تشنيف السّمع بإبطال أدلة الجمع
(جمع الصلاتين في الحضر بدون عذر)
تأليف الإمام: محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ ينبغي لكل مُسلمٍ ألا يتساهل في أمر دينه، لا سيما في أعظم شعيرة فيه وهي الصلاة، فلا يُقدم على جمع صلاتين في الحضر إلا لحاجة شديدة يكون معه رفع الحرج، وزوال المشقة أو تخفيفها، وأما اعتياد التساهل، واختلاق الأعذار وتتبع الرُّخص، والجمع لغير حاجة فهذا هو الذي نهى الإسلام عنه.
وهذا الجزء في بيان مذهب الإمام الشوكاني في مسألة الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر؛ فذهب رحمه الله إلى أن الجمع بين الصلاتين في السفر جائزٌ عند جمهور العلماء خلافاً لأبي حنيفة، وهو مذهب الصحابة والتابعين وأهل البيت، والزيدية.
وأما في الحضر؛ فذهب الشوكاني رحمه الله -إلى: أنه لا يُجمع بين الصلاتين في الحضر مُطلقاً إلا لعذرٍ شديد فيجمع جمعاً صورياً أيضاً، خلافاً لجمهور العلماء الذين يُبيحون الجمع بين الصلاتين لعذر المطر والخوف والمرض وللحاجة الشديدة: جمعاً حقيقياً تقديماً أو تأخيراً، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة ومالك وأحمد والجمهور. بينما حكى ابن المنذر عن طائفة جوازه بلا سبب، قال وجوزه بن سيرين لحاجةٍ أو ما لم يتخذه عادة.
ويرى الشوكاني أن الجمع الوارد في حديث ابن عباس: (جمع بين الصلاتين في الحضر من غير خوف ولا مطر) كان جمعاً صورياً.
وقد صرَّح بذلك في قوله: والعجب من رجلٍ يجمع بين الصلاتين في أكثر الأوقات بلا عُذرٍ موجبٍ، ويستدلُّ بحديث ابن عباس، الذي لا يشُكُّ من أمعن في أنه جمعٌ صوري، وهو في الحقيقة توقيت، مع أن ذلك لم يقع من النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا في يومٍ واحد، فما نسبة هذا اليوم من سنيّ النبوة التي ما صلّى صلاةً فيها لغير وقتها، اللهم إلا عند اشتغاله يجهاد أعداء الله.
واستدلَّ لذلك بحديث حمنة بنت جحش -وكانت مستحاضة، فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن قويت على أن تؤخرى الظهر وتعجلى العصر، ثم تغتسلين حين تطهرين، وتصلين الظهر والعصر جميعا، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي).
واستدلَّ -أيضاً -بما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، عن ابن مسعود، قال: (ما رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلّى صلاةً إلا لِميقاتِها إلا أنه جمعَ بينَ المغربِ والعشاءِ بِجمعٍ وصلّى الصُّبحَ يومئذٍ لغيرِ ميقاتِها)؛ فنفى ابن مسعود الجمع، وحضره وهو بالمزدلفة، مع أنه أحد رواة حديث الجمع بالمدينة، وهو مُشعرٌ إشعاراً تاماً بأن ذلك الجمع الذي وقع بالمدينة هو جمعٌ صوري، ولو حُمل على الحقيقي لتعارضت روايتاه.
يقول: والجمع بين الروايات ما أمكن المصير إليه واجب، ويؤيد ما أخرجه ابن جرير عن ابن عمر، قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر، فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب ويُعجل العشاء فيجمع بينهما)، وهذا هو الجمع الصُّوري، وابن عمر كما عرفت أحد رواة الجمع بالمدينة، وقد فسره بهذا.
قال الشوكاني: والتخفيف في تأخير أحد الصلاتين إلى آخر وقتها، وجعل الأولى في أول وقتها بالنسبة إلى جعل كل واحدةٍ منهما في أول وقتها، كما كان ديدنه صلى الله عليه وسلم وهِجِّيراه، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: (ما صلَّى صلاةً لآخر وقتها مرتين حتى قبضه الله تعالى)، ولا يشك مُنصِفٌ أن فعل الصلاتين دَفعةً، والخروج إليهما مرة أخفُّ من خلافه وأيسر.
****
الجواب على استدلال الشوكاني بحديث ابن مسعود
وقد أجاب أحمد الغماري في كتابه "إزالة الخطر" على الشوكاني (ص 104 - 109)؛ فأجاب عن استدلال الشوكاني بحديث ابن مسعود بجوابٍ جيد، يقول فيه: والجواب عليه من وجوه:
الأول: أن المثبت مُقدمٌ على النافي كما هو مُقرر في علم الأصول، فخبر ابن مسعود النافي لا يُلتفت إليه، ولا يُعتبر حتى يحتاج إلى الجمع بينه وبين خبر المثبت بمثل هذا الجمع الغريب… ولا يلزم من عدم علم النافي نفي الوقوع بالفعل، وقد ثبت بالفعل أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى صلوات لغير وقتها في عرفة وفي أسفاره.
ثانياً: إذا نفى الراوي ما رواه وأنكره، وكان الروي عدلاً ثقةً دلّ ذلك على حصول النسيان منه، فقد يكون ابن مسعود رضي الله عنه نسي حديثه الأول أن النبيَّ جمع؛ لأن اجتماع روايتين متضادين محال، وكذلك لا يمكن ارتفاعهما، فثبت أنه نسي.
ثالثاً: أن النسيان وقع من ابن مسعود في مواطن عدة، فقد أنكر رفع اليدين في المواضع الثلاثة من الصلاة، وليس في ذلك نفيُ أن الصحابة رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الصلاة، ونسي كذلك كيفية قيام الاثنين خلف الإمام، ونسي كيفية جمع النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعرفة.ونسي وضع المرفق والساعد على الأرض، ونسي كيف كان النبيُّ يقرأ: (وما خلق الذكر والانثى).
رابعاً: ما حصل من نسيان بن مسعود حصل مع غيره من الصحابة رضوان الله عليهم مثل أنس بن مالك في قضية ترك النبيِّ صلى الله عليه وسلم للبسملة في الفاتحة، وعائشة في نفي رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُصلي الضحى مع إخبارها أنه كان يُصليها، ونسي أبو هريرة تحديثه بـ(لا عدوى)، ونسي عُمر تيمم الجنب وأفتى بأنه لا يُصلي حتى يجد الماء مع شهوده لحادثة تيمم عمّار.
****
الجواب على استدلال الشوكاني بحديث ابن عمر
وأجاب الغماريُّ أيضاً على استدلال الغُماري بحديث ابن عمر: (أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يؤخر الظهر ويعجل العصر، فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب ويُعجل العشاء فيجمع بينهما)، وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن قوله (كان يؤخر الظهر ويعجل العصر) ليس صريحاً فيما يُريده الشوكاني من الجمع الصوري، بل هو محتمل للتعجيل أول الوقت، والتعجيل قبله كما هو الواقع هنا، وبذلك يكون الجمع حقيقياً؛ لأنه كان يفعل ذلك في وسط الوقت.
ويدلُّ لذلك ما رواه النسائيُّ عن ابن عمر: أنه كان إذا حانَتْ صلاةُ الظُّهرِ، قال له المُؤذِّنُ: الصَّلاةَ يا أبا عبدِ الرَّحمنِ! لم يلتفِتْ، حتّى إذا كان بينَ الصَّلاتَيْنِ نزَل فقال: أقِمْ، فإذا سلَّمْتُ فأقِمْ، فصلّى ثمَّ ركِب، حتّى إذا غابَتِ الشَّمسُ، قال له المُؤذِّنُ: الصَّلاةَ، لم يلتفِتْ، ثمَّ سار، حتّى إذا اشتبَكَتِ النُّجومُ نزَل، ثمَّ قال للمُؤذِّنِ: أقِمْ، فإذا سلَّمْتُ فأقِمْ، فصلّى، ثمَّ انصرَف، فالتفَتَ إلينا، فقال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إذا حضَر أحدَكم الأمرُ الَّذي يخافُ فَوْتَه، فلْيُصَلِّ هذه الصَّلاةَ)؛ فقوا ابن عمر (كان يؤخر الظهر ويعجل العصر) مُفسَّرٌ بهذه الروايات.
****
الجواب على استدلال الشوكاني أن لفظة (جمع) تشمل الجمع الصوري
قال الشوكاني رحمه الله: فإن قلتَ المشترك ليس من المجمل إلا عند من لم يجوز حمله على مَعنَييه أو معانية معاً، والمذهب الصحيح المشهور جواز ذلك بلا قرينة، وهذا معنى عموم المشترك، وهذا مذهب الشافعي، وأبي علي، وقاضي القضاة، والمنصور بالله، والقاضي جعفر، والشيخ الحسن، وهو قول الأكثر، وهو الذي صدَّره ابن الحاجب في "المختصر"، وابن الإمام في "الغاية" واستدلالاً له، وأبطلا حجج المخالفين.
قال: القول بجواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه على الصيغة الصالحة للاستعمال في الكل، وصيغة (جمع) الأصلح، لذلك؛ إذ لا عموم لها في أقسامها لما عرفت، فلا بُد من حمل ما أطلقوا في المشترك على ما ذكروه في باب العموم من أن بعض الصيغ لا عموم لها كما الفعل المثبت.
ولقد أورد جماعةٌ المشترك في باب العموم: كالغزالي، والجويني، وابن الحاجب في "المختصر"، واعتذر البعض بأن روايات الجمع المطلق مُقيدة كالروايات المصرحة بالجمع الصوري.
وقد ردَّ ذلك الغماري في "إزالة الخطر" (ص 116)، بقوله: وهذا الكلام مردودٌ من وجوه:
أحدها: أنه دعوى باطلة؛ فإن تلك الروايات لم تُعين شيئاً بل الزيادة المذكورة في حديث ابن عباس من ظن عمرو بن دينار، وجابر بن زيد، كذلك ما جاء في حديث ابن عمر مجملة، وأما حديث ابن مسعود فهو نافٍ ، غير مُبين، فبطل أن يكون شيءٌ من تلك الروايات مُبيّنٌ أو مُعيِّنٌ للمراد.
ثانيهما: أن كلام الأصوليين مرود؛ حيث استندوا إلى اللغة؛ فإن الحقائق الشرعية يُرجع فيها إلى عُرف الشرع لا إلى اللغة، وقد خصص عُرف الشرع الجمع بما يقع في الوقت لا في الفعل كما قاله الخطابي.
ثالثهما: أن كون الفعل المثبت لا يُعم أقسامه هو الذي لم يتكرر، ووقع مرة واحدة للإثبات، وادخال الماهية في الوجود، أما تكرره عل أنواع وأقسام فهو دالٌ بتكرره على الجميع لا بمجرد إثباته، وهذا الجمع تكرر من النبيِّ صلى الله عليه وسلم تارةً تقديماً وأخرى تأخيراً؛ ففعله يعمُّ القسمين، ويجب التأسي به فيهما.
رابعهما: أن الجمع الصوري غير داخلٍ في مُسمى الجمع شرعاً؛ لأنه ليس من الجمع في شيء، بل هو أداءٌ لكل صلاةٍ في وقتها؛ فلم يبق الجمع شاملاً إلا لصورتين، وهما التقديم والتأخير، والمكلف مُخيَّرٌ بحسب الاختيار والحاجة كما خيّره الشرع بين أداء الصلاة في أول وقتها ووسطه وآخره.
***
قال الشوكاني: فإن قُلتَ جاء في حديث ابن عباس عند الطبراني قوله صلى الله عليه وسلم: (صنعتُ ذلك لئلا تُحرج أمتي)، ولا شك أن جواز الجمع الصوري قد غُرف من الأحاديث المُعينة للوقت، فحمل هذا الجمع على الصوري مع تصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه إنما فعل ذلك لرفع الحرج عن الأمة، اطّراحٌ للفائدة وإلغاءٌ لمضمونه.
وأجاب الشوكاني بأن الأحوال الصادرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم شاملةٌ للجمع الصُّوري كما ذكرت، فلا يصحُّ أن يكون رفع الحرج منوباً إليها، لأنها غير قاضية بمنعه؛ وحينئذٍ فرفع الحرج بالنسبة إلى الأفعال ليس إلا كما عرفناك من أنه صلى الله عليه وسلم ما صلّى صلاةً لآخر وقتها مرتين، فربما ظنَّ ظانٌ أن فعل الصلاة في أول وقتها مُتحتّمٌ لملازمته صلى الله عليه وسلم لذلك طول عمره، فكان في جمعه صلى الله عليه وسلم جمعاً صورباً تخفيفٌ وتسهيلٌ على من اقتدى بمجرد الفعل.
***
قال الشوكانيُّ: فإن قلتَ: قال الخطابيُّ -كما رواه الحافظ عنه في الفتح - رداً على القائلين بأن الجمع المذكور في حديث ابن عباس هو جمعٌ صوري -بأن الجمعُ عُرفاً لا يقع على من أخَّر الظهر حتى صلاها في آخر وقتها، وعجَّل العصر فصلاها في أول وقتها، لأن هذا قد صلاها في وقتها الخاص بها، وإنما الجمع المعروف أن تكون الصلاتان معاً في وقت إحداهما.
قلتُ: إن أراد عُرف الشرع واللغة؛ فممنوع، والسند ما عرّفناك سابقاً، وإن أراد عُرفاً مختصاً بطائفةٍ من فرق الكلام أو المانعين من الجمع بسبب؛ فمن التمذهب والاعتقاد الناشئ عنه، فليس بحجة على أحد، وعلى تسليم صحة الإطلاق لغةً، وامتناعه عُرفاً تعدم الحقيقة العرفية، وسبب هذا الوهم التباس العرف الخاص لقومٍ بغيره..
***
قال الشوكاني: فإن قُلتَ: قال النووي: تأويل الحديث بالجمع الصُّوري ضعيف، أو باطلٌ لمخالفته الظاهرة مخالفةً لا تُحتمل.
فأجاب: أنه قد عرفناك أن الصُّوري هو المتعين، وأيضاً ربطنا ذلك بأدلة لا يعرف قدرها إلا من أغمض في أقوال الرجال، فجرِّد نظرك إلى الأدلة.
-------------------------------------
الصلاة بالقات
لمحمد بن صالح السواري الحسني
والقات: نباتُ بتناول منه أوراقه الطرية الطازجة بالمضغ وتُبلع عُصارته التي تحتوي على منشطات لها تأثير المنبه للجهاز العصبي، ويسبب القات عدم الشعور بالتعب، والشعور بالنشاط وفقدان الشهية، وحكم القات مختلفٌ فيه بين الفقهاء.
ومن البدع المُحدثة في الدين أن البعض استساغ وضع القات في الفم أثناء الصلاة، ويشترط من يقول بجواز الصلاة به عدم ابتلاع الريق أثناء الصلاة.
وهذه المسألة من المعلوم الواضح، ولكن صرنا في زمنٍ يحتاج الناس فيه إلى توضيح الواضح، وشرح المشروح، والاستدلال لما هو واضحٌ وحجة، وقد أفتى الشيخ القاضي محمد بن إسماعيل العمراني بحرمته
ولا يمكن لمن يضع القات في فمه التوقف عن ابتلاع الريق في الصلاة وخارجها، ولا يمكن له كذلك تحريك الفم بالقراءة، وإذا حصلت حركة الفم امتلأ جوف الفم ريقاً، وفتح هذا الباب يعني فتح باب شرٍّ على المسلمين، والاحتياط للصلاة واجب، وعليه فلا يجوز تناول القات في الصلاة أو وضعه في الفم أثناءها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق