ثبت شيخ الإسلام القاضي زكريا بن محمد الأنصاري
(825 -926 هـ)
تخريج الحافظ شمس الدين السخاوي
(831 -902 هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا الكتاب هو ثبت شيخ الإسلام القاضي زكريا بن محمد الأنصاري (ت 926 هـ)، تخريج الإمام العلامة الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، وهو من الأثبات النافعة، وله قيمة علمية عظيمة، وفوائد جليلة، يتجلى ذلك في علو أسانيده، وكثرة فوائده، واعتنائه بالعالي والنازل، وغير ذلك من لطائف الأسانيد.
ويذكر الإمام السخاوي جملة من مشايخ الشيخ زكريا الذين حدثوه بالحديث أو الكتاب، والطريقة التي تحمل بها الحديث أو الكتاب بدقة متناهية، مع التوثيق الكبير لذلك، وتحريه الصدق في الرواية، وقد ظهر ذلك في عنايته بنقل أدق التفاصيل في ذلك.
يظهر ذلك في بيانه سماع الشيخ زكريا من لفظ شيخه أو حفظه، وهل عرض الكتاب أو الحديث سماعاً أو عرضاً أو قراءةً، أو إجازةً، ثم يعقب ذكر الحديث بذكر رتبته من الصحة والحسن، وذكر من خرّجه من الأئمة في كتبهم، وقد يعقب ذلك بذكر الأشعار التي قيلت في معنى الحديث.
وقد ابتدأ السخاوي ثبت شيخه بذكر المسلسل بالرحمة (أو الأولية)، وهو أول حديث يبتدئ المحدثون به مجالسهم، ثم المصافحة، وظهر اعتناء السخاوي كذلك بنقد السند والمتن، وذكر ما في السند من علو ونزول وضعف واتصال وإرسال، وما في المتن من صحة وشذوذ.
وختم الإمام السخاوي ثبت الشيخ زكريا بذكر جماعةٍ ممن أجازه، وقد رتب أسماءهم على حروف المعجم، بدءاً بالهمزة، وانتهاءاً بالهاء.
مقدمة الشيخ زكريا في ثبته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فلما كان من خصائص هذه الأمة اتصال سندها بنبيها، وتمييز ضعيفها في نقل سنته من قويها وكون القرب فيه من الرسول الذي أرشد لكل خير ودل قرباً إلى الله عز وجل، تنافس فحول الرجال في حوز هاتين الفضيلتين مع مصاحبة الضبط والإتقان وتجنب المين.
وكنت بحمد الله ممن وفق للسماع برهة من الزمان ببركة القادر المالك، بل قرأت كثيراً من كتب الحديث، وأمهات الأصول على جماعات ممن فاق في الفضل واللسان، هذا مع الملازمة لتحصيل ما جرت العادة بتحصيله من منقول العلم ومعقوله إلى أن فتح الله بما فتح، ووهب ما وهب ومنح فرغب إلي جماعة من الآخذين عني للعلم، والموصوفين بجيد الفهم والحلم في جمع إسناد ما الحاجة ماسة إليه، مما اقتصر في هذه الأزمان عليه على طريق الاختصار، لا التطويل والإكثار، لقصور الهمم خصوصاً عن هذا المعنى، والاقتصار غالباً على العقليات وذاك المغنى، فأجبتهم في طلبتهم، لمعرفتي صدق رغبتهم، وأضفت إليها تتماتٍ حاجية، وفوائد علية، نفع الله بذلك كاتبه وجامعه وقارئه وسامعه وختم لنا بخير أجمعين، وأعاننا على ما يقرب لجناته فهو الموفق المعين.
الأسانيد التي ذكرها في (ثبته):
1-المسلسل بالأولية (الراحمون يرحمهم الرحمن).
2-ذكر طريق القوم السالمين عن المحذور واللوم.
3-الحديث المسلسل بالمصافحة.
4-ذكر الاتصال في الفقه بإمامنا الشافعي إمام الأئمة، ثم بالرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم خير البرية من طريق ابن عباس رضي الله عنه، (وهو مسلسل بالتدريس والإفتاء، والأخذ عن أكابر علماء المذهب).
5-الحديث المسلسل بالفقهاء الأعلام من أوله إلى آخره (وينتهي بأصح الأسانيد).
6-ذكر سلسلة القراءات إلى عدة من كتب فيها؛ كابن الجزري، وأبي القاسم الشاطبي، وأبي عمرو الداني، وأبي القاسم الفحّام، وإسماعيل بن خلف النحويّ (وقد قرأ القرآن جمعاً للسبعة، ومتفرقاً لباقي العشرة).
7-الحديث المسلسل بقراءة سورة الصّف (وهو أصحُّ مسلسل في الدنيا).
8-إسناده في قراءة (القرآن المجيد) كاملاً.
9-إسناده إلى صحيح الإمام البخاري.
10-إسناده إلى صحيح الإمام مسلم.
11-إسناده إلى سنن أبي داود السجستاني.
12-جامع السنن؛ لأبي عيسى الترمذي.
13-إسناده إلى السنن الصغرى؛ لأبي شعيب النسائي.
14-السنن الكبرى للنسائي -رواية ابن الأحمر.
15-السنن؛ لأبي عبد الله ابن ماجه.
16-إسناده إلى موطأ الإمام مالك -رواية يحيى بن يحيى الليثي.
17-إسناده إلى موطأ الإمام مالك -رواية أبي مصعب الزهري.
18-إسناده إلى مسند الإمام الشافعي.
19 +20-الرسالة، واختلاف الحديث للإمام الشافعي.
21-السنن المأثورة عن الشافعي، رواية المزني عنه.
22-شرح معاني الآثار للطحاوي.
23-مسند أبي حنيفة -للحارثي.
24-مسند الإمام أحمد بن حنبل.
25-مسند أبي يعلى الموصلي.
26-السنن الكبرى للبيهقي.
27-السن للإمام الدارقطني.
28-السيرة النبوية -تهذيب ابن هشام من ابن إسحاق.
29-السيرة النبوية لابن سيد الناس، والمسماة (بعيون الأثر).
30-دلائل النبوة؛ للإمام البيهقي.
31-الشفاء؛ للقاضي عياض.
32-الشمائل النبوية؛ للإمام الترمذي.
33-عرف التعريف بالمولد الشريف؛ للإمام ابن الجزري.
34-الأدب المفرد؛ للإمام البخاري.
36-عمل اليوم والليلة؛ لأبي بكر بن السني.
37-الدُّعاء؛ للإمام المحاملي.
38-الأذكار؛ لأبي زكريا النووي.
39-مختصر الحصن الحصين، المسمى (بالعدة) لابن الجزري.
40-المحدث الفاصل بين الراوي والواعي؛ لأبي محمد الرامهرمزي.
41-شرف أصحاب الحديث؛ لأبي بكر الخطيب البغدادي.
42-الأشربة الصغير؛ لأبي عبد الله أحمد بن حنبل.
43-الورع عن الإمام أحمد، تخريج الإمام أبي بكر المرُّوذي.
44-الأربعون، للحافظ أبي الحسن الدارقطني.
45-الأربعون؛ لإمام الحرمين الجويني.
46-الأربعون؛ للإمام الحاكم أبي عبد الله بن البيّع النيسابوري.
47-الأربعون للإمام أبي عبد الله القاسم بن الفضل الثقفي.
48-علوم الحديث؛ لابن الصلاح الشهرزوري.
49-الألفية في علوم الحديث وشرحها، للإمام الزين عبد الرحيم بن الحسين العراقي.
50-النخبة، وشرحها؛ كلاهما للإمام ابن حجر العسقلاني.
51-حلية الأولياء؛ لأبي نعيم الأصفهاني.
52-الرسالة القشيرية؛ لأبي القاسم القشيري.
53-عوارف المعارف؛ لأبي حفص السهروردي.
54 +55 +56-بداية الهداية في المعتقد، والعقيدة أو قواعد العقائد، والإحياء؛ لأبي حامد الغزالي.
57- رياض الصالحين؛ للإمام النووي.
58 +59-الترغيب والترهيب، ومختصر أبي داود؛ للإمام المنذري.
60-مصابيح السنة؛ للإمام البغوي.
61-المشارق أو مشارق الأنوار النبوية من صحاح الأخبار المصطفوية؛ للإمام الصاغاني.
62-عمدة الأحكام؛ لإمام عبد الغني بن علي بن سرور المقدسي.
63-بلوغ المرام من أدلة الأحكام؛ للإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني.
64-البعث؛ لابن أبي داود.
65-التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة؛ لأبي عبد الله القرطبي.
66-فضل رمضان؛ للإمام أبي بكر عبد الله ابن أبي الدنيا.
67 +68-المعجم الصغير، والأوسط؛ للإمام أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني.
68-مشيخة الخفاف؛ ليوسف الخفاف -تخريج الحافظ المحب ابن النجار.
69-الأربعون؛ لأبي محمد عبد العظيم المنذري.
70-الأربعون؛ للإمام النووي.
71-الأربعون؛ للإمام أبي عبد الله محمد بن قايماز الذهبي.
72-الفوائد؛ للإمام الثقفي.
73-مصنفات الإمام أبي إبراهيم المزني.
74-جزء الإمام سفيان بن عُيينة.
75-جزء الإمام أبي بكر عبد الله بن إبراهيم الشحاذي.
76-المجالسة؛ للإمام أبي بكر أحمد بن مروان الدينوري.
77-المحامليات؛ للإمام أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المَحاملي.
78-التبيان في آداب حملة القرآن؛ للنووي.
79-التيسير؛ للإمام أبي عمرو الداني.
80-العُنوان؛ لأبي طاهر النحوي.
81 +82-الشاطبية، والرائية؛ للإمام أبي القاسم الشاطبي.
83 +84-طيب النشر، والنشر؛ للإمام ابن الجزري.
85-التنبيه في الفقه؛ للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي.
86-المنهاج في الفقه؛ للإمام أبي زكريا النووي.
87-الحاوي الضغير؛ للإمام نجم الدين عبد الغفار بن عبد الكريم القزويني.
88-بهجة الحاوي؛ للإمام زين الدين عمر بن مظفر بن الوردي.
89-شرح البهجة؛ للإمام ولي الدين أبي زرعة أحمد بن العراقي.
90-مختصر القاضي أبي شجاع، لأحم بن الحسين بن أحمد الأصفهاني.
91-مختصر القدوري في فقه الحنفية؛ لأبي الحسين أحمد بن جعفر القدوري.
92-الهداية في فقه الحنفية؛ لأبي الحسن علي بن أبي بكر المرغنيناني.
93-الكنز، والمنار وغيرهما، من تصنيف الإمام حافظ الدين النسفي.
94-المختار في الفتوى، والاختيار، ومسائل المختصر للإمام عبد الله بن محمود بن مودود.
95-المقنع؛ لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي.
96-مجمع البحرين؛ لابن الساعاتي.
97-المدونة =جمع سحنون بن سعيد، عن ابن القاسم، عن مالك.
98-الرسالة؛ لابن أبي زيد القيرواني.
99-المختصر الفرعي، ومختصر ابن الحاجب، ومقدمته في النحو المسمى (الكافية)؛ لأبي عمرو بن الحاجب.
100-الورقات؛ للإمام الشيخ ضياء الدين إمام الحرمين الجويني.
101-مختصر الشيخ خليل.
102-مختصر الخرقي؛ لأبي القاسم الخرقي الحنبلي.
103-المحرر؛ للإمام المجد ابن تيمية.
104 +105-الطوالع في أصول الدين (مختصر في علم الكلام)، ومنهاج الأصول؛ للإمام القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي.
106-جمع الجوامي؛ للإمام تاج الدين ابن السبكي.
107-ملحة الإعراب؛ للحريري.
108-الألفية؛ لابن مالك.
109-كتب ابن هشام النحوي.
110-الآجرومية؛ لأبي عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي.
111-تلخيص المفتاح في علم البلاغة؛ للقزويني.
112-القصيدة المعروفة بالبردة؛ للبوصيري.
113-تصانيف الشهاب ابن الهائم في الفرائض والحساب وغيرها.
114-مجموع الكلائي، ثمان رسائل في علم الفرائض.
115-مصنفات الإمام العلامة أبي العباس محمد بن يزيد الثمالي.
116-مصنفات العلامة أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري.
ترجمة موجزة لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري
اسمه ولقبه:
هو زين الدين أبو يحيى زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري الخَزْرَجِي، السُّنِّيكي، ثمَّ القَاهري، الشَّافِعِي.
مولده ومنشؤه:
ولد سنة ثلاث، وقيل: أربع ، وقيل: ست وعشرين وثمان مئة بـ «سُنَيْكَةً» ونشأ بها فقيراً معدماً. قيل: كان يجوع في الجامع فيخرج بالليل يلتقط قشور البطيخ فيغسلها ويأكلها.
طلبه العلم:
حفظ ببلده القرآن الكريم، وعمدة الأحكام، وبعض مختصر التبريزي في الفقه، ثمَّ تحوّل إلى القَاهِرة في سنة إحدى وأربعين وثمان مئة فأقام بها يسيراً وحفظ في هذه المدة القليلة المنهاج الفرعي، والألفية النَّحْوِيَّة والشَّاطِبية، والرائية وبعض المنهاج الأصلي ونحو النصف من ألفية الحديث.
ثم عاد إلى بلده وبعد رجوعه منه إلى القاهرة مرة ثانية اشتغل في سائر العلوم المتداولة في الأزهر، فقرأ القرآن الكريم للأئمة العشرة، وأخذ الحديث والفقه والسيرة والعربية وغيرها عن جماعة من جلة العلماء فبرع في العلوم الشرعية وآلاتها وأذن له غير واحد من شيوخه في الإفتاء والإقراء فلم ينفك عن التعلم والتعليم مع الطريقة الجميلة والتواضع وحسن العشرة والأدب والعفة والانجماع عن أبناء الدنيا، مع التقلل وشرف النفس ومزيد العقل، وسعة الباطن والاحتمال والمداراة.
تلامذته: ومن أبرزهم:
۱ - شهاب الدين أحمد الملقب بعميرة البرلسي (ت٩٥٧).
۲ - وشهاب الدين أحمد الرملي الأنصاري (ت٩٥٧).
٣ - وشهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي (ت ۹۷۳).
٤- وشهاب الدين أحمد بن محمد بن عُمر الحمصي الأنصاري (ت ٩٣٤).
٥-وعبد الوهاب بن أحمد الشعراني (ت٩٧٣).
٦ - وزين الدين عُمر بن أحمد بن الشماع الحلبي (٨٨٠ - ٩٣٦).
۷ - وبدر الدين محمد العلائي الحنفي المصري (ت٩٤٢).
۸ ـ ومحمد بن أحمد الرملي الملقب بالشَّافِعِي الصغير (٩٣٧ ـ ١٠٠٤).
۹ ـ وشمس الدين محمد أحمد الشربيني الخطيب (ت۹۷۷).
١٠ ـ والسيد كمال الدين محمَّد بن حمزة الدِّمَشْقِي (٨٥٠ - ٩٣٣).
١١ ـ وبهاء الدين محمد بن عبد الله المِصْرِي الشَّافِعِي (۸۸۸ - ۹۹۲).
١٢ - ورضي الدين أبو الفيض محمد بن محمد بن أحمد الغَزّي (ت٩٣٥).
۱۳ - وولده بذر الدِّين أبو البَرَكَات محمَّد الغَزّي (٩٠٤ - ٩٨٤).
١٤ ـ وشمس الدين محمد بن محمد بن أبي اللطف الحصكفي (ت۹۷۱).
١٥ - وجمال الدين يُوسُف ابن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري.
زهده وسخاؤه:
قال الشعراني: كان رحمه الله كثير الصدقة ما أظن أحداً كان في مصر أكثر صدقة منه كما شاهدته وكان يسرها بحيث لا يعلمها كثير من الناس حتى ظن غالبهم فيه قلة صدقاته، مع أنه كان له جماعة يرتب لهم من صدقاته ما يكفيهم ليوم وإلى أسبوع، وإلى شهر، وهو لأهل العلم وفقرائهم أكثر برا وإيثاراً .
أخلاقه وعبادته:
كان وقوراً مهيباً موانساً ملاطفاً، يصلي النوافل من قيام مع كبر سنه وبلوغه مائة سنة وأكثر، وكان يقول: لا أعود نفسي الكسل، حتى في حال مرضه كان يصلي النوافل قائماً وهو يميل يميناً وشمالاً لا يتمالك أن يقف بغير ميل للكبر والمرض، فقيل له في ذلك فقال : النفس من شأنها الكسل وأخاف أن تغلبني وأختم عُمري بذلك. وكان له تهجد وتوجد وصبر واحتمال وترك للقيل والقال، وله أوراد واعتقاد وتواضع وعدم تنازع، وعمله في التودد يزيد عن الحد، وكان مجاب الدعوة لا يدعو إلا ويستجاب له . وكان رحمه الله رجاعاً إلى الحق، منقاداً للمعروف ولو من الأداني، منصفاً لمن دله ولو صغيراً، قال الشعراني: خدمته عشرين سنة فما رأيته قط في غفلة ولا اشتغال فيما لا يعني لا ليلًا ولا نهاراً.
علومه ومعارفه:
وفّرت البداية المبكرة للقاضي زكريا في طلب العلم فسحة من الوقت، استطاع خلالها تنويع مصادر معرفته، ولم يغفل هذه النقطة، بل استثمرها على وجهها الصحيح، فجنى ثمارها جنية مرتعة، قال: «وكان رضي الله تعالى عنه ـ بارعاً في سائر العلوم الشرعية وآلاتها حديثاً، وتفسيراً، وفقهاً، وأصولاً، وعربية ، وأدباً، ومعقولا، ومنقولا».
وظائفه
بعد أن استكمل القاضي زكريا الأنصاري الأدوات التي مكنته من مزاولة نشاطه العلمي، وبعد أن تبوأ الصدارة بين معاصريه ومنافسيه، فقد أسندت إليه مهام عدة وهي:
۱ ـ التدريس بمقام الإمام الشَّافِعِي. قال العيدروس: «ولم يكن بمصر أرفع منصباً من هذا التدريس .
۲ ـ مشيخة خانقاه الصوفية.
٣ ـ منصب قاضي القضاة، وكان ذلك بعد امتناع طويل، في سلطنة خشقدم ولما ولي السلطنة قايتباي أصر على توليه قضاء القضاة فقبل، وكان ذلك في سنة (٨٨٦هـ)، واستمر مدة ولاية قايتباي وبعده. وذكر العيدروس أن سبب عزله عن هذا المنصب إصابته بالعمى، وجمهور الفقهاء على أن القاضي يعزل بفقدان البصر، في حين أن الغَزّي والشوكاني يذكران أن سبب عزله زجر السلطان عن ظلمه وأغلب الظن أن هذا السلطان هو محمد ولد السلطان قايتباي الذي تسلطن بعده والده .
وتحديد وقت عزله يكتنفه الغموض، لا سيّما على رواية الغَزّي والشوكاني، ولكنها لا تتعدى سنة (٩٠٤هـ) فهي السنة التي قتل فيها السلطان محمد بن السلطان قايتباي ولكن الشوكاني يجزم أن عزله كان سنة (٩٠٦هـ)، ولم تذكر المصادر التي بين أيدينا تحديداً لتاريخ فقده لبصره، وكان السلطان قد طلب منه العودة إلى منصبه لكنه رفض إلى حين نكبته فترك السلطان الإلحاح عليه . ،
وذكر الشعراني أن القاضي زكريا كان يعتبر توليه القضاء: غلطة.
٤ ـ قال الغَزّي: «وولي الجهات والمناصب.
٥- وقال العيدروس : ولي تدريس عدة مدارس رفيعة».
٦ ـ وقال الشوكاني : «ودرس في أمكنة متعددة».
ثناء العلماء عليه:
قال الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي في «معجم مشايخه»: «قدمت شيخنا زكريا لأنه أجل من وقع عليه بصري من العلماء العاملين والأئمة الوارثين وأعلى من عنه رويت ودريت من الفقهاء الحكماء المهندسين فهو عمدة العلماء الأعلام وحجة الله على الأنام التي إلى الخير فيما نرجو تعود».
وقال السخاوي : وعلى كل حال فهو نهاية العنقود وحامل الراية وقال الشعراني : شيخ الإسلام أحد أركان الطريقتين : الفقه والتصوف، كان أكبر المفتيين بمصر يصير بين يديه كالطفل، وكذلك الأمراء والكبراء».
6 وقال النجم الغَزّي : هو الشيخ الإمام، شيخ مشايخ الإسلام، علامة المحققين وفهامة المدققين، ولسان المتكلمين، وسيد الفقهاء والمحدثين، الحَافِظ المخصوص بعلو الإسناد والملحق للأحفاد بالأجداد العالم العامل والولي الكامل الجامع بين الشريعة والحقيقة، والسالك إلى الله تعالى أقوم مسالك الطريقة، مولانا وسيدنا قاضي القضاة، أحد سيوف الحق المنتضاة».
وقال العيدروس: «ويقرب عندي انه المجدد على رأس القرن التاسع لشعرة الانتفاع به وبتصانيفه واحتیاج غالب الناس إليها فيما يتعلق بالفقه وتحرير المذهب».
وفاته:
تُؤفِّي هذا الإمام الجليل يوم الأربعاء ثالث ذي القعدة سنة (٩٢٦هـ) عن مئة وثلاث سنين، ودفن بجوار ضريح الإمام الشَّافِعِي رحمهما الله تعالى رحمة واسعة.
مرتبة شيخ الإسلام الفقهية في المذهب
إعداد الباحث طارق يوسف حسن جابر (رسالة ماجستير)
كنت قد تكلمت في الفصل الأول عن مكانة شيخ الإسلام بين علماء عصره، ورجحت أنه يعد من المجددين على رأس القرن التاسع، ودللت على ذلك بأمور، ومن هذه الأمور التي جعلتني أرجح أنه يعد المجدد على رأس القرن التاسع مرتبته الفقهية العالية في المذهب الشافعي، وكنت أرجأت التفصيل فيها لهذا الموضع.
وسبب تأخيري لها لهذا المبحث أمران:
الأول: المناسبة، وأعني بها أن حديثي سابقاً- عن مكانة شيخ الإسلام في عصره يناسب كونه في فصل الترجمة؛ للتعريف بهذا الإمام الجليل وتعريف القارئ بعظيم فضله؛ فهو يعد من قبيل الترجمة له، وأما الحديث على مرتبته الفقهية فإنه يناسب الفصل الثالث الذي يتحدث عن - جهوده في المذهب فوجب التعريف بمرتبته الفقهية في المذهب، حتى نتعرف على مدى أهمية واعتماد اختياراته وتقييداته وتعقباته وغير ذلك من جهوده في المذهب، وكذا معرفة حدود جهوده في المذهب. كز ابداء الى سانا الجامعية
الثاني: أن تحرير مرتبته الفقهية في المذهب في جلها مبنية على الاستنتاج لا على النقول، فأخرتها حتى تكون نتيجة لهذه الدراسة، وقد كنت أنوي تأخيرها إلى الخاتمة، ولكن قدمتها للمناسبة كما بينته في النقطة الأولى.
وبما أنني سأتحدث في هذا التمهيد عن مرتبة شيخ الإسلام الفقهية، فلا بد لي أولاً من ذكر مراتب المجتهدين؛ حتى نستطيع أن نلحق شيخ الإسلام بواحدة منها، فأقول: إن مراتب علماء الشافعية تنقسم من حيث الاجتهاد وأقسامه إلى قسمين رئيسين، هما:
الأول: المجتهد المطلق.
الثاني: المجتهد المنتسب، وله أربع مراتب.
وبناءً على هذا انقسم المجتهدون إلى خمس مراتب، أولاً: المجتهد المستقل المطلق، وثانياً: المجتهد المنتسب بأقسامه الأربعة، فَتَحَصل خمس مراتب، وتفصيلها كالآتي
المرتبة الأولى: المجتهد المستقل المطلق كالأئمة الأربعة، ويشترط في المجتهد حتى يبلغ هذه المرتبة: أن يكون عالماً بالقرآن الكريم، وبالسنة النبوية وعلومها، وبمسائل الإجماع وبأصول الفقه، وباللغة العربية على تفصيل بين العلماء في هذه الشروط، حيث يذكرها علماء الأصول في الكتب الأصولية في باب الاجتهاد في شروط الاجتهاد.
المرتبة الثانية: المجتهد المنتسب المطلق مثل: المزني والبويطي وغيرهما من أصحاب الشافعي، وصفة هذا المجتهد أنه لا يكون مقلداً لإمامه لا في المذهب ولا في الدليل، غير أنه ينتسب إليه في طريقة الاجتهاد، فهو يعتمد على قواعد إمامه الأصولية والحديثية ويبني عليها فروعه الفقهية.
المرتبة الثالثة: مجتهد المذهب أو المجتهد المقيد، وهم أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي كالشيخ أبي حامد الإسفرايني وغيره من أصحاب الوجوه المتقدمين، وصفة هذه المرتبة أن المجتهد فيها يقلد إمامه في الأصول والفروع، وطبيعة عمله تكمن في الاجتهاد في المسائل التي لم يرد فيها نص، فيخرجها على قواعد الإمام أو يجتهد فيها اجتهادا مطلقا وشرطه العلم بالفقه وأصوله وقواعد تخريج الأحكام واستنباطها وفق قواعد إمامه.
المرتبة الرابعة مجتهد الفتوى والترجيح المتبحر في المذهب كالشيخين النووي والرافعي، وصفة المجتهد في هذه المرتبة أنه يكون فقيه النفس، حافظاً لمذهب إمامه وعارفاً بأدلته، صحيح الفهم، عارفاً بالأصول واللغة.
المرتبة الخامسة : نَقَلَةُ المذهب، وصفة هذه المرتبة : أن دور المجتهد فيها يكون محدوداً في حفظ المذهب وفهمه ونقله وتحرير المسائل الشائكة من كتبه، فهو يعتمد تماماً على نصوص المذهب ولا يخرج عنها مطلقاً وعمله محصور في نقل المذهب وتحريره للآخرين.
وبعضهم جعل هذه المراتب ستاً بفصل المرتبة الرابعة إلى مرتبتين: مجتهد فتوى كالشيخين، ومجتهد ترجيح في ما اختلف فيه الشيخان كالإسنوي وغيره.
وبعد عرض مراتب المجتهدين الخمسة بإيجاز لا بد من تحديد مرتبة شيخ الإسلام الفقهية في المذهب، فأقول إني قد بحثت جاهداً لأجد نصاً صريحاً ينص على تحديد مرتبة شيخ الإسلام الفقهية فلم أجد، ولكني وجدت بعض النصوص التي تعينني في تحديد مرتبته، منها النصوص المعرضة بذلك بالثناء على شيخ الإسلام ومدحه، وكذلك نصوص متأخري علماء المذهب في تحديد المقدم عند اختلاف شيخ الإسلام والشهاب الرملي والشمس الرملي وابن حجر الهيتمي والخطيب الشربيني، حيث قرروا أن شيخ الإسلام قوله معتبر مع قول ابن حجر والشمس الرملي والخطيب، فكلهم في منزلة متقاربة فإن اختلفوا فيقدم ما اتفق عليه ابن حجر والرملي في التحفة والنهاية، فإن اختلفا فيخير المفتي بينهما إن لم يكن أهلاً للترجيح، فإن كان أهلاً له فيفتي بالراجح، ثم بعد ذلك شيخ الإسلام في شرحه الصغير على البهجة ثم شرح المنهج، ثم أصحاب الحواشي على تفصيل بينهم، وهذا الكلام قد أشار له غير واحدٍ من المتأخرين من أصحاب الحواشي في الفقه الشافعي، ومنهم البكري في إعانة الطالبين ونقله عن جمع من علماء المذهب ، وينبغي أن نعلم أن ابن حجر والرد ، في الغالب لا يخالفان شيخ الإسلام، وإن خالف أحدهما ترى الآخر يوافقه، وقد اتضح لي هذا الأمر من خلال استقراء بعض كتب المتأخرين التي تعتني بالخلاف بين ابن حجر والشمس الرملي وشيخ الإسلام والخطيب والشهاب الرملي ككتاب «الحواشي المدنية» سائل الجاه للكردي، وسبب اعتماد قول شيخ الإسلام هو المذهب وبراعته في كل علوم الشرع وآلاتها، وبعد نظره ودقة فهمه، وسعة اطلاعه على النصوص، وابن حجر لقوة مدركه والشمس الرملي لعنايته بالتحرير والتقرير من كتب المذهب، ويؤكد هذا المعنى الكردي في الفوائد المكية، فيقول: «وإذا اجتمع شيخ الإسلام وابن حجر والرملي والشربيني فاعتمادهم لذي الرتبة أولى لأن زكريا - رحمه الله تعالى- كان غاية من الاطلاع على المنقول وابن حجر بمعرفته بالمدرك واعتماد ما عليه الشيخان والجمال الرملي بالتحري في النقل وتقرير كتبه من علماء الأئمة أهل مصر ومثله الشربيني لكنّه كثيراً ما كان يقلد شيخ الإسلام ومثله الشهاب الرملي».
ثم ذكر نظماً في ترتيب الفتوى في المذهب فكان مما ذكر:
وحيث كان الشيخ زكريا *** خالف ذا أو خالف الرمليـــا
أو الخطيب قدم الشيخ أبــو *** يحيى الفضل فيه يوجـــب
وقال في مقدمة كتابه «الحواشي الصغرى»: «وأتعرض كثيراً للخلاف بين المتأخرين كشيخ الإسلام زكريا والخطيب الشربيني والشارح الجمال الرملي إذ هؤلاء قريبو التكافؤ في مذهب الشافعي كما أوضحته في الفوائد المدنية فيمن يفتى بقوله من متأخري الأئمة الشافعية.
وبعد هذه المقدمة التي عرضت فيها لمراتب المجتهدين في المذهب الشافعي، ولمكانة شيخ الإسلام واعتماده عند المتأخرين بشكل عام يبين مكانة هذا العالم الجليل، يجب علي أن أكون أكثر دقة في تحديد مرتبته الفقهية، فأقول إن الخطوة الأولى في تحديد مرتبة شيخ الإسلام تكمن في لمستوى شيخ الإسلام العلمي بمعنى معرفة مدى معرفته واطلاعه في المذهب؛ لنعلم أي الشروط تنطبق عليه فيلتحق بمرتبتها، وكذا وجب معرفة طبيعة عمله وجهوده في المذهب؛ فهما الأمران الأساسيان في تحديد مرتبته الفقهية في المذهب.
ومعلوم أن شيخ الإسلام منتسب لمذهب الشافعية، وكما سأبين في المبحث الثاني من هذا الفصل فإن شيخ الإسلام لم يخرج قط عن مذهب الشافعية؛ وعليه فإن الرتبة الأولى وهي المجتهد المستقل المطلق مستبعدة من نطاق بحثنا يقينا، فيبقى المراتب الأربع للمجتهد المنتسب، وهي:
1- المجتهد المنتسب المطلق.
2- المجتهد المنتسب المقيد أو مجتهد المذهب أو أصحاب الوجوه.
3- المجتهد المنتسب مجتهد الفتوى والترجيح.
4- المجتهد المنتسب ناقل المذهب.
أما المرتبة الأولى والثانية وهما المطلق في المذهب كالمزني، والمقيد كأصحاب الوجوه مثل الشيخ أبي حامد الإسفراييني، فإني أستطيع أن أجزم أن شيخ الإسلام لم يصل لهاتين المرتبتين، بناءً على أن شروطهما لم تحقق في شخص شيخ الإسلام، كما أن عمله في المذهب لا يشبه عمل علماء هذه المرتبة؛ فهو لم ينفرد بتقرير الفروع وأدلتها، وأيضاً لم يخرج على أصول وقواعد المذهب في المسائل التي لا نص فيها ولم يجتهد فيها اجتهاداً مطلقاً بحسب اطلاعي في هذه الدراسة.
فيبقى أمامي المرتبتان الأخيرتان وهما مرتبة مجتهد الفتوى والترجيح، ومرتبة نقلة المذهب، أما مرتبة نقلة المذهب فإني أجزم أن شيخ الإسلام قد جاوزها، لأن عمله لم يقتصر على نقل المذهب وحفظه وفهمه فقط، ويستطيع أي قارئ إدراك هذا الأمر بقليل عناء إذا اطلع على أي كتب من كتب شيخ الإسلام الفقهية، وعليه لم يبق إلا مرتبة واحدة، وهي المرتبة الرابعة: مرتبة
مجتهد الفتوى والترجيح، فأقول إن شيخ الإسلام يلتحق بهذه المرتبة وبيان هذا كالآتي: شروط مجتهد الفتوى والترجيح هي:
1- أن يكون فقيه النفس.
2- أن يكون حافظا لمذهب إمامه، عارفا بأدلته.
3- أن يكون صحيح الفهم.
4- أن يكون عارفاً باللغة العربية.
5- أن يكون عارفاً بمراتب الترجيح بين الآراء.
6- أن يكون عالماً بمباحث الدلالات وأقسام الألفاظ في أصول الفقه.
ب- وأما كونه حافظاً لمذهب إمامه، عارفاً بأدلته، فقد برهنت فيما مضى من كلام عند عرضي لكتبه الفقهية الأربعة: «شرح الروض»، و«شرح البهجة»، و«شرح التحرير»، و«شرح المنهج» على سعة اطلاعه وحفظه لعلوم الأقدمين، وإحاطته بالمسائل تحريراً وتقريراً، كيف لا وهو يعد مرجع عصره في فقه الشافعية، كيف لا وقد بلغ مرحلة في عصره أن انفرد بعلو الإسناد فلم يوجد أحد من طلاب مصر من الشافعية وغيرهم إلا روى عنه مباشرة أو بواسطة أو بعدة
فلو أردنا تطبيق هذه الشروط على شيخ الإسلام لوجدناها متوفرة في شخصية شيخ الإسلام العلمية، فشيخ الإسلام فقيه لا يشق له غبار بشهادة علماء عصره الجهابذة كابن حجر العسقلاني والكمال ابن الهمام والجلال المحلي وغيرهم.
وأما كونه صحيح الفهم بمعنى أن فهمه موافق للصواب في المذهب فهو واضح حيث كانت آراؤه واختياراته وتدقيقاته محل اعتبار عند المتأخرين، وعلى رأسهم أئمة الشافعية الأربعة المتأخرون: إماما الفتيا ابن حجر والرملي، والخطيب، والشهاب الرملي، وكما هو معلوم ومقرر في المذهب أنّ ما اجتمع عليه إماما الفتيا أنه المذهب فهو المذهب قطعاً، وغالباً لا يخرج كلام ابن حجر والرملي والخطيب والشهاب الرملي عن كلام شيخ الإسلام، فإن خالف بعضهم لا بد أن يكون الآخر موافقاً له في الغالب، وهذا دليل واضح على صحة فهمه والكلام على هذه القضية وعلى اعتماده يطول.
وقد كنت عزمت على إفراد هذه القضية بمزيد بحث واستقصاء بضرب نماذج فقهية تبين اعتماده في المذهب عند المتأخرين ولكن ضيق الوقت حال دون ذلك، وأكتفي بما قدمته والله -تعالى- أعلم. وأما اللغة العربية فإن لشيخ الإسلام قدماً راسخةً في علوم اللغة قاطبة، والغريب في الأمر أنه كان يعتمد في ذلك على حافظته القوية، فتجد مخزونه اللغوي هائلاً كما بينته سابقا- عند عرضي لكتبه الفقهية حيث كان يبين معاني الألفاظ وتصريفاتها وقواعدها اللغوية من حفظه. وأما علمه بمراتب الترجيح والدلالات وغيرها من مباحث أصول الفقه مما لا غنى للفقيه عنه حتى يسمى فقيها، فإن شيخ فقيها، فإن شيخ الإسلام يعد من المتعمقين في علم أصول الفقه في علم أصول الفقه بجميع مباحثه، ق محفو وله مصنفات عديدة تشهد بذلك كما ظهر جلياً عند عرض مصنفاته الفقهية، لذا فإن من أهم معة الام التوصيات التي خرجت بها من هذه الدراسة وجوب إفراد هذا الإمام بدراسة علمية متخصصة في جانب أصول الفقه، ووجوب طباعة كتبه الأصولية وإخراجها للنور، وقد علمت مؤخراً أنه قد تم مناقشة رسالة علمية في جامعة دمشق في تحقيق أحد كتبه العلمية في علم أصول الفقه كما بينته في المقدمة عند عرضي للدراسات السابقة.
والحاصل من كل ما تقدم أن شيخ الإسلام قد بلغ المرتبة الرابعة، وهي مرتبة مجتهد الفتوى والترجيح في المذهب، ومهام هذه المرتبة تنحصر في الترجيح بين الأقوال والأوجه في المذهب، وتحرير المسائل وتقريرها، وهو ما فعله شيخ الإسلام في مصنفاته الفقهية، وهو ما سيكون موضوع بحثنا فيما يأتي من مطالب هذا الفصل.
ترجمة الحافظ شمس الدين السخاوي مخرج هذا الثبت
هو الإمام شمس الدين أبو الخير وأبو عبد الله، محمد بن عبد الرحمن السَّخَاوي القاهري، الشَّافِعِي، الحَافِظ المحدث المؤرّخ النسابة الفقيه المفسّر الأديب النَّحْوِي، ذو التصانيف الكثيرة والآثار الغزيرة.
ولد بالقاهرة سنة (۸۳۱) ، وحفظ القرآن الكريم منذ طفولته، وتلقى العلم من صغره عن علماء بلده وشيوخ مصره، فقرأ القرآن عند الفقيه البدر حسين بن أحمد الأَزْهَرِي وغيره، وجوده على كبير الشيوخ المعمر المفيد النفاع الشَّمس محمد أحمد النحريري الضّرير،
المعروف بالسعودي، وقرأ عليه الحديث أيضاً، وتلا القرآن أيضاً على الشَّمْس محمَّد بن عُمَر، وحفظ عنده بعض كتاب «عمدة الأحكام" .
ثم انتقل بإشارة السعودي إلى العلامة الشَّهَاب بن أسد، فأكمل عنده حفظ «العمدة»، وحفظ «المنهاج» الأصلي أي الأصولي، وألفية ابن مالك» و«النخبة»، وتلا عليه القرآن بالروايات إفراداً وجمعاً، وتدرّب في المطالعة والقراءة.
وكان كلما انتهى حِفظه لكتاب عَرَضَه ـ أي قرأه ـ على أحد الشيوخ الكبار، وكان مما حفظه ألفية العِرَاقِي» في المصطلح، و «شرح النخبة»، وغالب «الشَّاطِبِيَّة»، وبعض «جامع المختصرات»، ومقدمة السَّاوي في العَرُوض وكان من جملة من عَرَض عليه: المحب بن نضر الله البَغْدَادِي الحَنْبَلِي ، والشَّمْس بن عَمَّار المَالِكِي، والنور التّلْواني، والجمال عبد الله الزيتوني، وسواهم.
وقرأ على البرهان بن خضر غالب شرح الألفية» لابن عقيل، وسمع منه الكثير من توضيحها لابن هشام كما قرأ النحو أيضاً على أوحد النحاة الشَّهَاب أَبِي العَبَّاس الحِنّاوي، وتدرب بهذين الشيخين في صناعة الإعراب، فأعرب على البرهان من (سورة الأعلى إلى الناس) من القرآن الكريم، وأعرب على الشَّهَاب مواضع من (صحيح البخاري)، وأخَذَ العربية عن الشَّهَاب المَغْرِبي، والجمال بن هشام الحَنْبَلِي حفيد سيبويه وقتِه الشهير وغيرهما.
وقرأ الفقه على البرهان بن ،خضر والسيد البدر النشابة، والشَّمْس الشَّنَشِي، والشَّمْس الوَنَائي، والقَايَاتِي، والعَلَم صَالح البلقيني، والشرف المُنَاوِي، والزين البؤتيجي، وأخذ طرقاً من الفرائض والحساب والميقات على الشَّهَاب بن المجدي، وقرأ الأصول على الكَمال إمام الكاملية، وحضر دروس الإمام التقي الشُّمُنِّي الحنفي في الأضلين والمعاني والبيان والتفسير، كما قرأت عليه شرحه لنظم والده للنخبة، مع شرح أبيه لها.
وقرأ شرح ألفية العِرَاقِي على العلامة الزين قاسم الحنفي، وأخذ قطعة من «القاموس» في اللغة تحريراً وإتقاناً السخنة، وأخذ التصوف عن المُخيَوي حفيد الجمال يوسف العجمي، وأبي محمد الأشمومي ، وابن الهمام الحنفي، وأبي القاسم النُّوَيْرِيِّ، والعلاء القَلْقَشَنْدي، والجلال المحلّي، والمحب الأقصرائي، وأخذ كثيراً من التفسير وغيره عن السعد بن الديري، وأخذ عن سواهم من العلماء المرموقين والجهابذة المحققين.
وكان في ذروة هؤلاء الذروة: الحَافِظ الإمام شهاب الدين أحمد بن حَجَر العَسْقَلاني، فهو أجل شيوخه وأعظمهم فيه أثراً، وقد لازمه من صغره وهو ابن سبع سنين وما تخلف عن حضور مجالسه حضراً ولا سفراً ليلاً ولا نهاراً وساعده على ذلك قُربه من منزله، وآثره الشيخ بمحبته وعنايته فصحبه السخاوي في غُدوه ورواحه، وارتبط به وبحضور دروسه أتم الارتباط، حتى لم يسافر إلى الحج إلا بعد وفاته، خوفاً على فقده، ونَهَل منه وعَلَّ، حتى غدا وارثَ علمه.
وأقبل عليه بكليته إقبالًا يزيد على الوصف لأخذ الحديث عنه، وتقلّل مما عدا الحديث من العلوم، لقول الخطيب : إِنَّ عِلم الحديث لا يَعْلَقُ إِلَّا بمن قصر نفسه عليه ، ولم يَضُمَّ غيره من الفنون إليه. ولقول الإمام الشَّافِعِي لبعض أصحابه: أتريد أن تجمع بين والحديث؟ هيهات! فداوَمَ الملازمة لشيخه ابن حجر، حتى حَمل عنه علماً ،جما، واختص به كثيراً بحيث كان من أكثر الآخذين عنه، وتدرب به حتى خَرَجَ من بين يديه إماماً في علمي الحديث والتاريخ. وقرأ عليه الاصطلاح بتمامه ، وسَمِع منه مُجُلَّ كُتُبِهِ كالألفية وشرحها مراراً، وعلوم الحديث لابن الصلاح، وأكثر تصانيفه في الرجال مثل «التقريب وغالب تهذيب التهذيب» و «تعجيل المنفعة» ولسان الميزان بتمامه ومشتبه النسبة» و«تخريج الرافعي و تلخیص مسند الفردوس وهدي الساري وبذل الماعون» و«مناقب الشَّافِعِي» و«مناقب الليث وغالب فتح الباري» و«تخريج المصابيح وتخريج ابن الحاجب الأصلي أي الأصولي وبعض إتحاف المهرة» وتعليق التعليق، وغيرها، وغيرها.
وبعد وفاة شيخه الحَافِظ ابن حجر سنة (٨٥٢هـ) رحمه الله تعالى، رَحَل ومسافر إلى الأماكن والبلدان للقاء الشيوخ والعلماء، وتحصيل الكتب والأجزاء، وقد زاد ما سافر إليه على (۸۰) بلداً، عنهم العلم أو لقيهم من العلماء والأدباء والشعراء علی (۱۲۰۰) رجل، وحَجَّ إلى بيت الله أكثر من مرة، وجاور بعض الشنين في الحرمين، وأخذ عن علمائهما والواردين عليهما. وقرأ ثم أقرأ.
ثم عاد إلى القاهرة واستقر بها وكان محجّة القاصدين، ومقصد المستفيدين والطالبين من العلماء والمحدثين، واتسعت شهرته، وعَظُمَتْ مجالسه وحَلْقَتُه ، وكثرت تآليفه، وسارت تصانيفه، حتى غدت زُهاءَ (۲۰۰) كتاب ، وقد ذَكَرَ أسماء أكثر مؤلفاته في ترجمته الحافلة الواسعة - وقد بلغت ۳۱ صفحة، التي ترجم فيها لنفسه في كتابه النفيس «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع. ويكثر في مؤلفاته قَنْصُ الشوادر، وإيراد الفوائد والفرائد، وذلك أنه قد انتهت إليه رئاسة علم الحديث وعلم الحديث وعلم التاريخ في أهل عصره، فدوّن نفائس معلوماته في كتبه، فعَظُم النفع بها .
ومن أشهر مؤلفاته كتابه الكبير في التاريخ «الضوء اللامع»، الذي قال فيه الشوكاني : لو لم يكن له إلّا هذا الكتاب، لكان أعظم دليل على إمامته . وله في التاريخ كتب أخرى كثيرة، متعددة الجوانب، ومن أفضلها على وجازته كتابه الجامعُ العُجَاب الإعلان بالتوبيخ لمن ذَمَّ أهل التوريخ .
ومن أشهر تواليفه في الحديث: كتاب «المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، فإنه كتاب نفيس متقن . ومن أشهر كتبه في علوم الحديث كتابه الفخم الضخم «فتح المغيث بشرح ألفية الحديث»، الذي غداً مصدراً أصيلا في كثير من مباحثه الاصطلاحية - على تأخر زمن السخاوي وكونه من أهل القرن التاسع - - ، لما حَشَاه من فوائد هذا العلم وشوارده، مما اقتبسه من شيخه الإمام ابن حجر، ومما استخرجه بثاقب نظره من بطون الأسفار التي طالعها وقرأها وأقرأها في علوم الحديث والجرح والتعديل والرجال والفقه والأصول والتاريخ.
، ولا يتسع المقام لبسط الحديث عنه وعن تواليفه ومآثرها ومآخذها، فإنَّه من الجدير جداً بالدراسات العليا : أن تتناول هذه الشخصية العليمة العظيمة، وتَدْرُس ،آثارها، وتُبرِزَ أثمارها، وتُحقق نفائسها، وتُجلّيها للدارسين خير تجلية فإنها من الشخصيات العلمية الحافزة الموجّهة للطالبين، والمؤثّرة في الشادين والراغبين.
وقد ملأ السخاوي حياته بالاشتغال بالعلم تعلماً وتعليماً، وتحصيلا وتأليفاً، وتمحيصاً وتصنيفاً، وسماعاً وإسماعاً، حتى توفاه الله تعالى وكانت وفاته ليوم الأحد ٢٨ من شعبان سنة (٩٠٢هـ)، في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم، ودفن بجوار الإمام مالك رضي الله عنه في بقيع الغَرْقَد، رحمه الله تعالى وجزاه عن العلم وأهله خير الجزاء.
سند المحقق المتصل بهذا الثبت
يقول المحقق: أروي ثبت شيخ الإسلام القاضي زكريا بن يحيى الأنصاري عن شيخنا المسند المؤرخ أبي العز محمد معتز بن عز الدين الشبيني الدمشقي الصالحي الشافعي حفظه الله تعالى.
عن شيخه العلّامة الشيخ أحمد بن محمد القاسمي الشافعي ثم الحنفي (١٣١٥ - ١٤١٤هـ). عن والده العلامة الشيخ محمد ابن الشيخ قاسم القاسمي الدمشقي الشافعي (١٢٧٦ ـ ١٣٣٧هـ). عن شيخه صدر المدرسين الشيخ سليم بن ياسين العطّار الدمشقي الشافعي (۱۲۳۱ - ۱۳۰۷هـ)، عن جده الشيخ حامد بن أحمد العطّار الدمشقي الشافعي (١١٨٦ ـ ١٢٦٣هـ)، عن والده العلّامة المسند الشيخ أحمد بن عبيد الله العطّار الدمشقي الشافعي (۱۱۳۸ - ۱۲۱۸هـ)، عن العلامة محدث الشام الشيخ أبي الفداء إسماعيل بن محمد العجلوني الدمشقي الشافعي (١٠٨٧ - ١١٦٣هـ)، عن الإمام العلّامة المسند الشيخ شمس الدين محمد بن علي الكامِلي الدمشقي الشافعي (١٠٤٤ - ١١٣١هـ)، عن العلامة علي بن علي الشَّبْرَامُلسِي القاهري الشافعي (۹۹۷ ـ ١٠٨٧هـ)، عن شيخه العلامة علي بن إبراهيم الحَلَبِي الشافعي (٩٧٥ ـ ١٠٤٤هـ)، عن شيخه العلّامة المحقق نور الدين علي بن يحيى الزّيادِي الشافعي (ت١٠٢٤)، عن العلامة المحقق شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد بن حجر الهيتمي المكي الشافعي (٩٠٩ -٩٧٤ هـ)، عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق