تخصيص العموم بالعرف وأثره في الفروع الفقهية
د.ماھر حامد الحولي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ من قواعد العام ودلالته أنه إذا ورد النص الشرعي بلفظٍ عام ولم يقم دليلٌ على تخصيصه، وجب حمله على عمومه، وإثبات الحكم لجميع أفراده قطعاً، فإن قام دليلٌ على تخصيصه (أي صرف العام عـن عمومـه، وإرادة بعض ما ينطوي تحته من الأفراد) وجب حمله على ما بقي من أفراده بعد التخصيص، ولا شكَّ أن معظم النصوص التشريعية العامة قد لحقها التخصيص، ولذلك قالوا: ما من عام إلا وقد خصص.
ويعتبر العُرف الصحيح هو أحد الأدلة الشرعية المعتبرة، والتي اتفق العلماء على وجوب مراعاته في التشريع والقضاء، طالما أنه لا يخالف الشرع، وهو بابٌ واسعٌ لنمو التشريع الإسلامي وتطوره، بحيث يواكب ملابسات العصر ومقتضيات الوقت، فيمد الفقهاء والمفتين بأحكام مناسبة لعصرهم.
وفي هذه الدراسة بيان تخصيص العموم بالعرف مع بيان أثر ذلـك علـى الفروع الفقهية في باب العبادات والمعاملات والجنايات في بعض صورها؛ ليظهـر أن التـشريع الإسلامي تشريع مستغن بذاته، يستطيع أن يتعاطى مع كل الظروف والأحوال، مع إظهار القيمـة التشريعية للعرف، باعتباره مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي
والعام في اللغة: هو الشمول والكثرة والاستيعاب. وفي الاصطلاح: هو اللفظ الذي يدلُّ بحسب وضعه اللغوي على شموله واستغراقه لجميع الأفراد التي يصدق عيها من غير حصرٍ في كمية مُعينةٍ منها فردٌ أو أفراد. أو هو: لفظ ينتظم جميع ما يصلح له من الأفراد بوضع واحد
والعرف: هو ما تعارفه الناس وساروا عليه، من قولٍ أو فعلٍ أو ترك، وعرفه بعضهم، بأنه: ما استقر في النفس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول؛ فيخرج من التعريف ما حصل اتفاقاً وبطريق الندرة مما لم يعتده الناس، كما يخرج ما استقر لا من جهة العقول: كتعاطي المـسكرات وأنـواع الفجـور التـي استقرت من جهة الأهواء والشهوات، كما يخرج منه ما لم تتلقه الطباع السليمة بالقبول كونه حينئذٍ نكراً لا عرفاً.
والتخصيص هو: بيان أن ما أخرج من العام لم يكن مراداً، سواء أكان الإخراج بـدليل مـستقل مقـارن أم بدليل متصل.
شرح التعريف (هو بيان أن ما أخرج من العام) أي المُخصّص (لم يكن مراداً) بمعنى لا يُعطى حكم العام الذي ورد فيه (سواء أكان الإخراج بدليلٍ مستقل) بحيث يأتي العام في نص، ويأتي المخصص في نص آخر، (مقارن) أي مقترن في الزمن من العام، بحيث لم يأت متراخياً، كي لا يعد نسخاً. (أم بدليلٍ متصلٍ) يقترن فيه المخصص بالدليل العام.
أقسام العرف من حيث متعلقه:
الأول: العرف القولي، ويكون ذلك في استعمال اللفظ في معنى معين ولم يكن ذلك لغة، بحيث لا يتبادر عند سماعه إلا ذاك المعنى.
مثال ذلك: تعارف الناس على أن لفظ اللحم يقصد به لحم الحيوان أو الطير دون السمك مع العلم أنه فـي اللغة يشمله، ومن أمثلته إطلاق لفظ الدابة للحمار، والغائط للنجو، واستعمال لفظ الـدراهم بمعنـى النقـود الرائجة في البلد، وغير ذلك مما جرت العادة بأنه يستعمل في غير مسماه.
الثاني: العرف العملي، وهو اعتياد الناس على شـيء مـن الأفعـال العاديـة أو المعاملات المدنية، ومثال ذلك: البيع بالمعاطاة، واعتياد الناس تعطيل بعض أيام الأسبوع عن العمل، وكذا اعتيادهم في بعض الأماكن أكل نوع خاص من اللحوم: كالضأن والمعز والبقـر، واعتياد حمل البائع البضاعة إلى بيت المشتري، وتعارفهم في الأنكحة تعجيل جانب معين من مهور النساء ثم تأجيل الباقـي إلى ما بعد الوفاة أو الطلاق.
أقسام العرف من حيث العموم والخصوص:
أولاً: العرف العام: وهو الذي يكون فاشياً في جميع البلاد بين عامة النـاس: كالاستـصناع وتأجيـل جانـب مـن المهر.
ثانياً: العرف الخاص: وهو الذي يكون مخصوصا ببلد أو مكان دون أخر أو فئة من الناس دون أخـرى، مثل تعارف التجار على دفاتر الديون في إثبات الدين، وتعارف بعض البلدان على إطلاق الدابة على الحمار.
تخصيص العموم بالعرف:
اتفق الأصوليون على أن العرف القولي مخصص للعام، ونقل الاتفاق علبه: ابن أمير حاج الحنفي، والقرافي المالكي، وابن رجب الحنبلي، والإسنوي الشافعي ونسبه إلى الغزالي والآمدي.
واتفقوا على أن العرف الطارئ لا يصلح مخصصاً للعام سواء أكان عرفاً قوليـاً أم عرفـاً عملياً؛ لأن العرف الطارئ هو حادث بعد أن حُدد مفهوم النص التشريعي ومراد الـشارع منـه، وأصبح نافذاً منذ صدوره عن الشارع.
واختلف الأصوليون في تخصيص العام بالعرف العملي المقارن عند ورود النص الشرعي العام، وذلك على قولين:
القول الأول: أن العرف العملي يخصص العام، وهذا قول الحنفية وجمهور المالكية كالبـاجي، والقرطبي، وابن رجب الحنبلي. واستدلوا لذلك، بأمور منها:
أ- قياس العرف العملي على العرف القولي في إيجاب التخصيص.
وأجاب المانعون: أن هذا قياسٌ في اللغة، والقياس في اللغة باطل، كذلك فهو قياسٌ مع الفارق؛ إذ أن العُرف القولي يُصيّر اللفظ حقيقةً في العرف، بخلاف العملي الذي لا يخرج اللفظ عن معناه اللغوي.
وردَّ الحنفيَّة ومن وافقهم، بأن: الفارق بين العرف القولي والعملي ملغى؛ لأن منـاط التخصيص فيهما واحد وهو التبادر إلى الذهن.
ب- واستدلوا باتفاق العلماء على أن العرف العملي يقيد المطلق؛ فيقاس عليه تخـصيص العمـوم بـالعرف العملي؛ لاتحاد الموجب وهو "تبادر ما جرى عليه العرف من اللفظ" دون غيره.
وأجاب الجمهور: بأن قياس العام على المطلق قياس في اللغة، والقياس في اللغة لا يصح .
وردَّ الحنفية بأن ذلك ليس من قبيل القياس في اللغة وإنما دليلـه قاعـدة الاستقراء التي دلت على أن العام مثل المطلق من جهة التبادر إلـى الـذهن فـي العـرف العملي.
ج-واستدلوا بأن: كثيراً من الأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة كالشافعيّ وأحمد قد خصصوا عمومات الشرع بعادات المكلفين الفعلية، فخصصوا عموم لفظ النبي صلى االله عليه وسلم، بما جرت العادة فعله في تلك الأزمان، وفي هذا مخالفةٌ لأصل مذهبهم القائل: بالمنع من تخصيص العموم بالعرف العملي.
القول الثاني: أن العرف العملي لا يخصص العام، وهو قول جمهور الأصوليين من الشافعية والحنابلة وبعض المالكية كالقرافي. واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
أ- أن الصيغ المستعملة في النصوص وإن صاحبها عرف عملـي صـيغة عامـة بحـسب اللغـة ولا مخصص لها، فتبقى على عمومها.
وأجاب الحنفيَّة: بأن دعوى انتفاء المخصص غير مسلم بها، بل المخصص موجود وهى العادة الفعلية مخصصة للصيغة كما أن العادة القولية مخصصة باتفاق العلماء.
ب-وأن العادة الفعلية ليست بحجة؛ لأن الناس يعتادون الحسن كما يعتادون القبـيح، وإنمـا الحجة في النصوص ولو كانت عامة.
وردَّ الحنفية ومن وافقهم، بأن: الكـلام هنا إنمـا هو عن العرف العملي الذي لا يصطدم مع النص، كذلك فإن التخصيص بالأعراف العملية لا يُلغي عموم النص، وإنما يفـسرها بحسب ما جرى عليه عمل الناس.
ج-أن الشريعة جاءت بتغيير العوائد، فلا يعقل أن يكون ما ورد في الشريعة قاضية عليه، فيصير العرف العملي قاضياً عليها، ولو خصص العموم بالعوائد لما عمل بالعموم قط؛ لأن العادات تتجـدد دائماً.
وردَّ الحنفية ومن وافقهم، بأنه: لا شكَّ أن الشريعة هي التي تحكم على الأعراف، ولكن قد ثبت مراعاة الشارع وإقراره للكثير من الأعراف والعوائد.
الترجيح بين القولين:
من خلال عرض القولين وأدلتهما تبين أن رأي الحنفية ومن وافقهـم القـائلون بجواز تخصيص العام بالعرف العملي هو الصواب والله أعلم.
أثر تخصيص العموم بالعرف في الفروع الفقهية
أولاً: في العبادات، ومثاله استعمال التقويم في تحديد أوقات الصلاة بدلاً من ملاحظة حركة الشمس الظاهريـة، فصار التقويم السنوي هو الوسيلة للناس في معرفة مواقيت الصلاة بالساعة والدقيقة بناءً على حسابات فلكية دقيقة، ونحن في هذا الزمن الحاضـر أشـد حاجة له مما مضى؛ لصعوبة الاعتماد على حركة الشمس في هـذا الزمان؛ لوجود ما يعيق الرؤية في بعض الأوقات.
ثانياً: في المعاملات، ومثاله استعمال العرف في عقد الاستصناع، وقد اختلف الفقهاء في تكييف عقد الاستصناع؛ فأدخلـه الجمهور ضمن عقد السَّلَم (عقد موصوفٍ في الذمة بثمنٍ معجّل) وأن أدلته أدلة السَّلم واشترطوا له مدة معلومة؛ وأما الأحناف فعدوه عقداً مستقلاً على سبيل الاستحسان ولا يشترط فيه مُدة مُعيَّنة؛ وقد ورد النص بنهي الانسان عـن بيـع مـا لـيس عنـده؛ فيكون الاستصناع عندهم من باب تخـصيص العام بالعرف لعموم حاجة الناس إليه، وإجماع الناس العملي عليه، واستحسانهم له.
ومثاله أيضاً: إجازة الحنفية للشروط التي يجري بها العرف، وهذا يُعد تخصيصاً لعموم نهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن بيعٍ وشرط، كشراء القفل على أن يثبتـه البـائع فـي الباب أو الحذاء على أن يضع له نعلاً.
ثالثاً: في الجنايات، ومثاله الحرز في السرقة، فإنه لم يرد في الشرع للحرز حقيقة اصطلاحية، وكذلك الأمر في اللغة، بل ترك ذلك لما يتعارف الناس عليه بما يعرفون ويألفون، وذلـك يعني: أن مفهوم الحرز قابل للتبدل بحسب اختلاف الأعراف: زماناً ومكاناً. وقد نص الفقهاء على أن كل اسم ليس له حد فـي اللغـة ولا الـشرع؛ فـالمرجع فيـه إلـى العرف.
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق