شرح حديث (اتَّقِ اللهَ حيثُ كُنتَ)
لفضيلة الشيخ الوالد: عُبيد بن عبد الله الجابري
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا الحديث العظيم هو وصية العلماء لأتباعهم، ووصية الآباء لأبنائهم، وهو خير زاد لمن أراد السفر، وكلنا سفر.. وهذا الحديث يتضمن قواعد كلية تحدد علاقة الإنسان بربه، وبنفسه، ومع غيره..
وأصل هذا الكتيب هو محاضرة، ألقاها الشيخ عبيد الله الجابري على شبكة سحاب السلفية، ضمن سلسلة اللقاءات السلفية في دولة قطر،
ولا شك أن الدور البارز اليوم لنصرة الدين والسنن يقوم على عاتق الإخوة السلفيَّين على اختلاف مشاربهم، وعلمائهم، فلهم علينا منَّة جليلة، بما يقدمونه من خدمة جليلة لكتب السلف: شرحاً، وتحقيقاً، وتعليقاً، وتعقباً، سيما كتاباتهم الرائعة التي تخطُّها أقلامهم الصافية، التي تُبيِّن الحق وتُدافع عن عرين السنة، جزاهم الله عنا خيراً.
● الحديث رواية:
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺَ: «اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»
(رواه الترمذي في سننه: ١٩٨٧، والدارمي: ٢٨٣٣، وحسنه الألباني).
● معاني الحديث ومفرداته:
تضمن هذا الحديث ثلاث وصايا جليلة، من تأملها بفطنة، وتدبر، وجميل انقياد ظهر له أنها تُحصل للعبد كل خيرٍ في الدُّنيا، والفلاح في الآخرة:
الوصية الأولى: تقوى الله عز وجل:
(اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ)، فعلاقة الانسان بربه أن "يتقِ الله"، وهي وصية الله للأولين والآخرين من عباده: {وَلَقَدۡ وَصَّیۡنَا ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَابَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِیَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ} (النساء: ١٣١). وهي وصية الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم خاصة: {یَا أیُّهَا ٱلنَّبِیُّ ٱتَّقِ ٱللَّهۚ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَٱلۡمُنَافِقِینَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِیمًا حَكِیمࣰا} (الاحزاب: ١). ومنه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء: 1)،
و(التقوى) في اللغة: من التوقي، وهو اتخاذ المرء وقاية تمنعه مما يكره ويحذر. وفي الشرع: التحرز بطاعة الله عن معصيته التي هي سبيل عقابه. أو: هي عبارة طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نورٍ من الله، ترجو ثواب الله، وأن تدع معصية الله، على نورٍ من الله، تخشى عقاب الله.
فالتقوى حقٌّ من حقوق الله عز وجل: وهي إفراد الحق جل وعلا بالطاعة، وتوحيد العبادة. ومراتب التقوى ثلاثة، هي:
- فعل المأمورات.
- ترك المحظورات.
- اتقاء الشبهات.
الوصية الثانية: حق النفس: (وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا): فعلاقة الإنسان بنفسه أن "يتبع السيئة الحسنة تمحها"، وهذا هو الفقه العالي في معالجة الأخطاء، ومعالجة السيئات والمعاصي..
والحسنة هي الصلاة والتوبة والاستغفار اللذان يعقبان الذنب، صغيره وكبيره، جليله وحقيره، بالإضافة إلى الأعمال الصالحة: من النوافل، والصدقات بأنواعها، وأعظم ذلك كله سلامة القلب من الشرك والكبر.
وفي هذه الوصيَّة: أمرنا نبينا ﷺَ بأن نجاهد أنفسنا على فعل محابِّ الله سبحانه، واجتناب مساخطه.
الوصية الثالثة: حق عباد الله: (وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ): فعلاقته بغيره أن "يخالق الناس بخلق حسن"، وذلك بأن تفعل معهم ما تحبّ أن يفعلوه معك، فتجتمع القلوب وتتآلف، وذلك جماع الخير وملاك الأمر…
وهذا فيه إظهار محاسن ديننا من الأمانة، والعدل، وحفظ العهد، وحسن الجوار، ومخالطة الناس بالخلق الحسن، ولو أن تتكلف ذلك، وتنظر إلى الكيفية التي نُعامل بها الناس؛ فتبذل الندى، وتكف الأذى، وتصبر عليهم.
(اتق الله) بامتثال أمره، واجتناب نهيه، أو اجعل العبادة وقايتك من كل ما تحذره وتخافه.. تخاف النار والعذاب.. تخاف الضيعة والخسارة.. تخاف على أولادك.. تخاف على منصبك ومركزك.. اتق الله.
والعاقل هو من يوطن نفسه على الكمال، فلا تبدي شيئا للناس في الظاهر، حتى تربي عليه نفسك في الباطن.. والناس يوم القيامة عراة، وأول من يكسى هو إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم يكسى الناس كل بحسب تقواه..
ولو جلس كل واحد منا مع نفسه في خلوته لعرف أين هو من تقوى الله ؟ ثم بعد ذلك اعرض نفسك على كتاب الله، تعلم مع أي الفريقين تكون، قال ربنا: {إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم}..
إذا كنت تقلب القنوات في التلفاز، وعلى مواقع التواصل تتنقل بين فيديوهات الفيس، والتويتر، والواتس، والتيليجرام، والانستجرام.. اتق الله.
قبل أن تنشر خبرا، أو تذيع أمرا في الناس، وعلى الناس، وكنت لا تخاف الله.. فاتق الله.
إذا جاءك طفل صغير إلى بقالتك يريد أن يشتري منك وتريد أن تغشه.. قبل أن تبيعه: اتق الله.
إذا دخلت الفصل لتدريس الطلاب، ثم جلست دون ان تشرح، فقبل أن تدعوهم للدرس الخصوصي.. اتق الله.
إذا جلست على المكتب في العيادة لتعالج المرضى، قبل أن تخبرهم بمواعيد عيادتك الخارجية.. اتق الله.
إذا جاءتك معاملة إنسانية فورية تعتمد عليك، فقبل أن ترفضها وتردها.. اتق الله.
إذا كنت مسؤولا عن مساعدة الناس، وتقديم الطرود والأموال للفقراء والمحتاجين، قبل أن تطلب من ذلك الفقير نصف تلك الكابونة، أو ثلث ذلك المال.. اتق الله.
قبل أن تضع أسماء أقربائك، وأبنائك وإخوتك .. تذكر أن هناك من هو أحوج إلى هذا الطرد منهم، واتق الله.
إذا هممت بمعصية، وغلبتك نفسك عليها، ثم وقعت فيها لضعف فيك، فبادر إلى التوبة. واتق الله.
ثم لا تكن عند المعصية كالذي يعاند ربه، فإذا لم تستحي من الله فاستحي من الملائكة التي تسجل عليك عملك، وابك.. فالبكاء يغسل القلب .. واتق الله. ولو لم تثمر التقوى إلا المحبة لكفت، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: ٤).
(حيثما كنت) وحيثما كنت فأنت في ملك الله وسلطانه وقبضته، ان تكلمت فهو سميع، أو سكت فهو عليم، او تحركت فهو بصير، فاتق الله في كل مكان تكون فيه، وفي أية مكانة تكون فيها.. إن كنت وحدك أو في جماعة، في البيت او خارجه، في السفر والحضر، حيث يراك الناس وحيث لا يرونك، فحقه سبحانه عليك أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر بقدر الإمكان ..
ومن صور عدم التقوى أن يؤذي الرجل زوجته أمام أبنائها، أو يهينها أمام بناتها.. فإذا أردت أن تؤدبها فافعل ذلك بعيدا عن أبنائها وبناتها..
(وأتبع السيئة الحسنة تمحها) وهذا يعلمنا أن الشيء يعالج بضده. قال ربنا: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 114). ومعنى قوله: {يذهبن السيئات} أن الحسنة تمحو السيئة من الصحف. فالعلاقات المحرمة تعالج بالزواج المباح، وسماع الأغاني والموسيقى تعالج بسماع كتاب الله، والربا تعالج بالبيع والكسب الحلال، والغيبة تعالج باستحلال من اغتبته، أو الاستغفار له، وأن تذكره بالخير في مجلس ذكرته فيه الشر، وأذية الجيران تعالج بكف الأذى واتباعه بالإحسان.
قال العلماء: إذا عملت ذنبا في السر فتب إلى الله في السر ، وإذا عملت ذنبا في العلانية فتب إلى الله في العلانية، ولا تدع ذنبا يركب ذنبا، وأكثر من البكاء ما استطعت..
(وخالق الناس بخلق حسن) أي تكلف معاشرتهم بالمجاملة من نحو طلاقة الوجه، وبذل المعروف إليهم، والحلم عنهم، والشفقة عليهم، وخفض الجناح لهم، وكف الأذى عنهم، وعدم ظن السوء بهم، وتودد إلى كل كبير وصغير وتلطف في سياستهم مع تباين طباعهم؛ لأن ما عند الله لا يشترى إلا بالإحسان إلى خلقه.. والنبي معصوم بمفرده، والأمة معصومة بمجموعها.
س/ هل يدل حديث: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) على أن الحسنات تمحو الصغائر، وإن لم يتب منها صاحبها؟
والجواب: نعم، السيئات تمحو الصغائر وإن لم يحصل منها توبة؛ لأن التي لابد لها من توبة هي الكبائر، والتوبة تجب كل شيء: الكبائر والصغائر.
س/ الأمر في قوله ﷺَ: (وخالق الناس بخلق حسن) هل هو على سبيل الاستحباب أو الوجوب؟
والجواب: أنه على سبيل الوجوب، وعليه يأثمُ من آذى الناس بأي صورةٍ من صور الإيذاء الحسية والمعنوية، وإن لم تُحسن المخالطة فلا أقل من أن تعتزل، وتكفَّ أذاك.
----------------------------------------
اختصره: أ. محمد حنونة، مع بعض الإضافات والتعديلات.
كتاب الكتروني، شبكة سحاب السلفية- القاءات القطرية، محاضرة عبر الهاتف: 15/ جمادى أول/ 1432 هـ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق