إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة
للإمام أبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي
(1264 - 1304 هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ لا شك أن سلفنا الكرام من الصحابة والتابعين وتابيعهم هم أعلم الناس بالسنة، وأقربهم إلى الله تعالى في اقتفاء أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشبههم بهديه، وأعرفهم بطريقه، وعنهم أخذنا الدين، وبواسطتهم نقلت لنا الشريعة، فهم الأصول في النقل عن صاحب الشرع، صلى الله عليه وسلم
وهذا الكتاب النفيس للإمام أبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الأنصاري الحنفي، جاء جواباً على من ادَّعى أن الاجتهاد في العبادات كقيام الليل كله، وقراءة القرآن في ركعة، وصيام شهرٍ بطوله بدعة، لا سيما وأن ذلك ورد عن سادات الصحابة والتابعين والعلماء الأعلام، وقد ألف هذه الرسالة وأطلق عليها اسم (نصرة العابدين بدفع مطاعن الخامدين).
وبيّن فيه أن الأخبار الواردة عن السلف في الاجتهاد في العبادة مختلفة، فبعضها يهدي إلى الاجتهاد، وبعضها يرشد إلى الاقتصاد، وكل خبر من هذه الأخبار واردة في محلها، واقعة في موقعها، فأخبار الاجتهاد: محمولة على من قدر على ذلك، وأخبار الاقتصاد محمولة على من عجز عن ذلك، وهذا هو مذهب العلماء الأعلام والأئمة الكرام.
واختار الإمام اللكنوي أن قيام الليل كله، وقراءة القرآن في يوم وليلة مرة ومرات، وأداء ألف ركعات أو أزيد من ذلك، ونحو ذلك من المجاهدات والرياضات ليس ببدعة، وليس بمنهي عنه في الشرع، بل هو أمر حسن مرغوب إليه، لكن بشروط عشرة، ذكرها في كتابه، وأوردناها في هذا المقال المختصر.
وقد سلك الشيخ اللكنوي مسلكاً وسطاً في الرد على طائفتين من الناس:
الطائفة الأولى: من أدخلوا في البدع ما ليس منها، وجعلوا كل ما لم يكن في القرون الثلاثة بدعة، باعتبارات خاطئة وعللٍ موهومة.
الطائفة الثانية: من أخرجوا من البدعة ما هو منها، لا سيما الذين يقلدون آباءهم ومشايخهم فيما أحدثوه من أوضاع وقوانين عبادية لم يأذن بها الشرع.
فإن قلت: بعض المجاهدات مما لا يعقـل وقوعها، كشأن ختمات في يوم وليلة، وكأداء ألف ركعة في ليلة ونحو ذلك ؟!.
فالجواب، هو: أن وقوع مثل هـذا وإن استبعد من العوام، لكن لا يستبعد ذلك من أهل الله تعالى، فانهم أعطوا من ربهم قوة ملكية وصلوا بها إلى هذه الصفات ،لاينكره إلا من أنكر صدور الكرامات وخوارق العادات.
ومع كون ختم القرآن في ليلةٍ -مثلاً -أمرٌ مستحبٌّ ومستحسن، لكونه من فعل السلف، إلا أن من فعله في عصرنا له محاذير، ومنها: سرعة القراءة وخطف الحروف وعدم إخراجها من مخارجها، وتكاسل السامعين لطول القراءة، وتنفير المقتدين لطول القيام.
وهذه الرسالة مرتبة على أصلين ومقصدين وخاتمة:
والأصل الأول في ذكر أن ما فعله الصحابة أو التابعون أو تَبَعُهُم وما فعل في زمانهم من غير نكير منهم: ليس ببدعة.
والأصل الثاني في ذكر طائفة من المجاهدين وجماعة من العابدين.
والمقصد الأول في إثبات أن الاجتهاد في العبادة حسب الطاقة ليس ببدعة.
والمقصد الثاني في ذكر التطابق بين أحاديث المنع وبين رياضات أئمة الشرع.
والخاتمة في حكم ختم القرآن في التراويح في ليلة واحدة، حسبما تعارفوه وحسبوه موجباً للحسنى في الآخرة.
مقتطفات متفرقة من الكتاب:
١-نقل عن سعد التفتازاني في (إلهيات المقاصد) ص ١٩؛ قوله: ".. ومن الجهلة من يجعل كل أمر لم يكن في زمن الصحابة بدعة مذمومة وإن لم يقم دليل على قبحه ، تمسكا بقوله عليه السلام: إياكم ومحدثاتِ الأمور». ولا يعلمون أن المراد بذلك هو أن يُجمل في الدين ما ليس منه. انتهى".
٢-وقال الشيخ أحمد الرومي في (مجالس الأبرار) ص ٢٠: "البدعة لها معنيان ، أحدهما لغوي عام، وهو: المحدث مطلقاً، سواء كان من العادات أو العبادات. والثاني شرعي خاص، وهو: الزيادة في الدين أو النقصان منه بعد الصحابة، بغير إذن الشارع لا قولاً ولا فعلاً ولا صريحاً ولا إشارة. وعمومها في الحديث بحسب معناها الشرعي. انتهى ملخصاً".
٣-وقال محمد بن أبي بكر المعروف بـ(زاده) في كتابه (شرعة الإسلام) ص ٢٠: "المراد من السنة التي يجب التمسك بها ما كان عليه القرن المشهود لهم بالخير والصلاح والرشاد، وهم الخلفاء الراشدون ومن عاصر سيد الخلائق، ثم الذين بعدهم من التابعين، ثم من بعدهم. فما أحدث بعد ذلك من أمر على خلاف مناهجهم فهو من البدعة، وكل بدعة ضلالة، وقد كانت الصحابة يُنكرون أشدَّ الإنكار على من أحدث أو ابتدع رسماً لم يتعهدوه في عهد النبوة، قل ذلك أو كثر، صغر ذلك أو كبر. انتهى".
٤-وقال يعقوب بن سيد علي الرومي في « مفاتيح الجنان شرح شرعة الإسلام»: المراد أنَّ كل بدعة في الدين كانت على خلاف مناهجهم وطريقتهم فهو ضلالة، وإلا فقد حققوا أنَّ من البدعة ما هي حسنة مقبولة، كالاشتغال بالعلوم الشرعية وتدوينها، ومنها ما هي سيئة مردودة، وهي ما أُحدث بعدهم على خلاف مناهجهم بحيث لو اطلعوا عليه لأنكروه. انتهى".
٥-وفي «الطريقة المحمدية» لمحمد أفندي البر كلي الرومي: إن قيل: كيف التطبيق بين قوله عليه الصلاة والسلام: «كل بدعة ضلالة» وبين قول الفقهاء: إن البدعة قد تكون مباحة كاستعمال المنخل، والمواظبة على أكل لب الحنطة والشبع منه، وقد تكون مستحبةً كبناء المدارس والمنارة وتصنيف الكتب، بل قد تكون واجبة كنظم الدلائل لرد شبه الملاحدة ونحوهم".
قلنا: للبدعة معنى لغوي عام وهو: المحدث مطلقاً عادةً أو عبادة، لأنها اسم من الابتداع بمعنى الإحداث، كالرقعة من الارتفاع، والخلفة من الاختلاف، وهذه هي المقسم في عبارة الفقهاء، يعنون بها ما أحدث بعد الصدر الأول مطلقاً.
ومعنى شرعي خاص هو: الزيادة في الدين أو النقصان منه الحادثان بعد الصحابة بغير إذن الشارع لا قولاً ولا فعلاً ولا صريحاً ولا إشارة، فلا يتناول العادات أصلاً، بل يقتصر على بعض الاعتقادات، وبعض صُور العبادات، فهذه هي مراده صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدليل حديث: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين»، وقوله عليه السلام: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»، وقوله: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» انتهى .
٦-وفي «حواشي الطريقة المحمدية» لخواجه زاده: قوله: بعد الصحابة ... أما الحادث في زمن الخلفاء الراشدين فليس ببدعة كسنة الرسول، بدليل الأمر بالتمسك بسنتهم . انتهى".
وفي «الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية» لعبد الغني النابلسي عند قول المصنف (بعد الصدر الأول): هم السلف المتقدمون في زمان الرسول عليه السلام والصحابة، لقوله عليه السلام: «عليكم بسنتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي» فمـا حدث في زمانهم فليس ببدعة، والبدعة ماحدث بعد زمانهم وزمان التابعين وتابعيهم. انتهى.
فهذه أقوال العلماء كلها ناصةً على أنَّ ما حدث في زمان الصحابة بل والتابعين بل وتبعهم ـ من غير نكير ـ ليس بداخل في بدعة ، والارتكاب به ليس بضلالة.
والتفصيل في هذا المقام : أن ما كان في عهد النبي ﷺ، سـواء كان فعله بنفسه، أو فعله أصحابه وقر رهم على ذلك: ليس ببدعة اتفاقاً، وما لم يكن في عهده بل حدث بعده فهو بدعة بالمعنى العام بمعنى المحدث مطلقاً بعد العهد النبوي.
وهو لا يخلو: إما أن يكون من قبيل العادات، أو من قبيل العبادات.
فان كان الأول فهو ليس ببدعة ضلالة أصلاً، ما لم يدل دليل شرعي على قبحه.
وإن كان الثاني، فهو لا يخلو:
إما أن يكون حدث في زمن الصحابة، بأن فعله الصحابة كلهم أو بعضهم أو فعل في زمانهم مع اطلاعهم عليه.
وإما أن يكون حدث في زمان التابعين.
وإما أن يكون حدث في زمن تابعي التابعين.
وإما أن يكون حادثاً بعد ذلك إلى يومنا هذا.
أما الحادث في زمان الصحابة فلا يخلو: إما أن يوجد منهم النكير على ذلك، أو لم يوجد مع اطلاعهم على ذلك.
فالاول: بدعة ضلالة، داخل في «كل بدعة ضلالة».
مثاله: الخطبة قبل الصلاة في العيدين، فعله مروان بن الحكم، وأنكره عليه أبو سعيد الخدري، كما أخرجه البخاري وغيره.
وكذلك: رفع اليدين للدعاء في خطبة الجمعة، فعله بشر ابن مروان، وأنكره عليـه عمارة، كما أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما.
وقال الإمام النووي في ( شرح صحيح مسلم) عقيب هذا الحديث: "فيه: أن السنة أن لا يترفع اليد في الخطبة، وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم، وحكى القاضي عياض عن بعض السلف و بعض المالكية إباحته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى. وأجاب الأولون بأن هذا الرفع كان لعارض".
والثاني: وهو وهو ماحدث في زمن الصحابة ولم يوجد منهم النكير عليه، بل الرضى والتوافق وليس ببدعة شرعية. وإن أطلق أنه بدعة بالمعنى العام قيد ذلك بأنه بدعة حسنة
فمن ذلك: الأذان الأول يوم الجمعة، كما أخرجه البخاري وابن ماجه والترمذي وغيرهم عن السائب بن يزيد.
ومن ذلك: تعداد صلاة العيد في مصر واحد، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «منهاج السنة»: أحدث علي بن أبي طالب في خلافته العيد الثاني بالجامع، فان السنة المعروفة على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان أنه لا يصلى في المصر إلا جمعة واحدة، ولا يصلى يوم النحر والفطر إلا عيد واحد، فلما كان عهده قيل له : إن" بالبلد ضعفاء لا يستطيعون الخروج إلى المصلى فاستخلف عليهم رجلاً يصلي بالناس بالمسجد". انتهى
ومن ذلك: الإقامة للجماعة الثانية والأذان لها بعد ما صلوا في المسجد بجماعة، فإنهم إذا صلوا في المسجد بأذان وإقامة، ثم جاء ناس وأرادوا أن يصلوا بالجماعة، هل يجوز لهم الأذان والإقامة ؟
اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال، أولها: أنهم يؤذنون ويقيمون، وثانيها: أنهم لا يؤذنون لكن يقيمون، وثالثها: أنهم لا يؤذنون ولا يقيمون ، كما هو مبسوط في شروح «الكنز» وحواشي «الدر المختار».
وظن بعض أن الأذان والإقامة للجماعة الثانية بدعة، وهو ظن فاسد، لما ذكره البخاري في باب فضل الجماعة، تعليقاً: (جاء أنس" إلى مسجد قد صلي فيه، فأذن وأقام وصلى جماعة)، فهذا الأثر يدلك على أن تكرار الأذان والإقامة للجماعـة الثانية: ليس ببدعة ، وتفصيل هذا المبحث مفوض إلى شرحي لشرح الوقاية المسمى بـ «السعاية في كشف ما في شرح الوقاية» فليراجع.
ومن ذلك: الاجتماع في ليالي رمضان لعشرين ركعة التراويح، حدث ذلك في زمان عمر، وقال هو في حقه: نعمت البدعة هي، سماها بدعة باعتبار المعنى العام، ووصفها بالحسن إشعاراً بأنه ليس كل محدث عام ضلالة، ولم يرد المعنى الشرعي حتى يرد أن كل بدعة ضلالة فكيف توصف بالحسن ؟ . كما حققته في رسالتي «تحفة الأخيار في إحياء سنة سيد الأبرار».
ومن ذلك : التكبير لقنوت الوتر ورفع اليدين عنده فإنـه ذكر بعض الحنفية أنها واجبان، وهو المشهور بين الأنام، لكن صرح المحققون منهم عدم وجوبه: ففي «البحر الرائق»: جزم الشارح بوجوب سجود السهو بترك تكبير القنوت، وينبغي ترجيح عدم الوجوب ، لأنه الأصل ، ولا دليل عليه، بخلاف تكبيرات العيدين فان دليل الوجوب المواظبة مع قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} انتهى .
وفي «فتاوى قاضيخان»: رفع اليدين عند تكبير القنوت ليس بواجب، كرفع اليدين عند تكبير الافتتاح ، فلا يجب السهو بتركه. انتهى .
وبالغ بعض العلماء فظنوا كونها من المبتدعات، لعدم ثبوت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو ظن فاسد، فانه وإن لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكن ثبت عن بعض الصحابة، فلا يكون بدعة بل سنة أو مستحباً، وقد سئلت عن هذا في سنة ثمان وثمانين بعد الألف والمائتين بما تعريبه هذا: ما قول العلماء في أن زيداً يقول: إن رفع اليدين في الركعة الثالثة من الوتر بعد القراءة قبل القنوت والتكبير هناك ـ كما هو المروج - بدعة سيئة، لعدم ثبوت ذلك في هذا الموضع في الحديث. فهل قوله صحيح أم لا ؟ وهل التكبير والرفع سنتان أم مستحبان ؟ بينوا تؤجروا .
فأجبت بما تعريبه هذا: التكبير والرفع عند القنوت لم يثبت شيء منه من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وذكر صاحب « الهداية » في دليل رفع اليدين قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: تكبيرة الافتتاح، وتكبيرة القنوت، وتكبير العيدين، والأربع في الحج». لكن قال العيني في « البناية شرح الهداية» بعد ما ذكر تخريجه من طرق : فانظر في رواياتهم هل تجد فيها ذكر اليدين عند القنوت، وإنما يوجد هذا عند أصحابنا في كتبهم، منهم المصنف. انتهى كلامه في باب صفة الصلاة. وقال أيضاً في باب الوتر: قد ذكرنا في باب صفة الصلاة أنه ليس في الحديث ذكر القنوت فيما رواه البخاري والبزار والطبراني. انتهى.
وقال الفاضل معين" في كتاب «دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب»: ومنها أي المسائل التي لم يوجد لها أصل: قولهم بوجوب التكبير قبل قنوت الوتر، فاني لم أجد له حديثاً مرفوعاً، فضلاً عن أن أجد ما يدل على استمرار فعله عن النبي ﷺ ومواظبته عليه بل ووعيده على تاركه، حتى يصح منهم القول بوجوبه.
ومع هذا أعمل به وأواظب عليه من غير ترك، لحسن الظن بالحنفية، ولكن لا أعتقد وجوبه. ومنها أيضاً: قول أبي حنيفة بوجوب رفع اليدين عند تكبير القنوت، ولم يثبت في ذلك عندي إلى الآن أثر صحيح عن تابعي جليل فضلاً صحابي . انتهى
وفيه أيضاً: قد ثبت برواية الحافظ أبي بكر بن أبي شيبة في «مصنفه» عن عبد الله بن مسعود أنه كان يرفع اليدين في قنوت الوتر.
وثبت بروايته عنه أيضاً أنه كان لا يزيد عند الفراغ من القراءة في الركعة الأخيرة من الوتر على التكبير شيئاً، وهو ما أخرجه بسنده عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه أن عبد الله بن مسعود كان إذا فرغ من القراءة ـ يعني في الركعة الأخيرة من الوتر - كبر ثم قنت، فاذا فرغ من القنوت كبر ثم ركع.
وخالفته الحنفية في الموضعين، فبدعوا رفع اليدين في القنوت، وزادوا على التكبير رفع اليدين. انتهى
وفي كتاب «الآثار» للإمام محمد: أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي أن القنوت في الوتر واجب في شهر رمضان وغيره قبل الركوع، وإذا أردت أن تقنت فكبر انتهى
وفي « غاية البيان شرح الهداية » للإتقاني: روى الطحاوي في «شرحه للآثار» مسنداً إلى النخعي أنه قال: تُرفع الأيدي في سبعة مواطن: في افتتاح الصلاة، وفي التكبير للقنوت في الوتر، وفي العيدين، وعند استلام الحجر الأسود، وعلى الصفا والمروة، وبجمع وعرفات، وعند المقامين: عند الجمرتين . ذكره في باب رفع اليدين عند رؤية البيت. انتهى
وفي «البناية شرح الهداية»: عن المزني أنه قال: زاد أبو حنيفة تكبيرة في القنوت، لم تثبت في السنة، ولا دل عليها قياس، وقال أبو نصر الأقطع في «شرح مختصر القدوري»: وهذا خطأ منه، فان ذلك روي عن علي وابن عمر والبراء بن عازب والقياس يدل عليه أيضاً.
وقال ابن قدامة في « المغني »: روي عن عمر أنه كان إذا فرغ من القراءة في الوتر كبر. انتهى .
وقال إبراهيم الحلبي في «غنية المتملي شرح منية المصلي»: رفع تكبير القنوت مروي عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر والبراء بن عازب، وكذا رفع تكبيرات العيدين مروي عن عمر، ذكره الأثرم والبيهقي في سننه الكبير» . انتهى
والحاصل: أن رفع اليدين والتكبير عند القنوت ـ وإن لم يثبت من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لكن لما ثبت ذلك عن بعض الصحابة وبعض التابعين حسبما صرح به العيني وابن قدامة والحلبي والإتقاني وغيرهم، كيف يكون بدعة سيئة ؟
نعم ثبوت وجوب التكبير والرفع على ما صرح به بعض الحنفية: مشكل، لعدم دليل يدل على الوجوب، غاية ُ ما في الباب أنه لو فعل ذلك بنية اقتداء الصحابة والتابعين يثاب، وإن لم يفعل لا يعاقب ولا يعاتب، والله أعلم بالصواب وعنده حسن الثواب.
واعلم أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قد حكموا على بعض الأفعال الحادثة في زمانهم بكونه بدعة.
فان كان مع إطلاقهم ذلك شيء من أمارات الإنكار قولاً أو فعلاً: دلَّ ذلك على كونه قبيحاً عندهم.
وإن لم يكن معه ذلك بل كان معه ما يدل على تحسينهم ذلك:
دل على أنهم أرادوا بالبدعة المعنى العام: «المحدث»، لا البدعة التي هي ضلالة.
مثال الأول: ما أخرجه أبو داود، عن مجاهد قال: كنت مع ابن عمر فثوب رجل في الظهر أو العصر، فقال ابن عمر : اخرج بنا فان هذه بدعة.
والتثويب هو العود إلى الإعلام بعد الإعلام. والمراد به هنا أن ذلك الرجل قال بين الأذان والإقامة في صلاة الظهر أو العصر: الصلاة خير من النوم ، أو قال: الصلاة رحمكم الله.
ومثال الثاني: ما ورد عن عمر من توصيف القيام للتراويح بالبدعة الحسنة.
والدليل: على أن ما أحدثه الصحابة ليس بضلالة: ورود من الأحاديث الدالة على الاقتداء بسيرة الصحابة، كحديث: «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم».
وكحديث: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ..» أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما.
وكحديث: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » أخرجه الترمذي وأحمد وغيرهم.
فان قلت : إذا حدث من الصحابة أمر لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فهل يكون الأخذ بما حدث أحسن أم الأخذ بما كان في العهد النبوي ؟
قلت: ما فعله الصحابي لا يخلو:
إما أن يظهر نص من النصوص النبوية أو القرآنية موافقاً له يدل على استحسان ذلك،
أو يظهر نص مخالفاً،
أو لا يظهر هذا ولا ذاك.
فان كان الأول: فلا ريب في كون الأخذ به أولى، لأنه وإن لم يكن في العهد النبوي، لكنه ظهر اندراجه في أصول الشرع.
وإن كان الثاني: يجمع بينها حتى الوسع بحيث لا يخرج ما فعله الصحابي عن حيز الشرع، فإن لم يمكن ذلك لا يكون الأخذ بقول الصحابي أو فعله أولى، لورود النص المخالف له ويعذر الصحابي بعدم علمه بذلك النص، وإلا لم يقل بما خالفه.
وإن كان الثالث، بأن وجدنا قولاً أو فعلاً من صحابي ولم نجد في الكتاب والسنة ما يخالفه ولا ما يوافقه: فحينئذ يكون تقليده في ذلك أولى، لما مر من الأحاديث المتعددة، فلا نتوقف في العمل به إلى أن يظهر لنا دليل يوافقه فافهم هذا فانه أصل شريف يتفرع منه كثير من الفروع.
فإن قلت: إذا اتفق أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أمر محدث فأولوية الأخذ به ظاهر، وأما إذا اختلفوا فيه فماذا يفعل ؟
قلت: يتخير فيه الآخذ بأيتهم اقتـدى اهتدى، كما نص عليه الأصوليون في كتبهم.
وأما الحادث في زمان التابعين وتبعهم؛ فالتفصيل فيه: هو التفصيل المذكور سابقاً، فإن كان المحدث في أزمنتهم قد وقع النكير منهم عليه كان بدعة. وإلا فليس ببدعة.
وأما الحادث بعد الأزمنة الثلاثة: فيعرض على أدلـة الشرع:
فإن وجد نظيره في العهود الثلاثة أو دخل في قاعدة من قواعد الشرع: لم يكن بدعة، لأنها عبارة عما لا يوجد في القرون الثلاثة وليس له أصل من أصول الشرع وإن أطلقت عليه: (البدعة) قيدته بـ(الحسنة).
وإن لم يوجد له أصل من أصول الشرع صار بدعة ضلالة وإن ارتكبه من يعد من أرباب الفضيلة أو من يشتهر بالمشيخة، فان أفعال العلماء والعباد ليست بحجة ما لم تكن مطابقة للشرع.
ولعلك تتفطن من هاهنا أن اختلاف العلماء في أن حديث «كل بدعة ضلالة» عام مخصوص البعض، أو عام غير مخصوص: اختلاف لفظي، فان من أخذ البدعة بمعنى عام ـ وهو: ما لم يوجد في العهد النبوي فحسب ـ قسمه إلى أقسام: بدعة واجبة، وبدعة مستحبة، وبدعة مباحة، وبدعة مكروهة، وبدعة محرمة، فلازمه تخصيص عموم الحديث وإخراج الأقسام الثلاثة الأول منها.
ومن أخذه بالمعنى الشرعي ـ وهو: ما لم يعهد في القرون الثلاثة، وليس له أصل من أصول الشرع ـ أجرى الحديث على العموم، و من ثم قال البركلي في «الطريقة المحمدية»: لو تتبعت كل ما قيل فيـه: (بدعة حسنة) من جنس العبادات وجدته مأذوناً فيه من الشارع إشارة أو دلالة. انتهى
وما أشنع صنيع علماء زماننا حيث افترقوا فرقتين:
فرقة حصرت السنة على ما وجد في العهود الثلاثة، وجعل ماحدث بعدها بدعة ضلالة، ولم ينظر إلى دخوله في أصول الشرع، بل منهم من حصرها على ماوجد في الزمان النبوي، وجوز كون محدث الصحابة بدعة ضلالة.
وفرقة اعتمدت على ما تقل عن آبائهم وأجدادهم وما ارتكبه مشايخهم، وأدخل كثيراً من البدع الحسنة اعتماداً عليهم وإن لم يكن له أصل من أصول الشرع.
ولما ردت الفرقة الأولى بحديث: (كل بدعة ضلالة)، فرّت الثانية إلى تخصيص الحديث، وإلى الله المشتكى من هذه المنازعات والمخاصمات، يظنون أنها تفيد! كلا والله هي تضر، ولولا خوف إطالة الكلام لنصصت على خطأ الفريقين فيما جعلوه من البدع الحسنة وهي ليست بحسنة، وما جعلوه من البدع السيئة وهي ليست بسيئة، متجنباً عن الإفراط والتفريط، سالكا مسلك بين بين.
ذكر بعض الصحابة المتعبدين وطرفاً من أخبارهم:
صاحب الوفاء والعرفان سيدنا عثمان بن عفان.
الناطق بالحق والصواب عمر بن الخطاب.
عبد الله بن عمر.
تميم بن اوس بن خارجة الداري.
شداد بن أوس.
علي بن أبي طالب.
ذكر بعض التابعين من المتعبدين:
عمير بن هانئ.
أويس القرني.
عامر بن عبد الله بن قيس.
مسروق بن عبد الرحمن.
الأسود بن يزيد النخعي الكوفي.
سعيد بن المسيب المخزومي.
عروة بن الزبير.
صلة بن أشيم.
ثابت بن اسلم البناني.
زين العابدين علي بن الحسين.
قتادة بن دعامة السدوسي.
سعيد بن جبير.
محمد بن واسع.
مالك بن دينار.
سليمان بن طرخان.
منصور بن زاذان.
علي بن عبد الله بن العباس (السجاد).
أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي (الوتد).
ذكر طائفة من بعد التابعين من العُبّاد والزهاد:
سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف.
إبراهيم بن أدهم.
شعبة بن الحجاج.
فتح بن سعيد الموصلي.
محمد بن إدريس الشافعي.
أحمد بن حنبل.
أحمد بن محمد بن عطاء.
أبو عتاب السلمي.
واصل بن عبد الرحمن البصري.
محمد بن عبد الرحمن المدني.
وكيع بن الجراح الكوفي.
وبالجملة فالنفوس مختلفة في الطاقة، فمن أطـاق كثرة العبـادة والقراءة وقيام الليل ونحو ذلك من دون حصول ملل يجوز له ذلك، بالأحاديث السابقة، ومن حصل له ملل أو عرض له خلل لزم له ترك ذلك.
فالحكم بأن الزيادة على مافعله رسول الله ﷺ مطلقاً غير جائزة: خطأ فاحش.
فان قلت : قـد كان رسول الله ﷺ أفضل الناس، ونفسه أكمل ُ النفوس، وكان يستطيع ما لا يستطيعه غيره، كما قالت عائشة: « وأيكم يستطيع ما كان رسول الله يستطيع ؟ ». أخرجه أبو داود، لك لم يجتهد في العبادة كاجتهاد هؤلاء، فدل ذلك على أنه ليس مرضي عنده.
قلت: هب كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يستطيع مالا يستطيعه الناس، لكنه كان يترك كثرة العبادات شفقة على أمته ورحمة على أتباعه؛ لئلا يتحرجوا باتباعهم في ذلك يدل على هذا قول عائشة: «إن كان رسول الله ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم» (أخرجه البخاري وأبو داود وغيرهما).
وقد ترك صلاة التراويح مع الجماعة بعدما صلاها ليـالي، خشية أن تفرض عليهم، كما أخرجه البخاري وغيره. وأخرج أبو داود وغيره، عن عائشة قالت: «بال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقام عمر خلفه بكنوز من ماء، فقال: ما هـذا يا عمر ؟ فقال : هذا ماء تتوضأ به، قال: ما أمرت كتابات أن أتوضأ ولو فعلت لكانت سنة». وأمثاله كثيرة .
وما ورد من نهيه صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة عن التشديد على أنفسهم فهذه الأخبار وأمثالها: تنادي بأعلى نداء على أن التشدد في التعبد وإيثار الاجتهاد في الطاعة ممنوع عنه في الشرع، وليس ذلك من الملة الحنيفية السهلة البيضاء.
فهؤلاء الذين اجتهدوا وجاهدوا في العبادة قد ارتكبوا ما نهى النبي ﷺ عنه فلا عبرة بفعلهم، فان القول ما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والجواب عنه:
١-أما عن حديث الحولاء، فهو أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يمنعها من كثرة الصلاة، بل أجاز العمل بحسب الطاقة وإلى أن لا يسأم العامل فيترك العمل.
٢-وأما عن حديث زينب، فهو أنها كانت تصلي بحيث تمل وتفتر، فتمسك الحبل الممدود، فمنعها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك، وهذا غير المتنازع فيه.
٣-وأما عن حديث عبد الله بن عمرو، فهو أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد علم من حاله أنه لا يتمكن من الدوام على ما التزمه، فهداه إلى سبيل الرخصة وعلله بأن لنفسه عليه حقاً ، ولأهله عليه حقا، وبأنه إذا فعل ذلك ضعفت عينه، ونهك بدئه، فدل ذلك على أن الجهاد بحيث يورث ملال الخاطر وكسله، أو يخل بشيء من الحقوق الشرعية : ممنوع عنه.
ولا دلالة له على منعه مطلقاً.
٤-وأما عن حديث أبي الدرداء، فهو أنه قد التزم العبادة بحيث ترك الحقوق الواجبة فنهاه سلمان، فهو أيضاً يدل على أن التشدد بحيث يفضي إلى الفتور في الحقوق منهي عنه، لا مطلقاً.
٥-وأما ما وري عن رهط من الصحابة ،فهو أنهم تقالوا عمل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وظنوا أنه إنما لا يجتهد لكونه مغفوراً له، وأوجبوا على أنفسهم ما لم يوجبه الله، وأعرضوا عن الطريقة السهلة، فلذلك زجرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك، وهداهم إلى طريقته، وقال: «من رغب عن سنتي». أي أعرض عنها غير معتقد حسن ما أنا عليه، كما ظنه ذلك النفر من الصحابة «فليس مني». أي ليس ممن يسلك مسلكي ويهتدي بهديي، ولا دلالة له على أنه إذا اجتهد رجل حسب طاقته غير موجب مالم يوجبه الله وغير مفضل مسلكه على المسلك النبوي لايجوز ذلك.
٦-وأما ما روي عن عثمان بن مظعون وغيره ، فهو أنهم قـد كانوا حرموا على أنفسهم مالم يحرمه الله. وأوجبوا على أنفسهم ما لم يوجبه الله، فنهوا عن ذلك، ولا دلالة له على نفي التشدد مطلقاً، بل على التزامه بحيث يورث إلى إبداع أمر في الشرع ليس منه.
ونعم التحقيق في هذا المقام: ما أورده البـركـلي في «الطريقة المحمدية» لدفع المعارضة بين هذه الأحايث وبين مجاهدات السلف، حيث قال: «إن المنع عن التشديد في العبادة معلل بعلتين:
-لميّة، وهي: الإفضاء إلى إهلاك النفس أو إضاعة الحق الواجب للغير أو ترك العبادة أو ترك مداومتها.
-وإنية، وهي:أن نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أرسل رحمة للعالمين، ومؤيد من عند الله فيقوى على ما لا يقوى عليه آحاد الأمة، وإنه أخشى الناس من الله وأتقاهم وأعلمهم بالله، فـلا يتصور منه البخل وترك النـصـح، ولا التـواني والتكاسل، ولا الجهل في أمر الدين، فلو كان في العبادة والقرب من الله طريق أفضل وأنفع غير ماهو عليه لفعل أو بينه وحث عليـه، فيجزم قطعاً أن ماهو عليه أفضل وأقرب إلى معرفة الله.
فيُحمل ماروي عنهم على أنهم إنمـا فعلوا ذلك التشديد إما مداواة لأمراض القلوب، أو يكون العبادة عادة لهم وطبعاً كالغذاء للصحيح، فيتلذذون بها بلا إضاعـة حق، ولا ترك مـداومة، ولا اعتقاد أنه أفضل مما عليه أفضل البشر أو قاله
وأما نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد بلغ الدرجة العليا من الكمال، وهي أن لا يمنع عن توجه القلب شيء، لا التكلم مع الخلق ولا الأكل ولا الشرب ولا النوم ولا ملامسة النساء، ويكون الخلطـة والعزلة سـواء، فاقتصـاره على بعض العبادات الظاهرة لكونها أفضل له ولأمته. وتلذذه عليه السلام دائم لا يختص بالعبادة الظاهرة.
وقد بلغ بعض المشايخ، إلى حيث كان له حظ من هذه الدرجة، حتى قال: «من رآني الآن صـار زنديقـاً، ومن رآني قبل صار صديقاً» حيث كان يقتصر في نهايته من العبادات الظاهرة على الفرائض والواجبات والسنن، ويأكل ويشرب وينام كالعـوام، وفي بدايته يجتهد ويرتاض.
فمن رأى اجتهاده يجتهد كاجتهاده حتى يصير صديقاً، ومن رأى في نهايته ينكر الاجتهاد والطريقة أصلاً، فيخاف عليه الكفر. فلا يخلو مانقل عن السلف من التشديد عن المائتين المذكورتين، وهذا هو المحمل الصحيح الحق الصريح، فـلا تُفرط ولا تفرّط، وابتغ بين ذلك سبيلاً» . انتهى كلامه .
وفي «الحديقة الندية»: «جميع ما ورد من سلف الماضين من التشديدات المذكورة والرياضات والمجاهدات لا تخالف شيئاً من الدين المحمدي أصلاً، بل هي واردة أيضاً في الكتاب والسنة في حق من يقدر عليها ويتفرغ لها، من غير أن تكون واجبة عليه، لأنها نقل زائد على ما كلف به، مثاب عليها.
كما ورد الاقتصاد والتوسط في العمل أيضاً في الكتاب والسنة في حق من لاقدرة له ممن يخاف عليه الملل في الدين تسهيل وتصعيب: قال الله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته}، وقال: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وورد عنه ﷺ صوم الوصال.
ومن تأمل ماسبق من الآيات والأحاديث كلها علم أن ذلك كله رحمة من الله بالأمة ومن النبي ، وترخيص للمؤمنين لا يكون عليهم حرج في الدين ، فان قوله تعالى: ولا تحرم واطيبات ما أحل الله لكم . أي لا تعتقدوا حرمتها بإنكار الرخصة لكم فيها ، فلو لم يحرموها وتركوا تناولها زهدا في الشيء الفاني: لا معصية في فعلهم .
وكذلك قوله تعالى: {قُل من حرم زينة الله التي أخرج العباده والطيبات من الرزق}، وقوله عليه السلام في آخر الحديث: (فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني). أي من لم يعتقد جواز ما فعلته ورخصتُ فيه وفعل أشد منه، في مقابلة قولهم: «فأين نحن من رسول الله ؟ » ، يُريدون بذلك إبطال الترخيص الشرعي فقال لهم ماقال.
خلاصة الكتاب السابق:
فالحاصل: أن السلف الماضين اختاروا العزائم في أنفسهم لأنهم أهل الهمم والعزائم، وكانوا معترفين بصحة الرخص الشرعية يفتون بها للعامة، ويُحرضونهم على فعلها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل أحياناً: يأمر بالرخص ويفعل بالعزائم، كما أخبر في قضية صوم الوصال». انتهى كلامه ملخصاً .
(٤) وفي (إرشاد الساري شرح صحيح البخاري) تحت حديث قيام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى تورمت قدماه: «فيه أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة وإن أضر ذلك بيدنه، لكن ينبغي تقييد ذلك بما لم يقض إلى الملال، لأن حالة التي كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل من العبادة وإن أضر ذلك ببدنه.
بل صح عنه عليه السلام أنه قال: «وجعلت قرة عيني في الصلاة». فأما غيره صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فاذا خشي الملل ينبغي له أن لا يكد نفسه حتى يمل.
نعم الأخذ بالشدة أفضل، لأنه إذا كان هذا فعل المغفور له فكيف من جهل حاله وأثقلت ظهره الأوزار لا يأمن عذاب النار ؟ انتهى. ومثله في «المواهب اللدنية» كما مر نقله في المقصد الأول.
وفي كتاب «الأذكار» للنووي: «قد كانت للسلف عادات مختلفة في القدر الذي يختمون فيه، فكان جماعة منهم يختمون كل شهرين ختمة ، وآخرون في كل شهر ختمة، وآخرون في كل عشر ليال ختمة ، وآخرون في ثمان ليال ختمة ، وآخرون في سبع ليال ؛ وهذا فعل الأكثرين من السلف ، وآخرون في كل ست ليال، وآخرون في خمس، وآخرون في أربع، وكثيرون في كل ثلاث، وكان كثيرون يختمون في كل يوم وليلة ختمة.
وختم جماعة في كل يوم وليلة ختمتين، وآخرون في كل يوم وليلةٍ ثلاث ختمات، وختم بعضُهم في اليوم والليلة ثماني ختمات؛ أربعاً في الليل وأربعاً في النهار، وممن ختم كذلك: السيد الجليل ابن الكاتب الصوفي، وهذا أكثر ما بلغنا في اليوم والليلة.
وروى السيد الجليل أحمد الدورقي باسناده عن منصور بن زاذان من عباد التابعين أنه كان يختم القرآن ما بين الظهر والعصر، ويختمه أيضاً ما بين المغرب والعشاء، ويختم في رمضان ما بين المغرب والعشاء ختمتين وشيئاً، وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل، وروى ابن أبي داود باستاده الصحيح أن مجاهداً كان يختم القرآن في رمضان فيما بين المغرب والعشاء.
وأما الذين ختموا القرآن في ركمةٍ فلا يُحصون لكثرتهم ، منهم عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير.
والمختار أنَّ ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ ، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو فصل الحكومات أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة للمسلمين، فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ولا فوات كماليه ، ومن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة في القراءة» انتهى.
وفي «المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج» للنووي تحت حديث عبد الله بن عمرو الله بن عمرو: «قد كانت للسلف عادات مختلفة فيما يقرؤون كل يوم، بحسب أحوالهم وأفهامهم ووظائفهم، فكان بعضُهم يختم القرآن في كل شهر، وبعضُهم في عشرين يوماً، وبعضُهم في عشرة أيام، وبعضُهم أو أكثرهم في سبعة، وكثير منهم في ثلاثة، وكثير في كل يوم وليلة، وبعضهم في كل ليلة، وبعضهم في اليوم والليلة ثلاث ختمات، وبعضُهم ثمان ختمات؛ وهو أكثر ما بلغنا.
والمختار أنه يستكثر منه ما يمكنه الدوام عليه، ولا يعتاد إلا ما يغلب على ظنه الدوام عليه في حال نشاطه وغيره، هذا إذا لم تكن له وظائف عامة أو خاصة يتعطل بإكثار القرآن عنها، فان كانت له وظيفة عامة، كولاية وتعليم ونحو ذلك، فليوظف لنفسه قراءة يمكنه المحافظة عليها مع نشاطه وغيره من غير إخلال بشي من کمال تلك الوظيفة، وعلى هذا يُحملُ ما جاء عن السلف» انتهى . ومثله في «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي.
وخلاصة المرام في هذا المقام - وهو الذي أختار تبعاً للعلماء الكرام - :
أن قيام الليل كليه، وقراءة القرآن في يوم وليلة مرة ومرات، وأداء ألف ركعات أو أزيد من ذلك، ونحو ذلك من المجاهدات والرياضات ليس ببدعة، وليس بمنهي عنه في الشرع، بل هو أمر حسن مرغوب إليه، لكن بشروط:
أولها: أن لا يحصل من ذلك ملال الخاطر، يفوت به التذاذ العبادة وحضور القلب، يُؤخذ ذلك من حديث: «ليصل أحدكم نشاطه». أي مُدَّةَ نشاط خاطره وسرورِ طبيعته.
وثانيها: أن لا يتحمل بذلك على نفسه مشقة لا يمكن له تحملها بل يكون ذلك مطاقاً له، يؤخذ ذلك من حديث: «عليكم من الأعمال ما تطيقون».
وثالثها: أن لا يفوت بذلك ماهو أهم من ذلك، مثلاً إن كان قيامه بالليل يفوت صلاة الصبح لا يجوز له قيام الليل كله، فان أداء الفرض أهم من أداء النوافل.
ويدل عليه ما أخرجه مالك عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حشمة قال: إِنَّ عمر بن الخطاب فقد سليمان ابن أبي حثمة في صلاة الصبح، وإنَّ عمر غدا إلى السوق، ومسكن سليمان بين المسجدِ والسوق، فمر على الشفاء أم سليمان ؛فقال لها: لم أر سليمان في الصبح، فقالت: إنه بات يُصلّي فغلبته عيناه، فقال عمر: لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة.
وكذلك من يقوم الليل ويسرد الصوم إن كان ذلك بحيث يفوتُ منه حضور الجماعات وصلاة الجنائز ونشر العلم بالتدريس والتصنيف ونحو ذلك: لا ينبغي له ذلك .
ورابعها : أن لا يفوت بذلك حق من الحقوق الشرعية، كحق لأهل والأولاد والضيف وغير ذلك. يُؤخذ ذلك من قصة عبد الله بن عمرو وأبي الدرداء.
وخامسها: أن لا يكون فيه إبطال للرخص الشرعية بحيث يُعد الترخيص الشرعي باطلاً والعامل بالرخص عاطلاً، يؤخذ ذلك من حديث الصحابة الذين تقالوا عمل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وسادسها : أن لا يكون فيه إيجاب ما ليس بواجب في الشرع، وتحريم ما لم يُحرم في الشرع، يؤخذ من حديث عثمان بن مظعون.
.وسابعها: أن يُوفي أركان العبادات حظها، فلا يجوز أن يكثر من ركعات الصلاة ويؤديها كنقر الديك، أو يُكثر قراءة القرآن من غير تدبر وترتيل ونحو ذلك، وعليه يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث» أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو، وبه أخذ جماعة فكرهوا ختم القرآن في أقل منه، وحمله آخرون على أنه ليس نفياً للثواب بل للفهم قال الترمذي في (جامعه): «قال بعض أهل العلم لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث للحديث الذي روي عن النبي ﷺ، ورخص فيه بعض أهل العلم، وروي عن عثمان بن عفان أنه كان يقرأ القرآن في ركعة يُوتِرُ بها، ورُوي عن سعيد بن جبير أنه قرأ القرآن في ركعتين في الكعبة.
وثامنها: أن يدوم على ما يختار من العبادة لا يتركه إلا لعذر، يؤخذ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أحب الأعمال الله إلى الله أدومها وإن قتل». أخرجه مسلم من حديث عائشة، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل».
وتاسعها: أن لا يكون اجتهاده مورنا للملال إلى أحد من المسلمين، كأن يجتهد في قراءة السور الطوال أو تمام القرآن في صلاة الجماعة ، فان ذلك مما يُورث ملال المقتدين، فان فيهم الضعيف والسقيم وصاحب الحاجة.
يؤخذ ذلك مما أخرجه البخاري ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ : (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فان فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى لنفسه فليُطوّل ما شاء).
عاشرها : أن لا يكون اجتهاده مُورثا إلى اعتقاد أنه أفضل عملاً مما كان عليه رسول الله هو وأكثر أصحابه من تقليل العمل.
فمن وجدت فيه هذه الشروط فالتشدد في العبادة أحــق له؛ وأصحاب الرياضات السابقين كانوا جامعين لهذه الشروط فجاز لهم ذلك، ولم ينكر عليهم أحد ذلك . ومن فات له شرط منها فالاقتصاد في . العمل والتوسط أليق له . هذا هو الطريق الوسط الذي يرتضيه كل منصف ، لا إفراط فيه ولا تفريط مما يذهب إليه كل متعسف. ولعل هذا التحقيق الأنيق مما لم يقرع سمعك به أحد من السابقين ! خذه بقوة وكن من الشاكرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق