خدعة هرمجدون
تأليف محمد بن إسماعيل المقدم
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: الإنسان كائن مُفكّر بطبعه، فإن لم تملأ عقله وقلبه بالتصورات الصحيحة، امتلأ بالخطأ واستحوذ عليه الشيطان، وقد شاع في العقد الثاني من الألقية الثانية ظاهرة مُحدثة، وهي الخوض في علامات آخر الزمان وأشراط الساعة، وحفل كثيرٌ منها بالمجاوزات والمآخذ الكثيرة، ومن ذلك الحديث عما يُسمى (معركة هرمجدون).
وهرمجدون ((Armageddon كلمة عبرية، مكونة من مقطعين (هور أو هار) ومعناها الجبل، و(مجدون) اسم وادي في فلسطين، يقع في مرج ابن عامر، ويبعد حوالي 55 ميلاً شمال تل أبيب، و20 ميلاً جنوب شرق حيفا، و15 ميلاً من شاء البحر المتوسط. وقد علق القس "د. فرنسيس راميدسن" على هذا المصطلح بأنه مجهول؛ إذ لا يوجد جبل في مجدو!
الخطير في الأمر أن بعض المسلمين يروجون لهذه المعركة باعتبارها مرادفة "للملحمة" التي أخبر عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان، بل قبلوا هذا المصطلح العبري الدخيل، وحاولوا أسلمته دون إدراك الأبعاد الخطيرة التي يروج لها. والتي أهمها "صهينة المسلمين" لما يترتب على اعتقاد هذه المعركة من أمور، منها:
1-اعتقاد ضرورة وجود يهودي على أرض فلسطين.
2-اعتقاد وجوب قيام دولة إسرائيل.
3-اعتقاد أن القدس يجب أن تكون عاصمة يهودية.
4-اعتقاد أن الهيكل يجب إعادة بناؤه بعد نسف المسجد الأقصى وقبة الصخرة.
وهذه الأمور الثلاثة هي الممهدة لهذه المعركة في اعتقاد اليهود والنصارى جميعاً، ذلك أن هدم المسجد الأقصى وقبة الصخة سيستفز العالم الإسلامي للدخول في حرب مع إسرائيل، حينها سيظهر المسيح لإنقاذ إسرائيل.
وقد روّج اليهود لمعركة هرمجدون في الفكر النصراني الغربي، وأنفقوا في ذلك الأموال الطائلة، من أجل ترسيخ هذا المفهوم في عقل الغربي الخاوي؛ لأنها تخدم أهدافهم السياسية في تكوين وطن قومي لهم في فلسطين، ويساعدهم في السيطرة على العالم من ناحية أخرى.
فيعتقد النصارى: أن هرمجدون هي مجزرة بشرية هائلة، أو حرب نووية، تباد فيها مُعظم البشرية؛ وهي بزعمهم بين قوى الشر ممثلة بالشيطان ومعه المسلمون وبعض الروس، وبين قوى الخير ممثلة بالمسيح وقواته من الملائكة التي ستزامنه في عودته، ومن ضمن قوى الخير الشعب الأمريكي، وعقب المعركة يقبض المسيح على الشيطان ويأسره ويسجنه، وفي أثناء المعركة يُرفع الأبرار من النصارى إلى السحاب لمراقبة ما يجري، ثم يعودون سالمين إلى الأرض ليعيشوا مع المسيح ألف سنة في الفردوس الأرضي.
وفي اعتقاد اليهود: هرمجدون هي معركة هائلة تفنى فيها معظم البشرية، وتكون بدخول الألفية الثالثة التي هي نهاية دورة الزمان في التاريخ اليهودي، ويأتي مسيحهم المزعوم لتبدأ دورته في السلام، بعد أن يقضي على كل أعداء إسرائيل؛ وللك فهم يستعجلون قدومه، وقد قامت دولته ووحدت عاصمته وجُهز هيكله الذي سيحكم منه العالم، وبقي معركة "هرمجدون" و"الألفية السعيدة"، و"عودة مسيحهم".
ونظرية النصارى المتعلقة بعودة المسيح، قائمة على أن المسيح لن يأتي إلا بعد عودة الدجال (مسيح اليهود)، وعودة الدجال يعني عودة الهود قبله إلى القدس، وهدمهم للأقصى وبناء هيكلهم وذبحهم للبقرة، فهم في نظر النصارى شرٌّ لا بُد منه، والدجال قدرٌ لا بُد من مواجهته، وعليه فلا يكون اختيار إلا بالاعتناء باليهود، والحرص على دولتهم.
فاليهود ضروريون بالنسبة للأمل المسيحي في الخلاص، هذا مع أن كلاهما متنافرين في جذور العقيدة، ومتنافرين في قضايا التوحيد والبعث، ومن هنا نفه كيف استساغ كثير من النصارى ومبرزيهم في هذا العصر أن ينسبوا أنفسهم إلى الصهيونية مع بقائهم على دين النصرانية.
وعليه "فهرمجدون" هي حرب عالمية ثالثة، وأكثر من وصفها، قال بأنها: حرب نووية، ويعتبرون ذلك تنفيذٌ لمشيئة الرب! ولعل هذا يفسر لنا الانحياز الأمريكي الأعمى إلى جانب الكيان الصهيوني، رغم ما يرتكبه من جرائم وفظائع، ولماذا يوضع هذا الكيان فوق كل القوانين ويُستثنى من كل الإجراءات بما في ذلك التفتيش عن الأسلحة النووية والبيولوجية. وقد جعل الإنجليون في أمريكا وراء كل مذبحة وجريمة يهودية نبوءة توراتية مُزيفة أو مُحرّفة، وليس أمام الآخرين سوى الرضوخ لإرادة الله بحسب زعمهم.
وقد ذهب بعض الباحثين المسلمين (المتخصصين في كتب أهل الكتاب) إلى أن المقصود من "هرمجدون" هو معركة اليرموك بالمفهوم الإسلامي، والتي حدثت سنة 638م، بالقرب من الموقعة التي يشير إليها مصطلح "هارمجدون"، وظفر فيها المسلمون على النصارى.
وهذا الكتاب يُسلط الضوء على هذه المعركة، وفيه رد على أدعياء الدين الإبراهيمي، وتناوله العلاقة الحميمة التي نشأت بين اليهود والنصارى على يد "مارتن لوثر" (قائد ما يُسمى بحركة الإصلاح الديني داخل المذهب البروتستانتي)، والذي دعا على تعظيم اليهود وإجلالهم، باعتبار أن الكتاب المقدس جاء عن طريق اليهود، وأن المسيح ولد يهودياً.
ومن هنا نشأت الحركة الصهيونية النصرانية، التي دعت إلى قيام دولة الكيان على أرض فلسطين، وكان "لوثر" يهدف من خلال هذا التقريب إلى تحويل اليهود إلى المذهب البروتستانتي، ولكن بدلاً من أن يفعلوا ذلك، كان اليهود يقيمون احتفالات لضم النصارى إلى ديانتهم، ولذلك انقلب عليهم "لوثر" وعبّر عن بُغضه لهم في كتابه "ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم"، والذي وضعه عام 1544م، وطالب فيه بطردهم من ألمانيا.
وفي ظل هذا التعاطي مع هذه القضية (وهي أن قيام مملكة إسرائيل هو الطريق للمجيء الثاني للمسيح) قرر الكاثوليك الانضمام إلى التيار الصهيومسيحي، معتقدين أن من سيتبقى من اليهود بعد مجيء المسيح لن يكون أمامهم سوى اتباعه والإيمان به، وأما بقيتهم من غير المؤمنين به؛ فسوف يقتلهم المسيح مع أعدائه.
وتطورت العلاقات بين النصارى واليهود في أكبر بلدان العالم وأكثرها قوة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تبنّت هذا المشروع، بناءً على التراث التاريخي والروحي، ويرى نصارى أمريكا أن الله اختار الولايات المتحدة وباركها من أجل إسرائيل. كما يؤمن كثيرٌ من النصارى الأمريكيون بأن إنشاء دولة إسرائيل عام 1948م جاء كتحصيل للنبوءات التوراتية، وأن انتصارها في حرب عام 1967م واحتلال القدس هو تأكيدٌ لهذه النبوءات.
بل عن اليمين المسيحي في الولايات المتحدة كان مُستعداً، بل راغباً في اشتعال حرب نووية من أجل إسرائيل تحقيقاً للنبوءات التوارتية المتعلقة بقدوم المسيح. إذن ربط النصارى مصيرهم وعقيدتهم بدولة إسرائيل التي تُعد تحقيقاً لإرادة المسيح كما يقولون، وإيذاناً بعودته مرة أخرى إلى الأرض فكل طرفٍ كما ترى يحاور الآخر ويُراهن عليه، ويضمه لجانبه طمعاً في جعله من جملة أتباعه.
وقد بين قادة إسرائيل أن بقاء دولتهم مرهون بالدعم الأمريكي والنصراني، وصرّح بذلك حاييم وايزمان (مؤسس الصهيونية العالمية)، وبن غوريون، الذي قال: إن نجاح إسرائيل قائم على 97.5% من دعم السياسة المسيحية التوراتية و2.5% على القوة العسكرية الداخلية. وأشار لذلك نتنياهو في إحدى تصريحاته.
ومما ينبغي معرفته أن هذا التمهيد لمجيء المسيح لم يكن وليد القرن العشرين، بل سبق إلى ذلك "كريستوفر كولومبس" الذي يعتقد أن مغامرته في اكتشاف العالم الجديد تأتي ضمن خطته لعودة المسيح، وبدء الألف عام السعيدة، وتحرير أورشليم من المسلمين، وإعادة بناء المعبد. وكذلك "نابليون بونابرت" في حملته المصرية عام 1799م وجّه نداءه ليهود العالم لينضموا إلى جيشه لإعادة ما سماه مجد اليهود الضائع في القدس.
وأخيراً: هناك فروق جوهرية بين "الملحمة" التي يعتقد بها المسلمون، وبين معركة "هرمجدون" التي يؤمن بها النصارى، وأبرزها:
أولاً: أن خبر "الملحمة" ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أما "هرمجدون" فهو اصطلاح نصراني إسرائيلي، لا يُدرى مصداقيته ولا صحته، وهو مجرد اسم للموضع يُدّعى أن المعركة ستقع فيه، في حين أنه ثبتت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم تسمية موضع الملحمة بأنه "الأعماق" أو "دابق" موضعان بالشام قرب حلب.
ثانياً: أن "الملحمة" ستقع بين أهل الإسلام وبين الروم والنصارى، في حين يدّعي أهل الكتاب أن "هرمجدون" طرفاها قوى الشر ممثلة بالمسلمين، وقوى الخير ممثلة بالنصارى واليهود.
ثالثاً: أن عاقبة "الملحمة" هو انتصار المسلمين على أعدائهم، في حين يدعي أصحاب "هرمجدون" أن الغلبة للنصارى. كما يؤمن المسلمون أن المسيح عليه السلام حينما ينزل؛ فإنه لن يخرج مع النصارى، بل سيخرج عليهم؛ فيكسر صليبهم، ويقضي على دجال اليهود (مسيحهم)، ويضع الجزية، ولن يقبل حينها إلا الإسلام.
رابعاً: حدد النصارى موعد "هرمجدون" التي ينتظرون منها قدوم المسيح –على رأس الألف أو خلالها، وهم على أعتاب الألف الثالثة، وأما الأحاديث النبوية فلم تُحدد موعداً "للملحمة" سوى أنها من أشراط الساعة.
خامساً: أن الترويج لمعركة "هرمجدون" هو ترويج لمفاهيم يهودية نصرانية لا أصل لها في الإسلام، بل هذا يُعتبر تسليم لليهود الغاصبين لهذه الأرض، وانضمام لهذا القطيع الصائر إلى مصيره المحتوم، واستسلام لمخططات اليهود وإفسادهم.
سادساً: أن "هرمجدون" ضد السنن الكونية والشرعية، و"الملحمة" متوافقة معها، و"هرمجدون" يأس وقنوط، و"الملحمة" بُشرى وأمل. "هرمجدون" تدعو إلى استحضار هزيمتنا كأمر واقع، و"الملحمة" انتصار للمسلمين وهو الأمر الواقع، والوعد الحق، وهو أمر شرعي قدري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق