الفساد السياسي في المجتمعات العربية
الشيخ محمد الغزالي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: في عالمنا العربي، لم يكن الاستبداد طارئًا ولا عارضًا عابرًا، بل ظلّ لعقود طويلة الجذرَ الراسخَ في تربة الحكم، والظلّ الثقيلَ الذي يخيّم على العقول والقلوب. نشأت الدول على أنقاض الاستعمار، لكنها ورثت عنه أدوات القهر والتسلط، وغيّرت أسماء الجلادين دون أن تمسّ السياط. ومنذ أن استوى الحاكم على كرسيه، ارتفعت جدران الخوف، وذُبحت الإرادة، وسُميَ القمع "حكمة"، والخضوع "وطنية"، وراح التاريخ يعيد نفسه بمآسٍ متكررة، حيث تُقمَع الحرية باسم الأمن، وتُغتال الكلمة باسم الاستقرار.
ومع هذا الحكم المتغطرس، قامت مؤسسات دينية لا تُنتج هدايةً ولا تضيء طريقًا، بل تسخّرت لخدمة السلطان، فصبغت جرائمه بالشرعية، وباركت طغيانه بتأويل النصوص، حتى صار المنبرُ منبرَ مدحٍ وتبرير، لا منبرَ حقٍّ ونذير. أما الإعلام، فما هو إلا بوق مأجور يُصفّق في حضرة الكذب، ويصمت عند حضور الحقيقة، ويغزل من أوهام "الإنجازات" بطولاتٍ وهمية لا يراها إلا العميان أو المرتزقة. لم تبقَ صحيفةٌ إلا وأُخضعت، ولا كاميرا إلا وأُديرت حيث يريد الحاكم، حتى ضاعت ملامح الواقع، وغدا الرأي جريمة تُقابل بالسجن أو بالرصاص.
وإن أعظم ما يُؤسف له أن هذا الفساد ليس فسادًا إداريًا أو ماليًا فحسب، بل فسادٌ في بنية الوعي، وتشويهٌ للمعايير، حتى باتت الأمة لا تعرف عدوها من وليّها، ولا الباطل من الحق. نُكبت الشعوب بجلادين يحكمونها لا بالقانون بل بالرهبة، وتُرِكت الكفاءات على الأرصفة، بينما اعتلى المتملقون سُلّم القرار. إنها مأساةُ أمةٍ أُجهضت نهضتُها قبل الولادة، وقُطعت ألسنة مصلحيها، وسُجنت أفكار يقظتها. لكن التاريخ لا يرحم، وسيروي يوماً –بلا تزييف ولا تلميع– كيف خذلت الدول شعوبها، وكيف باع الحكّام دين الأمة بدراهم الخنوع، وكيف صمتت منابر كان عليها أن تصرخ.
لقد نهضت دولة الخلافة الراشدة على أساسٍ متين من الشورى، لا يُنازع فيه، ولا يُلتفّ عليه. وكان المبدأ الصارم عند كل خليفة من خلفائها أن الحكم ليس امتيازًا بل أمانة، وأن الأمة ليست قطيعًا يُساق، بل شركاء في القرار، وأصحاب حقّ في المحاسبة. فها هو أبو بكر يقولها مدوّية: "إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فقوموني"، لتكون تلك الكلمة دستورًا للعدالة، وعهدًا مكتوبًا بمداد الهيبة والتواضع، يرسّخ أن الحاكم خادمٌ للأمة لا سيدًا عليها، وأن الحق لا يعلو إلا إذا علا صوت الناس به، ولا يستقيم إلا إذا قامت الأيدي بتقويم المعوجّ منه.
ومن هناك، من ذلك الأفق العالي، تأسست الدولة الإسلامية لا على صولجان القهر، بل على ميزان العدل، ولا على عصا البطش، بل على صوت الأمة. فالشورى لم تكن زينة تُرفع حين تُطلب الشرعية، بل كانت شرطًا لبقاء الحكم راشدًا، طاهرًا من لوثة الاستبداد، طاردًا لكل طاغية يزعم التفويض الإلهي وهو يبطش، ويهدم، ويكمّم الأفواه. ومن انطفأت في دولته شعلة الشورى، وبهت فيها نور المشاركة، فهو إلى الزوال أقرب، وإن لبثت على الأرض دهورًا.
وهذا الكتاب الذي بين يديك ليس كلامًا يُتلى، بل صيحة وعي، وصرخة إنذار قبل الهاوية. إنه تحذير صريح من اختفاء الشورى، ومن تغييب الحريات التي هي روح الأمة، ومن إذلال الشعوب التي ما خُلقت إلا حرةً عزيزةً كريمة. فالدولة التي تهدر الكرامات وتكتم الأنفاس وتُحكم بالوصاية لا تبني مجدًا، بل تحفر قبرها بيدها، وإن توهّمت أنها قد استتبّ لها الأمر. فإما أن تعود الأمة إلى جادة الشورى والعدل، أو تبقى رهينةً لطغيانٍ يلبس لباس الدين، ويغتال كل فضيلة باسم الاستقرار والأمن الكاذب.
إن الدين لا يَطرح على الناس إيمانًا خرافيًّا يعادي العقل، ولا يطالبهم بتصديق أعمى لا يعرف البرهان، بل يدعوهم إلى إيمانٍ واعٍ، متجذّر في التفكير والتأمل والبحث الحر. فالاعتقاد في المنطق القرآني ليس نقيض العقيدة، بل هو أحد أسسها، إذ تنبت العقيدة الصحيحة وسط مناخٍ من حرية السؤال وصدق الطلب، لا في ظلال التلقين القهري والتعصب الجامد. تأمّل قول الله تعالى في مخاطبة المشركين: ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ﴾ [الأنبياء: 24]، فليس ثمّة إكراه، بل دعوة إلى إقامة الحجة، وبحث عن برهان، ومقارعة بالحجة، وتداول للحقائق.
فالحق لا يخشى النقاش، وصاحب الصواب لا يهاب الموازنة والمجادلة، بل يغشى بها المجالس، ويقرع بها الآذان. أما المأساة الكبرى فحين يتسلط المبطل على الناس، لا بما يملك من حجّة، بل بما يحمله من عصا، يريد بها أن يُسكت كل صوتٍ يخالفه، ويُصادر كل رأيٍ لا يصفّق له. ومع خواء منطقه وتفاهة حجته، يردد ما قاله فرعون قديمًا: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]، فإذا به يقود قومه إلى الغرق في الدنيا، ثم إلى الحرق في الآخرة. إن الاستبداد السياسي، حين يُلبس ثوب القداسة، لا يُبيد فقط الحريات، بل يبيد أيضًا شروط النهوض، ويمحق بذور الإصلاح.
ولقد كان أثر هذا الاستبداد عميقًا في ثقافتنا الإسلامية، حتى اخترق أبواب الفقه نفسه، فطال صمته عن قضايا المعاملات الكبرى، وانكمش الكلام في الشأن العام خوفًا من العاقبة، حتى غدت أبواب الشورى، والعدالة، وحقوق الإنسان ضامرة مهملة، بينما فُرِّعت مسائل هيئةٍ وفرعيةٍ لا تنتهي، وهُرِبَ من الحديث عن المصائر الكبرى للأمة. وهكذا، تُركت قرارات الأمة بيد جماعاتٍ من المتسلطين الذين يكثرون من ذكر أنفسهم وألقابهم، ويقلّ في مجالسهم ذِكرُ الله، ويُختزل الدين في طاعتهم، وكأن لا حقَّ خارج حدود ما يرونه ويأمرون به.
لقد ارتكبنا – في القرون الأخيرة – أخطاءً فادحة، كان ثمنها باهظًا من ديار الإسلام وعقول أبنائه؛ فتهوّد من عالمنا ما تهوّد، وتنصّر ما تنصّر، وتشرّب المجوسية ما تشرّب. وكل ذلك لم يكن كافيًا في كفة الخسائر، فالمطلوب منا اليوم أن ندفع أكثر، وننزف أطول. ومع هذا، لا يزال بيننا قومٌ يتظاهرون بالتدين، منشغلين بمجادلاتٍ فقهيةٍ جوفاء، بين ظاهري ومعتزلي، وسلفي وخلفي، يغوصون في قضايا ما وراء الطبيعة أو في عباداتٍ خفيفةٍ لا تكلّفهم شيئًا من عناء ولا تفرض عليهم موقفًا من ظلم. أما القضايا التي تمسّ الإنسان، والهمّ العام، ومصير الجماهير، ففكرهم فيها بدائي، سقيم، لا يكاد يلامس الواقع ولا يعالج جرحًا نازفًا. وماذا نرجو من قومٍ يتصدرون باسم الإسلام ليقولوا بملء أفواههم: "أجمع السلف والخلف على أن الشورى لا تُقيّد الحاكم!"؟ بأي عقل يُقال هذا الهذيان؟! وهل هذه هي القراءة المجمع عليها لقوله تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾؟!
إن الانحراف في الفكر الديني أدّى إلى صناعة طغاةٍ جثموا على صدور الناس، وقادوا الأمم إلى الحتوف، ولم يجدوا في وُعّاظ الدين من يردّهم أو يُقيم عليهم حجّة، بل وجدوا من يُسوّغ صنيعهم أو يسكت عنه، لأن هذا الفكر العليل لم يعرف كيف يبني كوابح تُقيد الجبابرة، لا من اجتهاده، ولا حتى من استيراده! لقد تأملت في حال جماعاتٍ كثيرة تعمل باسم الإسلام، وتتحمس لنصرته، ولكنها تحمل في أعماقها فيروسات الجهل الأول، وأمراض الفوضى المزمنة، فوجدت أن حركتها وهمٌ ساكن، وإن تحركت يومًا، فإن خطاها إلى الخلف لا إلى الأمام. إنها تضيف إلى سجل الهزائم المدوية هزائم أشدّ، تلبس ثياب الدين، ولكنها تسيء إليه من حيث تظن أنها تنصره.
إن الدين الذي أنزل الله لا يرضى أبداً بشعار "أغمض عينيك واتبعني"، ولا يعرف طاعة عمياء تُفضي إلى الهلاك. إنه دين البصيرة والنور، ودعوة الوعي والفهم، كما قال الله لنبيه صريحًا لا التباس فيه: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾. فكل دعوةٍ تُبنى على الجهل، وكل اتباعٍ أعمى، ليس من سبيل النبي، بل من سبيل الذين وصفهم الله بقوله: ﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾. وإن الاجتهاد الجماعي في عصرنا لا بد أن ينبني على العقل والعلم والبصيرة لا على التلقين والاستبداد، ولا ينهض بهذه الأمة إلا فكرٌ حرٌّ يقيم الحق، ويُقيم عليه الدليل.
وقد أضحى الحديث عن الاجتهاد في الدين الشغل الشاغل لكثير من الناس في القرن العشرين، من علماء ومثقفين وغيرهم، فتباينت الآراء واختلفت التفسيرات بحسب توجهات كل منهم، مما زاد الأمور تعقيدًا وغطّى على وضوح الحقيقة وتجليها. بعض هؤلاء استغلّوا الحديث عن الاجتهاد لهوًا، ليضلوا الناس عن سبيل الله بغير علم، واعتبروا الاجتهاد رخصة مفتوحة لكل من هبّ ودبّ لينسبوا إلى الدين أقاويل تناسب أهواءهم، ويدخلوا في الشريعة ما ليس منها، ويخرجوا منها ما جاء به الشرع الثابت، مستندين إلى شعارات مثل التجديد، ومواكبة العصر، أو الزعم بأن الإنسان في هذا القرن لم يعد هو ذاته، بل صار مخلوقًا جديدًا لم يعد بحاجة إلى هداية سماوية، بعد أن تطورت العلوم التجريبية، وحاز على أسلحة الدمار والسرعة في المواصلات. وهؤلاء كثيرون في بلاد الإسلام، وكأنهم قد عبدوا الغرب، سواء شعورياً أو لاشعورياً، ثم سعوا لإعادة بناء الإسلام على نمط الفكر الغربي. ومن أبرزهم: سيد أحمد خان، وطه حسين، وعلى عبد الرازق، وقد تأثر بهم كثيرون.
لا أنكر صدق نوايا هؤلاء في إخلاصهم للإسلام والمسلمين، لكن الإخلاص وحده لا يكفي ليصيروا على حق في آرائهم التي تركت أثرًا عميقًا في نفوس بعض الناس. وقد ساعدت الظروف الاستعمارية السياسية والفكرية والاقتصادية على تعميق هذا التأثير، فتكوّنت لديهم عقلية منهزمة مستعبدة، غلبت فيها عبادة المادة، ربّ ماركس وقارون، ذلك الصنم الأكبر الذي صنعه الإنسان.
وعلى النقيض، ظهرت طائفة أخرى تقف عند الطرف المقابل، لا تفهم الشريعة إلا في إطار لغة القرن العاشر، فتعرض صورة جامدة راكدة لا مكان فيها للاجتهاد ولا للانفتاح. لا يتجاوز فهمهم مجرد كتب الفتاوى والنصوص الفقهية، حتى صار فقههم فقه الفقه، معرفتهم محصورة بآراء المتأخرين، لا فقه الشريعة من مصادرها الأصلية. وكل من الاتجاهين، هو رد فعل على الآخر، وقد كان بروز الاتجاه التحرري سببًا في تمسك هذه الطائفة برؤاها الجامدة وتصلب مواقفها.
وظل هذا التباعد قائمًا بين هاتين الطائفتين المتطرفتين لزمن طويل، وما زال مستمرًا، وأصبح للعلماء فيهما اتجاهات عدة؛ فمنهم من يرى أن باب الاجتهاد مغلق إلى يوم القيامة، وأنه لم يفتح بعد القرن الرابع الهجري، ومنهم من يعلن أن الباب مفتوح على مصراعيه لكل من هب ودب، مما يثير بلبلة في الفكر ويشتت الأذهان. وهناك أقوال أخرى لا جدوى من ذكرها هنا، فالأمر يطول بها الكلام. وعندما نرى هذه الفوضى الفكرية والاضطراب العلمي، يتساءل المرء: هل أراد هؤلاء – بهذا – خيرًا لنفسهم أم أراد بهم ربهم رشدًا؟!
كلمة عن الاجتهاد وأنواعه
اتفق العلماء على تعريف معنى الاجتهاد، بيد أن عباراتهم في وضع تعريف هذا الاصطلاح تختلف من فقيه إلى فقيه. ولكننا ننقل هنا عبارة الإمام الغزالي.
فالاجتهاد عنده عبارة عن: بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد. وفى عرف الفقه: بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة.
والاجتهاد له عدة أنواع فله نوعان من حيث المجتهد فيه:
الأول: هو الاجتهاد في دائرة النص، وهو يتضمن الاجتهاد في معرفة القواعد الكلية التي هي الدليل الإجمالي كاجتهاد الحنفية في دلالة العام والمطلق أنها قطعية في مدلولها فلا يخصصها ولا يقيدها خبر الآحاد إلا إذا صارت ظنية بالتخصيص والتقييد، أو كاجتهاد الشافعية فى أن دلالة العام والمطلق ظنية فتخصص بخبر الواحد.
الثاني: الاجتهاد بطريق النظر، يتضمن قياس المجتهد في أمر لا نص فيه ولا إجماع على ما ورد فيه نص أو حكم مجمع عليه، كما يتضمن استنباط الحكم من قواعد الشريعة الإسلامية العامة مما أطلق عليه بعض الفقهاء اصطلاح الاجتهاد بالرأى.
حاجتنا إلى الاجتهاد اليوم
إن حاجتنا إلى الاجتهاد اليوم أكبر بكبير من حاجتنا إليه بالأمس، فهناك كثير من القضايا والمشاكل التي تتجدد كل يوم، وكل شمس تطلع على الأمة المسلمة تأتي بمجموعة جديدة من القضايا والمسائل التي تتطلب الحل فى ضوء الشريعة الإسلامية، ونذكر على سبيل المثال بعض المشاكل المعاصرة التي تدعو إلى ممارسة الاجتهاد لإيجاد حلول إسلامية لها:
۱ - دور الإسلام والمسلمين في البيئات التي يشكل فيها المسلمون أقلية، وخاصة في البلاد الديموقراطية العلمانية التي لا تعترف بوجود أى دين على نطاق رسمي، فيواجه المسلمون فيها عدداً من القضايا التي تنتج من هذا الوضع الذي لم يعالجه فقهاؤنا الكبار، وذلك لأن المسلمين في عصور أجلاء الفقهاء لم يواجهوا هذا الوضع.
۲ - علاقاتهم مع غير المسلمين في دول علمانية هل نعتبرها دار الحرب أو نعتبرها دار العهد، أو نضع قسماً خاصاً في ضوء أوضاعنا الحالية ؟.
٣- دورهم في دول ملحدة ولا دينية، لا تسمح بوجود أى نشاط ديني بين المواطنين.
٤ - هل يكون دورهم في بلاد غير مسلمة دوراً سلبياً انفعالياً أو دورًا إيجابياً فعالاً ؟!
٥- كيف تنظم العلاقات الإيجابية البناءة بين أحكام الشريعة الإسلامية وبين النظم الحديثة، فالانتخابات والتصويت، والمجالس النيابية وكيفية تنظيم الشورى وما إليها من النظم الحديثة تحتاج إلى استقرار الرأى الإسلامي المجمع عليه.
٦ - ميكانيكية لبناء هيكل اقتصادى حديث مستمد من أحكام الشريعة ومستهدف لتحقيق مقاصدها.
ولكن قبل أن نتكلم عن دور الاجتهاد في حل هذه القضايا يجدر بنا أن نقول: إن الاجتهاد نوعان عند من يقول بإمكان تجزؤ الاجتهاد:
۱ - اجتهاد مطلق في جميع الأحكام الشرعية من أولها إلى آخرها.
۲ - واجتهاد مقيد، وهو اجتهاد في حكم دون حكم، وهو ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام والمسائل التي تتجدد من حين لآخر، وهي ما سماه الفقهاء الأحناف بالنوازل، وذلك لأن كل حكم شرعى ليس فيه دليل قطعي هو محل الاجتهاد، فلا يجوز الاجتهاد فيما ثبت بدلیل قطعی کوجوب الصلوات الخمس والزكوات وباقى أركان الإسلام، ولا شك إن الحوادث والقضايا التي تتولد من التصرفات الإنسانية لا يمكن تحديدها، ومن المعلوم أننا لا نجد في الشريعة حكماً صريحاً لكل قضية جديدة، ولا يمكن أن يكون ذلك، فإذا كانت الحوادث والقضايا غير متناهية وأحكام الكتاب والسنة الصريحة متناهية محدودة، والمحدود لا يسع اللامحدود علم قطعاً أن الاجتهاد والقياس شيء له قيمته في كل زمان ما دامت الحوادث متجددة والأحوال متغيرة والقضايا مستحدثة لأن كل حادث يدعو إلى الاجتهاد.
قضية تجزؤ الاجتهاد
وهنا تأتى فضية تجزؤ الاجتهاد التي كانت موضع خلاف بين فقهاء الإسلام، ولكن الذي ذهب إليه المحققون هو أن الاجتهاد ليس منصباً لا يتجزأ، بل يجوز أن يقال للعالم أنه حائز على منصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض، فمن عرف طريق النظر القياسي فله أن يجتهد ويفتى في مسألة قياسية، وإن لم يكن ماهرا في علم الحديث، فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفًا بأصول الفرائض ومعانيها وإن لم يكن قد حصل الأخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات أو في مسألة النكاح بلا ولى، فلا استمداد لنظر هذه المسألة منها ولا تعلق لتلك الأحاديث بها. فمن أين تصير الغفلة عنها أو القصور عن معرفتها نقصا. ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمى وطريق التصرف فيه فلا يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرف به قوله تعالى: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين. وقس عليه ما في معناه.
وليس من شروط المفتي أن يجيب عن كل مسألة، فقد سئل الإمام مالك - رحمه الله - عن أربعين مسألة، فقال في ستة وثلاثين منها: لا أدرى، وكم توقف الشافعي - رحمه الله - بل الصحابة في المسائل.
من يقوم بالاجتهاد؟
وقد بسط فقهاء الإسلام القول فيما لابد من معرفته لمن يقوم بالاجتهاد، ولعل أحسن ما كتبه في هذا الصدد هو ما جاء في كتاب المستصفى للإمام الغزالي.
والعلوم التي لابد منها لتحصيل منصب الاجتهاد عند الإمام الغزالي هي كالاتي:
١ - الكتاب
٢ - السنة
٣- الإجماع
٥- العقل
٥ -طرق نصب الأدلة وشروطها
٦ - اللغة والنحو
۷ - الناسخ والمنسوخ
٨- علم الرواية
|وهذان علمان مقدمان، وهما علمان متممان
وإليكم تفصيل هذا الإجمال في ضوء كتاب «المستصفى»:
أولاً- كتاب الله
۱ - لا يشترط معرفة جميع الكتاب، بل ما تتعلق به الأحكام منه وهو مقدار خمسمائة آية.
۲ - لا يشترط حفظها عن ظهر قلبه، بل يكفى أن يكون عالما بمواضعها بحيث يطلب فيها الآية المحتاج إليها في وقت الحاجة.
ثانياً: السنة:
١- لابد من معرفة الأحاديث التي تتعلق بالأحكام، وهى وإن كانت زائدة على ألوف فهي محصورة.
٢ - لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الأحاديث بالمواعظ وأحكام الآخرة وغيرها.
٣- لا يلزمه حفظها عن ظهر قلبه بل يكفى أن يكون عنده أصل مصحح الجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام كسنن أبى داود، ومعرفة السنن لأحمد والبيهقى، أو أصل وقعت العناية فيه بجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام، ويكفيه أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة إلى الفتوى وإن كان يقدر على حفظه فهو أحسن وأكمل.
ثالثاً: الإجماع:
١ - ينبغي أن تتميز عنده مواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلاف الإجماع.
٢ - كما يلزمه معرفة النصوص حتى لا يفتي بخلافها.
والتخفيف في هذا الأصل أنه لا يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف، بل كل مسألة يفتى فيها فينبغي أن يعلم أن فتواه ليس مخالفًا للإجماع، أما بأن يعلم أنه موافق مذهبا من مذاهب العلماء أيهم كان، أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض فهذا القدر فيه كفاية.
رابعاً: العقل:
نعني به مستند النفي الأصلى للأحكام فإن العقل قد دل على نفى الحرج في الأقوال والأفعال وعلى نفى الأحكام عنها من صور لا نهاية لها. أما ما استثنته الأدلة السمعية من الكتاب والسنة فالمستثناة محصورة، وإن كانت كثيرة، فينبغي أن يرجع في كل واقعة إلى النفي الأصلى والبراءة الأصلية.
خامساً: العلمان المقدمان:
۱ - معرفة نصب الأدلة وشروطها التي بها تصير البراهين والأدلة منتجة والحاجة إلى هذا تعم المدارك الأربعة، من الكتاب والسنة والإجماع والعقل..
٢ - معرفة اللغة والنحو على وجه يتيسر له فهم خطاب العرب هذا يخص فائدة الكتاب والسنة.
والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد، وأن يعرف جميع اللغة ويتعمق في النحو، بل يكفيه القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستولى به على مواقع الخطاب ودرك حقائق المقاصد منه (٤).
ولا بد إلى جانب هذا كله معرفة حاجات الناس وعاداتهم وطبائعهم فإن شريعة الله لا تنفذ إلا على الناس ولا تطبق إلا في بيئة من الناس. وبدون معرفة ما يتعلق بعاداتهم وطبائعهم لا يمكن للمجتهد أن يصل إلى نتيجة إيجابية. وأشار الإمام ابن القيم إلى أهمية هذه المعرفة، فيقول:
٣. ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتاب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب، على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتى الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم.
دعواتنا إلى الاجتهاد الجماعي
إن الاجتهاد يمكن أن نقسمه إلى قسمين:
۱ - اجتهاد فردی.
۲ - واجتهاد جماعي.
لاشك أن الشريعة الإسلامية تسمح الممارسة كل من هذين القسمين. وقام كبار الفقهاء المجتهدين أمثال الإمام الأوزاعي والإمام الشافعي والإمام مالك - رحمهم الله تعالى أجمعين - وغيرهم بالقسم الأول من هذين القسمين، وكتب الله لجهودهم القبول والشيوع. ولكن نرى منذ البداية أن القسم الثاني للاجتهاد - وهو الاجتهاد الجماعي -كان سائدا بين طبقة من كبار الفقهاء. فكان الخلفاء الراشدون وخاصة الشيخان -رضى الله عنهما - لا يقدمان على الاجتهاد الفردى بل كانا يطرحان القضية أو النازلة عند مجمع من أهل العلم والفقه، ليجتمع كل منهم في دراسة القضية وإخراج ما عنده من الرأى والعلم بالكتاب والسنة، ثم يجتهدون ويصلون إلى نتيجة نهائية.
فروى الإمام البخارى والدارمي والبيهقي أن سيدنا أبا بكر الصديق - رضى الله عنه - إذا رفعت إليه قضية نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه شيئًا نفذه، فإن أعياه ذلك رجع إلى السنة، فإن وجد فيها شيئًا عمل به، وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم، فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به.
ويقول الإمام الباقلاني: وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه. لا ينفذ الأحكام إلا بمجمع من أصحابه وحضورهم ومشاورتهم مع فضله وفقهه وحسن بصيرته بأخذ الأحكام وطرق القياس ومعرفة الآثار (۷). وربما كان الخلفاء الراشدون يدرسون القضية مع أصحاب العلم شهرا، فيروى الإمام عامر الشعبي أن القضية كانت ترفع إلى عمر وربما يتأصل في ذلك شهرا ويستشير أصحابه.
ومن أهم أمثلة ما قضاه الخلفاء الراشدون والصحابة باجتهادهم الجماعي:
۱ - مسألة تدوين القرآن.
٢- الاجتهاد ضد مانعى الزكاة.
٣- ميراث الجدة.
٤ - عدم تقسيم أراضي السواد وغيرها من المسائل.
ثم نرى الإمام أبا حنيفة النعمان - رحمه الله - الذي أنشأ مجمعًا كبيرًا من العلماء والفقهاء والمحدثين وأصحاب الجرح والتعديل والمفسرين وعلماء اللغة والكلام، قام معهم بتدوين المذهب الحنفى الذى يمثل أحسن مثال للاجتهاد الجماعي في عهد التابعين وأتباع التابعين. ولكن هذا الأسلوب الجماعي للاجتهاد الذي وضعه الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - لم يستمر بعده. ولو استمر على منواله السابق لكان فيه خير كثير للإسلام والمسلمين. ولكن فضل إحياء هذه السنة في القرون الأخيرة يرجع إلى السلاطين العثمانيين الذين شكلوا لجنة من أهل العلم لهذا الغرض، ولا شك أن تدوین مجلة الأحكام العدلية على أيدى جماعة من العلماء من أهم الخطوات التي اتخذت في سبيل الاجتهاد الجماعي في عصرنا الحاضر..
الأسباب التي تقتضي ممارسة الاجتهاد الجماعي:
١ - لم يبق بين المسلمين أناس بالمستوى الرفيع من العلم والمعرفة والأخلاق والورع بحيث يقبل عامة المسلمين على فتاواهم كما كان الحال في الماضي مع علمائنا السلف.
۲ - المسلمون متفرقون مشتتون منقسمون إلى ٤٧ دولة مستقلة منفصلة بعضها عن البعض، والاجتهاد الفردى إذا استمر على وتيرته السابقة فلا يؤدى إلا إلى مزيد من التفرق والتشتت، فاجتهاد الباكستانيين يكون مختلفا حينئذ عن اجتهاد المصريين، وما سيصل إليه السعوديون قد يختلف عما يصل إليه الجزائريون، وهذا الاختلاف قد يتجاوز حدوده المعقولة المسموحة بها في شريعة الله، وهذا أمر سوف يجعل أعداء الإسلام يسخرون منا ومن ديننا.
٣- إن تدخل الحكومات في كافة شئون المجتمع يحول دون ممارسة الاجتهاد الفردي، وإبداء الآراء في المشاكل القائمة بكل حرية وموضوعية، ولكن اتحاد الآراء واجتماع الأفكار بين علماء المسلمين المنتمين إلى البلاد الإسلامية كلها يعطيهم وزنا ومكانة لا ينتزعهما حاكم مستبد ولا سلطان جائر.
ومما ترتاح إليه النفوس وتقر به الأعين أن الأمة الإسلامية بدأت الآن تتجه إلى هذا الاتجاه اتجاها حسنا. فإنها أدركت أن الاجتهاد الجماعي أقرب إلى الاحتياط والصواب والاطمئنان من الاجتهاد الفردي، وخاصة في عهد قيد فيه الزمان، وندر فيه العالم المتعمق، وقل فيه الصلاح والتقوى، وانتشر فيه التعليم، وتشعبت فيه العلوم والفنون وأصبح العصر عصر الاختصاص، فلا تحد فيه أناسا يجمعون بين أصناف العلوم، ويتعمقون في علوم الشريعة كلها كما تعمق فيها السلف الصالحون، وأن أغلبية من يدعون بالعلم في عالمنا الإسلامي لا يتمتعون بثقة الناس بصلاحهم وتقواهم وخشيتهم لله وحبهم لرسوله.
فبدأت والحمد لله مظاهر سير الأمة الإسلامية على هذا الاتجاه المبارك المنشود. فعقد ندوات ومؤتمرات عديدة للبحث والدراسة في قضايا الفقه الإسلامي المختلفة، ونشر موسوعات فقهية في بلاد مختلفة، وتأسيس المجامع الفقهية المتعددة، وإنشاء منظمة قانونية دولية تحت إشراف المؤتمر الإسلامي، وما إلى ذلك من الخطوات كلها، إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الفقهاء المسلمين المعاصرين بدأوا يدركون أهمية
هذا العمل في العصر الحديث، ولا يسعنى أن أنسى هنا ما قام به الإمامان الجليلان العلامة مصطفى أحمد الزرقاء والعلامة محمد حميد الله من جهود علمية وتقديم برامج عملية للوصول إلى هذه الغاية المنشودة.
والذي يراه كاتب هذه السطور فى مجال تحقيق هذا الهدف هو كما يلي:
١- من المعلوم أن الفقه الإسلامي والثروة الحقوقية الهائلة التي قام بإنتاجه آلاف الفقهاء عبر القرون لم تظهر إلى حيز الوجود بجهود حكومية أو شبه حكومية، بل قام بإنتاجه العالم في مكتبته، والمدرس في مدرسته، والمفتى في دار إفتائه، والقاضي في محكمته، كل ذلك دون أدنى تدخل من الحكام وولاة الأمر، وكل ما نراه من التطور القانوني الذي لا مثيل له ولا نظير عند أمة من الأمم حدث كله على نطاق غير رسمي بحت. فالإمام أبو حنيفة وزملاؤه من الفقهاء الأجلاء لم يكونوا أعضاء في مجلس شكله ولى الأمر، ولم يكن الإمام مالك - رحمه الله - عضوا في أى برلمان أو هيئة تشريعية، وكذلك الأئمة والفقهاء الآخرون لم يعينهم خليفة من الخلفاء أو ملك من الملوك ولم يطلب منهم أن يقوموا بهذا العمل التشريعي، بل كان بعضهم موضع حقد وعرضة اضطهاد من قبل ولاة الأمر، كما لا يخفى على المطلع الخبير، وكفاك مثالاً ما قاساه الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله ـ من مصائب و شدائد.
وقصارى القول أن طبيعة الفقه الإسلامى هى الحرية التامة والاستقلال الكامل عن تدخل الحكومات والهيئات الرسمية. فيجب أن يكون هذا العمل الضخم - وهو الاجتهاد الجماعي - حراً ومستقلاً عن الحكومات والإدارات الرسمية ويقوم على نطاق غیر رسمی بحث.
۲ - نحن نعيش الآن في عصر أصبحت فيه البشرية أسرة واحدة، ولكن العالم الإسلامي الذي كان، ويجب أن يكون، أسرة واحدة لم يعد مع الأسف أسرة متحدة. بل أصبح على أيدى الاستعمار الغربي متفرقا ومشتتا. ولكن زعماءنا، والحمد لله، يقومون بجهود مشكورة لتوحيد كلمة المسلمين وجمع شملهم في جميع مجالات الحياة.
وإذا كان المسلمون فيما مضى قرروا أن يقلدوا مذهبًا فقهيا معينا في منطقة معينة نظرًا إلى أسباب عديدة من صعوبة السفر وقلة وسائل النقل وبطئها وعدم وجود كتب وعلماء من مذهب فقهى آخر فهذه الأسباب قد زالت الآن بسهولة السفر وكثرة وسائل النقل وسرعتها وتوفر المصادر الفقهية من جميع المذاهب الإسلامية في جميع بقاع العالم. فإذا زال السبب يجب بطبيعة الحال أن يزول المسبب، فيجب علينا الآن أن نخرج من ضيق المذاهب إلى سعة الشريعة الإسلامية السمحة السهلة، ونختار من جميع المذاهب وآراء الفقهاء ما هو الأصلح والأنسب لعصرنا هذا وما هو الأقرب إلى روح الشريعة الإسلامية وأوفق بالعدل والقسط بين الناس.
وهذا الفقه المقارن لم يكن سهلاً أخذه والعمل به فيما مضى لما ذكرنا. فأفتى بعض العلماء بوجوب اتخاذ مذهب معين. ولكن كلما تيسرت الظروف لمثل هذا الموقف لم يتردد فقهاؤنا الكبار في الأخذ من جميع المذاهب. فيقول الإمام ولى الله الدهلوي في كتابه الإنصاف في بيان سبب الاختلاف:
فإذا كان إنسان جاهل في بلاد الهند وبلاد ما وراء النهر وليس هناك عالم شافعي ولا مالکى ولا حنبلى ولا كتاب من كتب هذه المذاهب وجب عليه أن يقلد مذهب أبي حنيفة ويحرم عليه أن يخرج من مذهبه، لأنه حينئذ يخلع من عنقه ربقة الشريعة ويبقى سدى مهملاً، بخلاف ما إذا كان في الحرمين فإنه يتيسر له هناك معرفة جميع المذاهب، ولا يكفيه أن يأخذ بالظن من غير ثقة، ولا أن يأخذ من السنة العوام ولا أن يأخذ من كتاب غیر مشهور.
ولا بد هنا أن أشير إلى قضية هامة وهى أننا قبل أن نخوض في بحر الفقه المقارن أو «الفقه الإسلامي العالمي إذا جاز التعبير، يجب علينا أن نتفق أولاً على قواعد ومبادئ أصولية نبنى عليها هذا البناء الرفيع، ولابد أن تكون هذه القواعد والمبادئ الأصولية مستخرجة من جميع المذاهب الإسلامية والآراء الفقهية.
٣- وأما الجهاز الإدارى والطريق العملي للقيام بهذه المهمة هو في رأيي المتواضع كما يلي:
أ - يؤسس مركز عالمى لهذا الغرض في مدينة إسلامية كبيرة، مثل كراتشي وبيروت والقاهرة، ويضم هذا المركز على الأقل عشرة فقهاء كبار بتخصصات مختلفة. فإن هذا العصر هو عصر الاختصاص والتخصص والتعمق في فرع من فروع العلوم، لأن العلوم تشعبت والمكتبات كثرت، والتأليف تدفقت، ولم يعد بإمكان أحد أن يستوعب جميع ما كتب ويكتب في العلوم الإسلامية وفيما يحتاج إليه في الاجتهاد الجماعي، ولا يستطيع أحد أن يحوى فرعا من الفروع أو علما من العلوم كلها. والمسائل أصبحت معقدة، فما من قضية إلا ولها صلة بعديد من العلوم والاختصاصات، فلما لم يكن للمجتهد معرفة بجميع تلك العلوم والاختصاصات التي لها صلة بحل تلك القضية الواحدة لا يمكن له أن يبدي رأيه في قضية واحدة، فما ظنك في القضايا المستحدثة كلها ؟ فلا يمكن استفراغ الوسع إلا بمعرفة جميع هذه العلوم واستخدامها في الاجتهاد الجماعي.
ولنأخذ مثلاً قضية تطبيق نظام الزكاة والعشر في دولة إسلامية حديثة، فإذا أردنا أن نضع لهذا الغرض لائحة في ضوء الشريعة الإسلامية فسوف نحتاج فيها إلى معرفة الآيات المتعلقة بالزكاة مع جميع ما ذكره الفقهاء والمفسرون من التفاصيل حول العام والخاص والمطلق والمقيد والمفسر والمجمل والمحكم والمتشابه ودلالة المنطوق ودلالة الفحوى ودلالة النص وإشارته واقتضائه وعبارته وغير ذلك، ثم نحتاج إلى معرفة كل ذلك من الأحاديث المتعلقة بالموضوع بالإضافة إلى سندها ورواتها وجرحهم وتعديلهم وتأويل المختلف من هذه الأحاديث، ثم إلى معرفة الأحكام الفقهية المجمع عليها واختلاف الفقهاء واجتهاداتهم وأدلتهم فيها، ثم إلى معرفة علم الأصول وما إليه من علم القواعد الكلية والفروق والأشباه والنظائر، ثم إلى معرفة الاقتصاد الوضعى، ونظام البنوك، والمؤسسات المالية، ونظام الضرائب، والنظم الحكومية، ونظام الزراعة، وعلم الحساب والرياضيات، وعلم الكمبيوتر وغير ذلك مما يطول ذكره، فلابد أن يكون في المركز اختصاصيون مختلفون متعمقون في هذه الفروع المختلفة
ب - تؤسس مراكز فرعية لهذا المركز الرئيسي في جميع المدن الإسلامية الرئيسية، ويضم كل فرع على الأقل عشرة أشخاص، منهم أعضاء وأعضاء منتسبون. ونعنى بالأعضاء المنتسبين جماعة من العلماء الذين يستفاد من علمهم وخبرتهم في مجالات مختلفة ولا يكونون أعضاء كاملين لعدم بلوغهم إلى الدرجة المطلوبة من العلم بالشريعة الإسلامية، ويضم كل مركز فرعى جماعة من المترجمين الأكفاء الذين يقدرون أن يترجموا البحوث الفقهية من اللغة العربية إلى لغتهم المحلية وبالعكس ليتمكن الأعضاء المنتسبون من إبداء آرائهم في الموضوع المطروح.
ج - تنشر جريدة رسمية شهرية لهذا المركز باللغة العربية، وترسل إلى جميع المراكز الفرعية، وتنشر فيها آراء الفقهاء المعاصرين مع أدلتهم ومناقشتها من قبل الأعضاء.
د - ولا تمنح العضوية الكاملة لأحد إلا إذا شهد بكفاءته على الأقل عشرة أعضاء كاملين من خمس جنسيات مختلفة، والجدير بالذكر أننا لا نريد أن تكون للهيئات الرسمية أي دور في تعيين الأعضاء أو الأعضاء المنتسبين.
هـ - ينبغي ألا تنتهى المناقشة على قضية واحدة في أقل من ثلاث سنوات لتتجلى جميع النواحي المتعلقة بالموضوع ويأتى كل فقيه بما عنده من الآراء والأدلة
و - لا بد أن يكون كل واحد من الأعضاء حائزاً على الصفات الآتية:
١ - أن يكون مسلما عدلاً بالغا من العمر أربعين سنة فما فوقها، على أن يسمح لمن دون هذا السن أن يكون عضوا منتسبا.
٢ - أن تكون خبرته في مجال تدريس الشريعة أو التأليف فيها أو الإفتاء فيها أو القضاء لمدة لا تقل عن خمس عشرة سنة.
٣- أن تكون له بحوث مطبوعة في مختلف مجالات الشريعة بحيث تمتاز بالأصالة والعمق وسداد الفكر.
٤- أن يكون معروفًا في بلده بصلاحه وتقواه وأمانته العلمية ورفعه لواء الشريعة.
٥ - أن تكون لديه معرفة ما سبقت الإشارة إليه من العلوم الثمانية كما ذكره الإمام الغزالي رحمه الله في المستصفى.
ز - لابد أن يكون في كل مركز فرعى جماعة من الأعضاء المنتسبين من أهل العلم والثقافة العصرية وعلماء الشريعة المشهود لهم بالصلاح والتقوى، ليستفيد الأعضاء الكاملون من عملهم وتجاربهم وخبراتهم، وينبغي ألا يعين أحد عضوا منتسبا إلا إذا شهد بكفاءته ثلاثة أعضاء كاملين على الأقل.
ومن ثم فإن جهاز الحكم فيه، أو منصب الخلافة باسمه يقوم على هذه الأسس:
(أ) نشر الدعوة الإسلامية في كل مكان.
(ب) رد الشبهات التي قد تثيرها الدعوات المضادة.
(جـ) تحشيد قوى المؤمنين ضد أي عدوان يجيء من هنا أو هناك.
( د ) الإسهام مع قوى الخير في العالم على رفع مكانة الإنسان عامة.
ودعامة ذلك كله أن تكون الأمة الإسلامية نفسها صورة صادقة لدينها في الداخل والخارج.. ظاهر من طبيعة الإسلام أنه دعوة متحركة تعرض نفسها على أي إنسان حيث كان، والقرآن الكريم إنساني النزعة والوجهة يتعامل مع الفكر المجرد، ويتخطى العصبيات والجنسيات ليستقر في القلوب وحدها. ومن ثم فإن جهاز الحكم فيه، أو منصب الخلافة باسمه يقوم على هذه الأسس:
(أ) نشر الدعوة الإسلامية في كل مكان.
(ب) رد الشبهات التي قد تثيرها الدعوات المضادة.
(جـ) تحشيد قوى المؤمنين ضد أي عدوان يجيء من هنا أو هناك.
( د ) الإسهام مع قوى الخير في العالم على رفع مكانة الإنسان عامة.
ودعامة ذلك كله أن تكون الأمة الإسلامية نفسها صورة صادقة لدينها في الداخل والخارج… ولا نستطيع الزعم بأن الخلافة الإسلامية في القرون الغابرة نهضت على هذه الأسس.
والمسلمون مجمعون على وصف دولة الخلافة الأولى بأنها خلافة راشدة ! هل يعنى ذلك أن وصف الرشد حكر على الأربعة الأوائل، وأن الخلفاء بعد ذلك ليسوا - على الإجمال - أهلاً له ؟ الواقع أن جمهور المسلمين كاره، أو ضائق، أو منكر، أو منحرف عن أغلب الخلفاء الذين ولوا أمره !!
وقد سمى عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس وهو من الأمويين وقد تجد سادسا أو سابعًا من العباسيين أو العثمانيين. أي أن الراشدين يعدون على الأصابع خلال أربعة عشر قرنا، أما جمهور الخلفاء بعد ذلك فهم حكام حظ الدين منهم قليل، وأنصبتهم من العلم والدعوة تافهة، ومع ذلك فقد حكموا باسم الإسلام، وحاولوا تكميل نقصهم بطرق شتى من الولاء له و تبنى شعائره وشرائعه ودعم سلطانهم به.
والخلافة نيابة عن رسول الله في رعاية مصالح الأمة الدينية والمدنية، أي أنها أبوة روحية وثقافية وسياسية للمسلمين كافة تعبد الله بتعهد خلقه والسهر على شئونهم، ومن هنا كان الإمام العادل أول السبعة الذين يظلهم الله، يوم لا ظل إلا ظله، وقد تقلصت هذه الحقيقة على مر العصور بنسب متفاوتة، وتحول الخلفاء إلى أناس يختلون الدنيا بالدين.
ولعل السبب الأول هو نظام الوراثة الذي جعل الأهواء البشرية تهزم القيم الدينية، فالمفروض أن يختار الناس - بطريقة ما - أفضل رجل فيهم ليكون قائدهم وإمامهم، بيد أن هذا الفرض استبعد، لتقذف الوراثة برجل من بني أمية، أو بني العباس فيفرض نفسه على الألوف المؤلفة في أقطار الأرض الواسعة، سيدا مطاعا، وإماما مهيبا !!
والمواهب الإنسانية لم تأخذ هذا الحظ في البروز والتألق، فقد كان أبو الطيب شاعرًا مفلقا، ولم يرث ذلك عن أبيه أو أمه ولم يورث فنه الأدبى ابنا له، ولكن قانون الخلافة ألزم الجماهير بتحية الإعجاب تقدم لابن المتنبى العاجز، أو لا بن أبي العلاء الذي لم يولد !!
ولولا التاريخ العلمي للإسلام، ولولا جهود الأتقياء من فقهائه ودعاته ومريديه ومجاهديه المشهورين والمغمورين لغربت شمسه من زمن بعيد… وكان آخر الخلفاء - أو السلاطين - من آل عثمان شبحًا محقورا لهذا النظام الجائر، فلا عجب إذا رمى بالخلافة في البحر قائد متفاهم مع الصليبية العالمية التي طال تربصها وبلغت آخر الأمر مرادها…
إن المحنة التي أصابت الإسلام بفساد أوضاعه السياسية طويلة الذيول، مستطيرة الشر! ولا يفكر مؤمن عاقل في إعادة الخلافة الإسلامية بصورتها المستقبحة التي ظهرت بها… ولكن التفكير يشغل ألوف المؤمنين في ضرورة عودة الخلافة على نهجها الراشد الأول، وكلما مر يوم شعر المسلمون بفقرهم إلى قيادة عامة تلم شملهم في المشارق والمغارب، ذلك أن للقوى المعادية قيادات عامة ترسم خططها بخبث، وتضرب بعضهم ببعض دون هوادة، فما يجوز بقاؤهم على هذه الفرقة القاتلة لنبحث إذن كيف تكون للمسلمين وحدة شاملة وخلافة عظمى..؟
تساءلت: ألا يمكن تحوير ودعم المؤتمر الإسلامي لتحقيق هذه الغاية؟ إن المؤتمر يتكون الآن من أربعين دولة مسلمة، بيد أن المسلمين أوسع دائرة من هذه الدول الأربعين، إن القلة المسلمة في الهند أربى من عشر دول عربية.
ومعنى هذا أنه لابد من تمثيل طوائف المسلمين في العالم كله وهم موزعون على نحو أربعين دولة أخرى كما بينا سابقا. فإذا أعيد تشكيل المؤتمر ليكون لكل تجمع إسلامى صوت، وإذا كان رأى الكثرة ملزما - من النصف أو بالثلثين - وإذا اختير أمين عام تتجسد فيه أمال المسلمين وآلامهم، فإنه يمكن أن يأخذ هذا الأمين وضع الخليفة ولابد من مواجهة قضايا عالمية ومحلية تعترض مقررات هذا المؤتمر ولن يكون الطريق أمامه معبدا، ولابد من الإقدام والتصدى للكارهين !!
وثمة اقتراح ثان.. ألا يمكن تحويل الدول والدويلات الإسلامية إلى ولايات متحدة إسلامية على غرار النظام الأمريكي، ويكون الرئيس المنتخب من جماعة المسلمين في إفريقيا وآسيا هو الإمام المنشود، أو أمير المؤمنين.
وهنا لابد من مصارحة الأمة الإسلامية التي توطن فيها الفساد السياسي دهرا... إن تزوير الانتخابات خيانة عظمى، وإذا كنا قد رفضنا توارث الخلافة لأنه يأتي بأدمغة تافهة، فإن التزوير الذي أتقنه بعض الحكام لن يأتى إلا ببعض الفتاك والشطار وهواة الفرعنة، ووجود هؤلاء طاعون يغتال الكفايات والأمانات…
إن انتخاب خليفة يجب أن توفر له جميع أسباب الحيطة الدينية والخلقية، وأن يكون آية في الشرف والتجرد… واقتراح أخر! هل يمكن أن يجمع بين أسرة الدول الإسلامية والأقليات الإسلامية نظام يشبه الاتحاد الكونفدرالي تبقى فيه المعالم المحلية، ويجمع المسلمين هدف واحد في الميدان الدولي ؟
الأمر يتطلب على أية حال تعاون العلماء بالفقه الإسلامي والخبراء بالقانون الدولي حتى يمكن علاج قضايا كثيرة سوف تتطلب الحلول. على أن تغيير الأوضاع السياسية للعالم الإسلامي لا يتم أبدا قبل أن تسبقه تغييرات فكرية ونفسية عميقة؛ فالحاكم الفرد إذا اطمأن إلى أن أظافره لن تقلم مضى في بطشه لا يخشى أحدًا… والمستبد غالبًا من أجبن الناس، وما يغريه بالظلم إلا أمن العقاب، ولو كان في بيئة يقول قائلها:
إذا الملك الجبار صعر خده … مشينا إليه بالسيوف نعاتبه !
وقد استوردنا شكل النظام الديموقراطي في بعض بلادنا فإذا هوى الأنفس وخراب الأخلاق يحول أجهزة الشورى إلى أبواب ملق ودعاية لفرد طائش. وفي أيام يفاعتي كنت أرى الجماهير أحمى أنفًا، وأبين شرفًا في بقاع كثيرة، ولكن يظهر أن الخطة التي وضعت لتدويخ المسلمين أتت ثمارها المرة.. !!
وهذا ارتكاس لا يدعو إلى يأس، بل يدعو إلى مضاعفة الجهود لإنقاذ أمة تحمل أمجد رسالة عرفها العالم، إنقاذها محليا وعالميا.
إن هناك يقظة إسلامية حسنة، غير أن أمراضنا الموروثة لا تزال تهبط بنا، والأمراض الوافدة لا تزال تهاجمنا، والأمر يحتاج إلى دعاة علماء، وساسة أتقياء، وحصيلتنا من هذه الفئات شحيحة بالغة الشح… قد يكون العزاء، أو يكون الرجاء في أننا أصبنا في تشخيص عللنا، والتشخيص الصحيح خطوة جيدة في طريق العافية لعل القرن المقبل يكون خطوة فسيحة إلى ما نصبو، والأمل في جانب الله يحلو.. لكن لا أمل بدون عمل !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق