الملكة الفقهية عند طالب العلم
د. سعد بن ناصر الشثري
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ لا بُد لكل من يخوض في غمار الفقه ويُسابق إلى حفظ متونه ودرس كتبه-من معرفة المبادئ الأساسية التي تقوم عليها دراسة الفقه، وأهمية التدرج في الطلب؛ فيبدأ الطالب بالمختصرات والمتون، ويُدرس كل بابٍ فقهيٍّ على حدة، ولا ينظر في الكتب المطولة إلا عند دراسة مسألةٍ بعينها؛ فيقتصر البحث فيها عليها.
ولا بُدَّ مع ذلك من التمرُّس بلغة أهل الفقه والتعرف إلى مصطلحاتهم، وأدلتهم في كل مسألة من المسائل، ولا بُدَّ من التثبت من أقوالهم، فيما يُعرف بمنهج (التوثيق)، وأسهل الطرق لذلك أن يقرأ الطالب متناً فقهياً مشروحاً، ويُحاول شرحه بلغته الخاصة مرةً ثانية، أو مذاكرة ذلك مع طالب علم أو استاذٍ فقهي، وهذا يُفيده في استحضار الذهن للمسألة، ويساعده على تصورها، ويمنحه القدرة على فهم عبارات الفقهاء، والتعبير عنها بمعنى قريب.
والأهم من ذلك: دراسة الفقه على أيدي النابغين المنتجبين في هذا الباب، مع العناية التامة بفقه السلف والآثار والفتاوى المروية عنهم، والكتب الحديثية لا سيما كتب السُّنن، والآثار، وأحاديث الأحكام.
وهذه هي الطريقة الصحيحة في تكوين هذه الملكة: نظرياً، وتطبيقياً، ولا بُد له من فهم أدبيات الخلاف، وطرق الترجيح، والمسائل التي لها حظ من النظر والمسائل التي ينبغي تجاوزها، وإذا اجتمع في المسألة قولان أو أكثر ماذا يُرجح؟ كذلك فهم ضرورة التدقيق في مسائل الخلاف، وتصحيح مقولة "لا إنكار في مسائل الخلاف" إلى القول بأنه "لا إنكار في مسائل الاجتهاد"؛ لأن من الخلاف ما يكون غير معتبرٍ، والمجتهد يخطئ ويُصيب،
وهذا البحث عبارة عن نظرات عملية في المقومات العلمية، والخطوات المنهجية التي ينبغي اكتسابها والتمرس بها لتحصيل الملكة الفقهية. تلك الملكة التي تؤهل صاحبها؛ لأن يصبح فقيها في الشرع، وقادراً على الإجابة أو المساهمة في الإجابة عن الأسئلة التي ترد عليه في شؤون الناس الخاصة، أو قضاياهم العامة.
والملكة الفقهية: هي مجموع من المقومات المعرفية والمنهجية التي على طالب علم الشريعة أن يكتسبها لتحصيل علم الفقه.
والفرق بين المعرفة الفقهية والملكة الفقهية، أن الأولى يمكن الحصول عليها بالمطالعة، وحضور الدروس والمحاضرات المتعلقة بها، وأما الثانية فلا يمكن إدراكها إلا بالتدرب، والتمرس بمناهج الفقهاء في التأصيل، والتعليل والاستنباط، والتدليل، وأهم ما ينبغي على المؤسسات التي تُعنى بالدراسات الشرعية والفقهية الاعتناء بهذا الجانب والتركيز عليه، واختيار المقررات والموضوعات التي تخدم هذا الغرض.
أولاً: الفقه من حيث مسائله:
أ- مسائل وقعت في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ونزل بشأنها آيات، وبيَّن فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحكام هذه المسائل، وهي على قسمين:
مسائل واضحة منصوصٌ على حكمها.
مسائل قابلة لاختلاف المجتهدين من العلماء في فهم دلالة النصوص.
ب- مسائل وقعت بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهي نوعان من المسائل:
مسائل اجتهد فيها الصحابة رضوان الله عليهم.
مسائل اجتهد فيها التابعين رحمهم الله تعالى.
وهذا المسائل التي اجتهد فيها العلماء من الصحابة والتابعين وأتباعهم تنقسم إلى قسمين:
1.مسائل اجتهادية يعتبر فيها الخلاف: وهي المسائل التي لم يرد فيها نص (دليل) من الكتاب أو السنة، أو ورد فيها نصٌّ ولكن يُمكن فهمه على أكثر من وجه، والاجتهاد فيها سائغ، ووجوه التأويل فيها محتملة، وهي قسمان: (مسائل اتفق الصحابة على حكمها =الإجماع)، ومسائل اختلف الصحابة في حكمها، مثل: الجمع بين الصلاتين للمطر هل هو خاصٌ بصلاتي: الظهر والعصر، أم يشمل صلاتي المغرب والعشاء؟ وكذلك (الأقراء) هل هي الحيض أم الطهر؟، فهذه المسائل الخلافية بين الصحابة لم تكن خروجاً عن النص، وإنما كان ذلك خلافاً في فهم دلالة النص.
2.مسائل الخلاف فيها غير معتبر: وهي المسائل التي تعارض النصوص وتخالفها؛ فيجتهد برأيه في مقابل الدليل، مثل ما كان ابن عباس يُفتي به في مسألة الربا؛ فيقول: لا ربا إلا في النسيئة، وأن التفاضل في الربويات ليس من الربا (ربا الفضل)، وهذا اجتهاد في مقابل النص، ولا شك أنه غير معتبر. كذلك اجتهاد ابن عباس في إباحة نكاح المُتعة زمناً طويلاً من عمره، ولم يكن يعلم أنه منسوخ.
وحكم هذه المسائل أن الخلاف فيها ضعيفٌ، ولا يجوز الاحتجاج به، وذلك لأمورٍ، منها: (أ) غياب النص أو الدليل عن المجتهد -من الصحابة.
(ب) أن يكون فهم المجتهد -الصحابي -مخالفٌ لفهم الأكثرين.
وأسباب وقوع المسائل المستجدة في عصر الصحابة كثيرة، منها:
اتساع رقعة البلاد الإسلامية.
مخالطة العرب لغيرهم من الناس والعجم.
اختلاف الثقافات والبيئات ما أدى إلى حدوث مسائل مستجدة.
ومن المعلوم أن البيئة الجغرافية والثقافية لأهل مكة والمدينة وأهل الجزيرة عموماً تختلف عن بيئة أهل مصر والشام والعراق وتختلف عن بيئة أهل فارس وخراسان، ومثال ذلك: ظهور بعض الألبسة الخاصة عند دخول الحمّام (بيت الاغتسال) في الشام.
ما هي طريقة الصحابة في الاجتهاد الفقهي؟
وللصحابة رضوان الله عليهم طريقة مميزة في الاجتهاد والاستنباط، حيث كانوا يفهمون دلالة النصوص بطرق مختلفة، منها:
إدخال مسألة طارئة في (حكم) عام.
الاستدلال بدليل مطلق على مسألة مُقيدة.
الاستدلال بقاعدة عامة دلَّ عليها دليل في هذه المسألة.
ومن القواعد التي استخدمها الصحابة كأسس للاجتهاد قاعدة (رفع الحرج)، و (المشقة تجلب التيسير)، و (الأمور بمقاصدها)، وغير ذلك من القواعد.
أسباب الاجتهاد عند التابعين:
وأسباب الاجتهاد عند التابعين كثيرة جداً، لا سيما كثرة الوقائع والأحداث في الأمة، وانتشار الفرق المنتسبة إلى الإسلام، وقد كثرت الفتوى في عصر التابعين بحسب ما استجد من الوقائع.
طرق الاجتهاد عند التابعين:
1.أول طرق اجتهاد التابعين هو الاستدلال بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة.
2. إذا اختلفت أقوال الصحابة في مسألة على قولين؛ فإن زيادة التابعي لقولٍ ثالثٍ يُعد ضعفاً، وخلافاً ضعيفاً عند أكثر أهل العلم، لأن القول الثالث يُعتبر فهماً جديداً زيادةً على فهم الصحابة للأدلة، وعليه فقد فات الصحابة فهم الدليل فهماً صائباً، وهذا ممتنع لأن الصحابة كلهم عدول، وهم أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقهم علماً فهماً.
عصر التدوين:
ثم جاء عصر التدوين -زمن أتباع التابعين -ووضعوا الكتب المتعلقة بالفقه والآثار واجتهاد الصحابة، وهي على قسمين:
أ- كتب أثرية: وهي الكتب الحديثية المشتملة على الأبواب الفقهية، والفتاوى، مثل: (باب الطهارة، وباب الآنية، وباب الصلاة…)، وهي كثيرةٌ، منها: موطأ مالك، ومصنف عبد الرزاق، وابن أبي شيبة وغيرهم، وكان لها مدرسة معتبرة تُسمى بمدرسة الحديث والأثر، وكان من أبرز روادها: الإمام مالك، والشافعي وأحمد.
ب-كتب الرأي والنظر، وهي التي تعتمد على الأقيسة العقلية، والمبادئ المنطقية، وكانت نشأة هذه المدرسة بالكوفة، وتُسمى مدرسة أهل الرأي والنظر، وكان أبرز روادها: حماد بن أبي سليمان، وإبراهيم النخعي، وأبو حنيفة، وفي المدينة: ربيعة الرأي شيخ مالك وغيرهم.
ولا شك أن مدرسة الرأي والنظر خطأت في جوانب معينة، منها:
أ. اعتبار الأقيسة العقلية أصحُّ من الأحاديث الغرائب والمراسيل.
ب. ردُّ أحاديث الآحاد إذا خالف عندهم قاعدة كلية معتبرة عندهم، باعتبار أن القاعدة قطعية الدلالة، وأحاديث الآحاد ظنية الدلالة.
طريقة أهل الحديث والأثر في النظر إلى المسائل الفقهية:
ينظرون في كتاب الله عز وجل، وأسباب النزول.
ثم ينظرون في كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأقواله، وأفعاله.
ثم في أقوال الصحابة، ويُقدم رأي الخلفاء الراشدين على غيرهم، ويُقدم قول أكثرهم علماً وروايةً وفهماً، ومن له صلة مباشرة بالحادثة على غيره.
ثم في أقوال التابعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق