كتاب الإبادة (في الأندلس)
للمؤلف أحمد رائف
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: هذه الأوراق القاتمة من تاريخنا، والتي ترسم تلك المجازر المروعة التي تعرض لها المسلمون في الأندلس، وقصة الضياع الكاملة لفردوس المغرب العربي، بعد ثمانية قرون من الحكم الإسلامي الحنيف، والتي لن تملك عند قراءتها سوى أن تقول: "ما أشبه الليلة بالبارحة"، و "ما أشبه الفاجعة بالفجعة".
لقد سقط هذا الثغر العزيز بما اجتاح بلاد المسلمين من الغفلة العارمة، فتسلط عليهم أهل الباطل، وكانوا أداة عقابهم. وجرى عليهم من الأحداث الكبرى الحارقة للأكباد ما يقف القلم عاجزاً عن وصفه. حتى جاء الورثة السفهاء الذين جعلوا من قصة هذه المأساة رواية يتسلون بها أمام المدفأة في ليالي الشتاء.
لقد نزلت الإبادة بسكينها، فتم محو شعب نابض بأكمله، وهو الأمر الذي يتكرر هنا في "قطاع غزة" منذ أكثر من سنة ونيف، حيث القتل المرعب، والكرامة الضائعة، والهوان الذي تمرّغ الناس بترابه، وكأنها الحلقة الأخيرة في مسلسل الإجرام الذي لم تنتهي فصوله، فجاءت هذه الأخيرة لتقطع عن زعماء المسلمين وقياداتهم -بما فيهم قادة الجماعات الوطنية -أي فرص للتعلم من التاريخ؛ الذي نراه يحفر لنفسه مجرى يقود إلى نهاية يتضاءل فيها الأمل، لتستمر الفاجعة والمحرقة.
وقد نقّر المؤلف عن السنن الإلهية الثابتة التي تسير بنفس النسق والتتابع، وتفسر كثيراً من الأحداث في الأندلس الضائع، والتي تمثل سُنة الدول ودروس التاريخ، مستفيداً من البُعد الغيبي الذي سجلت صفحات التاريخ جملةً ظاهرة منه، ليعيد التاريخ دورته، ويؤكد أن ما جرى بالأمس فإنه يتكرر اليوم، ابتداءً من الهند التي استولى عليها الإنجليز، ثم الهندوس. والولايات الإسلامية التي استولت عليها روسيا القيصرية، ومن بعدها روسيا السوفيتية، ثم أندونيسيا والفلبين وتايلاند الذي يبتلعها التنصير، ومعها بلاد إفريقية التي تتلاشى، حتى قبل أن نعي أنها كانت جزءاً من أرض الإسلام، وبلغاريا وألبانيا والبوسنة والهرسك التي انتهكتها الحملات الصربية، مروراً بأفغانستان وكشمير والعراق ولبنان، وآخرها فلسطين، ثم غزة!
لقد أدرك ابن تاشفين أن مشكلة الأندلس تكمن في "ملوك الطوائف"؛ فقرر القضاء عليها وتوحيد مملكة قوية تصمد أمام المد النصراني، وهي مشكلتنا الغزية القديمة الجديدة، حيث عانى شعبنا فيما لا يزال من الانقسام بين الطوائف المتناحرة على السلطة، والتي انشطرت على نفسها وعلى أرضها لتلد لنا عشرات الطوائف والأحزاب، إذن لا بُد من القضاء على هذا الانقسام الذي هو جريمة كبرى، وعبث بقضية ومستقبل بلادنا فلسطين.
ورأينا كيف أنتجت لنا قنوات الإعلام صوراً خادعة عن هذه الجريمة، ونشرت عشرات اللقاءات التي تُهان فيها الوطنية، وتؤجج فيها الصراعات الحزبية باسم الدين تارةً، وباسم المقاومة تارةً أخرى، نطق فيها الرويبضة وأنصاف الشيوخ وعاهات الفكر، حتى نشب الصراع، وحدث الانقسام، وتمكنت الرواية الإعلامية من زراعة الوهم في أن مصالحةً لا يمكن أن تتم، وأسدلت على ذلك نُتفاً من الأحداث، تجعل المشاهد غارقاً في سيل من الأوهام، وإن ضاعت منه فهو يبحث عنها.
نتذكر في هذه الإبادة كيف كان ملوك بني الأحمر يحكمون البلاد الإسلامية، بأحقادهم وإحنهم، وحكمهم على الحكم والعروش، ويلعبون بمستقبل البلاد والعباد، والقشتاليون يكسبون كل يوم أراضي جديدة، ويوقعون العداوة والبغضاء بين بني الأحمر. وتنطلق صيحات المصلحين والدعاة المسلمين، فلا تكاد تبين وسط جوقة صاخبة يغذيها الحقد الأعمى بين ملوك بني الأحمر. وبنفس الطريقة ضاعت فلسطين بين الطوائف المتناحرة التي تواثبت تواثب القرود على كرسي الحكم والسلطة، وهذا غايتهم من العلم والعمل.
ونقرأ في هذا الكتاب كيف كان الشعب المسلم وحيداً في هذه المحرقة بلا نصير، أما الحكومات الإسلامية فهي خائنة بلا ضمير، أما الطوائف فهي تحترف الحرب وتبيع فنونها وقدرتها على القتال لمن يدفع أكثر في تلك الجيوب الصغيرة، حتى حكموا على بلادهم بالانهيار، ودولتهم بالسقوط، في عالم اختلط فيه الغث بالثمين، وامتزجت فيه المفاهيم الصالحة بالقصود السيئة. وقتل من المسلمين آنذاك أكثر من ثلاثين ألفاً، ومن نجوا منهم تم اعتقالهم واقتيادهم إلى محاكم التفتيش، وحكم على الأسرى بأحكام ما بين تقطيع وحرق وتذويب وتمزيق ونشر، في أحداثٍ مؤلمة وبشعة لا يمكن وصفها، ومن بقي لم يكن أمامه سوى الهجرة أو الدخول في النصرانية، وهكذا ختمت قضية الأندلس بأبشع ستار وأقتمه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق