تنزيه الاعتقاد عن الحلول والاتحاد
أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال السيوطي
(849 -911 هـ)
د. جابر السميري د. حسن نصر بظاظو
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ الحلول والاتحاد ووحدة الوجود هي أبرز العقائد التي شاعت في الأديان الوثنية القديمة، والتي تعني اتحـاد جسمين معاً بحيـث تكـون الإشـارة إلى أحدهما إشارةٌ إلى الآخر، والتعبير الحقيقي عن هذه العقيدة: هــو الــزعم بــأن الإلــه قــد حــلَّ فــي جســم عــدد مــن عبــاده، أو بعبــارة أخــرى أن اللاهوت حلَّ في الناسوت، ويقصـد أصـحاب الحلـول بهـذا القـول أن الله جل في علاه حلَّ فـي جميع المكونات من الشجر والحجر والإنسان والحيوان والبحر والجبل والمنخفض -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ويُفرق بعضهم بين الحلول والاتحاد، بأن الحلول يعني وجـود شـيء داخـل شـيء آخـر دون أن يفقـد أحـدهما طبيعتـه أو هويتـه، ويعتقد أصحاب هذا القول أن الــذات الإلهيــة حلَّت فــي الــذات الإنســانية، دون أن يفقد أحدهما طبيعته، فيحــل علــى حــد تعبيــرهم اللاهــوت فــي الناســوت كحلول الماء في الإناء، وأما الاتحـــــاد فيكـــــون أكثـــــر قربـــــاً وامتزاجـــــاً وتـــــداخلاً، وقـــــد يفقـــــد الشـــــيء الممتـــــزج ذاتـــــه أو بعـــــض صـــــفاته وخصائصـه؛ كاتحاد الماء باللبن. وعلى كُلٍّ فإن كلا العقيدتين فاسدتين، والقول بها كفرٌ بالله وبآياته وصفاته.
واتخذت الحلولية أشكالاً وأنماطاً متعددة، فبعضهم يقول بإلهية بعض البشر أو الملائكة أو الحيوان والطير، وكونوا حول هذه الحلولية أفكاراً مختلفة من التناسخ والتطور والإباحية، وتسربت هذه العقائد إلى أقوام من الزنادقة والفلاسفة من أصحاب الخلفيات الوثنية، وحاولوا من خلالها محاربة الشرائع السماوية، والعبث بعقيدة التوحيد الصافية.
وجعل الفلاسفة هذه العقيدة رمزاً دالاً على وحدة المكونات في عالم الشهود، فقالوا: إن الموجود الحق هو الله، وما عداه فإنها صور زائفة وأوهام وخيالات، وانتقلت هذه الوثنية منهم إلى النصارى الذين قالوا بإلهية عيسى بن مريم -عليه السلام، وانتقلت هذه الفكرة تدريجياً إلى طوائف الباطنية، التي أفرزتها على الموجودات المختلفة، ومن ضمن هذه الطوائف غالية الرافضة الذين اعتقدوا حلول الرب في ذات علي بن أبي طالب، كما ذهب بعض من ينتسب إلى التصوف إلى حلول الذات الإلهية في ذوات الأولياء أو بعضهم، وبرز ذلك جلياً مع نهاية القرن الثالث الهجري .
وتعد عقيدة الحلول من العقائد التي أحالها الشرع والعقل والعرف، وأجمع الأنبياء والأولياء والمشايخ الإسلام، وعلماء المسلمين وعوامهم على بطلانها، وكونها من أكبر أبواب الإلحاد والزندقة. وقد أثرت هذه العقيدة الفاسدة في ظهور نظريات الفيض والإشراق على يد متأخري الصوفية في القرن الخامس والسادس الهجريين.
وهذا البحث الوجيز، جمع فيه الإمام السيوطي -رحمه الله -جملة معتبرة من كلام الأئمة المحققين، والعلماء الكاملين في إنكار مقالة الحلول والاتحاد، واعتبارها مقالة كفرية، وتكفير القائلين بها، مع تحقق الداعي وانتفاء المانع.
وبين -رحمه الله -أن الحلوليين هم أبلد الخلق ذهناً، وأعماهم قلوباً، ومنهم بعض غلاة الصوفية، الذين قالوا بمثل هذه المقالة، فزادوا في تعدية الحلول ليشمل الخلق جميعاً، بينما قصره النصارى على واحد، فزادوا بذلك كفراً على كفر النصارى.
وفي المقابل نجد تورع الإمام السيوطي عن تسليط كلمة الكفر على أعيان بعض المتصوفة الذين صدرت عنهم هذه الكلمات، فالتمس لهم الأعذار التي شيعها بعض المتأخرين، ولم تكن رائجة بين المتقدمين، ويمكن حصر هذه الأعذار في أربعة نقاط:
الأولى: أن بعض من صدرت عنهم هذه الكلمات كانوا في حالة سكر وغيبوبة، ومعلوم أن المُغيّب لا يؤاخذ بما يقوله حالة غيبته وسكره.
الثانية: أنهم قالوه حكايةً عن الله، لا اعتقاداً أنهم أصبحوا آلهةً، أو أن الله حلَّ بهم.
الثالثة: أن ذلك وقع من بعض جهال المتصوفة تقليداً لمن بدرت منه هذه الكلمات، ظناً منهم أنه تحقيق في التوحيد، وهذا الجهل يرفع حكم الكفر عنهم.
الرابعة: أنهم وقعوا في ذلك خطئاً؛ عندما خانتهم العبارة في التعبير عن مدلول توحيد الإرادة، ذلك أنهم أرادوا تسليم الأمر كله لله، وترك الإرادة معه والاختيار، الجري على مواقع أقدار الباري بلا اعتراض، فعبروا عن ذلك بما يفيد الحلول والاتحاد ولم يقصدوه.
ومع سرد هذه الأعذار إلا أن بعضها بعيد أو فيه نوع مجاملة وتبرير، لكن الإمام السيوطي أغلق الباب أمام كل من تسول له نفسه الولوج في هذا المنزلق الخطير، ففحرّم تحريماً قاطعاً تداول مثل تلك الكلمات الحلولية، أو جعلها مذهباً يُعتنق؛ لأنها ضلالٌ وكفر صريح.
ولنا ما قاله القاضي عياض رحمه الله -: "أجمع المسلمون على كفر أصحاب الحلول، ومن ادّعى حلول الباري سبحانه في أحد الأشخاص، كقول بعض المتصوفة والباطنية والنصارى والقرامطة؛ فقد كفر".
-تعريف الحلول والاتحاد:
يقول ابن تيمية في بيان هذه العقيدة: "والحلول إمّا معين في شخص، وإمّا مطلق. أمّا الاتحاد والحلول المعين كقول النصارى: أن الاتحاد كاتحاد الماء واللبن.وأما الحلول المطلق، وهو أنّ الله تعالى بذاته حال في كل شيء، فهذا يحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية، وكانوا يكفرونهم بذلك. فأمّا ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام فما علمت أحداً سبقهم إليه إلا من أنكر وجود الصانع، مثل: فرعون والقرامطة، وذلك أنّ حقيقة أمرهم أنّهم يرون أنّ عين وجود الحق هو عين وجود الخالق، وأنّ وجود ذات الله خالق السموات والأرض، هي نفس وجود المخلوقات، فلا يتصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره، ولا أنه رب العالمين، ولا أنه غني وما سواه فقير، لكن تفرقوا على ثلاثة طرق، وأكثر من ينظر في كلامهم لا يفهم حقيقة أمرهم لأنه أمر مبهم".
وقال ابن تيمية عنهم أيضاً في "مجموع الفتاوى" (2/ 52): "مذهبهم الذي هم عليه أن الوجود واحد، ويسمون أهل وحدة الوجود، ويدعون التحقيق والعرفان، وهم يجعلون وجود الخالق، عين وجود المخلوقات، فكل ما يتصف به المخلوقات من حسن وقبيح، ومدح وذم، إنَّما المتصف به عندهم عين الخالق، وليس للخالق عندهم وجود مباين لوجود المخلوقات منفصل عنها أصلاً، بل عندهم ما ثم غير أصلا للخالق ولا سواه. ومن كلماتهم: ليس إلا الله، فعباد الأصنام لم يعبدوا غيره عندهم، لأنهم ما عندهم له غير، ولهذا جعلوا قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} الإسراء:23، بمعنى قدر ربك أن لا تعبدوا إلا إيَّاه، إذ ليس عندهم غير له تتصور عبادته، فكل عابد صنم إنما عبد الله. وقيل عن رابعة العدوية أنها حجت فقالت هذا الصنم المعبود في الأرض، والله ما ولجه الله، ولا خلا منه.
ومن العلماء الذين بينوا فساد اعتقاد أهل الحلول والاتحاد، وذكرهم السيوطي في هذه الرسالة:
1-أبو حامد الغزالي في "الإحياء" (باب السماع -وبالمحبة). قال السيوطي: "وقد بدأنا بالنقل عنه؛ لاجتماع الفقه والأصول والتصوف فيه، وهو أجل من اعتمد عليه في هذا المقام".
2-إمام الحرمين في "الإرشاد".
3-الأستاذ ابن فورك في كتابه "النظامي في أصول الدين".
4-فخر الدين الرازي في كتابه "المحصل في أصول الدين".
5-أبو الحسن الماوردي في "مناظراته لبعض النصارى".
6-القاضي عياض في "الشفاء"، ونقله عنه النووي في "شرح مسلم".
7-القاضي ناصر الدين البيضاوي في "تفسيره".
8-الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "قواعده الكبرى".
9-الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في "أول الحلية".
10-قطب الدين عبد الله بن محمد النوري الأصفهاني الشافعي في كتابه "معيار المريدين".
11-علي بن عبد الله الهروي في كتابه "نهج الرشاد في الرد على أهل الحلول والاتحاد"، ونقل فيه عن شيخ الإسلام ابن دقيق العيد.
12-الشيخ سعد الدين التفتازاني في كتابه "شرح المقاصد".
13-السيد الشريف الجرجاني في كتابه "شرح المواقف".
14-العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر الجوزية في "شرح منازل السائرين".
15-الأصفهاني في تفسيره "جامع التأويل المحكم والتنزيل".
16-تاج الدين بن التقي السُّبكي في كتابه "جمع الجوامع".
17-تقي الدين السبكي في كتابه "غيرة الإيمان الجلي".
18-قصيدة لعلي وفا أحد شيوخ الشاذلية.
أهم النتائج التي توصل إليها المحققان:
1-أن الحلول والاتحاد من قول الزنادقة، وأول من قال به هم النصارى إلا أنهم خصوه بعيسى بن مريم، بينما عممه الزنادقة ليشمل كل المخلوقات، وقولهم لا يليق بالله عز وجل.
2-وضوح صفة العلو لله عز وجل، وأن الله تعالى عالٍ على عرشه، فوق سماواته، وقد بين العلماء ذلك من خلال كتبهم، وأقوالهم المتواترة.
3-حاول السيوطي أن يثبت صفة العلو وهو مُصيب في ذلك، لأنه يريد أن ينتقد قول من يقول بالحلول والاتحاد.
4-من كلام الصوفية ما هو مبهم وعام، ومنه ما هو صريح وواضح في قضية علو الله تعالى على خلقه، ومنهم من ليس له مذهبٌ ليسير عليه.
5-من ينظر في كتب الترجمة يجد أن عقيدة الحلول لم تجن على المسلمين سوى الدمار والفرقة وتسلط الزنادقة والدهرية، وتجبر الجهمية وانتشار المبتدعة، وإدخال ما ليس في دين الله فيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق