أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 نوفمبر 2020

مكانة السنة عند الإمام الشافعي وجهوده في حفظها -أ. إبراهيم أحمد الكرد أ. محمد السحار

مكانة السنة عند الإمام الشافعي وجهوده في حفظها

أ. إبراهيم أحمد الكرد -أ. محمد السحار

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لا شكَّ أن الحديث هو نواة الفقه الثانية التي يستطيع الفقيه من خلاله أن يستقرئ ويستنبط القوانين التشريعية، والتي تضبط حسن الفهم، وقد كان للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي الدور الكبير في إعادة السُّنة إلى مكانتها الأولى، وإثبات قوتها كأصل مُبَيِّن ومفصل ومكمل لكتاب الله عز وجل، بالإضافة إلى حسمه قضيَّة الاحتجاج بخبر الواحد وأنه حُجَّةٌ في العلم والعمل جميعاً، وقد أبدع في الرد على منكري الاحتجاج به، فضلاً عن منكري الاحتجاج بالحديث المتواتر، وهو ما تناوله هذا البحث القيِّم بالتفصيل والإيضاح.

والحديث عن الإمام الشافعي وسيرته العظيمة يطول، لا سيما وأنه أحد أبرز العلماء الذين أسهموا بنـصيب كبيـر فـي التأصيل العلمي للسنة النبوية، فقد ترك للأمة الإسلامية إرثاً أصولياً وفقهيـاً وحـديثياً كبيراً، لا ينضب معينه، ومادةً فقهيَّة دسمةً لا يفقر المتزود منها، وقد هيأه المولى سبحانه بما حباه من فصاحةٍ وقوة التعبير التي لا تضارع، مع علم يقيني بالتاريخ وأدوار الرسالة وأيامها، وأعمال الرسول صلى االله عليه وسلم وأقواله ومناسباتها، ومراميها ومعانيها، ثُمِّ إحاطته بعلم أهل العراق والحجاز، ما جمع له العلم من طرفيه، فكان لديه إحاطة كاملة بالعلم الديني؛ وبهذا استطاع أن يُضيف إلى الأمة والتاريخ مذهباً فقهياً ثالثاً يعتمد على الكتاب والسُّنة على طريقة السَّلف الصالح.

وقد أبرز هذا البحث المكانة العلمية المرموقة التي وصل إليها الإمام الشافعي، وكشفت عن إنتاج الإمام العلمي الغزير، سواء من خلال توثيق العلماء وثنائهم عليه أو من خلال المنهجية العلميـة لكتبـه.

وابتدأت هذه الدراسة بمُقدمة حافلة بتاريخ هذا الإمام العظيم، وفيها بيان أمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نفسه وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه وفقهه؛ وأجدني مضطرٌ إلى إضافةٍ مهمة على هذه السيرة العطرة وهي عقيدة الإمام السلفيَّة، والتي احتفت بها كثيرٌ من كتب العلماء المتقدمين، فكانت عقيدته رحمه الله نقيَّةً من أوضار المتكلمين وسفسطة الأشعرية. 

وينقل المؤلفان تعظيم الإمام الشافعي للسُّنة النبوية ودفاعه عنها؛ حتى سُمي ببغداد بـ "ناصر الحديث"، وقد ألجم المتكلمين بلجام السُّنن والآثار مع فقهٍ عالٍ واستنباطات لطيفة وعميقة، تردُّ شبهاتهم، وتدحر دعواهم.

وفي ضوء الحديث عن عنايته بالسُّنة وعلومها، فقد كان الشَّافعيُّ أحد المؤسسين لعلم المصطلح الحديثي، وأحد الذين وضعوا الأصول الحديثية ودونوها في كتبهم، وقد جعل الشَّافعيُّ السنة النبوية بمنزلة الكتاب في الحُجيَّة.

فقال في "الرسالة": "وأولى أن لا يشك عالم في لزومها، وأن يعلم أن أحكام الله ثم أحكام رسوله لا تختلف، وأنها تجـري علـى مثال واحد".

ويقول أيضاً: "كل ما سن رسول الله مع كتاب االله من سنة؛ فهي موافقة كتـاب الله في النص بمثله، وفي الجملة بالتبيين عن الله، والتبيين يكون أكثر تفسيراً من الجملة، وما سن مما ليس فيه نص كتاب الله فبفرض الله طاعته عامة في أمره تبعناه".

وبين رحمه الله أن السنة الصحيحة الثابتة لا يُمكن أن تخالف الكتاب، وأنها واجبة الاتباع بأمر الله تعالى، وأن كـل السنة مقدمة على كل رأي؛ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران: ٣١).

كما بيَّن أنه لا يوجد عالمٌ ثقةٌ يخالف سنة ثابتة عن النبي صلى االله عليه وسـلم، وإن فعل فلا يُحتج بقوله، وقد تكون هذه المخالفة نتيجة: جهله بالسنة، أو لخطئه في التأويـل، وقد صرَّح بهذا في قوله في "الرسالة": "لا تخالف له سنة أبداً كتاب الله، وأن سنته وإن لم يكن فيها نصُّ كتابٍ: لازمةٌ، بما وصفت من هذا، مع ما ذكرتُ سواه، مما فرض الله من طاعة رسوله. ووجب عليه أن يعلم: أن الله لم يجعل هذا لخلقٍ غير رسوله.

وأن يجعل قول كل أحد وفعله أبداً تبعاً لكتاب االله ثم سنة رسـوله. 

وأن يعلم أن عالماً إن روي عنه قول يخالف فيه شيئا سنَّ فيه رسول الله سنةً، لو علم سنة رسول الله لم يخالفها، وانتقل عن قوله إلى سنة النبي -إن شاء الله -وإن لم يفعل كان غير مُوسَّعٍ له". 

 وكان للإمام الشافعيّ عنايةٌ تامة في جمع ألفاظ الحديث، وبيان اختلاف الرواة فيها، وله كلامٌ في تأويل مختلف الحديث بتخصيص العام، وتقييد المطلق، والجمع بين النصوص ما أمكن، أو القول بالنسخ إن ثبت، أو الترجيح بينها بقرينة خارجية من قول الصحابة أو فعلهم، أو قرينةٍ لفظية أو حسية، ونحو ذلك مما يُعلم من علم الأصول.

بالإضافة إلى نقده الرجال وتوثيقهم وتضعيفهم، والذي انتظم فيما بعد بفنٍّ مُستقل عُرف بـ"علم الجرح والتعديل"، وكان -رحمه الله -له طريقته في التوثيق بالإبهام، كأن يقول: "حدثني الثقة" وقد عييَّن الأئمة مراده، وله كلامٌ جليل في علل الحديث، أخذ به جهابذة النُّقاد واعتبره في نقدهم.

وكذلك عُرف عنه حفظه لكتاب "الموطأ" لمالك بن أنس، وقد أودع عددً هائلاً من الأحاديث في كتبه التي صنفها مُسندةً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أفرد البيهقيُّ للإمام الشافعيِّ باباً سماه: "باب ما يستدل به على معرفة الشافعي رضي االله عنه بالحديث"، وقد روي من طريقه (٢٤٢٥) حديثاً، رواها أصحاب السُّنن الأربعة وغيرهم؛ بالإضافة إلى كون إسناده رحمه االله أحد المراجع الرئيسة في الأسـانيد العالية.

وتحدَّث الباحثان -أيضاً -عن جهود الإمام الشَّافعيِّ في نشر السُّنة، وقد بلغت كتب الشافعي حوالي مئة وأربعين (١٤٠) كتاباً، ذكر منها ابن النديم في "الفهرست" أكثر مـن مئة، وأكثرها مفقود، كما أن هنالك قائمة أخرى ذكرها الحافظ ابن حجر في "توالي التأسيس" نقلا عن البيهقي، أشهرها: "الأم"، و "السُّنن المأثورة"، و "مُسند الشَّافعي" الذي جمعه له أحد أصحابه.

وكان للإمام الشافعي جهوده في الردِّ على شُبه الطاعنين في السُّنة وشبهاتهم، حتـى قطـع حجتهم، وأظهر افتراءاتهم، وقد ذكر المؤلفان جملةً منها.

وفيما يلي ذكر مبحثين من المباحث:

الأول: طريقة الإمام الشافعي في الاحتجاج بخبر الواحد.

الثاني: مذهب الشافعي في الحديث المرسل.

* طريقة الإمام الشَّافعي في الاحتجاج بخبر الواحد:

أولاً: إيراد الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى االله عليه وسلم، الدالة على أن خبر الواحد أقام به الرسول صلى االله عليه وسلم الحجة، وعمل المسلمون به في عهده صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: الانتقال إلى لون آخر من ألوان الاستدلال؛ فقال: "إن خبر الواحد نعمل به في حياتنا فيمـا لا يقل عن الأحاديث التي يرويها الآحاد من الرواة، وذلك أننا نرى القاضي يقضي علـى الرجـل للرجل بحكم من الأحكام... هذا الحكم في حقيقته إنما هو خبر يخبر به القاضي عن بينـة تثبـت عنده، أو إقرار من الخصم، ثم ينفذ هذا الحكم... إن هذا في معنى المخبر بحلال وحرام وبعبـارة أخرى في معنى راوي السنة أو الأحاديث" (الرسالة: ٤٢٠ -٤٢١).

ثالثاً: الرد على من يقولون إن من علامة الضعف في خبر الواحد ترك بعـض الأئمـة لـه، فيقول: "إن خبر الواحد ثابت على كل حال، حتى لو عمل بغيره أحد الأئمة، أو لم يمض عمل مـن الأئمة بمثله، لأن كل هذا يحدث حين يجهلون بعض الأخبار، وعندما يصلهم علم بهـذه الأخبـار فإنهم يتمسكون بها ولا يحيدون عنها" (الرسالة: ٤٢٤ -٤٣١).

رابعاً: الرد على من يقولون بالعدد في قبول خبر الواحد، وقد يستدلون بطلب عمر راوياً آخر مع رجل أخبره خبراً عن رسول الله صلى االله عليه وسلم، فيقول رحمه الله: "إن عمر رضـي الله عنه لا يفعل هذا إلا لأحد أسباب ثلاثة: إما للحيطة فقط، وإن كانت الحجة تثبت بخبر الواحد عنده فخبر الاثنين يزيدها ثبوتا، وربما طلب مخبراً آخر، لأنه لا يعرف الأول فيقف في خبـرة حتـى يأتي مخبر آخر يعرفه، وهذا هو الواجب، فلا يقبل الخبر إلا عن معروف، حتى يمكـن الوقـوف على الصفات التي قبل بها خبر الراوي، ويحتمل أن الذي أخبره ليس بمقبول عنده، فيرده، حتـى يجد غيره ممن يقبل قوله" (الرسالة: ٤٣٢- ٤٣٤).

خامساً: لفت النظر إلى أن عمل بعض الصحابة بخلاف الخبر لا يضعفه، وبهذا يرد على من اتخذوا هذا مقياساً لعدم صحة الخبر، ولا يثبتونه عندئذ، فيقول: "وفي هذا ما يبين أن العمل بالشيء بعد النبي إذا لم يكن بخبر عن النبي لم يوهن الخبر عن النبي عليه الـسلام" (الرسالة: ٤٤٦).

وأورد مـن فعـل الصحابة والتابعين من بعدهم ما يدل على تمسكهم بخبر الواحد ورجوعهم إليه، وإن خالف رأيـاً رأوه أو فتيا أفتوا بها" (الرسالة: ٤٤٨ -٤٥٢).

سادساً: اجماله بعد هذا كله قبول علماء الأمصار لخبر الواحد، ثم قال: "لو جاز لأحـد مـن الناس أن يقول في علم الخاصة أجمع المسلمون قديماً وحديثا على تثبيت خبر الواحد، والانتهاء إليه، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي. ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفت من أن ذلك موجودا على كلهم" (الرسالة: ٤٥٧ -٤٥٨).

مذهب الإمام الشافعي في الحديث المرسل (الرسالة: ٤٦٢ -٤٦٧):

١. لا يقبل إلا مرسل كبار التابعين، ويرد مرسل من عداهم من صغار التـابعين، وأنـه لا يقبـل مرسل الكبار إلا باعتضاده بأحد أمور؛ وهى:

أ. إذا أسند من جهة أخرى.

ب. إذا أرسله من أخذ عن غير رجال الأول ممن يقبل عن العلم.

ج. إذا وافق قول بعض الصحابة.

د. إذا أفتى أكثر العلماء بمقتضاه.

٢. يشترط الإمام الشافعي في هذا التابعي الكبير أن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهـولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، وألا يخالفه أحد من الحفاظ. 

٣. ومذهب الإمام رضي االله عنه أن الحديث المرسل إذا اعتضد بما أسلفنا لم يصل في الحجة إلـى درجة الحديث المسند المتصل كما قال في الرسالة: "ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل"؛ وهذا يفيدنا عند الترجيح. فإذا عارض المرسل المعتضد مسند متصل قدم عليه. لأن حجة المرسل ضعيفة رغم الاعتضاد.

إلا أنه رضي االله عنه قال في مختصر المزني (٨/ ١٧٦) في "باب بيع اللحم بـالحيوان": "أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن ابن المسيب: أن رسول االله صلى االله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وعن ابن عباس أن جزوراً نُحرت على عهد أبي بكر رضي االله عنه؛ فجاء رجل بعناق؛ فقال: أعطوني جزءاً بهذه العناق؛ فقال أبو بكر: لا يصلح هذا، وكان القاسم بن محمد وابن المسيب وعروة بن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن: يحرمون بيع اللحم بالحيوان عاجلا وآجلا يعظمـون ذلك، ولا يرخصون فيه". 

قال: "وبهذا نأخذ، سواءٌ كان اللحم مختلفاً أو غير مختلف ولا نعلم أحداً من أصـحاب النبي صلى االله عليه وسلم خالف في ذلك أبا بكر، وإرسال ابن المسيب عندنا حسن".  

وقال الإمام النووى في "المجموع" (١/ ٦١ - ٦٢): اختلف أصحابنا في معنى قول الشافعي إرسال ابن المـسيب عندنا حسن على وجهين: أحدهما: أنها حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل لأنها فتشت فوجـدت مسندة. والوجه الثاني: أنها ليست بحجة عنده، بل هي كغيرها. وقالوا إنما رجح الشافعي بمرسله، والترجيح بالمرسل جائز. 

وقال الخطيب البغدادي في كتاب "الفقيه والمتفقـه" (ص ٥٤٥): "والصواب الوجـه الثاني، وأما الأول فليس بشيء. 

وكذا قال في الكفاية (ص ٤٠٥): الثاني هو الصحيح عندنا من الـوجهين، لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسنداً بحال من وجه يصح".  

قال النووي في "المجموع" (١/ ٦٢- ٦٣): "قلت: ولا يصح تعلق من قال إن مرسل سعيد حجة، بقوله إرساله حسن، لأن الشافعي رحمه االله لم يعتمد عليه وحده، بل اعتمده لما انضم إليه قول أبى بكر الصديق ومـن حضره، وانتهى إليه قوله من الصحابة رضي الله عنهم، مع ما انضم إليه من قول أئمة التـابعين الأربعة الذين ذكرهم، وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة، وهو مذهب مالك وغيره. فهذا عاضـد ثان للمرسل، فلا يلزم من هذا الاحتجاج بمرسل ابن المسيب إذا لم يعتضد".

ثم قال: "ومع أنه قد شاع في ألسنة كثيرين من المشتغلين بمذهبنا، بل أكثـر أهـل زماننا أن الشافعي رحمه الله لا يحتج بالمرسل مطلقاً إلا مرسل ابن المسيب فإنه يحتج به مطلقـاً، وهذان غلطان، فإنه لا يرده مطلقا، ولا يحتج بمرسل ابن المسيب مطلقا بل الصواب ما قـدمناه- أي عن الخطيب -والله أعلم".

الشافعي وعلوم الحديث

دراسة عن أهم مصطلحاته وأشهر مصنفاته ومراتب الترجيح فيه

تأليف محمد طارق هشام مغربية

موقف الإمام الشافعي من المرسل:

كثر الكلام عن احتجاج الشافعي رحمه الله تعالى بالمرسل عامة ومرسل سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى -خاصة مع موقفه المعروف من المرسل، حتى فشا بين أهل العلم؛ الشافعية وغيرهم أن الشافعي يأخذ بمرسل سعيد مطلقاً. فما حقيقة المسألة، وهل خالف الشافعي شرطه في قبول المرسل بالنسبة لسعيد بن المسيب؟

نبدأ أولاً بتعريف المرسل؛ قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى: وصورته التي لا خلاف فيها: حديث التابعي الكبير الذي لقي جماعة من الصحابة وجالسهم كعبيد الله بن عدي بن الخيار، ثم سعيد بن المسيب، وأمثالهما إذا قال: قال رسول الله ﷺ.

ومن تعريفاته أيضاً: ما سقط منه من بعد التابعي فالمرسل من أقسام الحديث المنقطع وهو ضعيف لجهالة من أسقط من سنده، فقد يكون صحابياً وقد لا يكون. فهل قبل الشافعي رحمه الله الاحتجاج بالمرسل؟

قال الإمام الشافعي رحمه الله في «الرسالة»: المنقطع مختلف؛ فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم من التابعين، فحدث حديثاً منقطعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، اعتبر عليه بأمور:

منها: أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله بمثل معنى ما روى كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه. 

وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك.

ويعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم ؟ فإن وجد ذلك كانت دلالة يقوى له مرسله، وهي أضعف من الأولى.

وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله قولاً له، فإن وجد ما يوافق ما روى عن رسول الله كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح.

وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. 

قال الشافعي: ثم يعتبر عليه؛ بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه. ويكون إذا شرك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه، فإذا خالفه وجد حديثه أنقص ؛ كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه. ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه، حتى لا أحداً منهم قبول مرسله.

قال : وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله. 

ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل.

فيظهر من نص الإمام رحمه الله أنه لا يقبل المرسل إلا معتضداً بغيره من حديث متصل أو مرسل آخر يوافقه أو يشتهر بين أهل العلم أو يفتي بموجبه أهل العلم. فهل ميز مرسل سعيد بن المسيب من هذه الشروط؟

عقد الإمام النووي رحمه الله تعالى فصلاً في مقدمة كتابه «المجموع» في بيان موقف الشافعي من المرسل ؛ فقال رحمه الله تعالى:

الحديث المرسل لا يحتج به عندنا وعند جمهور المحدثين وجماعة من الفقهاء وجماهير أصحاب الأصول والنظر، وحكاه الحاكم أبو عبد الله بن البيع عن سعيد بن المسيب ومالك وجماعة أهل الحديث وفقهاء الحجاز.

وقال أبو حنيفة ومالك في المشهور عنه وأحمد وكثيرون من الفقهاء أو أكثرهم يحتج به، ونقله الغزالي عن الجماهير. قال أبو عمر بن عبد البر و غيره: ولا خلاف أنه لا يجوز العمل به إذا كان مرسله غير متحرز يرسل عن غير الثقات.

قال الشافعي: واحتج بمرسل كبار التابعين إذا أسند من جهة أخرى أو أرسله من أخذ من غير رجال الأول ممن يقبل عنه العلم، أو وافق قول بعض الصحابة، أو أفتى أكثر العلماء بمقتضاه. 

قال: ولا أقبل مرسل غير كبار التابعين ولا مرسلهم إلا بالشرط الذي وصفته.

هذا نص الشافعي في الرسالة وغيرها، وكذا نقله الأئمة المحققون من أصحابنا الفقهاء والمحدثين كالبيهقي والخطيب البغدادي وآخرين، ولا فرق في هذا عنده بين مرسل سعيد بن المسيب وغيره. هذا هو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون.

وقد قال الشافعي في «مختصر المزني في آخر باب الربا: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ﷺ : نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وعن ابن عباس أن جزوراً نحرت على عهد أبي بكر الصديق الله فجاء رجل بعناق فقال : أعطوني بهذا العناق فقال أبو بكر عنه: لا يصلح هذا. 

قال الشافعي: وكان القاسم بن محمد وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان. قال الشافعي: وبهذا نأخذ. 

قال: ولا نعلم أحداً من أصحاب رسول الله ﷺ مخالف أبا بكر الصديق له. 

قال الشافعي: وإرسال ابن المسيب عندنا حسن. هذا نص الشافعي في المختصر نقلته بحروفه لما يترتب عليه من الفوائد، فإذا عرف هذا فقد اختلف أصحابنا المتقدمون في معنى قول الشافعي: إرسال ابن المسيب عندنا حسن على وجهين حكاهما أبو إسحاق في كتابه «اللمع» وحكاهما أيضاً الخطيب البغدادي في كتابيه: «الفقيه والمتفقه» و«الكفاية» وحكاهما جماعات آخرون. أحدهما: معناه أنها حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل، قالوا لأنها فتشت فوجدت مسندة والوجه الثاني: أنها ليست بحجة عنده بل هي كغيرها على ما ذكرناه. قالوا: وإنما رجح الشافعي بمرسله والترجيح بالمرسل جائز.

قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه: والصواب الوجه الثاني، وأما الأول فليس بشيء. وكذا قال في «الكفاية»: الوجه الثاني هو الصحيح عندنا من الوجهين لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسنداً بحال من وجه يصح، قال: وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على غيرهم كما استحسن مرسل كلام الخطيب.

وذكر الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي نص الشافعي كما قدمته؛ ثم قال: فالشافعي يقبل مراسيل كبار التابعين إذا انضم إليها ما يؤكدها فإن لم ينضم لم يقبلها سواء كان مرسل ابن المسيب أو غيره. قال : وقد ذكرنا مراسيل لابن المسيب لم يقبلها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها. ومراسيل لغيره قال بها حيث انضم إليها ما يؤكدها. قال : وزيادة ابن المسيب في هذا على غيره أنه أصح التابعين إرسالاً فيما زعم الحفاظ. فهذا كلام البيهقي والخطيب وهما إمامان حافظان فقیهان شافعیان مضطلعان من الحديث والفقه والأصول والخبرة التامة بنصوص الشافعي ومعاني كلامه ومحلهما من التحقيق والإتقان والنهاية في الفرقان بالغاية القصوى والدرجة العليا.

وأما قول الإمام أبي بكر القفال المروزي في أول كتابه «شرح التلخيص : قال الشافعي في الرهن الصغير مرسل ابن المسيب عندنا حجة. فهو محمول على التفصيل الذي قدمناه عن البيهقي والخطيب والمحققين والله أعلم.

قلت: لا يصح تعلق من قال: إن مرسل سعيد حجة بقوله: إرساله حسن. لأن الشافعي رحمه الله لم يعتمد عليه وحده بل اعتمده لما انضم إليه من قول أئمة التابعين الأربعة الذين ذكرهم وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة. وقد نقل صاحب «الشامل» وغيره هذا الحكم عن تمام السبعة وهو مذهب مالك وغيره. فهذا عاضد ثان للمرسل فلا يلزمه من هذا الاحتجاج بمرسل ابن المسيب إذا لم يعتضد؛ فهذا الإمام النووي منقح مذهب الشافعي، وقد نقل عن إمامين جليلين في الحديث والفقه أن مرسل سعيد بن المسيب رحمه الله لا يمتاز إلا بكونه من كبار التابعين، فيأخذ به الشافعي بشروطه التي ذكرها في «الرسالة».

لكن من أين أتى هذا التفصيل والوهم من أن الشافعي يأخذ بمراسيل ابن المسيب، وأنه تتبع مراسيله فوجدها مسانید؟

جال هذا السؤال في خاطر الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في رسالته التي أرسلها إلى الإمام أبي محمد الجويني لما ألف كتاباً في الفقه ضمنه اجتهاداته معتمداً على فهمه للأدلة. قال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى: ... ورأيت في هذا الفصل قوله في المراسيل أنها ترجيحات لا تقوم بها الحجة سوى مرسل سعيد بن المسيب. 

ولو نظر والشيخ تبع في هذه اللفظة صاحب التلخيص في رسالتي الشافعي القديمة والجديدة للشافعي رحمه الله وأبصر شرطه في قبول المراسيل، وتذكر المسائل التي بناها على مراسيل غيره حين اقترن بها الشرط ولم يجد فيها ما هو أقوى منها. وهو أدام الله توفيقه أعلم بتلك المسائل مني لقال بسوى مرسل سعيد بن المسيب، ومن كان في مثل حاله من كبار التابعين.

فأول من أخطأ الإمام ابن القاص رحمه الله تعالى، وتابعه الإمام أبو محمد الجويني رحمه الله تعالى، فسارت المسألة بين أهل العلم حتى تلقفها إمام كبير من أئمة الحنفية فأودعها كتابه؛ وهو شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى، وتناقلها أهل العلم بعده. 

روى الإمام البيهقي رحمه الله تعالى بسنده إلى الإمام أبي زرعة الرازي إشكال حول توثيق الشافعي، يقول: ما عند الشافعي حديث غلط فيه.

وروى عن الإمام أبي بكر الأثرم قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل : الشافعي كان صاحب حديث ؟ قال: أي والله صاحب حديث.

قال البيهقي: وإنما أراد به كان من أهل المعرفة بالحديث ومن القائلين به، ولأجل ذلك كان يدعو الله له.

وروى البيهقي عن قتيبة بن سعيد وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه أنهما قالا: الشافعي إمام.

وسمع أحمد بن حنبل كتاب الموطأ بعد أن كان سمعه من جماعة وقال  إني رأيته فيه ثبتاً وقد كان يحيى بن معين رحمه الله ينكر على أحمد جلوسه إلى الشافعي لحداثة سنه، لكنه لما سئل عنه قال : دعنا لو كان الكذب له مطلقاً لكانت مروؤته تمنعه أن يكذب.

قال البيهقي: وإنما كانوا يسألون يحيى عنه لما كان قد اشتهر من حسد يحيى إياه وإفراط أحمد بن حنبل في توقيره وتقديمه والاعتراف بفضله وعقله وعلمه والأخذ عنه.

وإنما لم يرو الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن الشافعي لأنه أدرك أقرانه، والشافعي مات مكتهلاً فلا يرويه نازلاً، وروى عن الحسين وأبي ثور مسائل عن الشافعي.

قال السبكي رحمه الله : وذكر الشافعي في موضعين من صح في «باب في الركاز الخمس» وفي «باب تفسير العرايا» من البيوع. 

فما يثار من مسألة ضعف الشافعي في الحديث لاحظ له من في النظر الصحيح.

ولذلك قال الإمام المزني رحمه الله تعالى: من شاء من خلق الله عز وجل ناظرته على خطأ الشافعي أن الخطأ الكاتب ليس منه، وقد أثيرت هذه المسألة قديماً، مما حدا بالإمام الحافظ أبي بكر البيهقي أن يؤلف كتابه بيان خطأ من خطأ الشافعي جمع فيه الأحاديث التي انتقدت على الشافعي في كتبه، أن الخطأ فيها ليس من الشافعي.

كما ألف الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله كتاباً سماه «مسألة الاحتجاج بالشافعي»، وبحث المسألة محدثو الشافعية، كالإمام الذهبي رحمه الله في «سير أعلام النبلاء». وقال فيه كلاماً رائعاً أختم به هذا الفصل؛ قال رحمه الله تعالى: 

وإمامنا؛ فبحمد الله ثبت في الحديث حافظ لما وعى عديم موصوف بالإتقان، متين الديانة، فمن نال منه بجهل وهوى ممن عُلِمَ أنه منافس له، فقد ظلم نفسه، ومقتته العلماء ولاح لكل حافظ تحامله، وجر الناس برجله، ومن أثنى عليه، واعترف بإمامته وإتقانه، وهم أهل الحل والعقد قديماً وحديثاً، فقد أصابوا وأجملوا، وهدوا ووفقوا... الغلط.

وقد كنت وقفت على بعض كلام المغاربة في الإمام -رحمه الله، فكانت فائدتي من ذلك تضعيف حال من تعرض إلى الإمام، ولله الحمد. ولا ريب أن الإمام لما سكن مصر، وخالف أقرانه من المالكية، ووهى بعض فروعهم بدلائل السنة وخالف شيخه في مسائل، تألموا منه، ونالوا منه : وجرت بينهم وحشة، غفر الله للكل. 

وقد اعترف الإمام سحنون؛ وقال: لم يكن في الشافعي بدعة. فصدق والله، فرحم الله الشافعي وأين مثل الشافعي والله ! في صدقه وشرفه، ونبله وسعة علمه، وفرط ذكائه ونصره للحق ، وكثرة مناقبه. رحمه الله تعالى.

مصطلحات للشافعي في الرواة:

قد يوري الشافعي رحمه الله في كتبه عن بعض الرواة؛ فيقول: أخبرنا الثقة، أو من أثق به أو من لا أتهم، فمن المقصود بهذه الإطلاقات؟ ولم لم يذكره الشافعي صراحة؟

قال: قال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا أبو العباس الأصم سمعت الربيع يقول: كان الشافعي إذا قال: أخبرنا الثقة فإنه يريد به يحيى بن حسان. وإذا قال: أخبرنا من لا أتهم يريد به إبراهيم بن أبي يحيى. 

وإذا قال: بعض الناس يريد به أهل العراق. وإذا قال: بعض أصحابنا يريد به أهل الحجاز. 

قال أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم الأبري السجستاني في مناقب الشافعي: سمعت بعض أهل المعرفة بالحديث يقول: إذا قال الشافعي له في كتبه :أخبرنا الثقة عن ابن أبي ذئب، فهو ابن أبي فديك. وإذا قال: أخبرنا الثقة عن الوليد بن كثير، فهو أبو أسامة. وإذا قال: أخبرنا الثقة عن الأوزاعي، فهو عمرو بن أبي سلمة.

كذا حكاه جماعة منهم الماوردي. خالد وإذا قال: أخبرنا الثقة عن ابن جريج، فهو مسلم بن الزنجي. وإذا قال: أخبرنا الثقة عن صالح مولى التوأمة، فهو إبراهيم بن أبي يحيى.

قال بعض أهل الحديث: إذا قال الشافعي: أخبرنا الثقة فهو يريد أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.

قال الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى: وقد كنت أنا لما قرأت مسند الشافعي على شيخنا أبي عبد الله الحافظ سألته في كل مكان من تلك، فكان بعضها يتعين أنه يريد به إبراهيم بن أبي يحيى، وبعضها يتردد... وأكثرها لا يمكن أنه يريد به أحمد بن حنبل، بل إما إبراهيم بن سعد أو غيره. 

ومثل قوله: أخبرنا الثقة عن ابن شهاب يحتمل مالكاً وابن سعد وسفيان بن عيينة، ولا ثالث لهم في أشياخ الشافعي.

ومثل قوله: الثقة عن معمر، فهو إما هشام بن يوسف الصنعاني، أو عبد الرزاق.

ومثل قوله: الثقة من أصحابنا عن هشام بن حسان، قال شيخنا أبو عبد الله محمد أحمد الحافظ: لعله يحيى بن القطان.

ومثل قوله: الثقة عن زكريا بن إسحق، عن يحيى بن عبد الله، قال لي أحمد الحافظ  إنه يحيى بن حسان التنيسي.

يظهر أن هذا الكلام أغلبي عناه الشافعي في بعض الرواة، وإن أراد غيرهم مرات أخرى؛ فكل من هؤلاء الأئمة ذكر ما بدا له أو سئل عنه، أو رد ما رآه بعيداً كصنيع الإمام السبكي. 

وقد حاولت أن أبوب الشيوخ بحسب الراوي الذي أغفله الشافعي، فيسهل حفظهم و تعرف طبقاتهم.

فإذا قال الشافعي رحمه الله تعالى: أخبرني الثقة أو من لا أتهم؛ فالغالب أنه: إبراهيم بن أبي يحيى، إذا كانت الرواية عن أحد هؤلاء الرواة: إسحاق بن أبي فروة، وخالد بن رباح، وسليمان بن عبد الله الأسلمي، وسهيل بن أبي صالح، وصالح مولى التوأمة، وصفوان بن سليم، وعبيد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم و العلاء بن راشد، ومحمد بن زيد بن أبي المهاجر، وابن أبي ذئب.

وإذا كانت الرواية عن: حماد بن زيد، أو عبد الله الحارث، أو سليمان بن بلال، أو الليث بن سعد؛ فالغالب أنه: يحيى بن حسان. 

وإذا قال: أخبرني بعض أصحابنا؛ وكانت الرواية عن: إبراهيم بن سعد بن أبي فروة، أو عبد الرحمن بن أبي الزناد أو عبد الله بن جعفر الزهري؛ فالغالب أنه: عبد الله بن نافع بن الصائغ. 

وإذا كانت الرواية عن الأوزاعي، أو سفيان الثوري، أو أسامة بن زيد، أو يونس بن زيد؛ فالثقة هو: أيوب بن سويد. 

وإذا قال: أخبرني الثقة عن معمر؛ قال الحاكم: فقد قال ذلك في غير موضع وأراد بها كلها: هشام بن يوسف الصنعاني، فهو الثقة الرضى. 

وإذا قال: أخبرني الثقة عن أيوب السختياني، أو عن حميد الطويل، أو عن يونس بن عبيد ؛ فالثقة إسماعيل بن علية.

وإذا قال: أخبرنا الثقة عن عبيد الله بن عمر، أو عن هشام بن عروة، أو عن الوليد بن كثير ؛ فالثقة في الغالب أبو أسامة حماد بن أسامة. وإذا قال : أخبرنا الثقة عن يحيى بن سعيد؛ فالثقة عبد العزيز بن محمد الدراوردي.

وإذا قال: أخبرني الثقة عن زكريا بن إسحاق ؛ فالثقة هو وكيع بن الجراح . وإذا قال أخبرنا الثقة عن ابن أبي ذؤيب، فقال الآجري : هو ابن أبي فديك، وقال الحاكم: يريد يحيى بن وإذا قال : أخبرني الثقة عن ابن شهاب، فقال الحاكم: لا يخلو هذا الثقة من أحد رجلين؛ إما أن يكون مالك بن أنس، أو إبراهيم بن سعد حسان.

لماذا لم يصرح الشافعي بأسماء هؤلاء الرواة:

ذكر أهل العلم أجوبة كثيرة عليهم: فمن ذلك كونه رحمه الله تعالى يكره الرواية عن الأحياء، لأنه لا يؤمن النسيان. لذا كان يحتاط في الرواية عنهم.

ومنها جريه على عادة العصر في مجالس المذاكرة والحجاج، فالمهم فيها ذكر موضع الاحتجاج دون الاهتمام بسوق الإسناد كاملاً إذا عرف مخرجه ولم يكن مما يطرحه أهل النظر، وقد فعله من أجلة شيوخه مالك وسفيان بن عيينة رحمهما الله تعالى ـ وهما من هما علماً و تقى ـ فكان الشافعي في هذا متبعاً لا مبتدعاً.

ربما غابت كتب الشافعي عنه ساعة التصنيف فيورد الحديث كما يذكره، فإذا خاف الزلل والنسيان كنى بهذه العبارات لثقته بمن سمع منهم فإذا عرفنا أنه رحمه الله تعالى كان يؤلف كتبه دون العود إلى كتاب استبان السر في توريته. 

فالمعنى في ذهنه حاضر، لكن ربما غابت أسماء الرواة، فيكني بالثقة ومن لا أتهم لشهرة الحديث و ذيوع متنه. 

روى البيهقي بسنده إلى الربيع قال: بت عند الشافعي ما لا أحصي، فكان إذا انصرف اتشح برداء، ووضعت له منارة قصيرة واتكأ على وسادة وتحته مضربتان، ويأخذ القلم فلا يزال يكتب.

وقال أيضاً: ألف الشافعي هذا الكتاب يعني المبسوط حفظاً لم يكن معه كتب.

ومن أقربها إلى الواقع كون ذلك جارياً في مجالس المناظرة، فإذا عرفنا أن المتقدمين لا يروون حديثاً دون إسناد مع ما يلمسه الشافعي في المجلس من تضعيف الخصم لبعض شيوخه كإبراهيم بن أبي يحيى، وعلمه بأن للحديث طرقاً وشواهد يتقوى بها؛ فيسوق الحديث هذا المساق لئلا يطرحه الخصم مع كون متنه مما جرى به العمل.

والناظر في الأحاديث التي صنع بها الشافعي هذا الصنيع يدرك ذلك إلا فيما ندر ؛ كحديث الماء المشمس وكراهية استعماله والحكم للأعم الغالب، والله تعالى أعلم.

فائدة :

لم تقتصر التورية على رجال الحديث، فقد ورى الشافعي في تفسير آية. قال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الله تعالى : (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم).

قال الشافعي : فكان ظاهر الآية أن من قام إلى الصلاة فعليه أن يتوضأ، وكانت محتملة أن تكون نزلت في معنى خاص، فسمعت من أرضى علمه بالقرآن يزعم أنها نزلت في القائمين من النوم قال: وأحسب ما قال كما قال.

قال محققه: قال ذلك مالك في الموطأ ٢١/١ كتاب الطهارة.

معنى قول الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي:

وردت عن الشافعي رحمه الله تعالى نصوص كثيرة بمعنى هذه العبارة، تدل في مجموعها على عظيم تمسكه بسنة رسول الله ﷺ مما يصح، فمن ذلك ما رواه ابن أبي حاتم عن الشافعي كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه خلاف قولي فحديث النبي ﷺ ولا تقلدوني. وقال الأصم : سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ﷺ فقولوا بها، ودعوا ما قلته. 

قال الشافعي: كل حديث عن النبي الله فهو قولي وإن لم تسمعوه مني. 

وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: كان الشافعي إذا ثبت عنده الحديث قلده وخير خصلة كانت فيه لم يكن يشتهي الكلام، إنما همته الفقه.

وعن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: ما من مسألة تكلمت فيها الخبر فيها عن النبي ﷺ عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي. وقال الشافعي رحمه الله تعالى أيضاً : إذا صح الحديث عن رسول الله ﷺ فقلت قولاً فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك. 

قال الإمام النووي : وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب واشتراط التحلل من الإحرام بعذر المرض وغيرهما مما هو معروف في كتب المذهب. وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشافعي خلافه، عملوا بالحديث وأفتوا به قائلين : مذهب الشافعي ما وافق الحديث.

وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أن كل أحد رأى حديثاً صحيحاً قال: هذا مذهب الشافعي وعمل بظاهره، وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدم من صفته أو قريب منه ، وشرطه أن يغلب على ظنه أن الشافعي رحمه الله لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته، وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قل من يتصف به. 

وإنما اشترطوا ما ذكرنا لأن الشافعي رحمه الله ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها لكن قام الدليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تخصيصها أو تأويلها أو نحو ذلك.

قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله: ليس العمل بظاهر ما قاله الشافعي بالهين فليس كل فقيه يسوغ له أن يستقل بالعمل بما يراه حجة من الحديث.

وحكى ابن الصلاح والنووي رحمهما الله تعالى عن إمام الأئمة ابن خزيمة: لا أعلم سنة لرسول الله ﷺ في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتبه.

قال الإمام النووي: وجلالة ابن خزيمة وإمامته في الفقه والحديث ومعرفته بنصوص الشافعي بالمحل المعروف. 

وقال السبكي رحمه الله تعالى بعد نقل كلامهما وهذا الذي قالاه هذا ليس رداً لما قاله الشافعي، ولا لكونه فضيلة امتاز بها عن غيره، ولكن تبيين لصعوبة هذا المقام، حتى لا يغتر به كل أحد. والإفتاء في الدين كله كذلك، لا بد من البحث والتنقير عن الأدلة الشرعية حتى ينشرح الصدر للعمل بالدليل الذي يحصل عليه فهو صعب وليس بالهين ومع ذلك ينبغي الحرص عليه وطلبه. كما قالاه. 

حتى لقد تشدد القرافي رحمه الله في المسألة فقال: قد اعتمد كثير من فقهاء الشافعية على هذا، وهو غلط فإنه لا بد من انتفاء المعارض، والعلم بعدم المعارض يتوقف على من له أهلية استقراء الشريعة، حتى يحسن أن يقال: لا معارض لهذا الحديث، أما استقراء غير المجتهد المطلق، فلا عبرة به.

قال الشيخ تقي الدين السبكي: والطعن في إسناد الحديث أو بسبب علة أو شذوذ فذلك يمنع من الحكم بصحة الحديث. وكلامنا إنما هو إذا صح الحديث، والنسخ ليس تركاً، فالنسخ قد يوجد في القرآن والتخصيص ليس تركاً، بل جمع بينه وبين العام. 

وقد تكلم الشافعي في الأحاديث المختلفات والجمع بينهما في كتابه: «اختلاف الحديث أحسن الكلام. وكذلك العلماء كلهم، فهذا ليس هو المراد ههنا، وإنما المراد الترك المطلق، ولم يقع ذلك للشافعي أصلاً، ولا تقتضيه أصوله. 

وقد تكلم الأصوليون في العمل بالعام قبل طلب المخصص. والذي أقوله: إن المبادرة للأمر مطلوبة، كمن سمعه من النبي ﷺ، والمكلف بذلك كل من هو من أهل العلم بحسب ما تصل إليه قدرته من العلم. 

واشتراط الاجتهاد الكامل والتوقف عن العمل حتى يصل إلى أقصى غاية، ليس السلف مما يقتضيه سير فإذا وجد شافعي حديثاً صحيحاً يخالف مذهبه إن كملت فيه آلة الاجتهاد في تلك المسألة، فليعمل بالحديث بشرط أن لا يكون الإمام اطلع عليه وأجاب عنه، وإن لم يكمل ووجد إماماً من أصحاب المذاهب عمل به فله أن يقلده فيه، وإن لم يجد وكانت المسألة حيث لا إجماع؛ فالعمل بالحديث أولى، وإن فرض الإجماع فلا.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : ويتأكد ذلك إذا وجد الإمام بنى المسألة على خبر ظنه صحيحاً ؛ وتبين أنه غير صحيح ووجد خبراً صحيحاً يخالفه، وكذا إذا اطلع الإمام عليه ولكن لم يثبت عنده مخالفة ووجد له طريق ثابتة.

وفي ذلك دليل أيضاً على أن العلم الخاص قد يخفى على الأكابر، ويعلمه من هو دونهم. وذلك يصد في وجه من يغلو من المقلدين إذا استدل عليه بحديث فقال: لو كان صحيحاً لعلمه فلان مثلاً ، فإن ذلك إذا خفي على أكابر الصحابة، وجاز عليهم فهو على غيرهم أجوز؛ فإن وقع في قلبه الظن الراجح أن الشافعي خالف الحديث لسبب غير وجيه؛ فلا يحمله التعصب على اتباع الشافعي وترك الحديث. فالمعصوم الذي لا ينطق عن الهوى أحق أن يتبع.

وقد أكثر الشافعي من تعليق القول بالحكم على ثبوت الحديث عند أهله كما قال في البويطي: إن صح الحديث في الغسل من غسل الميت قلت به. 

وفي الأم: إن صح حديث ضباعة في الاشتراط قلت به، إلى غير ذلك. 

وقد جمعت في ذلك كتاباً سميته: «المنحة فيما علق الشافعي القول به على الصحة». وأرجو الله أن ييسر تكملته بعونه وقوته.

هذه عجالة تناسب المقام والموضوع واسع ويجدر بالطالب تحسين الظن بالشافعي رحمه الله إذا وجد حديثاً صحيحاً لم يأخذ به الشافعي فليتهم نفسه قبل كل شيء، ويتهم استقراءه واطلاعه على نصوص الشافعي، ولكن ليضع نصب عينه قول الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى عندما تكلم عن خفاء حكم القسامة عن عمر. انتهى.



الخميس، 26 نوفمبر 2020

دور التربية الإسلامية في الحفاظ على الفطرة السليمة -دور التربية الإسلامية في الحفاظ على الفطرة السليمة

دور التربية الإسلامية في الحفاظ على الفطرة السليمة  

وسبل تعزيزه من خلال المؤسسات التربوية  

إعداد الطالبة:

أسماء عودة عطا الصوفي  

رسالة ماجستير -الجامعة الإسلامية، غزة/ فلسطين


اختصره: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ من جماليات هذا الدين الحنيف (الإسلام) أنه يُحافظ على الفطرة الإنسانية، ويضعها على خط الاعتدال بلا إفراط ولا تفريط، وذلك أن الفطرة هي الخلقة التي يكون عليها كل موجود أول خلقه، وبعبارةٍ أخرى الفطرة في جوهرها هي التوجه نحو الخير والتوحيد، فالإنسان مخلوق موحد بالفطرة.

وحيث إن الفطرة هي النظام التكويني الذي أوجده الله تعالى في كل مخلوق منذ إنشاء خلقه؛ فلا يختص بها نفر من الناس دون آخرين، أو زمان دون زمان، وإنما الفطرة التي قرن بها الدين الإسلامي مشتركةٌ بين الناس جميعاً، حيث قال ربنا: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (الروم: 30)، كذلك فإن الفطرة في مدلولها القرآني والنبوي لم تخرج عن نطاق مفهوم التوحيد الكلي لله تعالى.

ونلاحظ في تساؤلات الأطفال الصغار ما يدلُّ على هذه الفطرة، مثل قولهم: من خلق السماء؟ ولماذا هي زرقاء؟ وأين تذهب الشمس ليلاً؟ ولماذا لا يظهر القمـر في النهار؟ وغير ذلك من الأسئلة، فهذه الأسئلة كلها علامات تدل على الفطرة؛ فما الذي يدفع هؤلاء الأطفال إلى إلقاء هذه الأسئلة؟ إنها الفطرة المغروسة في أعماق نفوسهم؛ وهي بهذا الاعتبار تُشكل الاستعداد لقبول الخير والعلم.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "الفطرة هي السلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة"، فهي تعني السلامة والاستقامة، والتوجُّه نحو التوحيد ومعرفة الخالق سبحانه وتعالى.

والفطرة في المنزع السلوكي، هي الاستقامة والرحمة ومحبَّة الخير للعالم، قال ابن القيم رحمه الله: "الفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب وهي معرفة االله ومحبته وإيثاره على ما سواه، وفطرة عملية وهى الخصال، فالأولى تزكي الروح، وتطهر القلب، والثانية يها تطهر البدن وكل منهما تمد الأخرى وتقويها".

كذلك فإن الفطرة هي أحد أهم الطرق والمسالك التي يمكن من خلالها الكشف عن مقاصد الشريعة الإسلامية وتحديدها، وهي مؤثر مهم في الترجيح بين المقاصد حال تعارضها؛ حيث يستطيع الإنسان أن يُميز بين الخير والشر، والحق والباطل بمعناها الكلي.

وعن دور الأسرة -وهي أولى المؤسسات التربوية المسؤولة عن رعاية الفطرة-يتحدث الإمام أبو حامد الغزالي: "الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش فيه، ومائل إلى كل ما يمال به إليه ، فإذا عود الخير وعلمه نشا عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له".

كذلك فلابد للمدرسة -وهي المحطة التربوية الثانية -أن تقدم العقيدة الصحيحة والعلم الذي يُناسب قدرات الطفل، وتُساهم في تنقية المناهج من الشوائب التي تؤدي إلي انحراف الفطرة السوية، لأن الإنسان يولد على فطرة سوية، فيشوبها الفساد عن طريق المجتمع الفاسد فتقوم التربية الإسلامية بالدفاع عن الفطرة، ومقاومة كل تلك الانحرافات.

وعلى المجتمع -أيضاً - بما فيه من مساجد وأقران وأبناء الجيل أن يتحمل مسؤولياته في حماية أفراده، والحفاظ على فطرتهم، من أجل الوصول بأبنائنا إلى النجاة في الدنيا والآخرة، وذات الأمر يتعلق بالمجتمع في اختيار الصحبة الصالحة، ووسائل الإعلام المنضبطة، 

وخلاصة القول: أنه لا بُد من تربية هذا الجيل على لبنات الخير وأسس الاعتقاد السليم، والعمل على تنقية عقيدة الأفراد وفطرتهم من الخرافات والأوهام والأيدلوجيات المتعارضة مع عقيدة التوحيد والتأكيد على أهمية الربط بين العقيدة والعمل، وبيان أثر ذلك في بناء حضارة إنسانية متوازنة متميزة.

ومن مظاهر موافقة الإسلام للفطرة، ما يلي:

أولاً: الإيمان بوحدانية االله وعبوديته يُلبي حاجة الفطرة، فالإيمان بأنه سبحانه وتعالى مُتصفٌ بصفات الكمال، وأنه منزه عن صفات النقص، وهذا يلبي حاجة الفطرة إلى الكمال واليقين في الإيمان، يلجأ الفرد إليه ويجد بجواره الأمن والأمان، وهذه القضيَّة تتفق تماماً مع دين الإسلام.

ثانياً: الإيمان باليوم الآخر يلبي حاجة الفطرة إلى العدل المطلق الذي يتنافى وجوده في علاقات البشر مع بعضهم على سطح الأرض، فيسعى الإنسان إلى الخير السَّامي حتى يصل إلى الدرجات العلا في الجنة ويلبي حاجته الفطرية إلى العدل المطلق، الأمر الذي حثَّ الإسلام على الإيمان به، ومدح المؤمينن به.

ثالثاً: الإيمان بالأمور الغيبية يلبي حاجة الفطرة في مواجهة المجهول، ذلك أن الرغبة الفطرية تدفع بالإنسان إلى ضرورة الخروج من قيد الحس الذي يقف عنده الحيوان، وتجاوز ذلك إلى الإيمان بالعوالم الأخرى التي تُحيط بنا من حولنا، وهو ما جاء به الإسلام وهو بذلك يُحقق مطلباً من مطالب الفطرة. 

رابعاً: الاعتراف بالغرائز يُلبي حاجة الفطرة، فلم يأت الإسلام ليكبت النفس الإنسانية، وإنما جاء ليعطيها المجال لتتحرك وفق الضوابط الإسلامية، كل ذلك يُلبي حاجة الفطرة.

خامساً: القيود التي يفرضها الإسلام هي قيود من الفطرة ذاتها، فهو حين يكف الطاقات الإنسانية دون الإسراف يقيها من العطب والتلف ويتناسق في هذا مع الفطرة ويلبيها.

سادساً: تطبيق الشريعة الإسلامية في الدنيا، يلبي حاجة الفطرة إلى العدل والمساواة وحفظ الحقوق والحدِّ من الظلم، كما أن التشريع موافق للفطرة السليمة.

  • ما هي الأدلة العقلية التي تدلُّ على أن كل مولود يُولد على الفطرة، التي هي "الإسلام" ؟

الدليل الأول: نزوع الإنسان إلى التديُّن، والإقرار بوجود خالق عظيم وقادر على كل شيء، وهذا الخالق إما أن تكون محبته انفع للعبد أو عدمها أنفع له، والثاني فاسد، وهذه المحبة لما ينفعه إنما تحصل بسبب وجود قوة تعتقد الحق، وتحب النافع وهي الفطرة.

   الدليل الثاني: أن دين الإسلام إما أن يكون متماثلاً مع الأديان الأخرى، أو مرجوحاً، أو راجحاً عليها، فالأول والثاني باطلان بدليل نفرة الفطرة منها، وكونها طارئةً عليها، والثالث هو الحق؛ لأن الفطرة توجب رجحانه.

الدليل الثالث: إذا حصل للنفوس مُعَلّم ومخصص، حصلت على العلم والإرادة، ولكن التعليم والتخصيص لوحدهما لا يؤديان إلى العلم والإرادة، لولا وجود قوة في النفس تقبل ذلك وهي الفطرة.

الدليل الرابع: أن هناك قوة في النفس ترجح الحق على الباطل، وهذا دليل على كونها ولدت على الفطرة.

الدليل الخامس: تتميز النفس بالشعور والإرادة، وخلو النفس من الشعور والإرادة ممتنع، لأنه من لوازم وجودها، فمن البدهي أن يكون العبد لديه شعور تجاه خالقه متمثل في محبته وهذا الشعور هو الفطرة.

الدليل السادس: إما أن تكون الفطرة موجبة لمعرفة الحق دون العمل به كحال اليهود، أو العمل دون معرفة الحق كالنصارى؛ حيث قال الله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمتَ عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين} (الفاتحة: 6 -7)، أو موجبة لهما أو لا تقتضي احداً منهما.

"فإن كان الرابع (أن لا توجب معرفة الحق ولا العمل به): فيلزم أن يستوي عندها الصدق والكذب، والاعتقاد المطابق والفاسد، وإرادة ما ينفعها وإرادة ما يضرها، وهذا خلاف ما يعلم بالحس الباطن والظاهر وبالضرورة. 

وإن كان الأول: (وهو أن توجب العمل دون معرفة الحق) فيلزم أن يستوي عندها مع العمل أن تعلم وأن تجهل، وأن تهتدي وأن تضل، وأن لا يكون فيها مع استواء الدواعي الظاهرة ميل إلى أحدهما، وهو أيضا خلاف المعلوم بالحس والضرورة.

وإن كان الثاني (أن توجب العمل دون معرفة الحق): فيلزم أن يستوي عنده إرادة الخير النافع والشر الضار دائماً، إذا استوت الدواعي الخارجة، وهذا أيضا خلاف الحس الباطن والظاهر، وخلاف الضرورة، فتبين أنه لا يستوي عندها هذان بل يترجح عندها هذا وهذا جميعاً.

وحينئذ فلا تكون مفطورة لا على يهودية ولا على نصرانية، ويلزم أن تكون مفطورة على الحنيفية المتضمنة لمعرفة الحق والعمل به، وهو المطلوب.

أما عن نتائج هذه الدراسة التي توصلت إليها الباحثة؛ فهي:

1. كشفت الدراسة أن معاني كلمة فطرة ومشتقاتها في القرآن الكريم، لم تختلف عن معانيها في المعاجم اللغوية .

2. أن علماء المسلمين اختلفوا في مفهوم الفطرة إلى عدة أقوال، لكن أكثرهم فسرها بأنها الإسلام.

. 3. أوضحت الدراسة أن الناس مفطورون على التوحيد، وأن فطرة الإنسان خيِّره، وما يطرأ عليهم من انحراف وفساد يرجع لأسباب خارجية طارئة.

4. المقصود بقول الرسول صلى االله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة" أن فطرة المولود تستلزم الإقرار بالله الخالق، وليس المراد بالحديث العلم بالدين.

5. توافق الفطرة التي تتوافق مع خصائص الدين الإسلامي، وهذا يؤكد على أن الفطرة هي الإسلام.

6. بيَّنت الدراسة أن الفطرة تعد أساساً من أسس التربية الإسلامية، وهي عامل مؤثر في غرس الأخلاق الفاضلة لدى النشء وعنصر هام في تشكيل شخصياتهم المتوازنة .

7. أظهرت الدراسة أن للأسرة دوراً جوهريا في الحفاظ على فطرة الأبناء، يبدأ منذ اختيار الزوج لزوجته.

8. ضرورة تضافر الجهود والمؤسسات وتكامل دورها في الحفاظ على الفطرة السليمة لدى أفراد المجتمع.

  • دراسات أخرى ذات علاقة:

1- الدلالات التربوية المستنبطة من أحاديث سنن الفطرة في الإسلام؛ عبد الرحمن حدايدي.

2- حديث القرآن عن طبيعة الإنسان، أبو سالم.

3- إعجاز القرآن في دلالة الفطرة على الإيمان؛ د. سعد الشهراني.

4-الفطرة في ضوء مصادر التشريع الإسلامي ومقاصده؛ منصور.

5-العقيدة الإسلامية عقيدة عقلية تدفع إليها الفطرة الإنسانية وتدعو إلى الاستقرار النفسي؛ وجدان خليل الكركي.

6-الأساس الفطري في التربية الإسلامية؛ أ. د. أحمد الدغشي.

7-فقه خصال الفطرة؛ عبد الغفور جوهلي.

8-خصال الفطرة في الفقه الإسلامي؛ إبراهيم.






الأربعاء، 25 نوفمبر 2020

حكم شرب الدخان وإمامة من يتجاهر به -الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز

حكم شرب الدخان وإمامة من يتجاهر به

الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد/ قد دلت الأدلة الشرعية على أن شرب الدخان من الأمور المحرمة شرعاً لما اشتمل عليه من الأضرار في الدين والبدن والعقل؛ وضرره ثابتٌ بإجماع أهل الطب والمعرفة فهو سببٌ لكثيرٍ من الأمراض الضارة كالسرطانات، والسكتات القلبية، وأمراض الجلطات وتصلب الشرايين.

والله سبحانه لم يُبح لعباده من المطاعم والمشارب إلا ما كان طيباً نافعاً، وأما ما كان ضاراً لهم في دينهم ودنياهم، أو مُغيّراً لعقولهم فإن الله سبحانه قد حرَّمه عليهم، وقد قال تعالى في وصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (الأعراف: 157)، وهذا مقصدٌ شرعيٌّ عظيم، ولا شكَّ أن الدُّخان من جملة الخبائث المحرمة، ويؤدي شربه إلى أمراض متعددة تؤدي إلى الموت، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»، فالضرر بالجسم أو الإضرار بالغير منهي عنه، فشربه وبيعه حرام.

وهو عز وجل أرحم بعباده من أنفسهم، وتشتدُّ حرمة الدُّخان في حقِّ من كان فقيراً مُدخناً، أو مريضاً مُدخناً، وقد أصدرت الهيئات الشرعية في عددٍ من البلاد الإسلامية بحرمة التدخين، منها دار الإفتاء المصرية في (5/ سبتمبر/ 1999م)، وكذلك اللجنة الدائمة للبحوث، وغيرها من الهيئات ودور الفتوى.

ومن العجيب حقاً: أن كثيراً من المدخنين يعلمون خطر التدخين على الصحة والبيئة والمجتمع ومع ذلك يتهاونون في هذا الأمر الخطير! وذلك لغلبة الهوى، واستيلاء الشيطان والهوى على إرادة الإنسان، وضعف إرادة المُدخن عن مقاومة هذه السموم الفتاكة، وتقديم العادات على ما يُعلم ضرره، فإن العادات تُسيطر على عقل صاحبها وعلى إرادته.

ومن الآثار السيئة للتدخين على الفرد أنه يُثقل على العبد العبادات والقيام بالمأمورات، وخصوصاً الصيام، وكذلك فإنه يدعو صاحبه إلى مخالطة قرناء السُّوء، ويُزهِّد في مجالسة الأخيار كما هو مُشاهدٌ معلوم، ومن أعظم النقائص أن يكون العبد خليلاً للأشرار، مُتباعداً عن الأخيار، وقد يترتب على ذلك العداوة لأهل الخير والصلاح، والبغض لهم، والقدح فيهم، والزهد في طريقتهم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الرَّجلُ على دِينِ خليلِه، فلْينظُرْ أحدُكم مَن يُخالِلْ) رواه الترمذي، وحسنه الألباني.

ومن ابتلي بالتدخين من الصغار والكبار فقد دخل إلى مداخل قبيحة في السلوك والأخلاق، وكان ذلك عنواناً على انتكاس الفطرة، وكان التدخين باباً لشرور كثيرة؛ فضلاً عن ضرره الذاتي.

وقبل أن نشرع في بيان أضرار التدخين، نذكر حكم إمامة شارب الدُّخان وغيره من العُصاة، والذي رجّحه الإمام ابن باز في هذه الرسالة هو صحة إمامة المُدخِّن، قال: "وهذا هو القول الصحيح المعروف، ولكن الأصل أن لا يُتخذ إماماً مع وجود غيره".

أولاً: الأضرار الصحية للتدخين:

ومن الأضرار الصحية أنه يزيد نسبة الإصابة بأمراض القلب، والسكتة الدماغية خاصة عند النساء اللواتي يستعملن حبوب منع الحمل، كذلك يؤثر على اللسان ويُسبب التهابات وتقرحات متكررة، مما يؤدي في النهاية إلى سرطان اللسان.

ثانياً: الأضرار الاقتصادية للتدخين:

حيث أن التدخين هو تبديرٌ للمال دون فائدة؛ وقد نهى الله تعالى عن التبذير والإسراف فقال سبحانه: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (الإسراء: 26، 27).

وقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن إضاعة المال، وأيُّ إضاعةٍ أبلغ من حرقه في هذا التدخين الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع، ولا نفع فيه بوجهٍ من الوجوه، حتى إن كثيرً من المدمنين يغرمون الأموال الكثيرة في سبيل تحصيله، ولو بالاستدانة لأجل شرائه، وربما تركوا ما يجب عليهم من النفقات الواجبة على أهليهم وأولادهم، وهذا انحرافٌ عظيم، وضررٌ جسيم، فصرفُ الأموال فيما لا منفعة فيه منهيٌّ عنه، فكيف بصرفه في شيءٍ مُحقَّقٌ ضرره!!.

ثالثاً: الأضرار العقلية للتدخين:

وقد ثبت علمياً أن التدخين يُضعف الذاكرة ويُحدث خللاً في الدماغ؛ وقد يُسبب السرطانات الدماغية، وارتجاجاً في المخ.

رابعاً: الأضرار السلوكية للتدخين:

ولا شكَّ أن المُدخن يكون سلوكه في الغالب سيئاً، وذلك في بيته ومع أهله، وحتى مع أصدقائه في العمل، فهو في الغالب يشعر بحالةٍ سيئةٍ من القلق وأعصابه متوترة، مما يؤدي إلى نوبات عصبية ومعاملة حادة مع الآخرين.

خامساً: الأضرار الخَلْقيَّة للتدخين:

وقد أثبت الأطباء في تقارير علمية كثيرة، بأن الأشخاص الذين يُمارسون التدخين رجالاً أو نساءً تحدث لدى أطفالهم تشوهات خلقية، وذلك بسبب تعاطي الأم للتدخين في أشهر الحمل الأولى.

سادساً: الأضرار الاجتماعية للتدخين:

ولا أحد يُنكر الأضرار الفادحة التي يتسبب بها التدخين في المجتمعات والأسر المدخنة، من ظهور التشتت والتفكك وعدم الوئام، بالإضافة إلى عدم الاستقرار المالي، وعدم توفر الضروريات من الطعام والشراب وغيره مما تحتاجه الأسرة، وينتج عن ذلك الجوع والهلاك وشحوب وجوه الأطفال، وحدوث الخلافات الزوجية، التي ربما تؤدي إلى الطلاق في كثيرٍ من الأحيان.

سابعاً: الأضرار البيئية للتدخين:

وقد أثبت العلم أن ما يخرج من مخلفات التدخين مثل أول أكسيد الكربون، والغازات السامة، وغيرها من المواد الأخرى لها تأثيرها الكبير على البيئة وتلوث الجو، مما يؤدي إلى حدوث أضرار وأمراض خطيرة على صحة الأفراد والمجتمعات.

ثامناً: المخالفات الدينية للتدخين:

كذلك فإن ممارسة التدخين تُشكل مخالفة دينية واضحة، يقول الله عز وجل: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (الأعراف: 157)، وقال جل شأنه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (البقرة: 195)، وقال جل في علاه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء: 29).

وهذه الآيات الكريمة وغيرها حرَّم الله فيها كل خبيثٍ أو ضار، فكل ما يُستخبث أو يضرُّ الإنسان فإنه لا يحلُّ، والخُبث والضرر يُعرف بآثاره وما يترتب عليه من المفاسد، فإن التدخين ه مفاسد وأضراره كثيرة محسوسة، ولا تخفى على أحد، والمدمنون من أعرف الناس بها، ولكن إرادتهم ضعيفة، ونفوسهم تغلبهم مع شعورهم بالضرر، ولذلك قال العلماء: "يحرم كل طعامٍ أو شرابٍ فيه مضرَّة".


الخطوات العشر للتخلص من عادة التدخين السيئة:

أولاً: القناعة التامة بأنك واقعٌ في ذنبٍ وبلاء، ويجب عليك أن تسعى للتخلص منه، فإذا اقتنعت أنه شرٌّ؛ فستقلع عنه.

ثانياً: الرغبة الجادة، والعزيمة الصادقة في التخلص من هذا الوباء، وبشرط أن تكون هذه الرغبة نابعة من الداخل.

ثالثاً: التوبة النصوح إلى الله عز وجل؛ واجعل نيتك في التوبة أن تترك التدخين طاعةً لله، وابتغاء المثوبة والأجر مه.

رابعاً: تعرف على مخاطر وأضرار هذا البلاء، واطلع على تلك الصور المأساوية والأمراض الخبيثة التي يُعاني منها المدخنون لتكون عبرةً لك.

خامساً: استخدم البديل عن الدُّخان المُميت، بعود الأراك الطيب، أو السواك، الذي هو مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب.

سادساً: جاهد نفسك على الترك، ولا تترك لنفسك فرصة العبث بك، وليكن شعارك: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.

سابعاً: احذر ثم احذر من صحبة أهل الغيِّ والفساد؛ فإنه سبب البلاء، وهم سبب العودة للبلاء.

ثامناً: عليك بصحبة الصالحين ما أمكن إلى ذلك، فإنهم لا يأمرون إلا بخير، ولا يحثُّون إلا على الخير.

تاسعاً: اشغل وقتك بالمُفيد، واحذر الفراغ؛ فإن الفراغ يدعو صاحبه إلى ممارسة العادات السيئة، وليكن وقتك مشغولاً بالطاعات وإصلاح المعاش.

عاشراً: كثرة الدعاء والالتجاء إلى الله سبحانه بأن يُنجيك الله عز وجل مما أنت فيه، وأن يثبتك على الترك؛ فإن من قصد باب الكريم فإنه لا يُخيِّبه.




الاثنين، 23 نوفمبر 2020

صلاة العيدين في المُصلى هي السُّنة -بقلم محمد ناصر الدين الألباني

صلاة العيدين في المُصلى هي السُّنة

بقلم محمد ناصر الدين الألباني

المكتب الإسلامي، ط 3، 1986 م.


تمهيد/  هذه رسالة لطيفة في بيان أن صلاة العيدين في المصلى هي السنة. قال المؤلف - رحمه الله - «فهذه رسالة لطيفة في إثبات أن صلاة العيدين في المُصلى خارج البلد هي السنة، كنتُ قد ألفتها منذ ثلاثين سنة، رداً على بعض المبتدعة الذين حاربوا إحياءَنا لهذه السنة في دمشق المحروسة أشد المحاربة، بعد أنْ صارتْ عند الجماهير نسياً منسياً، لا فرق في ذلك بين الخاصة والعامة، إلا منْ شاء الله».

وأن هذا الأمر هو المشروع في كل زمانٍ وبلد، إلا لضرورةٍ كمطرٍ ونحوه، وهو مذهب الأئمة الأربعة، واختار الشافعيُّ الصلاة في المسجد إن كان يسعهم، والصحيح قول الجماهير.

وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يواظب على أدائها في (المُصلى)، وهو موضعٍ معروف بالمدينة، قريباً من مقبرة البقيع، (وكان بينه وبين مسجده حوالى ألف ذراع= 640 متر، إلى الجهة الشرقية من المسجد)، وكانوا يجتمعون عند شيءٍ شاخص مثل العلم.

فإذا جاء يوم العيد (الأضحى أو الفطر)، برز الناس من أهل القرى أو المُدن إلى أرضٍ فضاء، بحضرة منازلهم، ضحوةً، أثر ابيضاض الشمس، وحين ابتداء جواز التطوُّع، وهو وقت صلاة العيد.

  • الأحاديث الواردة في الرسالة:

الحديث الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم، ويوصيهم، ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك.... ". (رواه البخاري ومسلم، وغيرهما).

الحديث الثاني: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان صلى الله عليه وسلم يغدو إلى المصلى في يوم العيد، والعَنَزة تُحمل بين يديه، فإذا بلغ المصلى نصبت بين يديه فيصلي إليها وذلك أن المصلى كان فضاء ليس فيه شيء يستتر به" (رواه البخاري ومسلم). [العنزة: مثل الرمح القصير].

الحديث الثالث: عن البراء بن عازب قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أضحى إلى البقيع -وفي رواية: (إلى المُصلى)- فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه، وقال: "إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع فننحر؛ فمن فعل ذلك، فقد وافق سنتنا ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو شيء عجله لأهله ليس من النسك في شيء" (رواه البخاري).

الحديث الرابع: عن ابن عباس قيل له: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولولا مكاني من الصغر ما شهدته حتى أتى العَلَم الذي عند دار كثير بن الصلت (أي: مكانها، وهذه الدار أُحدثت بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم) فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة، فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال، ثم انطلق هو وبلال إلى بيته" (رواه البخاري ومسلم).

  • فوائد من هذه الأحاديث:

(1) أنه لا يلزم موعظة النساءموعظة خاصة؛ لوجود مكبرات الصوت اليوم، ولكن يُستحبُّ أن يُنوِّهَ بذكر شيءٍ ينفعُهُنَّ في موعظته.

(2) استحباب الصدقة في يوم العيد.

(3) أن السنة في صلاة العيد أن يخرج الإمام والناس لصلاتها في المُصلَّى والصحراء، إلا من عُذر فيُصلي في المسجد داخل البلد.

(4) أن صلاة العيدين في المُصلى أفضل من فعلها في المسجد.

(5) أن أهل (المسجد الحرام) يُصلون في مسجدهم، لأنه لا توجد ساحة قريبة من البيت، ولأن مكة بين جبال لا ساحة فيها.

وقيل: صلاة العيد في المسجد الحرام أفضل؛ لأنه خير بقاع الدُّنيا، فلا يُعدل عنه إلى غيره؟!.

وهذا القول ضعيفٌ من جهة القياس؛ لأن المقصود اجتماع الناس، لا اختيار أفضل البقاع، ولو كان ذلك كذلك لكانت الصلاة في مسجده الشريف أولى من الصلاة خارج المدينة، فإن الصلاة فيه بألف صلاة.

(6) أنه لا علاقة لسعة المسجد وضيقه بصلاة العيد في المُصلى، لأن الناس كانوا يجتمعون في مسجده الشريف صلى الله عليه وسلم لصلاة الجمعة، وكانوا يأتونه من عوالي المدينة وغيرها، ومع ذلك لم يكن ينتقل إلى المُصلى، وهذا أمرٌ ليس عليه دليل.

(7) أن صلاة العيد في المسجد لا تُسمى بدعة، وأنها صحيحة مُجزئة.

(8) وأن تعليل اختيار النبيِّ صلى الله عليه وسلم المصلى دون المسجد، بأنه لم يكن إلا مسجدٌ واحد خطأ، فإن المساجد في المدينة كثير، أشهرها مسجد قباء، والقبلتين، والفتح كما ذكرها الحافظ في الفتح (1/ 445).

(9) جواز صلاة العيد في المسجد، وهو خلاف الأولى، كذلك فإن ترك الناس الصلاة في تلك المساجد يوم العيد وصلاتهم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في المُصلى، دليلٌ واضح على أنَّ السُّنة صلاتها فيه دون المساجد.

(10) أن الحكمة من الصلاة في المُصلَّى هو شهود دعوة المسلمين، وعطفٌ الأغنياء على الفقراء والتصدق عليهم، وإظهار الفرحة وشعائر الدين، ولإظهار شوكة المسلمين، والتنويه بكثرتهم، واجتماعهم.

----------------------------------------

اختصره: أ. محمد حنونة.