعمال كلما كملت، كانت آثارها في القلوب أحسن الآثار، وبالله التوفيق.
ومن لطائف المضاعفة: أن إسرار العمل قد يكون سببًا لمضاعفة الثواب، فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله: «رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه..»، ومنهم: «رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه»، كما أن إعلانها قد يكون سببًا للمضاعفة كالأعمال التي تحصل فيها الأسوة والاقتداء، وهذا مما يدخل في القاعدة المشهورة: (قد يعرض للعمل المفضول من المصالح ما يُصيّره أفضل من غيره).
ومما هو كالمتفق عليه بين العلماء الربانيين أنَّ الاتصاف في كل الأوقات بقوة الإخلاص لله، ومحبة الخير للمسلمين مع اللَّهَج بذِكْر الله لا يلحقها شيء من الأعمال، وأهلها سابقون لكلّ فضيلة وأجر وثواب، وغيرها من الأعمال تبع لها؛ فأهل الإخلاص والإحسان والذِّكر هم السابقون المقربون في جنات النعيم.
----------------------------------------------
[1] الشيخ العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي التميمي، من كبار العلماء، وُلد بعنيزة سنة 1307هـ، له مؤلفات نافعة في سائر علوم الشريعة، واشتغل بالتدريس، وله تلاميذ متميزون؛ من أشهرهم الشيخ العلاّمة محمد الصالح العثيمين، توفي بعنيزة سنة 1376هـ، انظر: "علماء نجد" لعبد الله البسام (2/ 422)، و"الأعلام" للزركلي (3/ 340).
[2] الفتاوى السعدية، المسألة التاسعة، (ص 43).
[3] في الأصل: "إذا حقق".
[4] متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] حديث أصحاب الغار متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
[6] رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أي: يكتب للإنسان من صلاته على حسب خشوعه فيها.
[10] متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق