أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 8 ديسمبر 2022

فتح الباري في ذكر ما اختص به الشيخ زكريا الأنصاري مراد بن يوسف بن جاويش الحنفي المصري بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

فتح الباري في ذكر ما اختص به الشيخ زكريا الأنصاري

مراد بن يوسف بن جاويش الحنفي المصري 

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


 

تمهيد/ هذا المخطوط الرائق، يرسم فيه مؤلفه الشيخ مراد الحنفي سيرة أحد العلماء العاملين، والأئمة المكملين، ذكر فيه ما اختصَّ به الإمام العلامة المحدث الفقيه شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي من العلم، والعمل، والزهد، والورع، ومحاسن أخلاقه، ومطايب أنفاسه، وإجابة دعوته، وكثرة محبيه ومريديه، ويطنب في ذكر مؤلفاته ومصنفاته، والعلوم التي لم تتيسر لأحدٍ من أهل عصره.

ويقع هذا المخطوط في (٢٩) تسعة وعشرين ورقة، في رواق المغاربة في الأزهر برقم (١١٦٨)، وكان قد فرغ صاحبه من تأليفه سنة (١٠٤٥ هـ). وأوله (الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، الذي علم آدم الأسما، واصطفى محمداً بالمحبة والمعراج الأسنى، فكان قاب قوسين أو أدنى) إلى أن قال: (فيقول أضعف اعباد، راجي سبيل الوداد، قليل العلم والعمل، كثير الخطأ والزلل، المسكين الذليل، الغريب في سائر البلدان، عبد الله حقاً وصدقاً، فعلاً وقولاً، كثير الخمول والذكر، العبد الفقير: مراد بن يوسف الحنفي الرومي الشاذلي الأزهري..).

ويندرج هذا الكتاب في باب السير والتزكية والأخلاق، حيث يذكر المؤلف طرفاً من سيرة شيخ الإسلام زكريا الأنصاري -رحمه الله -وأقواله المأثورة عنه في الفقر، والعرفان، والكرامات، والفتوة، والفراسة، والمروءة، والتوحيد، والغيرة، والمحبة، والسَّماع، وعلاقة الشيخ زكريا برسالة القشيري وتعليقاته عليها.

كما يتطرق المصنف إلى العلاقة بين الشيخ زكريا والسلطان قايتباي الذي كان يهابه، ويخشى سطوته، ويرقُّ لموعظته ويبكي، حتى اختاره -دون غيره -لتولي منصب قاضي القضاة.

وتحدث المؤلف عن لبس الشيخ زكريا الخرقة على يد الشيخ (محمد الغمري) تلميذ أحمد الزاهد المحلاوي، وأنه أعطاه الإذن بتربية المريدين، إلا أن الشيخ زكريا لم يُربي أحداً، ولا يعلم عنه ذلك، ومع ذلك فإن الشيخ زكريا -رحمه الله -كان من أكابر الأولياء العارفين، لكنه تستر بالفقه حين أشار عليه أحد شيوخه بذلك، وفي نظري أن تصوف الشيخ زكريا كانت على طريقة أهل التحقيق من أهل السنة؛ كالإمام النووي والرافعي والعز بن عبد السلام ونحوهم.

وفي المقابل ذكر الحنفي أموراً منكرةً ينكرها العقل والشرع، ومن ذلك زعم بعض المتصوفة الالتقاء بالخضر عليه السلام، والتلقي عنه، فذكر أشخاصاً زعموا ذلك، منهم: (علي النبتيني)، وآخر سماه (أبو عبيد الله البشري)، كما أنه بالغ في ذكر كرامات بعض الصوفية، فزعم أن من كرامات أولياء الصوفية من يتحدث إلى محبيه ومريديه من قبره! وقوله: إن منهم من يتصرف في قبره كما يتصرف في حياته سواءً بسواء، فينتفع به مريديه أكثر ما كانوا ينتفعون به في حياته! وكذلك طلبه المدد من غير الله تعالى. ودعواه صحة السماع بدليل أن بعضهم يرى الملائكة تدور فوق رءوس المريدين أثناء ذلك، وقولهم هذا هو السماع بحق!

ولعل المبالغات التي أتى بها المترجم لتصوف الشيخ زكريا أتت من قبل بعض تلامذته كالشعراني الذي ترجم له في (طبقاته)، واليافعي في (روض الرياحين) والمليئة بالتلفيق والتدليس والأمور المنكرة.

ثم يذكر -الحنفي -نبذة من كلام شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، في الانتقاد على بعض أكابر العارفين -في زعم الحنفي -كابن عربي وابن الفارض؛ فيقول: لا يخلو علماء الأمة من ثلاثة أحوال، لأنه إما أن يوافق الكتاب السنة، وإما أن يخالف الكتاب والسنة، فإن وافق يجب اعتقاده جزماً، وإن خالف فيحرم اعتقاده جزماً، وإما ألا يظهر لنا موافقته ولا مخالفته، فأحسن أحواله التوقف فيه.

وهذا مما يجعلنا نوقن أن الشيخ زكريا كان على طريقة أهل الإنصاف والاعتدال والعلم والورع.

ويقول عنه مراد الأزهري: ما أظن كان أحداً في مصر أكثر منه صدقةً كما عهدته، ولكن كان يستتر بها بحيث لا يعلم أحد من الجالسين".

ثم أردف -الحنفي -ذلك بحديث كله تعظيمٌ وثناء على ابن العربي وابن الفارض ونحوهما من صوفية الحلول، وهو في ذلك متأثرٌ بمبالغات أهل زمانه وتهويلهم وزيغ بعضهم، وبالغ الحنفي في النهي عن تخطئتهم أو تكفيرهم، مع تناقضه في نقل الفتاوى حول قراءة كتب ابن عربي، ما بين مجيز ومانع، وبين قائل هي فوق نطاق العقل أو داخل دائرته، وفي أن بعض العبارات مدسوسة عليه أو غير مفهومة عنه، ولكن عند النظر في كلام ابن عربي وأسلوبه يتبين ما كان الحنفي يخشاه.

ويمزج الحنفي بين منهجه الخاص في التصوف وبين منهج الشيخ زكريا الأنصاري المعروف بالاعتدال والتوسط، والذي يراه الباحث أن جل الكلام المنسوب في الرسالة لشيخ الإسلام زكريا مرسلٌ ومدسوس ولا يمكن التعويل عليه، ويذكر قصصاً عجيبةً لا سند لها ولا خطام عن بعض أئمة الإسلام مما يجعل كلامه في حيز دائرة الرفض والاتهام.

وهذا يضطرنا إلى الحديث عن جانب التصوف في سيرة شيخ الإسلام زكريا الأنصاري:

وصف الشيخ زكريا الأنصاري بالتصوّف. وأشار إلى ذلك بعض من ترجموا له، وأفاض بعضهم في ذكره فيهم. والصوفية صفة أطلقت على خلق كثيرين. وفهم الناس لهذا الوصف متباين، ومواقفهم منه متباعدة، ولا شك أن منطق العقل، ومنهج العلم نقبل الأحكام العامة، وألا نعمم الأحكام كذلك، فما لا يصدق على واحد قد يصدق على آخر، والذين وصفوا بالصوفية متباينون تديناً وسلوكاً وعقلاً وعلماً؛ فمنهم العباد والزاهدون الذين لا يمتون إلى التصوف المبتدع بصلة، ومنهم علماء ،عاملون منهم الصالحون ومنهم دون ذلك. 

وهم ليسوا سواء فيما صدر عنهم من قول وعمل {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}؛ فلا يحُمّل أحدهم سوء منهج الآخر أو مثالب طريقته.

والشيخ الأنصاري وصف بالمتصوّف أو الصوفي، وتحدث عن تصوّفه تلميذه الشعراني في الواقع الأنوار في طبقات الأخيار المعروف بالطبقات الكبرى، وكذلك الحنفي في «فتح الباري فيما اختص الله به الشيخ زكريا الأنصاري»، وقال: إنه الشيخ الإمام المفيد المطلق العالم العلامة القدوة الفهامة، المحقق المدقق، الكنز المفيد المطلق الورع الزاهد العابد الذي صرف سائر عمره في اشتغال بالعلم والعمل، الفقيه الحافظ المحدّث المفسر الولي الصالح الصوفي، الخبر التحرير، البحر الزاخر الراسخ العارف بالله تعالى، الكبير، قاضي القضاة.

وذكر السخاوي والغزي أسماء من أخذ الأنصاري الذكر والتصوف من شيوخ عصره، وقراءته كتاب قواعد الصوفية على مؤلفه الغمري، وجاء في الحديث عن آثاره أنه وضع شرحاً على الرسالة القشيرية، وشرح رسالة الولي رسلان، ووضع كتاباً سمّاه الفتوحات الإلهية في نفع ذوات الأرواح الإنسية.

ويبدو أن طريقة القوم كانت غالبة على الشيخ أيام صباه، ثم غلب عليه حبّ العلم فانصرف إليه وترك طريقة القوم، فجمع بين الذكر والعبادة سلوكاً شخصياً، والعلم طلباً له، تعليماً وتأليفًا. 

قال الغزي نقلاً عن الشعراني: إن الشيخ كان مكباً على مطالعة رسائل القوم مواظباً على مجالس الذكر، ولما اشتغل بالعلم وبرع فيه بحمد الله تعـالى شرح البهجة... وهو خبر رواه الأنصاري نفسه فيما حكاه عن نفسه، فقال: ومن صغري وأنا أحب طريق القوم، وكان أكثر اشتغالي بمطالعة كتبهم والنظر في أحوالهم، حتى كان الناس يقولون: هذا لا يجيء ثه شيء في علم الشرع. 

فلما ألفت كتاب شرح البهجة وفرغت منه استعد ذلك جماعة من الأقران....  واستمر الشيخ بعد ذلك في طريق العلم، فوضع كتبه المعروفة في الفقه والأصول والقراءات والحديث وغيرها؛ كما بقي على سلوك مستقيم في العبادة، يلتزمها فرضا، ويلزم نفسه أداءها نفلاً. وخرج إلى الحياة الاجتماعية، فشارك في مناصبها في الأوقاف، وفي القضاء، وكان في ذلك الفقيه التقي، والورع الجريء، والقاضي الوقاف عند حدود الله.  

ولعل خير ما يجلو لنا موقفه من المتصوفة ما قاله حين ذكر رأيه في العارفين من المتصوفة ومنتقديهم، وهو أنه «لا يخلو علماء الأمة عن ثلاثة أحوال، لأنه إما أن يوافق الكتاب والسنة، وإما أن يخالف صريح الكتاب والسنة. فإن وافق يجب اعتقاده جزماً، وإن خالف فيحرم اعتقاده جزماً، وإما ألا يظهر لنا موافقته ولا مخالفته، فاحسن احواله التوقف فيه».  

وهذا موقف هـو إلى العدل والإنصاف ما هو.

ترجمة موجزة المصنف مراد الحنفي الأزهري

(٩٨٧ - بعد ١٠٤٥هـ = ١٥٧٩ بعد ١٦٥٣ م)

لم تترك لنا كتب التراث معومات تامة عن شخصية هذا المؤلف، إلا ما ذكره الزركلي عنه في (الأعلام)؛ فقال: هو مراد بن يوسف جاويش الرومي ثم المصري، المعروف بالأزهري: صوفي حنفي. له كتب، منها (الفتوحات الربانية في مناقب السادة الخضيرية) و (النفحات المسكية في ذكر مناقب السادة البكرية)، و(فتح الباري في ذكر ما اختص الله به الشيخ زكريا الأنصاري - خ).

ترجمة موجزة لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري

* اسمه ونسبه:

هو: شيخ الإسلام قاضي القضاة زين الدين الحافظ، أبو يحيى زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري السَّنيكي، القاهري، الأزهري الشافعي.

* مولده ونشأته:

ولد سنة (٨٢٦هـ) بسنيكة ونشأ بها، وكان فقيراً معدماً، وحفظ القرآن، وعمدة الأحكام، وبعض مختصر التبريزي في الفقه، ثم تحوّل إلى القاهرة سنة (٨٤١هـ) فقطن في جامع الأزهر، وكمّل حفظ المختصر المذكور، ثم حفظ «المنهاج» للنووي، وألفية النحو والشاطبية والرائية، وبعض «المنهاج» في الأصول، ونحو النصف من ألفية الحديث، ومن «التسهيل» إلى «كاد»، وأتمه من بعد.

وأقام بالقاهرة يسيراً، ثم رجع إلى بلده، وداوم الاشتغال، وجدَّ فيه.

* شيوخه وتلاميذه:

أخذ عن جماعة منهم القاياتي والعَلَم البلقيني، والشرف السبكي، والحافظ ابن حجر، والزين رضوان، والشرف المناوي، والكافيجي، وابن الهمام، ومن لا يحصى كثرة.

وأذن له غير واحد من شيوخه في الإفتاء والإقراء، منهم الحافظ ابن حجر.

وانتفع به خلائق لا يُحْصَوْن، منهم العلامة الفقيه ابن حجر الهيتمي.

* منزلته وفضله:

قال عنه تلميذه الهيتمي في معجم مشايخه: «وقدمت شيخنا زكريا؛ لأنه أجلّ من وقع عليه بصري من العلماء العاملين والأئمة الوارثين، وأعلى من عنه رويت ودريت من الفقهاء الحكماء المهندسين، فهو عمدة العلماء الأعلام، وحجة الله على الأنام، حامل لواء المذهب الشافعي على كاهله، ومحرر مشكلاته وكاشف عويصاته . . . » اهـ .

وقال عنه ابن العماد الحنبلي: ورجع إلى القاهرة، فلم ينفك عن الاشتغال والاشغال، مع الطريقة الجميلة والتواضع، وحُسْنِ العِشرة والأدب، والعفة، والانجماع عن أبناء الدنيا، مع التقلل وشرف النفس، ومزيد العقل وسعة الباطن، والاحتمال والمداراة اهـ.

وقد تولى تدريس عدة مدارس إلى أن تولى القضاء - بعد امتناع كثير - مدة ولاية السلطان الأشرف قايتباي وبَعْدَ ذلك، إلى أن كُفّ بصره سنة (٩٠٦هـ)، فعزل بالعمى.

* مؤلفاته:

له شروح ومختصرات في كل فن من الفنون انتفع الناس بها، كما قال الشوكاني.

وقال ابن العماد : وشرح عدة كتب، وألف ما لا يحصى كثرة ... ورَوِيْتُه أحسن من بديهته وكتابته أمتن من عبارته وعدم مسارعته إلى الفتوى يعد من حسناته، وله الباع الطويل في كل فن . . . ) اهـ.

فمن مؤلفاته :

١-أسنى المطالب في شرح روض الطالب . ط .

٢-تحفة الباري بشرح صحيح البخاري. ط .

٣-تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب، كلاهما له . ط . 

٤-الدرر السنية (حاشية على ألفية ابن مالك في النحو).

٥-شرح صحیح مسلم .

٦-شرح مختصر المزني.

٧-غاية الوصول إلى شرح الفصول لابن الهائم (في الفرائض). 

٨- فتح الباقي بشرح ألفية العراقي في الحديث) . ط . 

٩-فتح الجليل ببيان خفي أنوار التنزيل للبيضاوي (في التفسير). خ. 

١٠- فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب . ط .

وفاته:

توفي رحمه الله تعالى في القاهرة يوم الجمعة، رابع ذي الحجة، سنة (٩٢٦هـ)، ودفن بالقرافة بالقرب من الإمام الشافعي رحمه الله تعالى .





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق