شرح حديث النزول
تأليف الإمام الحافظ شيخ الإسلام ابن تيمية.
تحقيق وتعليق: محمد عبد الرحمن الخميس.
[ أصل هذا البحث رسالة ماجستير، قدمت لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ]
دار العاصمة- المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1993 م.
اختصره: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
هذا الكتاب: بلاغٌ، وبيان لمن أراد سبيل الرشد، وآثر الحقّ، وتجرَّد عن الهوى والعصبية.
تمهيد/ تنازعت الفِرق الكلامية في فهم حديث النزول، فمن مُنكرٍ، مُعطِّلٍ، مُعاند، كالجهمية، وأكثر المعتزلة، والخوارج، ومن مُحرِّفٍ متأول، كمتأخري الأشاعرة والباطنية، وقد وضع كل فريق من هؤلاء بإزاء ذلك قواعد فلسفية مزيفة؛ لهدم أصول الدين، وردِّ النصوص الصريحة الصحيحة، وسموا ذلك بزعمهم: حُكميات، وعقليات، وما هي إلا جهالات وضلالات، قطعت على عقولهم طريق الهداية والإيمان، ذلك أنهم ما فهموا من هذه الصفات إلا صفات المخلوقين، وهذا خلاف ما فطر الله عليه العباد من أنه ليس كمثله شيءٌ في ذاته، ولا في صفاته .
وقد ثبت نزول الرب تبارك وتعالى في كتاب الله عز وجل، وسُنَّة النبي ﷺَ، واتفق سلف الأمة وأئمتها على قبول ذلك، والتصديق به، وكانت الصحابة والتابعون يذكرونه، ويروونه في مجالسهم الخاصة والعامة، وقد اشتملته كتب الإسلام المعتمدة، منها الصحاح والسنن، وقد قصد هؤلاء المعطلة، وأولئك المحرفة إلى إبطال الشريعة المقدسة المحمدية، من خلال تشكيك الناس في أصول دينهم، وصحيح عقيدتهم، فساروا إلى غير يقين في دين الله عز وجل وصفاته..
وأبعد من ذلك، أن صارت المعطلة النفاة إذا أثبت أحدٌ شيئاً من الصفات؛ كان ذلك مستلزماً لأن يكون الموصوف عندهم جسماً -وعندهم الأجسام متماثلة -فصاروا يسمونه مشبهاً بهذه المقدمات العقلية التي تلزمهم، ولا تلزم غيرهم،
وقد علم من العقل والشرع والفطرة بطلانها وتناقضها، ودخل على دين الناس ما دخل بسبب هذه الأغاليط والشبهات التي أثاروها؛ حتى إن الرجل ليبقى منهم حائراً، وأهون شيءٍ عليه حينئذ إبطال عقله ودينه، والخروج عن الإيمان والقرآن، وصحيح أخبار النبيِّ العدنان ﷺَ، وأدنى ما يقعون فيه هو التشكيك بصدق الخبر، إن لم يكذبوا ما جاء به الرسول ﷺَ، وجعلوا المرء منهم مرتداً عن بعض ما كان عليه من الإيمان.
ومجرد الحيرة في قبول هذه الأخبار يُعدُّ قادحاً صعباً في إيمان المرء ودينه وعلمه وعقله، وأهل الكلام –أعني المتضلعين منهم يعرفون من حقائق أصولهم، ولوازمها، ما لا يعرفه من وافقهم على أصل هذه المقالة، ولم يعرف حقيقتها ولوازمها، فلذا يوجد كثيرٌ من أتباعهم من يتناقض كلامه في هذا الباب، فتجده يُثبت ما المثبتين، وينفي مع المعطلين، وليس له إمام مُرشد، ولا عالمٌ ناصحٌ..
ومن رأى هذا الأمر كان واجباً عليه أن يرُدَّ عليهم شبههم وأباطيلهم، ويقطع حجتهم وأضاليلهم، فيبذل جهده في كشف عوار منطقهم، وزيف دلائلهم، ذباً عن الملة المحمدية، والسنة الصحيحة الجلية…
وقد انبرى شيخ الإسلام حقاً وإمام المسلمين صدقاً شيخ الإسلام ابن تيمية، في بيان معنى (نزول الرب) تبارك وتعالى، كما جاء في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله ﷺَ، بفهم الصحابة وسلف الأمة، وحارب التأويلات المنحرفة..
ولما رأى المبتدعة عجزهم عن مدافعة حجج هذا الجبل الأشم الراسخ، دسُّوا عليه من الآراء ما يُشينه في عقيدته، وذلك بقصد التشويه، وإثارة مشاعر الحقد ضده، ولكن يأبى الله إلا إعزاز دينه، رحمه الله تعالى، وحشرنا معه في زمرة المتقين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
فأهل السُّنَّةِ والجماعة؛ فيثبتون صفات الرب جل وعلا، الذاتية والفعلية، ويرون ذلك من كمال الخالق سبحانه، وبهائه، وجلاله، مع مراعاتهم فيما يثبتون وينفون ألفاظ القرآن والحديث، فلا يأتون بلفظٍ مُحدَثٍ مُبتدع، في النفي والإثبات، وقد اشتهر تأويل هذا الحديث عند نُفاة الصفات، بأن المراد بالنزول نزول أمر الله تعالى أو نزول رحمته، أو نزول ملائكته، ومع أن هذا التأويلات جميعها باطلة، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المؤلَّفِ الفريد، ويكفيهم من سياق الحديث، قوله: أنا الملك..."، صريحٌ في أن الله تعالى هو الذي ينزل.
ولو قدروا الله حقَّ قدره، وعظموه حقَّ تعظيمه، ما توهموا أن يحصره مخلوقٌ من مخلوقاته، سماءٌ أو غيرُ سماءٍ، حتى يُقال: إنه إذا نزل إلى السماء الدنيا، صار العرش فوقه؟! أو يصير شيء من مخلوقاته يحصره ويُحيطُ به!! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً..
وهذه دراسةٌ جامعة مانعة لحديث النزول، خطَّها شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، وتكلم فيها، عن:
- الرد على المنطقيين، والفلاسفة الذين يردُّون صحيح الأخبار بالقياسات العقلية،
- وبيَّن معنى التجسيم، وحقيقته، وأن إثبات هذا الخبر لا يستلزم ذلك.
- وفيه الحديث عن حركات الروح والملائكة،
- وعن قرب الله تعالى من خلقه،
- وبيَّن أن الله عز وجل لا تراه العيون في الدنيا، وأن الرؤية حاصلةٌ للمؤمنين في الآخرة،
- وأن القرب الوارد في الآيات للمحتضر هو قربٌ خاصٌّ، يُراد به قرب الملائكة، وقد دلَّ عليه ظاهر النص، فلا نحتاج إلى تأويله بقرب المعية أو بناءً على توهُّم قُرب الذات، وهناك قُربٌ خاصٌّ بمن دعاه سبحانه والتجأ إليه، بما يهبه سبحانه من معاني الإيمان والمعرفة والخشية له سبحانه، وعن كلام الله عز وجل، وأنه غير مخلوق، وأنه سبحانه يتكلم بما شاء، وقتما شاء.
● وما أسعدني بهذا المختصر الذي أُقِّدم له بين يدي القراء خُلاصةً للكتاب، وتتجدَّدُ سعادتي وامتناني على الدوام بمعرفة صفات الرب جل وعلا، ونسأله سبحانه أن يرزقنا الفهم السديد والقول الرشيد، والحكم الصواب، وأن يرزقنا الجنة من غير حساب، ولا عذاب، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه..
● أهمية هذا الكتاب:
(١) أنه من الكتب السلفية المهمة التي تبين عقيدة أهل السنة والسلف في قضية النزول الإلهي، وعلاقة ذلك باختلاف المواقيت، والمطالع، تبعاً لاختلاف البلدان.
(٢) التعرض لقضايا عقدية مهمة، مثل: الاستواء، والمجيء، والإتيان، والمعية، والقرب، وغير ذلك من صفات الباري جل وعلا.
(٣) أن المصدر الرئيس لابن تيمية في هذا الكتاب، هو: القرآن، والحديث الصحيح، والآثار عن الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من العلماء.
(٤) أن مؤلف الكتاب هو من علماء السلف المشهود لهم بالرسوخ في العلم، سواء في الأصول، أو الفروع، وفي علوم السمع والعقل، وفي هذا الكتاب مناقشات كثيرة للقضايا العقلية والمنطقية تكشف عن قوة استحضار شيخ الإسلام، وصفاء ذهنه.
(٥) بيان كذب المبتدعة على ابن تيمية، وبطلان ما رموه به من التجسيم والتشبيه، وبيان ما افتروه عليه بأنه يقول: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا!.
(٦) أن الباحث قد بذل جهداً كبيراً في تحقيقه وإخراجه بصورة جميلة متكاملة بين أيدي القراء، فحققه من أربع نُسخٍ مختلفة، مع تتبعه للأخطاء الواردة في النسخة المطبوعة من مجموع الفتاوى (٥/ ٣٢١- ٥٨٢) سواءً ما يتعلق بالآيات الكريمة، أو تكرير بعض الكلمات، وما يعكس المعنى، والخطأ في الأعلام، والنحو، وغيرها.
(٦) الإجابة عن الإشكالات والتساؤلات الكثيرة التي قد تطرأ على الذهن في مسألة النزول الإلهي، أو يُثيرها المبتدعة في كل زمان.
(٧) استعراض آراء الفرق المخالفة في هذه القضية، وتناولها بشكل تحليلي، وبيان حقيقة معناها، وبيان خطأ ذلك من صوابه، بالقرآن الكريم، والسنة المطهرة، وبفهم الصحابة رضوان الله عليهم.
(٨) بيان الردود المفحمة على نُفاة الصفات عن الله، لا سيما نفاة الصفات الفعلية، مفوضين كانوا أو مؤولين.
----------------------------------------
وقد قسم الباحث هذا الكتاب إلى قسمين:
القسم الأول: في ترجمة المؤلف، والتعريف بالكتاب، وجعل ذلك على فصلين:
الفصل الأول: في ترجمة المؤلف، وجعله في ثلاث مباحث:
● المبحث الأول: في حياته الشخصية: وذكر فيه :
1. اسمه ونسبه:
وهو شيخ الإسلام حقاً وصدقاً، الإمام العالم الرباني: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، ثم الدمشقي،
2. ومولده وموطنه:
وأنه ولد بحران، ثم انتقل مع أبيه إلى دمشق، وأبان أنه من أسرة كريمة عريقةٍ في العلم، ذكوراً، وإناثاً، وُعاظاً، وفقهاء، ومحدثين، وقُرَّاء، وصالحين وأن وفاته كانت في ٢٠ من ذي القَعدة، من سنة (٧٢٨ هـ) بقلعة دمشق" (انظر: ص ١٤ - ١٧).
● المبحث الثاني: في حياته العلمية:
وذكر فيه "نشأته العلمية، وما تمتع به من صفات شخصية جعلت فيه أهلية الإمامة والنبوغ، وذكر من هذه الصفات:
الجد والاجتهاد، الذاكرة الحادة، والذكاء المتوقد، وإقباله على شتى العلوم العربية والإسلامية، وتخصصه في الفقه والتفسير والحديث،
وذكر أشهر شيوخه، وعدَّ منهم ثمانيةً وعشرينَ شيخاً وشيخة، ثم ذكر أشهر تلامذته، وعدَّ منهم خمسةً وعشرين تلميذاً كلهم من الأعلام، الذين تُعقد عليهم الخناصر.
ثم تحدث عن مكانته العلمية، والعلوم التي نبغ فيها، مثل: علوم العقيدة، والحديث، والتفسير، والفقه، ثم ذكر طرفاً من ثناء الناس عليه، وسبعاً من مؤلفاته" (انظر ص ١٨ - ٣٣).
● المبحث الثالث: "تفنيد قصة تُنسب إلى ابن تيمية تتعلق بحديث النزول" (ص ٣٤ – ٣٨)، وقد ذكر هذه القصة ابن بطوطة في رحلته، والكتاني في فهرس الفهارس، ولا شك في كذب هذه الحكاية، وأن ابن بطوطة لم يلتق بابن تيمية، ولا سمع منه، كما حقق ذلك الشيخ "بهجت البيطار" في كتابه (حياة شيخ الإسلام ابن تيمية)، كما أن ابن بطوطة لم يكن يحقق الأقوال في كتابه، بل ينقلها بعجرها وبجرها، فهو من المقمشين الذين لم يفتشوا في صحة الأخبار، وفي القصة من القرائن والعمومات الموهمة ما يدلُّ على بطلانها أصالةً وتفصيلاً.
----------------------------------------
الفصل الثاني:
وفيه التعريف بالكتاب ووصف المخطوطة، وفيه مبحثان:
● المبحث الأول: التعريف بالكتاب.
● المبحث الثاني: التعريف بالمخطوطة.
ونختصر الكلام على الكتاب في سطورٍ قليلة،
فنقول: لم يضع المؤلف عنواناً مُعيناً لهذه الرسالة، لأنه كان جواباً عن سؤالٍ ورد بخصوص صفة النزول، وقلما كان يُسمي رحمه الله مؤلفاته، وكان مع ذلك يؤلفها بسرعةٍ عجيبة، ناقلاً عن الكتاب والسنة وأقوال الأئمة، وأحداث التاريخ.
أما عن اسم الكتاب ففي بعض النُّسخ "إثبات النزول بالبراهين وقواطع النقول"، وفي نسخةٍ أخرى: "سؤال في حديث النزول وجوابه"، وفي ثالثة: "شرح حديث النزول".
وسماه ابن القيم: "مسألة النزول، واختلاف وقته باختلاف البلدان"، ولا خلاف بين المترجمين لشيخ الإسلام أن هذا المؤلَّف له رحمه الله تعالى. (انظر: ص ٣٤- ٥١).
----------------------------------------
القسم الثاني:
وهو ما يتعلق بصلب الكتاب ومتنه، تحقيقاً، وتخريجاً، وتعليقاً، وبياناً.
أولاً: الحديث رواية:
الأحاديث المتعلقة بنزول الله عز وجل إلى سماء الدنيا، كثيرة، منها:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺَ، قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ " (رواه البخاري ومسلم).
ثانياً: بيان أن هذا الحديث متواتر:
وهذا الحديث متواترٌ عند أهل العلم بالحديث، حيث رواه جمعٌ من الصحابة، بلغ عددهم ثمانية وعشرين صاحبياً، وممن قال بتواتر حديث النزول من أهل العلم:
(١) ابن تيمية رحمه الله في "شرح حديث النزول" (ص ٣٢٣).
(٢) وابن القيم في "تهذيب السنن" (٧/ ١٠٨).
(٣) والذهبي في كتاب "العلو" (ص ٧٣ - ٧٩).
(٤) وابن عبد الهادي في "الصارم المنكي" (ص ٣٠٤).
(٤) وأبو زُرعة كما في "عمدة القاري" (٧/ ١٩٩).
(٥) والكتاني في "نظم المتناثر" (ص ١٩١).
(٦) وعبد الرحمن بن سعدي في "توضيح الكافية الشافية" (ص ١٤٧).
● ألفاظ الحديث:
وقد رُوي هذا الحديث بألفاظٍ متعددة، ومتنوعة فيها فوائد، وزيادات:
ففي رواية لمسلم: (يَنْزِلُ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ)، وفي لفظٍ: "إذا بقي من الليل ثلثاه، يهبط الرب إلى سماء الدنيا"، وفي لفظٍ: (حتى يطلع الفجر أو ينصرف القارئ من صلاة الصبح)، وفي رواية عمرو بن عبسة: (أن الرب يتدلى في جوف الليل إلى السماء الدنيا).
فَيَقُولُ: (أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ... فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ الْفَجْرُ )، وفي لفظٍ: (حتى ينشق الفجر، ثم يرتفع)، وفي لفظٍ: (ثُم يعرج)، وفي لفظٍ: (ثُمَّ يصعد). (ص ١٩٧- ٢٠٠، ٣٢٣).
● تفسير ألفاظ الحديث (ص ٣٢٣):
ذكر النبيُّ ﷺَ النزول إذا مضى ثلث الليل الأول، وإذا انتصف الليل، وقوله في ذلك حقٌّ، وهو الصادق المصدوق، ويكون النزول أنواعاً ثلاثة:
* الأول: إذا مضى ثلث الليل الأول.
* ثم: إذا انتصف وهو أبلغ.
* ثم: إذا بقي ثلث الليل وهو أبلغ الأنواع الثلاثة.
● ولفظ: (الليل والنهار) في كلام الشارع إذا أطلق؛ فالنهار من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، والليل يبدأ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق.
● وهو سبحانه ينزل إلى عباده في ذلك الوقت من ثلث الليل الآخر، أو منتصف الليل حتى طلوع الفجر، ويبقى نزوله ودعاؤه لأهل كل بلادٍ على من ثلث ليلهم إلى طلوع فجرهم: هل من سائل، هل من داعٍ، هل من مُستغفرٍ، وثُلث ليلِ كُلِّ بلادٍ يُقدَّر بقدارها، وكما أن ثلث الليل يختلف بطول البلد؛ فهو يختلف بعرضها أيضاً.
فكلما كان البلد أدخل في الشمال؛ كان ليله في الشتاء أطول وفي الصيف أقصر.
وما كان قريباً من خط الاستواء يكون ليله في الشتاء أقصر من ليل ذاك، وليله في الصيف أطول من ليل ذاك؛ فيكون ليلهم ونهارهم أقرب إلى التساوي.
وحينئذٍ فالنزول الإلهي لكل قومٍ هو مقدارُ ثلث ليلهم فيختلف مقداره بمقادير الليل في الشمال والجنوب، كما اختلف في المشرق والمغرب.
وأيضاً؛ فإنه إذا صار ثلث الليل عند قوم؛ فبعده بلحظة ثلث الليل عند ما يقاربهم من البلاد؛
فيحصل النزول الإلهي الذي أخبر به الصادق المصدق أيضاً عند أولئك إذا بقي ثلث ليلهم، وهكذا إلى آخر العمارة.
● الأحاديث التي تضمنت نزول الرب سبحانه وتعالى:
وبالإضافة إلى ما سبق من نزوله سبحانه (كل ليلةٍ) إلى سماء الدنيا، فقد جاء ذكر نزوله تعالى (عشية عرفة) من عدة طرق، وكذلك (ليلة النصف من شعبان)، وذكر نزوله (يوم القيامة) في ظلل من الغمام، وحديث (يوم المزيد) في يوم الجمعة من أيام الآخرة، وما يعنينا هنا هو الوقوف على إثبات صفة النزول عموماً.
● تفسير النزول من المخلوقين ومن الخالق (ص ٢١٨- ٢٣٢):
والنزول منا يكون بمعنيين:
أحدهما: الانتقال من مكان إلى مكان كنزولك من الجبل إلى الحضيض ومن السطح إلى الدار.
والمعنى الآخر: إقبالك إلى الشيء بالإرادة والنية.
كذلك الهبوط والارتفاع والبلوغ والمصير وأشباه هذا من الكلام.
● أما معنى النزول في حقِّ الله عز وجل:
فهو أنه سبحانه ينزل بذاته في ثلث الليل إلى سماء الدنيا قي ثلث كل بلد، وهو في نزوله مستو على عرشه، ولا يخلو منه العرش.
وكذلك ينزل يوم القيامة كما جاء به الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزه عن ذلك.
--------------------------------
● تعقُّبات على كتاب شرح حديث النزول لابن تيمية:
يقول الباحث عبد القادر بن محمد الغامدي الجعيدي في كتابه
(صفة النزول الإلهي وردِّ الشبهات حولها، ص ١٦- ١٨) عن كتاب ابن تيمية "شرح حديث النزول":
أولاً: أن شيخ الإسلام لم يقصد في هذا الكتاب أن يستوفي كل ما يتعلق بموضوعه، ذلك أن أصل الكتاب هو جواب عن سؤال وجه إليه حول مسألة النزول، وقد ركز رحمه الله على الجواب عما جاء في السؤال، وأشار إشارات -بعضها سريعة وبعضها عميقة- إلى أصول الضلال في هذا الباب، مُخاطباً من له خبرة ومعرفة بمذاهب القوم، وأصولهم في التعطيل، الأمر الذي جعل كتابه من الكتب المركزة والصعبة، وأضاف أموراً مهمة في الباب، وأموراً أخرى لا تتعلق بالنزول.
ثانياً: أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يعتني بجمع الأحاديث المعتمد عليها في هذا الباب، ولا بجمع أقوال الصحابة والتابعين التي تزيد مباحث صفة النزول قوة وصلابة.
ثالثاً: أن هناك شبهات كثيرة للنفاة حول النزول، لم يتعرض لها شيخ الإسلام، لعدم تعلقها بالسؤال الذي وُجِّه إليه، والذي من أجلها كتب هذه الفتوى، ومن ذلك: الحجج التي أوردها الرازي في "تأسيس التقديس"، وهي أربع حجج، وقد زعم الرازي أنها قطعية في نفي النزول، ومعلومٌ أن هذا الكتاب من أهم كتب الأشاعرة المتأخرين، وقد أجاب شيخ الإسلام في فتواه على حجة واحدة فقط، وأجاب على الأخرى في بعض كتبه، وبقيت حجتان ردَّ عليهما في كتابه "بيان تلبيس الجهمية"، ومع ذلك فإن الرد عليهما ساقطٌ بكامله من المخطوط، ومن النسخة المحققة من الدكتور الخميس.
رابعاً: أن أهم مسألتين تعرض لهما شيخ الإسلام في كتابه هذا، هما:
(١) مسألة خلو العرش: وبيَّن أن نزوله سبحانه لا يقتضي خلو العرش عنه.
(٢) مسألة اختلاف ثلث الليل في البلاد: وقد بيَّن أن ذلك لا يؤثر في صفة النزول.
خامساً: كثرة استطرادات الشيخ، وإجماله في بعض المواطن المهمة، وتفريقه الكلام حول مسألة النزول، توهم القارئ بوجود سقطٍ في الكتاب، ونحو هذا.
-----------------------
اختصره: ا. محمد حنونة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق