حكم حجز الأماكن في المساجد
جمع وإعداد: د. عبد العزيز بن محمد السدحان
المملكة العربية السعودية- الرياض، الطبعة الأولى، 2009 م.
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ من مناقب الإسلام العظيمة أنه أعطى لكل ذي حقٍّ حقه، فأعطى الطريق حقَّه، والمسجد حقَّه، والبيت حقَّه، والمسلمون مأمورون بمراعاة هذه الحقوق والعناية بها، وعدم الإخلال والتفريط في شيءٍ منها.. ولا شك أن المسجد هو أعظم هذه الأماكن حقَّاً؛ لأنه مجمع الناس، ففيه: الصلاة، والقراءة، والذكر، وتعليم العلم، والخطب، وفيه السياسة، وعقد الألوية للجهاد، ونحو ذلك.
ومن المسائل التي كثُر الحديث فيها، وعمَّت بها البلوى مسألة: "حجز المكان في المسجد"، وبخاصة في المساجد التي يقصدها المصلون لحُسن تلاوة أئمتها، ونحو ذلك.
والداخل للمسجد مُبكراً يعرف سلفاً أن هناك أماكن محجوزة في السطر الأول: بسجاجيد، أو كراسي، أو محامل مصاحف، وغيرها.
ولا شكَّ أن في حجز مكان في الصف الأول: يحرم المُتقِّدمَ إلى المساجد بسبب فعل المتأخِّر، أو من ينوب عنه ممن أتى مبكراً، ولا شك أن هذا مما يُحزن قلب العبد سيما إن كان مُشتغلاً بالعبادة، حريصاً عليها، وقد يجرُّه ذلك إلى أن يفعل كفعلهم، أو يقع في مجادلة مع هؤلاء عند حضورهم إلى تلك الأماكن التي احتجزوها!.
وكان ينبغي على هؤلاء المتأخرين (الذين يحجزون الأماكن) أن يُسارعوا ويتنافسوا في التبكير إلى الصلاة، وأن يستشعروا أجر التبكير والرباط في المسجد.
وعند تصوُّر هذه المسألة نجد أنَّ في حجز المكان لمن يأتي متأخراً:
فيه: أذيَّةٌ لبعض الغيورين الحريصين على تحصيل الأجر والثواب.
وفيه: حرمان السابقين المبكرين من الصلاة في مكانٍ هم أحقُّ وأولى به.
وفيه: غصبٌ لمكان في المسجد لا يستحقه.
وفيه: تعطيلٌ لمحلٍّ في المسجد للعبادة والذكر، لا يحلُّ تعطيله.
وفيه: أن ذلك يوجب له الكسل والتأخر عن الحضور مبكراً إلى المسجد.
وفيه: أنه يحدث الشحناء، والعداوة، والخصومة في بيوت الله التي لم تُبنَ إلا لذكر الله وعبادته.
الحكم في المسألة:
وعليه: فقد شدَّد الأئمة والعلماء في بيان أنه لا يحلُّ، ولا يجوزُ: حجز المكان في المسجد لمن يتأخر في الحضور إلى المسجد، وأنَّه لا ينال فضيلة التبكير، ولا فضيلة الصَّفِّ الأول، بل هو مذمومٌ بكل حال.
أولاً: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: مجموع الفتاوى (22/ 189- 190): "وأما ما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش إلى المسجد يوم الجمعة أو غيرها قبل ذهابهم إلى المسجد؛ فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين؛ بل محرم".
ثانياً: ويقول ابن الحاج المالكي في المدخل (1/ 133- 134): "وذلك الموضع الذي أمسكه بسبب قماشه وسجادته ليس للمسلمين به حاجة في الغالب إلا في وقت الصلاة، وهو في وقت الصلاة غاصبٌ له؛ فيقع في هذا الوعيد بسبب قماشه وسجادته وزيِّه، فإن بعث سجادته إلى المسجد في أول الوقت أو قبله ففرشت له هناك وقعد هو إلى أن يمتلئ المسجد بالناس، ثم يأتي فيتخطى رقابهم فيقع في محذورات جملة منها غصبه لذلك الموضع الذي عملت السجادة فيه؛ لأنه ليس له أن يحجزه وليس لأحدٍ فيه إلا موضع صلاته، ومن سبق كان أولى، ولا نعلم أحدا يقول بأن السبق للسجادات وإنما هو لبني آدم".
والمشروع في المسجد أن الناس يتمون الصف الأول؛ كما في حديث جابر بن سمرة، قال: قال النبيُّ : "أَلَا تُصَفُّونَ كَمَا تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالُوا: وَكَيْفَ تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يُتِمُّونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ" (رواه مسلم: 430).
وفي الصحيحين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يستهموا عَلَيْهِ لاستهموا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إلَيْهِ" (رواه البخاري: 615، ومسلم: 437).
الشاهد من الحديثين: أن الفضيلة في السبق تحصل لمن سبق بنفسه إلى المسجد، أما من سبق بفراشه، أو جواله، أو بشيءٍ يضعه في الصف، وتأخر بنفسه، فإن فضيلة السبق لا تحصل له، بل هو مخالفٌ للشريعة من وجهين:
تقصيره في الحضور مبكراً، وهو مأمورٌ به.
غصبه لطائفةٍ من المسجد، ومنعه السابقين إلى المسجد أن يُصلُّوا فيه، وأن يُتمُّوا الصف الأول فالأول.
أضف إلى ذلك أنه ربما يتخطى رقاب المصلين قبله إن كان المسجدُ ممتلئاً بالناس، فيؤذيهم، وفي الحديث: "الَّذِي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَتَّخِذُ جِسْرًا إلَى جَهَنَّمَ" (رواه الترمذي: 513، وابن ماجه: 1116، وحسنه الألباني). وقال النبيُّ للرجل يتخطى رقاب الناس: "اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْت"(رواه ابن ماجه: 1115)
ونقل "السدحان" فتاوى للشيوخ الأفاضل الأماجد: الشيخ عبد الرحمن السعدي، وعبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وعبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ.
مســــــــائـــــل مُتفـــرقَّــــة:
وهل تصحُّ صلاته في المكان الذي حجزه؟
فيه قولان للعلماء، باعتبار أن ذلك المكان الذي يصلي فيه كالأرض المغصوبة، والصحيح أن صلاته صحيحة، ولكنها ناقصة الثواب والأجر.
فإن قيل: لستُ أنا الذي أحجز، إنما يحجز غيري، وأنا أتقدم المكان؟
فالجواب: أن الذي يحجز لك وإن كان في الصف الأول آثمٌ، لأنه غاصب للمكان حقيقةً، وأنت مُستحلٌّ لما غصبه لك، فأنت وإياهُ في وزر الغصب سواء.
إذا فرش شخصٌ أو وضع شيئاً لغيره في الصفِّ -على سبيل الحجز-، فهل لمن سبق أن يرفع ذلك، ويُصلِّي موضعه؟
فالجواب: أن لغيره رفعه، والصلاة مكانه، إذا علم أن ذلك لا يُثير فتنة، لأن هذا السابق يستحقُّ الصلاة في ذلك الصف المتقدم، وهو مأمورٌ بذلك، ولا يتمكن من استيفاء هذا الأمر إلا برفع ذلك المفروش أو الموضوع، وتنحيته، والصلاة فيه، وهو الصحيح من أقوال أهل العلم.
إذا جاء الذي حجز المكان، ووجد غيره قد أماط علامة الحجز، وصلَّى مكانه، فما الحكم؟
فالجواب: أنه يحرم عليه أن يقيمه من مكانه، لأنه أولى وأحقُّ به منه، ولو فعل فإنَّهُ آثمٌ، وصلاته ناقصةٌ ولو في الصفِّ الأول.
ما الحكم أن يُخلَّى مكانٌ خاصٌّ في المسجد، وخاصَّةً يوم الجمعة، ويُمنع المصلون من الجلوس فيها، لأن المسؤول الفلاني يأتي إليها بخدمه وحشمه ؟
فالجواب: أنَّه لا يُصلِّي في هذا المكان درءاً للفتنة، ومن يفعل ذلك آثمٌ لا شك في ذلك، وهو غاصبٌ لطائفةٍ في المسجد بغير وجه حق.
وينبغي أن يُعلم: أن المساجد لله، والناس فيها سواء، وليس لأحدٍ فيها حقٌّ إلا إذا تقدَّم وبكَّر بنفسه، فإذا تحجَّر شيئاً وغيره أحقُّ به منه، كان آثماً عاصياً لله، وكان ظالماً لصاحب الحق، وليس الحقُّ فيها لواحدٍ، بل جميع من جاء قبله له حقٌّ في ذلك المكان الذي احتجزه، فيكون بذلك قد ظلم خلقاً كثيراً.
ما حكم حجز المكان لشخصٍ وهو داخل المسجد ؟
فالجواب: أنه إن طال غيابه عن الصف فهو داخلٌ في ذلك النهي والتحريم، أما إن لم تطل المدة كمن ذهب للوضوء ثم عاد؛ فجائزٌ، وأما حجز المكان للمؤذن الذي حضر الصلاة، فلا حرج في ذلك، سيما وأنه مُحتاجٌ إلى أن يقوم من مكانه، ويُقيم الصلاة، ويساعد الإمام في بعض شئونه.
ما الحكم لو جاء المسجد، ووجد الصَّفَّ أو جزءاً منه محجوزاً، ولم يستطع الوصول إليه؟
فالجواب: أنه يُصلي في الصفوف المتأخرة، ويكون له من الأجر والفضل، بحسب تقدُّمه وتبكيره إلى الصلاة، ويكون على الحاجز من الوزر والاثم بمثل ما حرم هذا المُصلِّي العابد من ذلك الفضل، ولمن استحقَّ ذلك المكان –بحسب تبكيره- من الفضل والثواب ما يحصل في الصفِّ الأول وزيادة؛ لأن الله يعلم من نيته أنه لو وجدها غير محجوزةٍ لتقدَّم إليها، فهو الذي حصل فضلها، وهم حصلوا الوزر وفاتهم الأجر.
ما حكم من يُصرُّ على حجز الأماكن في السطر الأول، وعدم اتعاظه بما نقول؟
فالجواب: أن الذي يعتاد ذلك التحجُّر: مُصرٌّ على معصيةٍ، والإصرار على المعاصي يُنقص من الإيمان، ولا يرتقي الأمر إلى أن يكون كبيرة من الكبائر؛ لأنَّ من يفعل ذلك غالباً إنما هم أناسٌ لههم رغبةٌ في الخير، ولكن مداومتهم على هذا الأمر قبيح، وهم آثمون بذلك، وعليه: فيجب عليهم التوبة من هذا الأمر، والإقلاع عنه، والمسلم الحريص على سلامة دينه لا يُقدم على هذا الفعل مطلقاً.
ما حكم من يدفع المال من أجل الحجز وخاصة في الأماكن المقدسة ؟
فالجواب: أنه لا يجوز لهؤلاء حجز الأماكن، ولا يجوز لأيِّ مسلم أن يدفع المال لمن يحجز عنه، فإن دفعه فهما آثمان، الدافع للمال، ومن قبضه.
ما حكم من يحجز بأبنائه مكاناً في المسجد بدلاً عن السجادة والجوال ؟
فالجواب: أن الحجز بالأبناء جائزٌ، بشرط ألا يتخطى رقاب الناس إذا حضر، ولا يؤذيهم، وألا يتأخَّر عن المسجد إلى إقامة الصلاة، وليس للابن أن يحجز مكاناً آخر غير الذي هو جالسٌ فيه، فإذا حضر الوالدُ تقدَّم الوالدُ وتأخَّر هو، أما إن حجز مع مكانه مكاناً آخر فهو آثمٌ.
وهذه حالةٌ خاصَّة بالولد، لأنَّ الولد من كسب أبيه، فيُثاب على عمل ولده كما يُثاب على عمله، والله أعلم.
----------------------------------
اختصره أ. محمد حنونة، مع بعض الإضافات، والتعديلات، والمسائل المضافة.
وقد عني الأئمة رحمهم الله تعالى بأحكام المساجد، فعقدوا له الأبواب، فالبخاريِّ في صحيحه مثلاً، عقد ثمانية عشر باباً للحديث عن المساجد وآدابها وأحكامها:
باب: كفارة البزاق في المسجد
باب: هل يُقال: مسجد بني فلان؟
باب: القضاء واللعان في المسجد.
باب: التيمن في دخول المسجد.
باب: نوم المرأة في المسجد.
باب: نوم الرجال في المسجد.
باب: الحدث في المسجد.
باب: بنيان المسجد.
باب: التعاون في بناء المسجد.
باب: المرور في المسجد.
باب: الشعر في المسجد.
باب: كنس المسجد.
باب: الخدم للمسجد.
باب: الخيمة في المسجد.
باب: الخوخة والممر في المسجد.
باب: دخول المشرك المسجد.
باب: رفع الصوت في المسجد.
باب الحلق والجلوس في المسجد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق