البيان الثاقب
في شرح حديث حاطب
تأليف خالد بن علي الغامدي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذه الرسالة النافعة تبين لنا حكم مظاهرة الكفار والمشركين وإعانتهم على المسلمين، وقد جمع المؤلف واحدا وعشرين دليلاً يؤكد فيها أن من يُظاهر المشركين والكفار من الطُّغاة، والمجرمين: بماله، أو بسلاحه، أو برأيه، فهو كافرٌ كفراً صريحاً، وأنه مُرتدٌّ حقيقية عن دين الإسلام.
ولا شكَّ أن هذا الفعل قبيحٌ، يبرأ منه الإسلام وأهل الإسلام؛ ومن يُشاهد ما يفعله طغاة المسلمين وحكامهم من ولاءٍ لأعداء الملة والدين، وما يفعلونه من إيذاء المسلمين وكونهم سبب شقائهم وهوانهم، كل ذلك يدفعه إلى القول بهذا الحكم،
مع أن المسألة خلافيَّة سيما وأن من العلماء من يرى أنه لا يُكفر هؤلاء بمجرد فعل المظاهرة، حتى ينضمَّ إليه ما يُناقض الإيمان: من الرضى بالكفر مثلاُ، وهو رأيٌ له شواهده واعتباراته، وإن كان لنا ميلٌ نحوه، إلا أننا نعرض المسألة كما هي، ونرجو من الله سبحانه أن يُصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين.
نعم، إننا نُنكر أشدَّ الإنكار على كل من يدَّعي محبة الإسلام والمسلمين، وكره أعدائهم، ثم هو يُقاتل في صفوفهم، وتحت راياتهم، سواءً حمله على ذلك: مصالحه الدنيوية من مالٍ أو منصبٍ أو جاه، فكم قتل من المسلمين بسببه؟ ومن الأطفال والنساء؟ كم يُتِّمَ من الأرامل؟، وكم من الأعراض انتُهكت؟، مع ما في ظاهر فعله من السَّعي إلى إزالة الإسلام وإفناء أهله، وإظهار المشركين والكافرين، وإعزازهم، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
-----------------------------------------
● الموالاة والولاية في اللغة:
تطلق هذه الألفاظ في اللغة على: القُرب، والدُّنوّ، والمحبة، والنُّصرة، والمتابعة، ويدلّ كلامُ أهلُ العلم على أنّ هذه الأفعال منشؤها المحبةُ والميلُ القلبي.
-----------------------------------------
● معنى موالاة الكفار وتوليهم:
أولاً: موالاة الكفار:
هي الحفاوة بهم، وزيادة تكريمهم، واتخاذهم أخداناً وأصحاباً، وتفضيلهم على المسلمين، وتقليدهم في أنماط حياتهم، وسلوكياتهم: عمهاً وسفهاً، وهي كبيرةٌ من كبائر الذنوب، وسببٌ لسُخط الله عزَّ وجل.
قال تعالى: {تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ} (المائدة:٨٠).
ثانياً: تولي الكفار:
هو مُظاهرتهم، ومعاونتهم، ونصرتهم ضد المسلمين، والذَّبُ والدفاع عنهم، ومشاركتهم في باطلهم، ويشمل ذلك إعانتهم بالمال والبدن والرأي.
وهو حرامٌ باتفاق العلماء، وهي نوعٌ من أنواع الردة؛ لأن ذلك يتضمن مقاومة الإسلام، والرغبة في اضمحلاله، وإذلال أهله.
------------------------------------------
● من الأمثلة والصور على موالاة الكفار :
(١) الرضا بكفرهم، أو الشك فيه، أو الامتناع عن تكفيرهم، أو الإقدام على مدح دينهم.
(٢) التحاكم إليهم، ونقل قوانينهم وتحكيمها في بلاد المسلمين.
(٣) مودتهم، ومحبتهم.
(٤) الركون إليهم، والاعتماد عليهم، وجعلهم سنداً وظهيراً.
(٥) إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين .
(٦) الانخراط في مجتمعاتهم، والانضمام إلى أحزابهم، وتكثير سوادهم، والتجنُّس بجنسياتهم (لغير ضرورة )، والخدمة في جيوشهم، والعمل على تطوير أسلحتهم.
(٧) التولي العام لهم، واتخاذهم أعواناً، وأنصاراً، وربط المصير بهم.
(٨) مداهنتهم ومجاملتهم على حساب الدين، ويدخل في ذلك مجالستهم والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله.
(٩) الثقة بهم، واتخاذهم بطانةً من دون المؤمنين، وجعلهم مستشارين، وولاة أعمال المسلمين.
(١٠) توليتهم المناصب الإدارية التي يرأسون بها المسلمين، ويذلونهم فيها، ويتحكمون في رقاب الموحدين، ويحولون بينهم وبين أدائهم عباداتهم .
(١١) جعلهم في بيوت المسلمين: يطلعون على العورات، ويربون أبناءهم على الكفر، وخلطهم مع العوائل والأسر المسلمة .
(١٢) ضمُّ الأولاد إلى مدارس النصارى، ومعاهد التبشير، والكليات والجامعات النصرانية (لغير الحاجة)، وجعلهم يسكنون مع عوائل الكفار .
(١٣) التشبه بالكافرين فيما هو من خصائصهم، أو سمتهم وهيأتهم المحرمة في الملبس، والهيئة، والكلام، وغيرها، وذلك يدل على محبة المتشبه به.
(١٤) الإقامة في بلادهم بغير حاجة ولا ضرورة، ولهذا فإن المسلم المستضعف الذي لا يستطيع إظهار شعائر دينه تحرم عليه الإقامة بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة.
(١٥) مدحهم، والذبّ عنهم، والإشادة بما هم عليه من الفساد والانحلال، والإعجاب بأخلاقهم ومهاراتهم دون نظر إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد.
(١٦) تعظيمهم، وإطلاق ألقاب التفخيم عليهم، والبدء بتحيتهم، وتقديمهم في المجالس وفي المرور في الطرقات.
(١٧) ترك تاريخ المسلمين والتأريخ بتاريخهم، واعتماده خصوصاً التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم كالتاريخ الميلادي.
(١٨) مشاركتهم في أعيادهم، أو مساعدتهم في إقامتها، أو تهنئتهم فيها، أو حضور أماكنها. وقد فُسَّر الزور في قوله تعالى : {والذين لا يشهدون الزور} بأعياد الكفار .
(١٩) التسمي بأسمائهم المُنكَرة، والتشبه بأشكالهم، والتزيي بزيهم.
(٢٠) الاستغفار لهم، أو الترحم عليهم، أو ذكر مناقبهم، أو تمجيد أمواتهم.
-----------------------------------------------
● حكم موالاة الكفار:
وتنقسم موالاة الكفار والمشركين إلى ثلاثة أنواع، ولكل نوعٍ حُكمه الخاصُّ به:
أ- النوع الأول: الموالاةَ التامة الكاملة للكفّار:
وذلك باعتقاد بنصرتهم، ومظاهرتهم، والرّضى عن دينهم، أو تصحيح مذهبهم، أو حبِّ ظهورِ الكفر على الإسلام، وإعانتهم في ذلك بالنّفس أو المال أو الرأي، ونحو ذلك، فهذا مِن موجبات الرّدة، والخروج مِن الملة رأساً.
ب- النوع الثاني: التجسسَ للكفّار على المسلمين:
ذهب عامة العلماء، إلى أنّ هذا الفعل محرَّمٌ وأنَّه مِن الكبائر والمعاصي التي لا تُخرج مِن الملة -إذا فَعَلَهُ لِغَرَضٍ دُنيويّ، واعتقادُهُ على ذلكَ سَليمٌ.
وهو قول الشافعيِّ في (الأم)، وابنُ بطّال، وابنُ حجر، والعيني، والقسطلاني في (شرحهم على البخاري)، والنووي في (شرح مسلم)، وابن العربي المالكي في (أحكام القرآن)، والقرطبي في (تفسيره)، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم.
وقد استدلوا لذلك بحديث حاطب رضي الله عنه - المتفق عليه - حينما كاتب قريشاً بمسير النّبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: "يا حاطبُ ما حملك على ما صنعتَ ؟"، فذكر حاطبُ -رضي الله عنه- أنه لم يفعله كفراً ولا ارتداداً عن الإسلام، وإنما فعله ليكون له يدٌ عندَ قريشٍ يدفعُ بها عن أهلِه، فقال النبي: "لقد صدقكم"، وفي لفظ: "ولا تقولوا له إلا خيراً" .
الشاهد من الحديث/ أن فعل حاطبٍ إنما كان لِغَرَضٍ دُنيويّ، واعتقادُهُ على ذلكَ سَليمٌ، وذلك حِينَ قَصَدَ بِذلكَ اتِّخاذَ اليدِ، ولم ينو الرّدة عن الدّين، وقد سمَّى الله تعالى فعله هذا موالاة، فقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (الممتحنة: ١)، ولم يكن بذلك كافراً.
ولا نعلمُ أحداً مِن أهل العلم نصَّ على كفرِ الجاسوس المسلم بمجرد الجسّ، بل نصّ الإمامُ الشافعي على أنّ الخلافَ في تكفيره غيرُ معتبر؛ لأنه النصَّ ظاهرٌ في ذلك.
جـ- النوع الثالث: مناصرة الكفار، ومظاهرتهم تأوُّلاً، وجهلاً:
فإذا كانت نصرتهم ومولاتهم للكفار على المسلمين: غير تامّةً، ولم تكن حباً في دينهم، فقد اختلف العلماء في ذلك:
(١) فيرى الإمام الطبري، والجصاص، وابن حزم، والعزُّ بن عبد السلام، والشيخ أحمد شاكر، (وهو ما رجحه المصنف)، أن مظاهرة المشركين والكفار: كُفرٌ بدين الله عز وجل، وأنه من الكُفر الاعتقادي وليس من الكُفر العملي؛ لأنَّ المظاهرة بالفعل والإعانة:
تتضمن المحبَّة لهم، ولما هم عليه من الكُفر، ولازم الكفر كفر.
وأنَّه يحرم موالاة الكفار بالفعل والمظاهرة مطلقاً، سوءاً فعله خوفاً، أو مُداراةً، أو مَشحَّةً بوطنه، أو أهله، أو ماله، أو فعله على وجه المزاح، وغير ذلك من الأغراض.
(٢) ورأى فريقٌ من أهل العلم أنَّ موالاة الكفار ومعاونتَهم على المسلمين لا تكون كفراً بمجرد الفعل ما لم يصاحبها رضىً بدينهم، أو تصحيحٌ لمذهبهم، أو حبُّ ظهورِ الكفر على الإسلام، ونحو ذلك، وهو قول الشيخ السعدي (في تفسيره)، والطاهر بن عاشور (في التحرير والتنوير)، وعبد اللطيف آل الشيخ في (الدرر السنية). وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
● والخلاصة:
- أنه لا نحكم بالكفر على من قاتل ضدَّ المسلمين إن كان متأولاً، أو جاهلاً.
- وأن مظاهرة الكفار وإعانتهم لا يُخرج الإنسان من الملة، وقد وصف الله سبحانه من يفعل ذلك: بالظلم، والفسوق، وتوعده بالعذاب، ولكن لم يصفه بالكفر، وهذا أمرٌ نُباينُ فيه المؤلِّف.
- فإن ما يكفُر به المرء هو: محبة الكفار ودينهم، فإذا انضمَّ إلى ذلك المظاهرة كان ذلك كفراً أشدُّ وأعظم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى": "وليس لأحدٍ أنْ يكفر أحداً مِن المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة".
● وهل يجب قتله ؟
ينظر في ذلك إمام المسلمين بحسب المصلحة، وقتله في ذلك إما تعزيراً، أو ردَّةً، بحسب توافر شروط التكفير وموانعه.
-------------------------------------------------
● وقد استدلَّ المُصنِّف على كُفرِ المظاهرين للمشركين على المسلمين بأدلةٍ منها:
(١) (ظواهر الآيات وعموماتها)، في نفي الإيمان عنه، ووصفها له بالردة، والفسوق، وأن الله جعل مظاهرتهم من أسباب الكفر والنفاق.
(٢) (الأحاديث النبوية الشريفة): من حديث عمر بن الخطاب الذي حكم على حاطب بالكفر، وفعل أبي لُبابة، وكذلك الفاسق الخزرجي الذي يُقاتل مع قريش، وكذلك حال هرقل، وغير ذلك كثير.
(٣) (العقل)، قال: فإن العقل يدلُّ على أن المظاهرة كُفرٌ، وأن المُظاهر والمُعين للكفار من أشدِّ الناس كفراً، واستدل بمن يقول لرسول الله: أُحبُّكَ، ثم يُقاتل في صفوف أعدائه، فإن هذا لا يشكُّ أحدٌ في كفره.
(٤) (الإجماع)، وذكر الإجماع الشيخ عبد العزيز بن باز عن العلماء وأئمة السلف، قال المُصنِّف: ولا يُعلم لهذا القول مُخالفاً إلا المرجئة.
(٥) (القياس): حيث أن ترك المناصرة للمسلمين مع القدرة عليه، وخذلانهم، وترك الجهاد: يُعدُّ من النفاق، وقصة الثلاثة الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد لذلك، فكيف بمن يُناصر الكفار ويشدُّ من أزرهم، ويُعاونهم في ظلم المسلمين واضطهادهم؛ فهذا لا يشكُّ عاقلٌ في كقره.
(٦) (سدُّ الذرائع): فيرى أن المستفيد من عدم القول بكفر المُظاهر للكافرين: هم أعداء المسلمين، الذين يتخذون من ذلك ذريعةً إلى معاونتهم، وأن الاقتصار على مجرد التحريم يوقع الضرر بالمسلمين من جهة استهانة هؤلاء بدماء المسلمين .
------------------------------------------------
● أولاً: من القرآن الكريم:
يقول الله عزَّ وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة: ٥١).
وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (التوبة: ٢٣).
قال: الآيات صرَّحت بأنه (منهم)، وكل من كان منهم فله حُكمهم.
وقال جلَّ شأنه: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (المائدة: ٨٠، ٨١).
قال: في هذه الآية نفى الإيمان عمن يتولى الكفار، وحكم بكفرهم، وخلودهم في النار.
وقال سبحانه: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (الحشر: ١١).
قال: فجعل المظاهر والكافر أخوين في الكفر.
وقال جلَّ وعلا: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (آل عمران: ٢٨).
قال ابن جرير: "فليس من الله في شيء: أي قد برئ من الله، وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر، إلا أن تتقوا منهم تُقاة، وإلا تكونوا في سلطانهم، فتخافوا على أنفسكم، فتُظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتُضمروا لهم العداوة، ولا تُشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تُعينوهم على مُسلمٍ بفعل".
وقال جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} (محمد: ٢٥، ٢٦).
قال: حيث حكم الله على هؤلاء بالردة بسبب مظاهرتهم للمشركين والكافرين.
وقال جلَّ شأنه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (التوبة: ١٠٧).
قال: وقد جعل من أسباب كفرهم ونفاقهم مظاهرتهم للكافرين والمنافقين.
وقال سبحانه وتعالى: { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (المائدة: ٥٢).
قال: فقد اشترط لعدم الكفر أن يكون إظهار المودة ظاهريٌّ في حال الخوف منهم، لا موالاتهم ظاهراً وباطناً؛ لأن ذلك يقتضي الكفر، والعياذ بالله تعالى.
------------------------------------------------
● ثانياً: حديث حاطب بن أبي بلتعة:
وجاء في حديث حاطب أنه بعث جاريةً له برسالةٍ يوم فتح مكة، فبعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم علياً والمقداد، فأتوا بها، وفيه: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟».
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ (أي: حليفاً)، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا (ولم أكن من نفس قريش وأقربائهم)، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا، وَلاَ رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ صَدَقَكُمْ".
قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ. قَالَ: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " (رواه البخاري، وأبو داود، وأحمد).
قال: وهذا يدلُّ على أن حاطب يعلم أن أصل فعله الذي هو التجسس فضلاً عن المظاهرة ردَّة، كما يؤيد ذلك قول عمر رضي الله عنه: "دعني أضربُ عُنق المنافق"، وفي رواية: "أمكنِّي منه فإنه قد كفر"، وفي رواية: "قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه".
والجواب: أن ظاهر الفعل يحتمل الردة ويحتمل غيرها، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال، ولما انضم إلى ذلك نفي حاطب أن يكون فعل ذلك ردةً أو كُفراً، وأخذ النبيُّ بقوله، وهو حكمٌ بالظاهر، دلَّ ذلك على أن هذا الفعل بمجرده ليس كفراً.
قال: فكون فعل حاطب كفرٌ لا مرية فيه، ولذلك لم يُنكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم قول عمر بل أقره، وإلا لو كان عمر أخطأ في الحكم الظاهر، لأنكر الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، كما أنكر على عتبان بن مالك مثل ذلك في مالك بن الدخشم، وكإنكاره على حنظلة لما قال: نافق حنظلة، وهذا كله يدل على أن الخلاف ليس في كون فعل حاطب كفراً، وإنما كان في تكفير حاطب، ومعلومٌ أنه ليس كُلُّ فاعلٍ للكفر يُكفَّر ويُقتل، بلا لا بُدَّ من قيام الحجة، مع توافر الشروط وانتفاء الموانع.
والجواب: أن الكفر كفران: كفرٌ أصغر، وكفرٌ أكبر، والتفريق بينهما سائغ، وهو ما نحمل عليه قول عمر بن الخطاب.
قال: أضف إلى ذلك أن حاطب كان في فعلته هذه متأولاً، وأنه لم يتكرر منه بعد ذلك، وأنه ليس من عادته فعله، ولا فعله أحدٌ من الصحابة غيره، وهذا صحيح.
---------------------------
المصادر:
كتاب الكتروني- موقع الكتيبات الإسلامية-النوادر
Www.ktibat.com
انظر أيضاً: الإسلام: سؤال وجواب-
https://ar.islamway.net .
وهيئة الشام الإسلامية:
https://islamicsham.org.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق