أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 25 يوليو 2025

شبكة التصوف السياسي في أبو ظبي شبكة Islam affair بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

شبكة التصوف السياسي في أبو ظبي

شبكة Islam affair

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد: شهدت منطقة الخليج العربي في العقود الأخيرة تحوّلات عميقة تجاوزت البُعد الاقتصادي إلى إعادة تشكيل المرجعيات الدينية والسياسية في آن واحد. ولعلّ من أبرز هذه التحولات تلك التي قادها ولي عهد أبو ظبي آنذاك، محمد بن زايد، الذي أدرك مبكرًا حساسية موقع الدين في الصراع على النفوذ والهويّة، فسعى إلى هندسة حقل التدين الرسمي في بلاده على أسس "مؤمركة" و"مُعَقْلَنَة" تضمن له الشرعية السياسية والهيمنة الإقليمية في آنٍ واحد. فكان مشروع "التصوف السياسي" أحد أهم أدواته الناعمة لترويض الفضاء الديني وتصديره نحو الخارج كمنظومة بديلة عن التيارات الإسلامية المنافسة.

وإذا كان التصوف – من حيث الأصل – تيارًا روحانيًا يركّز على تزكية النفس والتخلّي عن شواغل السلطة، فإن "التصوف السياسي" الذي ترعاه أبو ظبي اليوم يتجلى بوصفه شبكة منظمة عابرة للحدود، تتلقى الدعم المالي والسياسي والإعلامي لتؤدي دورًا وظيفيًا في استقطاب التيارات السنية المعتدلة نحو أروقة الأنظمة، وتهميش الخصوم – خصوصًا المرجعيات السلفية الخليجية – تحت ذريعة مكافحة التطرف. وفي هذا السياق، باتت أسماء مثل مؤسسة طابة، ومجلس حكماء المسلمين، ودار المصطفى في حضرموت، مفاتيح لفهم خريطة التدخل الإماراتي في الشأن الديني إقليمياً وعالمياً.

هذا الكتاب إذًا، لا يأتي في سياق المناكفة، بل في سياق التحليل والتوثيق، لفهم كيف تحوّل التصوف من مسلك فردي إلى أداة سياسية، وكيف استطاعت أبو ظبي أن تبني شبكة دولية للتصوف الطرقي تخدم أهدافها الجيوسياسية وتخوض بها معارك الهوية والنفوذ في وجه المملكة العربية السعودية ومرجعياتها، بل وتُطوّعها لتنسجم مع الاستراتيجية الغربية في احتواء الإسلام السياسي. إنه كشف مدروس لبنية هذه الشبكة، ورصدٌ لمكوناتها، وتفكيك لمآلاتها المحتملة على الأمن الفكري والديني في العالم الإسلامي.

___________________________________

وقد شهدت دولة الإمارات العربية المتحدة متغيرات كبيرة منذ وفاة مؤسسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله عام ٢٠٠٤. وتعزو المصادر كثيراً من التحولات التي شهدتها الدولة إلى ابنه محمد بن زايد الذي أصبح منذ وفاة والده ولياً لعهد أبوظبي ونائباً للقائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيساً للمجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي.

ويعتبر منصب مستشار رئيس الدولة لشؤون الأمن القومي من أبرز المهام التي تولاها محمد بن زايد حيث عمل خلال السنوات العشر الماضية ( ٢٠٠٤- ۲۰۱٤) على إدماج الشأن الديني في الأمن الوطني باعتبار المذهب المالكي والنهج الصوفي جزءاً من الهوية الوطنية الجميع إمارات الاتحاد.

ومن هذا المنطلق يصعب فصل الجانب الشخصي عن التناول الرسمي للملف الديني؛ فقد كان محمد بن زايد في الثالثة عشر من عمره عندما تم توقيع اتفاقية جدة» في أغسطس ١٩٧٤ لحسم الخلاف الحدودي (۱۹۷۱-۱۹۷۴) بين الرياض وأبوظبي، وبموجب هذه الاتفاقية احتفظت أبوظبي بقرى منطقة البريمي الست بما فيها العين قاعدة واحة البريمي ومعظم صحراء الظفرة، في مقابل حصول الرياض على منطقة ساحلية بطول ٢٥ كلم تقريبا، وتضم نحو ٨٠ بالمائة من آبار الشيبة التي تحتوي على احتياطي مثبت يبلغ حوالي ١٥ مليار برميل، كما يضم الحقل ٦٥٠ مليون متر مكعب من الغاز غير مستغلة حتى الآن.

ويتحدث مقربون من محمد بن زايد عن اعتقاده بأن اتفاقية جدة» قد قامت على نوع من الغين بسبب حاجة دولة الإمارات الفتية حينها إلى الاعتراف السعودي بها، ويؤكدون اهتمامه بكتابة مادة تاريخية تثبت حق الإمارات في المنطقة وتوثيق المظالم» التي وقعت بحق أبوظبي جراء هذه الاتفاقية، حيث أثيرت المسألة الحدودية في أول زيارة للشيخ خليفة بن زايد إلى الرياض عقب توليه السلطة عام ۲۰۰٤ .

الأمر الذي رد عليه السعوديون بأن أبرزوا له اتفاقية جدة التي تحمل بصمة والده، رافضين طرح موضوع الاتفاقية للنقاش الأمر الذي دفع بالحكم في أبوظبي لإصدار كتاب سنوي عام ٢٠٠٦ يتضمن خرائط تظهر فيها مناطق سعودية ضمن المياه الإقليمية الإماراتية، وتزايد التوتر بين البلدين إثر منع السلطات السعودية دخول المواطنين الإماراتيين إلى أراضيها باستخدام بطاقات الهوية احتجاجاً على قيام الإمارات بتغيير خريطتها الجغرافية الموجودة على بطاقات هوية مواطنيها عام ٢٠٠٩ ، ووصلت الأزمة بين البلدين إلى مرحلة حرجة عندما أطلق زورقان تابعان لقوات حرس الحدود الإماراتية في شهر مارس ۲۰۱۰ النار على زورق سعودي واحتجزوا اثنين من أفراد حرس الحدود السعودي.

وعلى الرغم من الهدوء الذي ساد بعد ذلك؛ إلا أن المصادر تؤكد نزعة ولي عهد أبوظبي إلى خلط الملف الديني بالسياسي وتوجهه لتأسيس تحالف صوفي عالمي يجاهر أقطابه باستهداف المملكة العربية السعودية ومرجعيتها الدينية على حد سواء.

ولتحقيق هذا المخطط دشنت أبوظبي مؤسسة «طابة» عام ۲۰۰۵ وجمعت فيها زعامات التصوف السياسي من الشام والمغرب واليمن ومصر في مشروع هجين المناكفة: «الجيران الحنابلة من أتباع الإمام محمد بن عبد الوهاب».

وترشح من جلساء الشيخ محمد بن زايد بين الفينة والأخرة تسريبات تعكس مشاعر الاحتقان لديه، في حين تعمد مراكز الدراسات الإماراتية إلى تأجيج هذه النزعات العدائية من خلال نشر بحوث تطعن في نهج المملكة العربية السعودية واتهامها بدعم حركات التطرف والغلو.

وتتحدث المصادر عن رغبة الإمارات في تبني مشروع تشكيل محور اعتدال إسلامي يضم القاهرة وأبوظبي ويضم جماعات التصوف السني إلى رموز التصوف الشيعي مثل سيد حسين نصر وسيد حسن قزويني الذين يتمتعون بعلاقات وطيدة مع معهد الزيتونة برئاسة حمزة يوسف، فضلاً عن مؤسسة «طابة» وغيرها من المراكز الصوفية في أبوظبي.

ويأتي هذا الكتاب لتوضيح أبعاد مشروع التصوف السياسي الذي تتبناه مؤسسة الحكم في أبوظبي من خلال ثلاثة فصول، يتناول الأول منها الأبعاد الإقليمية والدولية لشبكة الصوفية الإماراتية وآليات عملها وارتباطها بالمشروع الأمريكي لمواجهة التيارات الإسلامية الفاعلة وخاصة في المملكة السعودية.

أما الفصل الثاني فيلقي الضوء على أهم الشخصيات الفاعلة في هذه الشبكة وخلفياتها العلمية وأطر عملها، ومشاريع إعادة بعث الطرقية الصوفية ومدارسها التقليدية في مختلف الدول العربية والتركيز على البعد الغربي من خلال استقطاب شخصيات أوروبية وأمريكية ذات ارتباط بأجهزة الحكم ومؤسسات الأمن الغربية بهدف تعزيز مشروع التصوف السياسي والترويج له في الغرب.

ويتناول الفصل الثالث أبرز المهددات الأمنية لهذه الشبكة، وتوجهها نحو مناكفة المرجعية الدينية في المملكة، مع توجيه مراكز اتخاذ القرار في الرياض إلى ضرورة تبني سياسة ناضجة للتعامل مع الشأن الديني والتنبيه إلى النتائج الوخيمة لسوء إدارة هذا الملف على الصعيدين الإقليمي والدولي.

مغريات التصوف: «الحقيقة» مقابل «الشريعة» وتربية النفس بديلاً عن «الجهاد»!

في شهر أكتوبر ۲۰۰۳ استضاف مركز نيكسون في واشنطن مؤتمر برنامج الأمن الدولي لاستكشاف مدى دور الصوفية في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية.

كان الغرض من الاجتماع تعريف صناع القرار في الإدارة الأمريكية بالدور الذي يمكن أن تمارسه الطرق الصوفية في الحقل السياسي، إلا أن الحديث تحول إلى مناقشة آليات القضاء على الفكر الوهابي السلفي الذي تمثله المملكة العربية السعودية» وذلك من خلال تنشيط الحركات الصوفية واستخدامها في مواجهة هذا الفكر الذي نسبت إليه جميع الحركات الإرهابية في العالم الإسلامي.

فقد أرجع زكي ساريتو بارك (محاضر في قسم الدراسات الدينية بجامعة جون كارول سبب التوتر في العالم الإسلامي إلى الصراع المستمر بين الوهابية والصوفية، ورأى ضرورة التحالف مع الطرق الصوفية في معركتها ضد الحركات المتطرفة، وتمثل مصدر الإغراء بالنسبة له في سعي المتصوفة للوصول إلى الحقيقة» في مقابل مطالبة العلماء التقليديين بتطبيق «الشريعة» وهو ما يمثل نقطة التقاء مهمة مع الغرب.

ورأى ساريتو بارك أن المكانة المرموقة للخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه لدى النقشبندية تساعد على إقامة علاقة وطيدة بين الشيعة والمتصوفة: «لأن شخصية علي مهمة جداً للمسلمين السنة والشيعة، ويمكن أن يمثل القاسم المشترك بخلاف السلفية التي تشن حرباً على المذهبين».

واعتبر أليكس الكيسف باحث رئيس بمركز الدراسات الأمنية النظرة لمفهوم الجهاد أبرز ما يميز التصوف عن التيارات المتطرفة حيث ينظر إليه أتباع الطرق على أنه عمل روحاني يهدف إلى الرقي بالنفس في حين يعرفه الوهابيون على أنه قتال عالمي لنشر الإسلام في أصقاع العالم.

أما هدية مير أحمدي المدير التنفيذي (للمجلس الإسلامي الأمريكي) فقد اتهمت الوهابية السلفية» بالعمل على تحشيد المسلمين في معركة حضارية ضد الغرب، وذلك من خلال تقليص الثقافة واستهداف مفهوم الروحانية» التي استبدلوها بنظريات متطرفة.

وأضافت مير أحمدي: «لقد جلبت الوهابية العنف والدماء إلى كل زاوية في العالم الإسلامي تقريباً، ففرقت بين الآباء والأبناء ومزقت العائلات بتبني جيل جديد نشأ على السلفية».

ولتحسين العلاقة بين المسلمين والغرب رأت مير أحمدي ضرورة تبني الإدارة الأمريكية مجموعة حوافر لنشر القيم عبر إعادة بناء أضرحة الأولياء وتمويل مراكز التصوف ومساعدة الشباب على التحرر من عدائية الفكر الوهابي.

وأضاف محمد فاروغي قسم الأديان بجامعة جورج واشنطن بعداً آخر للحوار عندما حض المسؤولين الأمريكيين على دعم التصوف السياسي لكبح جماح الوهابية»، مشيراً إلى دور التصوف في إدخال مفاهيم الديمقراطية في النظم الإسلامية. وثنى أليكس على ما ذكره فاروغي، مذكراً أن العنصر الأساسي في نشر الوهابية المتطرفة هو المال الذي تقدمه المملكة العربية السعودية للحركات الإرهابية بسخاء، حيث أنفقت السعودية منذ السبعينيات زهاء ٨٠ مليار دولار لدعم الأنشطة الإسلامية في العالم، وقامت بإنشاء نحو ١٦٠ مسجداً وهابياً» ومركزاً راديكالياً في مناطق كانت تصنف على أنها معتدلة، مدعياً أن جميع الحركات المتطرفة تحصل على تمويلها من الرياض.

الصوفية العلمية» في مواجهة الوهابية السعودية»!

كان ضيفا الشرف في هذه اللقاء البروفسور برنارد لويس ومحمد هشام قباني نائب زعيم الجماعة الصوفية النقشبندية التي يتجاوز عدد أنصارها مليونا نصير في جميع أنحاء العالم، وتم تعريف قباني على أنه داعية وسطي يقف ضد الإرهاب، وأنه: «أول زعيم مسلم يحذر الولايات المتحدة من تهديد محتمل مخطط له من أسامة بن لادن ومنظمة القاعدة الإرهابية».

وفي كلمته شبه برنارد لويس الوهابية بحركة «كو كلكس كلان المتطرفة في أمريكا، وعقد مقارنة بين الحركة المسيحية المتطرفة التي اضمحلت في أمريكا مقابل الوهابية التي تحولت إلى مذهب سائد في السعودية بعد أن هيمن أتباعها على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة وحصلوا على مصدر إمداد سخي في إيرادات النفط، مما أدى إلى: «تحويل أحد أكثر الأفكار جنوناً في تاريخ العالم الإسلامي إلى حركة مركزية فاعلة في قلب العالم الإسلامي»!

أما هشام قباني فقد أكد على أن «السلفية» لا وجود لها في الإسلام، بل هي مصطلح ابتدعه الملك الراحل فهد بن عبد العزيز في ثمانينيات القرن الماضي وانضوت تحته جميع الحركات المتطرفة في العالم الإسلامي، حيث أصبحت المملكة العربية السعودية ترسل دعاتها لهدم المزارات والأضرحة في أنحاء العالم.

وطرح قباني سؤالاً محورياً: «هل نحن كأمريكيين سنقف مع الصوفية أم سنعمل مع الوهابية ؟» ثم أجاب بقوله: «إذا عملنا مع الوهابية فإننا سنخاطر بالتعامل مع الإرهابيين وعلى الولايات المتحدة الأمريكية أن تمد الجسور مع المسلمين غير الوهابيين لتحقيق النصر في معركتها ضد الإرهاب».

مغالطات تتحول إلى مشروع سياسي تموله بعض دول الجوار:

على الرغم مما تضمنه هذا اللقاء من نظرة أحادية ذات طابع عدائي؛ إلا أن المحاور التي تقدم بها المتحدثون قد تحولت إلى برنامج عمل خلال العقد الماضي ( ٢٠٠٤-٢٠١٤)، حيث يمكن سوق عشرات الأمثلة على قيام الإدارة الأمريكية بحشد التصوف السياسي في معركة استقطاب ديني بغيض، مما يدفعنا لتوضيح جملة من المغالطات التي وردت في ذلك المؤتمر، وهي على النحو التالي:

1-الوهابية ليست مذهباً مستقلاً في الإسلام وليست هنالك حركة وهابية بالمعنى التنظيمي في العالم الإسلامي، بل مثلت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب حركة تجديدية في القرن الثامن عشر، ومن المؤسف أن يتم التعامل مع هذه الحركة الإصلاحية بهذا القدر من التشنج والعدائية وأن يتم توظيفها في الغرب بهدف عزل المسلمين في السعودية عن بقية العالم الإسلامي.

2-لا يمكن إنكار دور الرياض في مواجهة فكر التطرف ومحاربة الحركات الإرهابية، إذ إن المملكة العربية السعودية قد قامت بدور محوري في مواجهة الإرهاب الدولي وكان بها إسهامات بارزة في تحقيق الأمن العالمي، ومن المؤسف أن يعمد بعض الباحثين المرموقين في الغرب إلى نفي هذه الحقائق الساطعة.

3-من الإجحاف إنكار الدور السياسي الذي اضطلعت به بعض الحركات السلفية في تعزيز الديمقراطيات العربية المعاصرة، ومن ذلك مشاركتها في الانتخابات البلدية والنيابية في الملكيات العربية، ومساهمتها في تحقيق الاستقرار بالجمهوريات التي عصفت بها رياح: «الربيع العربي».

4-لا يمكن تصور قيام علاقات إيجابية بين مختلف التيارات والحركات الإسلامية عبر استعداء طرف ضد آخر أو شن حملة كراهية وتشويه للمخالفين، بل يتعين إقامة علاقات إيجابية تقوم على مد الجسور وتعزيز التسامح وتغليب ثقافة الحوار، وعندئذ يمكن إنشاء جبهة موحدة ضد أفكار التطرف والغلو ومواجهتها بالفكر الإسلامي المستنير.

5-استطاعت بعض الجهات الدينية المسيسة أن تحقق موطئ قدم في دول عربية مجاورة، وأن تنفذ من خلالها ذلك المشروع الأمريكي الهجين الذي أسس له هشام قباني عام ۲۰۰۳ ، وذلك من خلال شبكة مؤسسات تحظى بتمويل دولة الإمارات العربية المتحدة.

6-ويصعب في هذا الصدد التغاضي عن الدور المشبوه الذي تقوم به بعض مراكز البحث والدراسات الإماراتية من نسبة فكر التطرف وحركات التكفير إلى المملكة العربية السعودية تارة باسم السلفية وأخرى باسم الوهابية، وغيرها من المسميات والمغالطات التي تم التوافق على نشرها في اجتماع مركز نيكسون

حشد الصوفية ضد الحركات الإسلامية: هل يحقق الأمن والاستقرار ؟

مثلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ۲۰۰۱ علامة فارقة في تحول اهتمام الغرب نحو التصوف ودوره السياسي في المجتمعات الإسلامية؛ حيث بدأت تتعالى أصوات الباحثين الغربيين بضرورة إحياء التصوف للحد من تأثير الإسلام السياسي»، وكان برنارد لويس ودانييل بايبس على رأس الداعين إلى عقد تحالف مع الطرق الصوفية لملء الساحة الدينية والسياسية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة.

وسار الباحث الأمريكي ستيفن شوارتز على نهج سابقيه حيث حض المسؤولين الأمريكيين على: «تعلم المزيد عن الصوفية والتعامل مع شيوخها ومريديها، والتعرف على ميولها الأساسية»، مضيفاً: «يجب على أعضاء السلك الديبلوماسي الأمريكي في المدن الإسلامية من بريشتينا في كوسوفو إلى كشغر في غرب الصين، ومن فاس في المغرب إلى عاصمة إندونيسيا جاكرتا أن يضعوا الصوفيين المحليين على قائمة زياراتهم الدورية».

وفي صيف عام ٢٠٠٢، أصدرت مؤسسة راند» دراسة دعت فيها إلى تأسيس تحالف إستراتيجي مع الصوفية لمواجهة التطرف الديني في العالم الإسلامي، تلاها استضافة نيكسون مؤتمر برنامج الأمن الدولي في واشنطن لاستكشاف دور الصوفية في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية.

ومنذ ذلك الحين بدأت عملية التحشيد السياسي للطرق الصوفية العابرة للحدود، حيث عقد المؤتمر العالمي للطريقة الشاذلية في شهر أبريل ۲۰۰۳ بالتعاون مع منظمة اليونيسكو، وأعلن في العراق تأسيس الأمانة العليا للإفتاء والتدريس والبحوث والتصوف الإسلامي (يناير ٢٠٠٤)، وعقد في شهر سبتمبر من العام نفسه المؤتمر الأول لمجموعة «سيدي شيكر العالمية للمنتسبين إلى التصوف تحت رعاية الملك محمد السادس، تبعه «المؤتمر العالمي الأول للطرق الصوفية بغرب أفريقيا في شهر ديسمبر ٢٠٠٤ ، في حين أقامت الجماهيرية الليبية مؤتمراً دولياً (سبتمبر (۲۰۰۵) بعنوان: «الطرق الصوفية في أفريقيا حاضرها ومستقبلها».

ولم يكن من قبيل المصادفة أن يتفق كل من توماس رايلي السفير الأمريكي في المغرب ونظيره في مصر فرانسيس ريتشارد دوني على التقرب من رموز الطرق الصوفية عام ٢٠٠٦ ، حيث شارك دوني أهالي مدينة طنطا احتفالاتهم بمولد السيد البدوي، وفي الفترة نفسها حضر توماس رايلي احتفال المولد النبوي الذي أحيته الطريقة القادرية البودشيشية، والتي شهدت انتشاراً واسعاً في السنوات الأخيرة بين الأطر العليا في المغرب.

وتشير المصادر إلى أنه منذ تعيين أحمد توفيق، أحد مريدي الطريقة البوتشيشية، المقربين من شيخها على رأس وزارة الأوقاف المغربية والعمل جار على الترويج للطرق الصوفية، وقد تكثف دعم هذه الطرق منذ انتهاج الدولة سياسة ما يسمى بـ (إعادة تشكيل الحقل الديني) والتي تعتبر التصوف أحد أهم دعاماتها.

أما في الجزائر فقد عمل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على التقرب من الطرق الصوفية في الانتخابات الرئاسية مؤكداً أن الحركة الصوفية يمكن أن تكون بديلاً للعمل السياسي الإسلامي في المنطقة العربية، وتتوجت هذه الجهود في شهر ديسمبر ۲۰۱۳ بإعلان تأسيس الجمعية الجزائرية للزوايا والثقافة الصوفية بهدف: استرجاع مكانة الزاوية كصرح ديني وثقافي».

وقد دفعت هذه التطورات بالمستشرق الفرنسي المسلم إريك جيوفروي المختص في الصوفية بجامعة لوكسمبورغ شمال (فرنسا) ليؤكد أن المستقبل في العالم الإسلامي سيكون حتماً للتيار الصوفي، مشيراً إلى أن الأنظمة العربية قد عملت علي إدماج الصوفية في الحكم بهدف محاربة الظاهرة الإسلامية، فوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في المغرب أحمد توفيق صوفي، كما أن شيخ الأزهر أحمد الطيب في مصر صوفي أيضا.

وشهد شهر أكتوبر ۲۰۱۳ تأسيس المنظمة الصوفية العالمية في فرنسا بمشاركة قادة الصوفية بتركيا وإيران وباكستان والمغرب والجزائر وتونس وليبيا ، وقال أحمد التسقياني عضو المجلس الصوفي الأعلى»: «إن المنظمة سوف يكون لها دور محوري في الدول الإسلامية كافة لأنها سوف تعمل على محاربة الأفكار المتطرفة التي انتجتها التيارات السلفية والإخوانية على مدار سنوات كاملة استغلت فيها هذه التيارات الجهل الذي يتمتع به غالبية الشباب المسلم».

ومن المؤسف أن تؤول قيادة حملة تحشيد التصوف السياسي إلى دولة خليجية لا تملك الأهلية لخوض غمار التجاذب الإيديولوجي ولا تتوفر لديها كوادر وطنية لإدارة مثل هذه الصراعات المعقدة فعمدت إلى استيراد شخصيات معروفة بخطابها العدائي لدول الجوار ووسم السلفية بالتطرف والغلو.

ويمكن تلمس خطاب شيطنة المخالفين في تصريحات المسؤولين ومقالات الكتاب العرب المحسوبين على هذه الدولة بصورة واضحة، وذلك ضمن مشروع إستراتيجي غربي لا ينسجم بالضرورة مع المتطلبات الأمنية للمنطقة في هذه المرحلة الحساسة من التحول السياسي والاجتماعي.

فهل يخدم استيراد شبكة التصوف السياسي من مصر واليمن والولايات المتحدة الأمريكية ضد دول الجوار أمن دول المجلس ويسهم في تحقيق الاستقرار فيها ؟

كيف تعمل شبكة التصوف السياسي

في تتويج لجهود امتدت بضع سنوات أعلن في مدينة أبوظبي تدشين مجلس حكماء المسلمين»، وتضمنت عملية التأسيس تزويد المشروع بأدوات تنفيذية تتيح للمجلس مجال الانتشار والتأثير، ومن ذلك إنشاء جهاز إعلامي مسموع ومرئي ومكتوب، وإصدار مجلة أكاديمية، وتخصيص جائزة سنوية، والأهم من ذلك كله تأسيس فرق من الشباب مهمتها القيام بزيارات لكل أنحاء العالم.

ولم تكن هذه الخطوات وليدة اللحظة بل جاءت لاستكمال عملية من شبكة فاعلة تنشط في دائرة ما أطلق عليه: «الإسلام التقليدي وهي عبارة يستخدمها رموز التصوف السياسي للإشارة إلى أتباع الطرق الصوفية باعتبارهم الامتداد الطبيعي لشعوب العالم الإسلامي.

ويتم الترويج لهذه الفكرة من خلال منظومة مؤسسات تتكرر فيها الوجوه، ويمكن عرض أهم مؤسسات هذا المشروع فيما يأتي:

أولاً: مؤسسة «طابة»

مؤسسة غير ربحية أسسها علي الجفري في ۲۰ أغسطس ۲۰۰۵، ومقرها في العاصمة الإماراتية أبو ظبي. تعرف من قبل القائمين عليها بأنها: «مؤسسة غير ربحية تسعى إلى تقديم مقترحات وتوصيات لقادة الرأي لاتخاذ نهج حكيم نافع للمجتمع».

ويورد الموقع ضمن برامج المؤسسة: تطوير مشاريع مؤسساتية لخدمة الخطاب الإسلامي في مختلف أنحاء العالم وذلك لمحاولة تأسيس البنية التحتية للعمل الإسلامي في المرحلة المقبلة».

ويرد في أولوياتها: «إعداد الدراسات والكوادر والمؤسسات لتطوير خطاب إسلامي واضح وإيصاله للعالم بأسره بطريقة تؤدي للإدراك».

وبناء على هذه المحددات يمكن القول أن مناشط المؤسسة تدور في مجال: «مد الشبكات». وخاصة في حقل تطوير المؤسسات والتي يسرد موقع المؤسسة منها: «دار زايد للثقافة الإسلامية بالعين في دولة الإمارات، ودار المصطفى» في تريم باليمن، ودار الحكمة» في بروكسل، وكلية الدراسات الإسلامية في صنعاء، وقناة المدينة الفضائية»، ومشروع إحياء التعليم الشرعي في شرق إفريقيا (لامو)»، وبرنامج «طابة لتطوير الكفاءات».

وبعيداً عن الجدل الواسع الذي يثيره أعضاء المجلس الاستشاري الأعلى للمؤسسة منذ تأسيسه؛ فإنه من المهم إلقاء الضوء على طريقة عمل الشبكة التي أنشأها الجفري وعمل على تطويرها خلال السنوات الثمانية الماضية.

ثانياً: المركز العالمي للتجديد والترشيد:

مؤسسة أسسها الشيخ عبد الله بن بيه في لندن في شهر ديسمبر ۲۰۰۷ ، بهدف: «المساعدة في نهضة الأمة الإسلامية بدراسة قضايا مستجدة وتقديم حلول فعالة تتعامل مع نظرية المقاصد الأصولية وقواعد الفقه الفسيحة والتراث الإنساني المعاصر والمجاور».

وبعيداً عن سرد الأبعاد التنظيمية ومصادر تمويل هذه المؤسسة؛ يجدر تسليط الضوء على القاعدة التي يرتكز عليها ابن بيه في إقامة مناشط المركز وفعالياته؛ إذ يذكر الموقع الرسمي للمركز أن ترتيب هذه المناسبات يتم من قبل جمعية الطريق الوسط وهي مؤسسة صوفية يعتمد عليها الجفري في تنظيم مؤتمرات طابة وندواتها في عدة دول.

وتتكرر في فعاليات مركز ابن بيه نفس الوجوه التي تشارك في مؤتمرات مؤسسة «طابة». وعلى رأسهم الدكتور عبد الحكيم مراد، وحمزة يوسف الذي يعتبر ضيفاً دائماً في كل ما ينظمه مركز التجديد والترشيد، ومن ذلك حضوره ورشة الاجتهاد بتحقيق المناط في فقه الأقليات بلندن، ومؤتمر: ترشيد الأفكار والسلوك بنواكشوط، بل إن أول فعالية عقدها فرع مركز التجديد نواكشوط لدى افتتاحه (يوليو (۲۰۱۲) تمثلت في تكريم حمزة يوسف الذي تحدث عن دراسته في محظرة العلامة الحاج ولد فحفو، واستغل المناسبة لاستنكار اغتيال الشيخ محمد البوطي رئيس المجلس الاستشاري لمؤسسة طابة في أبوظبي.

وفي مقابل ذلك الاهتمام يحرص حمزة يوسف على دعوة أستاذه عبد الله بن بيه في مختلف المناشط التي تعقدها كلية الزيتونة في كاليفورنيا، ومن ذلك دعوته لترؤس حفل تخريج الدفعة الأولى من طلبة الماجستير بالجامعة ( يونيو (۲۰۱٤) بالاشتراك مع سيد حسين نصر حيث يمكن ملاحظة تحرك ابن بيه في إطار دائرة حمزة يوسف وخاصة منهم أقطاب اللوبي الإيراني في واشنطن.

ثالثاً: دار المصطفى للدراسات الإسلامية:

مدرسة للعلوم الدينية أسسها الحبيب عمر بن حفيظ في مدينة تريم بمحافظة حضرموت جنوب اليمن عام ۱۹۹۳ ، ونظراً للعلاقة الوطيدة التي قامت بين عمر بن حفيظ وتلميذه علي الجفري أثناء دراسة الأخير في ذلك المعهد فقد عمل الجفري على تنسيب أستاذه بن حفيظ في عضوية المجلس الاستشاري الأعلى لمؤسسة طابة في أبوظبي، وصار يصحبه في معظم الفعاليات العالمية التي تنظمها المؤسسة.

وتتضمن جهود مؤسسة طابة في تنظيم وتطوير دار المصطفى: إعادة هيكلة وتطوير قسم المالية في الدار، وإعادة تشكيل الهيكل الوظيفي لقسم المالية وعمل توصيفات وظيفية لموظفي القسم، وإعادة هيكلة الدورة المستندية في الدار وفقاً لمعايير محاسبية علمية. وتطوير دليل سياسة وإجراءات قسم المالية ودليل سياسة وإجراءات إعداد الموازنات السنوية وإدارة النقد. وتحديث النظام الآلي المعمول به في قسم المالية، ووضع وتفعيل نظام ضبط المخازن والموجودات الثابتة.

ويذكر الموقع الإلكتروني لمؤسسة طابة أن برنامج تطوير دار المصطفى يتضمن زيادة موارد خدمات الطلبة، وتصميم خطة لزيادة التبرعات وإنشاء وقف للدار، والوصول لمستوى القدرة على وضع خطة تشغيلية لخمس سنوات، والحصول على الاعتمادية وشهادة الجودة.

وفي خطوة تهدف إلى تدعيم أركان الشبكة وتوطيد العلاقة بين منسوبيها ؛ عين علي الجفري رئيس «طابة» نائباً لرئيس مجلس إدارة دار المصطفى التي يرأسها عمر بن حفيظ عضو المجلس الاستشاري في «طابة»، وأوكلت إلى الجفري مهمة التدريس بالدار في الفترة الصيفية والمساعدة في تنظيم الدورات الصيفية بها.

أما بالنسبة لجهود مد نشاط الشبكة في شمال إفريقيا؛ فإنه يطول سرد حجم الإنفاق الذي تبذله دولة الإمارات لرفد مؤسسة «طابة وأخواتها، وفرض مشيخة الأزهر كمرجعية دينية تجمع مؤسسات الشبكة تحت مظلتها، حيث تغدق الأموال على مشاريع التعليم الأزهري داخل مصر وخارجها كدعم المستشفى التخصصي لجامعة الأزهر، وإنشاء مجموعة كليات في جامعة الأزهر، وتشييد مركز الشيخ زايد لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في الأزهر، وبناء مكتبة عالمية للأزهر، بالإضافة إلى دعم «الرابطة العالمية لخريجي الأزهر والتي تمثل الخزان البشري لمشروع المرجعية الجديدة تحت مسمى مجلس حكماء المسلمين».

علي جمعة نموذجاً:

ولد علي جمعة في محافظة بني سويف سنة ١٩٥٢ ، وحصل على دبلوم تجارة من جامعة عين شمس عام ۱۹۷۳ ، ثم التحق بجامعة الأزهر وتخرج في سنة ۱۹۷۹ ، ونال شهادة الماجستير في أصول الفقه من كلية الشريعة والقانون عام ۱۹۸۵ ، والدكتوراه سنة ١٩٨٨.

وسرعان ما حظي جمعة باهتمام الحزب الوطني الذي أسبغ عليه عدداً من المناصب والألقاب أبرزها ؛ عضويات مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وهيئة كبار العلماء، وتعيينه بمنصب الإفتاء بمصر (۲۰۰۳-۲۰۱۳) ، وفي هذه الفترة من حياته اشتهر علي جمعة بولعه في المتناقضات وإطلاق الفتاوى المثيرة للجدل، وخاصة ما يتعلق منها ببيع الخمور وجواز المعاملات المالية في البنوك الربوية وترقيع غشاء البكارة للنساء وادعائه بإمكانية رؤية النبي في اليقظة، مما دفع بعدد كبير من علماء مصر والعالم العربي للرد عليه ونقض فتاواه، ورد المفتي عليم من خلال حملة تتسم بانعدام ضبط النفس واستخدام ألفاظ لا تليق بمنصب الإفتاء.

وعلى الرغم من دخوله متأخراً في سلك التعليم الأزهري؛ إلا أن علي جمعة قد كَرَّسَ حَيّزًا كبيرًا من تصريحاته لفرض السمة الصوفية الأشعرية على مؤسسات الأزهر، وشن حملة تحريض وكراهية ضد مخالفيه ممن أطلق عليهم لقب: «المتشددين المتنطعين». وَوَافَقَ مَسْعَاهُ مَسْعَى شيخ الأزهر الذي حَشَرَ مُنَادِيًا صوفيةً من ثلاثين دولة إسلامية وغربية لأول مؤتمر عالمي للتصوف في سبتمبر ۲۰۱۱.

أما على الصعيد الإقليمي؛ فتتحدث المصادر عن مبالغة علي جمعة في استرضاء علماء المملكة العربية السعودية أثناء عمله هناك، إلا أن بعض التجارب المؤلمة بالنسبة له قد دفعته للتنكر لماضيه في المملكة ومبادرته إلى التعريض بعلماء المملكة وتوجيه شتائم مقذعة للدعوة السلفية وللإمام محمد بن عبد الوهاب ودعوته بعد عودته إلى مصر.

وسرعان ما استرعت هذه اللغة الهجينة انتباه مدير مؤسسة «طابة علي الجفري الذي كان يعمل على تصفية حسابات شبيهة ضد علماء المملكة التي نشأ وترعرع في كنفها انتقاماً الشيخه علوي المالكي، فبادر الجفري إلى زيارة جمعة وتوثيق الصلة به ومن ثم تعيينه عضواً بالمجلس الاستشاري لمؤسسة «طابة» عام ۲۰۰۵ ضمن مجموعة من المتصوفة وشيوخ الطرق الذين انخرطوا في دعاية مغرضة ضد مخالفيهم وساروا في نسق متجانس ضمن خط المؤسسة العلمي الذي رسمه الأمريكي جهاد براون فَوَافَقَتْ مُخْرَجَاتُها مقررات مؤسسات فكرية أمريكية دَعَتْ إلى دعم التصوف الطرقي لمواجهة التوجهات الإسلامية المناوئة للهيمنة الأمريكية على العالم الإسلامي.

وفي هذه المرحلة؛ شَايَعَ علي جمعة رؤى فريق «طَابَةَ» المكون من البوطي وابن بيه ونور القضاة والحبيب عمر بن حفيظ والجفري وبعض المشايخ» من أصول غربية أمريكية وبريطانية من خريجي التعليم الديني الإسلامي، وَبَدَا مُلْتَزماً بنشاطها، فَرَاحَ والجفري يَفْتَتِحُ كرسي الغزالي في القدس ۱۸ أبريل ۲۰۱۲ خاتماً جواز مفتي مصر بختم إسرائيلي وهو ما عَابَهُ عَلَيْهِ علماء الأزهر وقساوسة الكنيسة القبطية على حد سواء.

وتلت زيارته للقدس زيارة مدير مؤسسة «طابة» علي الجفري لها في ٤ أبريل ۲۰۱۲ ، مما يوحي بتنسيق قادة صوفية طابة» لكسر فتوى تحريم زيارة القدس تحت الاحتلال لغير الفلسطينيين، ومحاولتهم إعادة توجيه قراءة بعض النصوص التي تستند إليها بعض الحركات الإسلامية لتعليل نشاطها، ويدخل في هذا السياق المؤتمر الذي نظم بماردين التركية يومي ۱۷ و ۲۸ مارس ۲۰۱۰ لإبطال الفتوى المعروفة بـ فتوى ماردين لابن تيمية حول الجهاد. وقد كتب علي جمعة تقريراً حول هذه الندوة نشره بجريدة الأهرام يوم ٦ مايو.

ولما بلغ عمر مفتي مصر علي جمعة السابعة والخمسين ربيعاً عام ٢٠٠٩؛ لم يجد مكاناً أنسب للاحتفال وإطفاء شموع مولده من سُدَّةَ نادي «الليونز» وذلك على أنغام «أهل الفن» تحت إشراف مجدى عزب حاكم المنطقة الليونزية (٣٥٢) مصر) الماسونية، متجاهلاً بذلك فتوى اللجنة أزهرية برئاسة الشيخ عبد الله المشد في شعبان عام ١٤٠٥ هجري بتحريم انتماء المسلمين إلى نوادي الليونز والروتاري.

وَكَغيره من فقهاء «القُصُور» الذين دَرَجُوا على السير في الرِّكَابِ، تَلَكَاً جمعة عِنْدَ سقوط ولي نِعْمَتِهِ «المبارك»، وَانْزَعَجَ حين صَوَّتَتْ طَوَابِيرُ الْغَلَابَى لِحَاكِمِ لَا يُلَائِمُ هَوَاهُ وَلَا يُشَاطِرُهُ رُؤَاهُ، فَإِنْحَازَ إِلى حِزْبٍ «الدراويش» رَافِعًا لِوَاءَ الخروج مع شيخه «الإمام الأكبر».

وعندما تمت تنحية الرئيس محمد مرسي لم يجد علي جمعة غَضَاضَةً فِي أَن يَتَوَجَّهَ إِلَى «مُجْتَبَاهُ» العسكري قائلاً له: «لا تخف الدين معك والرسول معك والمؤمنون معك والشعب معك والملائكة تؤيدك من السماء» ، وَلَمْ يَحْتَرِمْ هَيْئَتَهُ الأزهرية التي طالما كانت عنوان ورع وعلم ، فَرَاحَ يَسِمُ المدافعين عن شرعية أصوات مصر بذوي الريحة النتنة» فَأَهْدَر دماءهم في خطاب ألقاه بكلية الشرطة في ١٨ أغسطس ۲۰۱۳ بحضور وزير الدفاع (آنذاك) الفريق أول عبد الفتاح السيسي، ووزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم، وعدد من قيادات الشرطة والجيش، مشدداً على ضرورة استخدام القوة ضد المتظاهرين الذين وصفهم بأنهم من الخوارج، قائلاً: «اضرب في المليان، وإياك أن تضحي بأفرادك وجنودك من أجل هؤلاء الخوارج، فطوبى لمن قتلهم وقتلوه، فمن قتلهم كان أولى بالله منهم، بل إننا يجب أن نطهر مدينتنا ومصرنا من هذه الأوباش، فإنهم لا يستحقون مصريتنا ونحن نصاب بالعار منهم ويجب أن نتبرأ منهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب»، مشيراً إلى أن الرئيس المعزول محمد مرسي قد سقطت شرعيته لأنه صار إماماً محجوراً عليه»، ومؤكداً للحاضرين أن الرؤى قد تواترت بأنهم مؤيدون من قبل الرسول الذي ادعى أنه زاره وأكد له ذلك، بعد أن ادَّعَى رؤية الرسول في اليقظة على أسلوب الشعراني صاحب «طبقات الأولياء».

وبعد إعفائه من الإفتاء (فبراير (۲۰۱۳) كَلَّفَ علي جمعة مِنْ خَرْجَاتِهِ الإعلاميةِ مُطْلِقًا الْعِنَانَ لِشَطَحَاتٍ أَسَّسَهَا عَلَى مَا وَرِثَهُ مِنْ شَيْخِهِ عبد الله بن الصديق الغماري زعيم طرقية المغرب، وَمُصَرَحًا بمركزية التصوف في الخط العلمي للأزهر، ومركزية الأزهر في المرجعية السنية.

وَعَلَى الرغم من تقربه من ابن بيه ومن شيخ الأزهر ومبالغته في مسايرة خطهما السياسي وتصدره للمواجهة مع خصوم دولة الإمارات إلا أن اسم علي جمعة قد غاب عن لائحة الهيئة التأسيسية لمجلس حكماء علماء المسلمين، وهو ما يعني أنه لم يعد له في صف شيعته ما يجعله أهلاً لتصدر هيئة علمية أو استشارية، وأن مصيره بات مقروناً بشعبويته وشطحاته بين أهل الموالد وربما يأهله طريقه الأخير إلى تحقيق حلمه بأن يحظى قبره بضريح فيصبح مزاراً من المزارات.

وصف الوهابية باليهودية زلة لسان أم موقف رسمي ؟

بعد عامين على الضجة التي أثارها بانتقاده لبعض الصحابة، وما تبعه من تعليق لبرنامجه التلفزيوني، عاد الشيخ أحمد الكبيسي في مطلع شهر أغسطس ٢٠١٤ لإثارة الجدل عبر مقابلة تلفزيونية اتهم فيها الإمام محمد بن عبد الوهاب، بأنه «صناعة يهودية».

وقال الكبيسي، في تسجيل فيديو تم تداوله على نطاق واسع في شبكات التواصل الاجتماعي والله داعش وماعش وحتى محمد بن عبد الوهاب أبو الوهابية صنيعة يهودية مائة في المائة ودعهم يقتلونني إذا أرادوا»، وأضاف: «أنا مسؤول عن هذا الكلام أمام رب العالمين.... والله حركة يهودية مرتبة ترتيباً لتمزيق الأمة، وقد مزقتها».

وعلى إثر ذلك التصريح توالت ردود الأفعال المستهجنة لتصريح الكبيسي، ومن ضمنها رد إمام الحرم المكي الشيخ سعود الشريم بتغريدة قال فيها: «ضاقوا ذرعاً بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لموافقتها منهج السلف، فزعموا أنه صناعة يهودية، وهذا ديدن أعداء الحق: وقالوا أساطير الأولين اكتتبها».

وتنوعت ردود فعل المتابعين عبر تويتر بين الدعوة إلى وقف برنامج الكبيسي والمطالبة بطرده من دولة الإمارات في حين هرعت الدوائر الرسمية لاحتواء الأزمة عبر تصريحات شبه رسمية تتحدث عن متانة العلاقة بين الدولة المضيفة للكبيسي ودول الجوار.

ولتخفيف حدة التوتر الناتج عن هذا التصريح أبلغت شرطة دبي المحامي السعودي عثمان العتيبي في ١٨ أغسطس بصدور قرار النائب العام بإحالة دعواه ضد الداعية العراقي أحمد الكبيسي في قضية هجومه على الوهابية وادعائه أنها صنيعة يهودية، وأكد المحامي العتيبي أنه تلقى دعماً معنوياً من بعض أحفاد الإمام محمد بن عبد الوهاب في قضيته، لافتاً إلى أن الهدف من هذه الدعوة هو: تحرير الإنسان من عبودية الأشياء والناس، وأن الدفاع عن هذه القضية هو مبدأ ديني وأخلاقي لا يسوغ التنازل عنه».

إلا أن مشكلة اتخاذ بعض العواصم الخليجية قاعدة للتهجم على الفكر السلفي وحركة الإمام محمد بن عبد الوهاب وربطهما بالغلو والتكفير : لم تبدأ مع الكبيسي ولا تتوقف عنده، إذ يعمد العديد من منسوبي مؤسسات التصوف السياسي» إلى إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب والتهجم على نهج المملكة العربية السعودية ورموزها الإصلاحيين وربطها بالتطرف والغلو.

ففي اليوم الذي أعلن فيه عن إحالة قضية الكبيسي للقضاء: نشر سفير المملكة العربية السعودية في لندن الأمير محمد بن نواف بن عبد العزيز آل سعود مقالاً يرد فيه على مزاعم دعم المملكة للتنظيمات المتطرفة، مبدياً تحفظه على إطلاق مصطلح «الوهابية» للإشارة إلى العنف أو التطرف، قائلاً: «الوهابية ليست مذهباً مستقلاً في الإسلام، بل هي تمثل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في إحياء ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم».

وشدد السفير على أن السعوديين لا يقبلون أبداً إطلاق مصطلح الوهابية»، مستحضراً ما ذكره ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الأمير سلمان بن عبد العزيز قبل ثلاثة أعوام، حين قال: «بعض الناس استخدم كلمة الوهابية لوصف رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وذلك لعزل المسلمين السعوديين عن بقية العالم الإسلامي»، ولفت إلى ما ترمي إليه بعض الحكومات ووسائل الإعلام وبعض المحللين السياسيين من وراء إطلاق هذا المصطلح على الحركات المتطرفة بدءاً من طالبان في أفغانستان ومروراً بالقاعدة وانتهاء بداعش على أنه الخطر الإسلامي الذي يواجه الحضارة الغربية.

وعلى الرغم من تكرر التوضيح بضرورة التفريق بين التوجه السلفي للمملكة وفكر التطرف والغلو إلا أن الاتهامات التي تنطلق من بعض عواصم الجوار لا تزال سارية على قدم وساق.

قد تكون نزعة الشيخ الكبيسي في إطلاق التصريحات المثيرة للجدل قد أوقعته في قضية ذات بعد قانوني إلا أن ما تنشره مراكز البحث الرسمية وشبه الرسمية في دولة الإمارات أسوأ أثراً في تمزيق الصف المسلم واستخدام المذهبية لتأجيج معركة الاستقطاب السياسي.

ففيما يبدو رداً مباشراً على مقال السفير: نشر الباحث في مركز دلما للدراسات في أبو ظبي حسن حسن دراسة في صحيفة «أوبزرفر» أعيد نشرها في صحيفة العرب اللندنية ١٩ أغسطس (۲۰۱٤) تنضح بعبارات التهجم على النهج السلفي للمملكة العربية السعودية ونسبة التطرف والغلو إلى دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، قائلاً: «تحول التيار السلفي من شكله الأول، كجماعة دعوية دينية نادراً ما تخرج عن طاعة الحاكم إلى جماعة سياسية دينية سلطوية، وتنظيم داعش إحدى نسخها المهجنة».

وإمعاناً منه في نسبة التكفير إلى فكر الإمام محمد بن عبد الوهاب أضاف حسن حسن شكلت السلفية التقليدية والوهابية الأرضية الفقهية والعقائدية لهذا التيار»، وأضاف: «قام محمد بن عبد الوهاب بإحياء هذا المصطلح (السلفية) من جديد في القرن الثاني عشر الهجري وسميت محاولته الإحيائية تلك بالحركة الوهابية، ومن أبرز ممثلي هذه المدرسة عبد العزيز بن باز ومحمد ناصر الألباني ومحمد بن صالح بن عثيمين، فالاتجاه الجوهري والخفي»، الذي يجعل داعش ظاهرة محفوفة بالمخاطر هو تجاهل «الرجة» الأيديولوجية والتغيير الاستراتيجي في عقيدة السلفية التقليدية»!

وفي نبرة تهكمية استنتج حسن حسن في دراسته أن جميع الحركات المتطرفة قد ولدت من رحم الفكر السلفي - الوهابي حيث ظهرت من صلب السلفية التقليدية سلفية متشددة تعترض على مبدأ السلفيين التقليديين الذي يقوم على الطاعة العمياء للحكام»!

وإلى جانب مقال حسن حسن الاستفزازي يمكن سوق العديد من الأمثلة على الدراسات التي تصدرها مراكز ومؤسسات رسمية إماراتية تتضمن طعناً بالتوجهات الدينية في المملكة العربية السعودية وبأصولها الفكرية ونهجها الوسطي، وخاصة في كتابات منسوبي مؤسسة «طابة» مثل محمد سعيد رمضان البوطي وعلي جمعة مفتي مصر وكلاهما يتمتع بعضوية المجلس الاستشاري الأعلى للمؤسسة؛ إلا أننا قد قمنا باختيار الدراسة أعلاه لأنها نشرت في صحيفة «أوبزرفر» بعد يوم واحد من صدور مقال السفير السعودي في صحيفة «غارديان».

وتأتي هذه الدراسات والتصريحات العدائية ضمن حملة تشنها بعض الجهات المعروفة للطعن في السعودية وربطها بالإرهاب، متغاضية عما تبذله السعودية من جهود حثيثة لمكافحة حركات التطرف وفكر الغلو.

ولن تجدي معالجتها عبر رفع قضية ضد الكبيسي بل يتعين التعامل معها بصفتها إستراتيجية مدروسة تعمل على تأجيج الفتنة في الصف الإسلامي، يدعونا ذلك للتنبيه إلى ظاهرة قيام بعض الجهات الرسمية بزج مؤسسات دينية في تجاذبات سياسية دعماً وتمويلاً، ولا شك في أن هذه المعالجة العبثية يمكن أن تتسبب في مخاطر شديدة تعيق دول مجلس التعاون عن تشكيل جبهة موحدة في التعامل مع المهددات الأمنية المشتركة.

خاتمة:

ركزت المقالات والأبحاث السابقة على مخاطر المشروع الغربي في توظيف التصوف السياسي لمواجهة الحركات الإسلامية، إلا إنه لا بد من التنبيه إلى ضرورة عدم خلط الأوراق وتجنب التعميم المفضي إلى الظلم والتعدي.

فالتيار الصوفي يضم جماعات وطرق ومدارس متعددة لا تخضع لمرجعية واحدة، ولا يسوغ تعميم الحكم فيها، خاصة وأن الكثير من جماعات هذا التيار تقوم بمراجعات مهمة في المناهج والمنطلقات، بل ترفض غالبيتها مبدأ التواطؤ مع المشاريع الغربية لضرب الإسلام من داخله.

لقد استهدفت سلسلة المقالات السابقة كشف شبكة الطرقية الإماراتية التي امتطت حصان طروادة الأمريكي لتعمل في أوطانها يد التفتيت والانقسام إلا إنه يتعين التأكيد على الأدوار الإيجابية التي مارستها الصوفية العلمية والصوفية الجهادية والسلفية المتجددة في مختلف أطوارها.

وفي الوقت الذي ندعو فيه إلى التمييز بين جماعات السلفية العلمية، والولائية، والصحوية والحركية، وننبه إلى ضرورة عدم الخلط بينها وبين حركات الغلو والتطرف التي انتسبت زوراً إلى أهل السلف، فإنه لا بد كذلك من رفض خلط الأوراق فيما يتعلق بالتيارات الإسلامية الأخرى.

وفي مقابل دعوة الجماعات إلى العدل والإنصاف يتعين تذكير الأنظمة العربية والإسلامية بأن الإدارة الناضجة للشأن الديني أصبحت حاجة ملحة لتحقيق الأمن الوطني والأمن الإقليمي، ولا يمكن الاستمرار في التعامل مع التيارات الدينية عبر القمع وحملات الشيطنة والتشويه، بل يجب الاعتراف بها كعنصر فاعل في الحياة العامة والعمل على جمع سائر التيارات والقوى المجتمعية في حوارات وطنية رشيدة تهدف إلى تعزيز الهوية وترسيخ التعايش الأهلي وتحقيق السلم المجتمعي.

هناك نماذج راقية من منسوبي الحركات الإسلامية من مختلف التيارات التي ترفض التدخل الخارجي في أوطانها، وترفض قبض الأموال من مؤسسات «دعم الديمقراطية» الأمريكية التي اتخذت من بعض العواصم الخليجية مقراً لها، ولا بد من دعم هذه الشخصيات النظيفة وتعزيز دورها في الإصلاح والتجديد.

وتبدأ المعالجة الشاملة لأزمة صراع الهوية من خلال تقوية العلاقات البينية بين هذه التيارات والارتقاء إلى مستوى التحديات، والسعي إلى تحقيق الوحدة الوطنية وخدمة الصالح العام تحت راية جامعة أساسها العدل وعنوانها:

كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله».



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق