أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 16 نوفمبر 2024

التفهم لما أشكل من مسائل القضاء والقدر د. جابر وليد السميري بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

التفهم لما أشكل من مسائل القضاء والقدر

د. جابر وليد السميري

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 

تمهيد: تضمن هذا البحث خمس مسائل هامة من مسائل القضاء والقدر، مما عسُر فهمه على بعض العوام، وأشكل معناه على كثير من الحركيين، والتي مثّلت في الزمن الغابر مذهباً لبعض الفرق الضالة من قدرية وجبرية ودهرية، ويمكن إجمال هذه المسائل فيما يلي:

الأولى: فساد الاحتجاج بالقدر على المعايب.

الثانية: صواب الاحتجاج بالقدر على المصايب.

الثالثة: علاقة الدّعاء والتوكل بالقضاء والقدر.

الرابعة: التفريق بين القضاء والمقضي، والقدر والمقدور وعدم التسوية بينهما.

الخامسة: بيان أنه لا تعارض بين الإيمان بالقدر وبين العمل والأخذ بالأسباب.

ولعلي أثبت هنا الفرق بين الرضا بالقضاء والرضا بالمقضي، مما أفادني به بعض الأفاضل، يقول -وفقه الله: يقع الخَلْطُ واللَّبسُ كثيرًا بين الدعاةِ والوُعّاظ حول مفهوم الرضا بالقضاء والرضا بالمقضيّ، حتى يتوهَّم المُتلَقي أنهما واحد، وليس الأمر كذلك. إنّ الرضا بالقضاءِ واجبٌ، وفي الحديث الصحيح: "وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ".

أمّا الرضا بالمَقضِيّ -الذي هو أثَرٌ للقضاء- فليس بواجبٍ على الإطلاق، بل قد يكون واجبًا، وقد يكون مباحًا، وقد يكون مندوبًا، وقد يكون حرامًا، وقد يكون كُفرًا.

قال القَرَافِيّ: "الرضا بالقضاءِ واجبٌ على الإطلاقِ. أمّا المَقضِيُّ والمَقدُورُ فهو أَثَرُ القضاءِ والقَدَرِ، وليس الرضا بالمقضيّ واجبًا على الإطلاقِ. والصوابُ أنّ الرضا به قد يكونُ واجبًا كالإيمانِ باللهِ -تعالَى- والواجباتِ إذا قَدَّرَها اللهُ -تعالَى- للإنسانِ، وقد يكون المقضيّ مَندوبًا كَمَا في المَندُوبات، وحرامًا كما في المُحَرَّمات، ومُباحًا في المباحات، والرضا بالكُفرِ كُفرٌ".

قال ابن عربي: "لا يَلْزَمُ الراضي بالقضاءِ الرضا بالمَقضِيّ، فالقضاءُ حُكْمُ اللهِ وهو الذي أَمَرَنَا بالرضا به، والمقضِيّ هو المَحكومُ به فلا يَلْزَمُ الرضا به".

وقد ذكر القَرَافي فرقًا بين الرضا بالقضاء وبين الرضا بالمقضيِّ، حيثُ ضَرَبَ مثالًا للمريض والطبيب، فإذا وَصَفَ الطبيبُ للمريضِ دواءً مُرًّا، أو قَطَعَ يَدَهُ المُتآكلة، ثم قال المريض: بئس ما فَعَلَ الطبيب، وبئست معالجته وترتيبه، وإنّ غَيْرَهُ يُداوي أيسرَ منه وأفضلَ؛ فإنّ هذا تَسَخُّط بقضاءِ الطبيب، وأذًى له، وجنايةٌ عليه، ولو سمعه الطبيبُ لَكَرِهَ ذلك وشَقَّ عليه. لكنْ إنْ قال المريض: الدواءُ الذي وَصَفَهُ لي الطبيبُ مُرّ كالعلقم، وقد قاسَيْتُ منه الشدائدَ والصعاب، وقَطْعُ اليدِ حَصَلَ لي منها آلامٌ عظيمةٌ مؤلمة؛ فهذا تسخُّطٌ وكُرهٌ بالمقضيّ الذي هو الدواء والقَطع، وليس تسخُّطًا بالقضاء الذي هو ترتيب الطبيب ومعالجته، وهذا ليس عيبًا في الطبيب ولا قَدْحًا له، ولا يُؤذيه إذا سمع ذلك. فالأوّل: ساخِطٌ على الطبيب وعلى حُكمه، والثاني: راضٍ بِحُكم الطبيب كارِهٌ لِمَا حَكَمَ به من الدواء.

وعلى هذا فإنّ الإنسان إذا ابتُلِيَ بمرضٍ أو مصيبةٍ وتألّم منها بمقتضى طبعه فهذا ليس عدم رضا بالقضاء، بل عدم رضا بالمقضيّ به. فإنْ قال: ماذا فعلتُ حتى أصابني ذلك؟ وما ذنبي؟ وهل أستحقُّ هذا المرض؟ فهذا عدم رضا بالقضاء. ونحنُ مأمورون بالرضا بالقضاء، ولا نَتَعَرَّضُ لِمّا قَدَّرَهُ الله -تعالى- إلا بالإجلال والتعظيم.

 قال الغزالي: "مَنْ لم يرضَ بالقضاء يَكُنْ مهمومًا، مشغولَ القلبِ أبدًا بأنه: لِمَ كان كذا؟ ولماذا لا يكون كذا؟ فإذا اشتغل القلبُ بشيء من هذه الهموم كيف يتفرغ للعبادة؟ إذ ليس للإنسان إلا قلب واحد".

وهذا يفسر لنا تقسيم العلماء لمنازل الناس مع الأقدار المؤلمة على أربعة أقسام: الساخط المَوْزُور، والصابر، والراضي، والشاكر (وهو أعلاها). 

وفي وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: "وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا".

 والشاهد قوله: (على ما تَكْرَه) فَحَضَّهُ على الصبر مع عِلمه أنّه كاره للمَقضِيّ به لأنه قَدَرٌ مؤلم.

وقال ابن رجب في شرحه للحديث: "يعني: أنّ ما أصابَ العبدَ مِنَ المصائبِ المُؤْلِمَةِ المكتوبةِ عليهِ إذا صَبَرَ عليها، كان له في الصبرِ خيرٌ كثيرٌ". 

وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "أصبحتُ وما لي سرورٌ إلا في مواضِعِ القَدَرِ".

فَعَلَى الدعاةِ أنْ يَعُوا جيدًا أننا لم نُؤمر بأنْ تَطِيبَ لنا البلايا والرزايا ومُؤلمات الحوادث، قال أبو بكرٍ الصديقُ رضي اللهُ عنه: "لَأَنْ أُعافَى فأَشكُر، أَحَبُّ إليَّ مِنْ أن أُبتلَى فأصبر".

 وقال القَرافي: "لَمْ تَرِدِ الشريعةُ بتكليفِ أَحَدٍ بما ليس في طبعه، ولم يُؤْمَرِ الأَرْمَدُ باستطابةِ الرَّمَدِ المُؤلم، ولا غيرِه مِنَ المرضِ، بل ذَمَّ اللهُ قومًا لا يتألّمون، ولا يَجِدُونَ للبأساء وَقْعًا؛ فَذَمَّهُمْ بقولِه تعالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}، فَمَنْ لَمْ يَسْكُنْ ولم يَذِلَّ للمُؤْلِمَاتِ ويُظْهِرِ الجَزَعَ منها ويَسألْ رَبَّهُ إقالةَ العَثْرَةِ منها فَهُوَ جَبّارٌ عَنِيدٌ بَعِيدٌ عن طُرُقِ الخيرِ".

مقدمة:

 الحمد الله الذي قدر فهدى، والذي خلق فسوى، وصلى الله وسلم على من رسم طريق الهدى وحذر من مسالك الردى، وبعد:

فقـد تأملت فيما كتب في مادة القضاء والقدر فألفيتها مختصرة حيناً ومجملة حيناً آخر وقد جمعت في طياتها عبارات وأبواب تحتاج إلى تهذيب وتبيين، ولما كانت الكتابة فـي مـثل هذا الموضوع خطيرة ودقيقة وتحتاج إلى عناية، ولكونها أيضاً كتابة مهمة في موضـوع عقائدي يشكل ركناً من أركان الإيمان له قيمته العلمية وآثاره العملية، ويحتاجه ذو الهمـة العالية فضلاً عن غيره، ولما اتسم هذا النوع من العلم المفيد الذي لا ينفع فيه  التقليد دون البحـث والعمق، وجدت نفسي راغبة في التشمير والكتابة فيما عن لي من مسائل عديدة رأيت أنها تحتاج إلى توضيح وتقريب كي تستوعب ويفهم ما فيها من معاني عظيمة، ومفاهيم كريمة تربط العبد بربه وتقربه إليه.

وهـذه القضـايا القدرية التي استوعبها هذا البحث كانت بمثابة شبهات ومزلات أقـدام، تعثر في فهمها كثير من العباد، وترتب على عدم فهمها أعمال ومسالك وأخلاق لا تحمد، بل كانت شاذة مخالفة لنظام الشريعة، مما أدى إلى ضلال فاحش، يحتاج لمن يصـححه ويـرده إلـى الصراط المستقيم، إذ لا تعارض بين القدر والشرع، ولا بين المنقول والمعقول، فالكل قد نظمه رب العالمين وأحكمه.

 وقـد رأيت أن تكون هذه القضايا القدرية معدودة في خمس قضايا وهي:

 أولاً: الاحتجاج بالقدر على المعاصي.

 ثانياً: سبق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال.

 ثالثاً: أثر العمل والسبب على القدر المكتوب.

 رابعاً: ضرورة التفريق بين القضاء والمقضي.

 خامساً: ضرورة وضع المشيئة حيث نظمتها الشريعة

 وقـد حاولـت جاهداً أن أزيل الشبهات وأرسم الطريق لتفهيم هذه القضايا، فإن وفقـت فإني لله حامد على هذا الغنم، وإن كانت الأخرى فإني أستغفر الله وأتوب إليه.

 وأسأله تعالى أن يرشدني إلى ما فيه الخير، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.

 المطلب الأول: الاحتجاج بالقدر على المعصية فيه رد للشريعة وإبطال لنظامها، وفيه تسوية بين أفعال المجرمين والمحسنين

 مـن أعظم مخاطر هذه القضية إبطال حجة الأنبياء والرسل على الخلق وتحميل القدر مسئولية جرائـم البشرية أو كما يقول ابن القيم: (فما احتج بالقدر على إبطال الأمر والنهي إلا مـن هو من أجهل الناس وأظلمهم وأتبعهم لهواه)

 [شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم، تحقيق د. السيد محمد السيد، وسعيد محمود، دار الحديث، القاهرة، ط٢ سنة ١٤١٨هـ، ص ٤٥].

 فالقدر لا يحتج به على المعاصي، إلا أن هناك من احتج به، وبيان ذلك في ذكر بعض ما أشار إليه.

 الدلـيل الأول: قوله تعالى: {سيقُولُ الَّذِين أَشْركُوا لَو شَاء اللَّه ما أَشْركْنَا ولا آباؤُنَا} (الأنعـام: ١٤٨).

وقوله: {وقَالَ الَّذِين أَشْركُوا لَو شَاء اللَّه ما عبدنَا مِن دونِهِ مِن شَـيءٍ} (النحل: ٣٥).

 وقوله: {وإِذَا قِيلَ لَهم أَنْفِقُوا مِما رزقَكُم اللَّه قالَ الَّذِين كَفَروا لِلَّذِيـن آمـنُوا أَنُطْعِم من لَو يشَاء اللَّه أَطْعمه} (يـس: ٤٧).

 وقوله: {وقَالُوا لَو شَاء الرحمن ما عبدنَاهم..} (الزخرف: ٢٠).

 فهذه أربعة مواضع حكى فيها الاحتجاج بالقدر على المعاصي والإشكال في ذلـك: أنـه قـد علم بالنصوص صحة قولهم: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا، ولو شاء الرحمن ما عبدناهم، إنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقد قال الله تعالى: {ولَو شَاء ربك ما فَعلُوه} (الأنعام: ١١٢). وقوله: {ولَو شِئْنَا لَآتَينَا كُلَّ نَفْسٍ هداها} (السجدة: ١٣). فكـيف أكذبهم، ونفى عنهم العلم، وأثبت لهم الخرص فيما هم فيه صادقون وأهل السنة جمـيعاً يقولـون لو شاء الله ما أشرك به مشرك، ولا كفر به كافر ولا عصـاه أحد من خلقه، فكيف ينكر عليهم ما هم فيه صادقون ؟)

[شفاء العليل، ص ٤١، وانظر: تفسير ابن كثير، مكتبة الصفا، ط١ سنة ١٤٢٣هـ، ٢/ ٢١٢].

 وأجاب ابن القيم على هذه الشبهة بقوله: (إنهم لم يذكروا ما ذكروه إثباتاً لقدره وربوبيته ووحدانيته... ولـو قالوا ذلك: لكانوا مصيبين، وإنما قالـوه معارضين لشرعه ودافعين به لأمره، فعارضوا شرعه وأمره، ودفعوه بقضائه وقدره...)

 [شفاء العليل، ص ٤١، وانظر: طريـق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم، دار ابن القيم، ط١ سنة ٤١٤هـ، ص ١٥٨].

وقـد رد الله على شبهتهم عقب ذلك مباشرة فقال تعالى: {كَذَلِـك كَـذَّب الَّذِين مِن قَبلِهِم حتَّى ذَاقُوا بأْسنَا قُلْ هلْ عِنْدكُم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجوه لَنَا إِن تَتَّبِعون إِلَّا الظَّن وإِن أَنْتُم إِلَّا تَخْرصون} (الأنعام: ١٤٨).

 وفي آية أخرى أجاب على شبهتهم بقوله: {كَذَلِك  فَعلَ الَّذِين مِن قَبلِهِم فَهلْ علَى الرسلِ إِلَّا الْبلاغُ الْمبِين} (النحل: ٣٥).

 وقال: {وقَالُوا لَو شَاء الرحمن ما عبدنَاهم ما لَهم بِذَلِك مِن عِلْمٍ إِن هم إِلَّا يخْرصون} (الزخرف:٢٠).

 وفـي هـذا تجهيـل لهـم، وتسفيه لحجتهم، في كونهم يدعون علم الغيب، والحق أنهم يكذبون ولا يتبعون إلا التخريـص و الظـن، ولا غنى لهم بما يفعلون؛ لأن الذين كانـوا من قبلهـم يتعللون بما تعللوا به فلم ينفعهم حتى مسهم العذاب ولحقتهم الذلـة.

 يقول ابن كثيـر: (بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء وهي حجة داحضة باطلة؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم... وأذاق المشركين من أليم الانتقام).

 [تفسـير ابـن كثـير، ٣/٢١٢، وانظر: الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به للباقلاني، ط٣ سنة ١٤١٣هـ، ص ١٦٣].

 وقـال الشوكاني: (هل عندكم دليل صحيح بعد من العلم النافع فتخرجوه إلينا لننظر فيه ونتدبره، والمقصود من هذا التبكيت لهم؛ لأنه قد علم أنه لا علم عندهم يصلح للحجـة ويقوم به البرهان ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم وأنهم إنما يتبعون الظنون... التي هي محل الخطأ ومكان الجهل...)

 [فتح القدير لمحمد الشوكاني، دار الفكر، ٢/١٧٤، وانظر: الإنصاف، ص ١٦٤].

 والغايـة مـن هـذا بيان خطأ تعليق معاصيهم بالقدر، وكان الأولى الاعتراف بمسؤوليتهم عن معاصيهم وأنهم سبب في وقوعها، وإن كانت واقعة بقدر الله فلا يجعل  لهم حجة في ذلك فهو كما قال سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحجةُ الْبالِغَةُ فَلَو شَاء لَهداكُم أَجمعِين} (الأنعــام: ١٤٩)، فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه، وبيان ما ينفعهم ويضرهم... وأعطاهم الأسماع والأبصار فثبتت حجته البالغة.

الدلـيل الثانـي: بمـا روى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى) [رواه الشيخان].

 وفـي روايـة: (أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  فحج آدم موسى) [رواه مسلم].

 اشتبه هذا الحديث على كثير من الفرق، فمنهم من رده وزعم أنه باطل، لأن مداره على الطعن في الأمر والنهي والنبوات وغير ذلك، وما كان هذا حاله فهو باطل وهؤلاء هم المعتزلة. وقد رد عليهم بأن الحديث صحيح وليس مدار فهمه على ما ذهبوا إليه.

 [انظـر: المطالب العالية من العلم الإلهي لفخر الدين الرازي، دار الكتب، ط١ سنة ١٤٠٧. ٢١٧/٩].

 وذهـب الجهمية الجبرية إلى الاستدلال به على صحة الاحتجاج بالقدر على المعصية والذنوب، وقالوا: هذا آدم يحتج صراحة بالقدر المكتوب على ذنبه، والنبي صلى الله عليه وسلم يحكم له بالصحة.

 [انظـر: لوامع الأنوار البهية، للعلامة محمد السفاريني، المكتب الإسلامي، ط٣، سنة ١٤١١ هـ،  ٣٤٦/١ ].

 والرد على ما قاله هؤلاء من وجوه:

 الوجه الأول: لو صح الاحتجاج بالقدر على المعاصي والذنوب لارتفع اللوم والعقاب عن كـل المذنبين والعاصين كفرعون وهامان وغيرهم وما قامت لرسول حجة على أحد، والمعلوم خـلاف ذلك، والمعتبر هو حجة النبيين والرسل، وعذاب فرعون وغيره من المؤكدات. [انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، ٨/١١٤، وانظر: المعتزلة وأصولهم، لعواد المعتق، مكتبة الرياض، ط٢ سنة ١٤١٦هـ، ص ١٨٣].

 الوجه الثاني: أن الفهم الصحيح لاحتجاج آدم، هو أن آدم احتج بالقدر على المصيبة ولم يحتج بالقدر على المعصية، يقول العلامة السفاريني: (فالحديث تضمن التسليم للقدر عند المصائب لا عند الذنوب والمعايب، فيصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب)  [لوامع الأنوار البهية، ١/٣٤٧، وانظر: الرسالة الوافية لأبي عمر الداني، ط١ سنة ١٤٢١هـ، ص ١٤٥].

 وقـد علـق العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني على من رد هذا الحديث ومن احتج به على فهمه القيم بقوله: "... أما الذي ردوه فستسمع أن الحديث من أصح الأحاديث، وأما الذيـن ذهـبوا أنه حجة على مذهبهم المرذول فإنه لا متمسك لهم فيه لأنه قد أجمع أهل الإسلام على أن القدر يتعزى به في المصائب ولا يحتج به في المعائب" [إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة، لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، حققه محمد صبحي، دار ابن حزم، ط١ سنة ١٤٢٠هـ، ص ٣٧٥، وانظر: إيثار الحق على الخلق لابن الوزير اليماني، دار الكتب العلمية، ص ٢٩٥].

 وأقـرب من هذا ما قاله ابن القيم: أنه يجوز له أن يحتج بالقدر على ذنب تاب منه وأنـاب وذلـك بعد اعترافه واستغفاره وآدم – عليه السلام – اعترف بذنبه وطلب الغفران، وغفره الله له، فلا عليه أن يحتج بعد ذلك بالقدر؛ لأنه لا يدفع بالقدر أمراً ولا  نهياً ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة). [انظر: شفاء العليل، ص ٤٦،والاختلاف في اللفظ لابن قتيبة، ط١سنة ١٤٠٥هـ، ص ١٥].

 والاحتجاج الفاسد بالقدر يكون (بأن يرتكب فعلاً محرماً أو يترك واجباً فيلومه علـيه لائـم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب باطلاً). [شـفـاء العليـل، ص ٤٦، وانظر: الإنصاف فيما يجب اعتقاده للباقلاني، ط٣ سنة ١٤١٣هـ، ص ١٦٣].

وبهذا يتبين أنه لا حجة بالقدر على المعصية، وأنه يفهم من حديث المحاجة أن آدم عليه السلام كان قد اطلع على ما كتبه الله عليه وسأل موسى مقرراً وأكد له موسى أنه قرأ ما كان مكتوباً فإذا كان هذا الأمر معلوماً لآدم فما الذي يمنع أن يحتج به، أما بالنسبة  لغـيره فهـل يحتجون بقدر هو مغيب عنهم لم يطلعهم الله عليه ؟ فهناك فرق ظاهر وهو قياس مع الفارق ما حصل لآدم – عليه السلام – وبين من يريد أن يحتج بالقدر قياساً على صـنيع آدم، ولهـذا لـم يعب رسول الله صلى الله عليه وسلم على آدم احتجاجـه بل أقره، أما احتجاج المشركين على شركهم بالقدر فقد عابه الله – سبحانه – عليهم وأعلمهم بأن الذين من قبلهم فعلوه بالظن والكذب والتخريص فطالهم بأسه الشديد.

قـال القرطبـي: (إن آدم غلبه بالحجة؛ لأن ذكـر الجفاء بعد حصول الصفاء جفاء؛ ولأن أثر المخالفة بعد الصفح ينمحي حتى كأنه لم يكن فلا يصادف اللوم من اللائم محلاً). [فـتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، دار المعرفة، ١١/٥١٠، وانظر: عون المريد لشرح جوهرة التوحيد لعبد الكريم تتان ومحمد أديب الكيلاني، دار النشر، ط١ سنة ١٤١٥ هـ ٦٣٤/٢].

الدليل الثالث: اشتبه على المحتج بالقدر رد علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم -تركه للقيام للصلاة بالليل بقدر الله، أو كما جاء في النص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلاً فقال لهم ألا تصلون ؟ قال: فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثها بعـثها، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ولم يرجع إلي شيئاً، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه وهو يقول: {وكَان الإِنْسان أَكْثَر شَيءٍ جدلاً} (الكهف: ٥٤). [رواه البخاري ومسلم].

فقـالوا: هـذا احتجاج من علي بالقدر على ترك العمل، والحق أن الحديث لا يتضمن الاحتجاج بالقدر على المعاصي؛ لأن (علي لم يحتج بالقدر على ترك واجب لا فعـل محرم، وإنما قال: إن نفسـه ونفس فاطمة بيد الله فإذا شاء أن يوقظها ويبعث أنفسهما بعثهما؛ وهذا موافق لقول النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ناموا في الوادي: إن الله قبض أرواحنا حيـث شـاء وردها حيث شاء، وهذا احتجاج صحيح صاحبه يعذر فيه، فالنائم غير مفرط، واحتجاج غير المفرط بالقدر صحيح). [عون المعبود ٢/ ٦١٧].

وقال سعد الدين التفتازاني: (ومن وقاحتهم أنهم يروجون باطلهم بنسبته إلى مثل أمـير المؤمنيـن علي وأولاده – رضي الله عنهم – وقد صح عنه أنه خطب الناس على منبر الكوفة، فقال: ليس منا من لم يؤمن بالقدر خيره وشره...) [شرح المقاصد لسعد الدين التفتازاني، عالم الكتب، ط١ سنة ١٤٠٩هـ، ٤ /٢٦٩].

 والإيمان يتطلب العمل لا تركه كما ذهبت إليه الجهمية في قولهم بالجبر.

 المطلب الثاني: أن سبق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص

 فهم كثير من الناس خطأ أن القضاء والقدر إذا كان قد سبق فلا فائدة في الاجتهاد والعمل، وأن ما قدره الله وكتبه واقع لا محالة وأن توسط العمل لا فائدة فيه، وقد ترتب على هذا الفهم السقيم الجنوح إلى الكسل والدعة واليأس والقنوط.

 وهذه الشبهة الخطيرة ربما كان من تداعياتها الكفر بالقضاء والقدر، وعدم الإيمان بعلم الله تعالى السابق، وكتابته لمقادير الأشياء قبل تكوينها وعدم الاهتمام بالعمل وبـذل الطاقـة والجهـد، أو ترك العمل وعدم الحرص عليه وانتظار ما تأتي به الأقدار
والتحلي بالعجز والانكسار.

 ولا يخفى على عالم أن القدر السابق يعين على العمل ويشجع عليه ولكن بشرط أن يفهـم الإنسـان معـنـى المراد بالقدر السابق، والكتابة الأولى، ولهذا حين أورد الصحابة هذه الشبهة "وهي ترك العمل" أجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيه الشفاء والهدى وجاء فـي حديثه (... ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قـد كتبـت شقية أو سعيدة، فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكلُ على كتابنا، وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصـير إلـى عمل أهل الشقاوة فقال: اعملوا فكلٌ ميسر، أما أهل السعادة فييسـرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ {فَأَما مـن أَعطَى واتَّقَى * وصدقَ بِالْحسنَى * فَسنُيسره لِلْيسرى * وأَما من بخِلَ واستَغْنَى * وكَذَّب بِالحسنِى * فَسنُيسره لِلْعسرى ( الليل: ٥-١٠)) [البخاري ومسلم].

وفـي رواية أخرى قال رجل: يا رسول الله بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن، ففيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير أم فيما يستقبل ؟ قال: (لا بل بما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل ؟ فقال: اعملوا فكل ميسر) [مسلم].

 قـال ابـن القيم: (اتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد) [شفاء العليل، ص ٦٧].

 ثـم انظر كيف ربط رسول الله  بين السبب ونتيجته وجعل النتيجة من جنس العمل، ثم استشهد على ما وجه إليه الصحابة بالقرآن ومفاده أن الذي يأخذ بأسباب التقوى ويبذل العطاء مع إيمانه وتصديقه بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً فإن مآله الجنة،  ويقابل ذلك من ترك الأخذ بأسباب الخير، وبخل بماله وجهده، وضم إلى ذلك التكذيب بوعد الله والآخرة، فإنه لا شك ليس له مآل إلا إلى النار. ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال: (ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن) [شفاء العليل، ص ٦٧.].

وعلق ابن القيم على ذلك بقوله: (وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة، ودقة أفهامهم و صـحة علومهم، فإن النبـي  أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب، فإن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدر عليه ومكن منه وهيئ له، فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب، وكلما زاد في تحصيل السبب كان تحصيل المقدور أدنى له)  [شفاء العليل، ص ٦٧].

ولهـذا فـإن الله قد قدر السبب والنتيجة، فإذا هدى الإنسان إلى السبب وقام به تيسرت له النتيجة، ولهذا قال ابن تيمية: (وذلك أن الله – سبحانه وتعالى – يعلم الأمور علـى مـا هــي عليه، وهو قد جعل للأشياء أسباباً تكون بها، فيعلم أنها تكون بتلك الأسـباب، كما يعلم أن هذا يولد له بأن يطأ امرأة فيحبلها، فلو قال هذا: إذا علم الله أنه يولـد لـي فـلا حاجة إلى الوطء كان أحمق؛ لأن الله عـلم أن سيكون بما قـدره من  أمور المعاش والمعاد، فمن عطل العمل اتكالاً على القدر السابق، فهو بمنزلة من عطل الأكل والشرب والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالاً على ما قدر له، وهذا مثله مثل الأسباب التي توصلنا إلى مرادنا في الدنيا وهذا شأن الوطء...) [مجموع الفتاوى، كتاب القدر، ٨/٦٨].

فمن كان من أهل الجنة يسره الله للعمل بعمل أهل الجنة وقبضه عليه (فمن قال: أنـا أدخل الجنة سواء كنت مؤمناً أو كافراً إذا علم الله تعالى أني من أهلها، كان مفترياً على الله في ذلك، فإن الله إنما علم إنه يدخلها بالإيمان، فإذا لم يكن معه إيمان، لم يكن هذا هو الذي علم الله إنه يدخل الجنة بل من لم يكـن مؤمنـاً بل كافراً، فإن الله يعلم أنه من أهل النار، لا من أهل الجنة) [شفاء العليل، ص ٦٧]

 والخلاصة: فإن القدر السابق معيـن علـى الأعمال، وحاثٌ عليها، ومقتضٍ لها لا أنه منافٍ لها وصاد عنها، وهذا موضع مزلة قدم، من ثبتت قدمه فاز بالنعيم المقيم، ومن زلـت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم، فالنبي  أرشد الأمة في القدر إلى أمرين هما سـببا السـعادة: الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب التي توصل إلى
خيره وتحجز عن شره وذلك نظام الشرع. [مجموع الفتاوي ٦٩/٨].

المطلب الثالث: أثـر الأسباب كالدعـاء والتوكل والدواء على القدر المكتوب ومحوه

 يسبـق إلـى فهم كثير من الناس عدم جدوى ونفع الدعاء والدواء والأسباب مع الإيمان بسبق القدر، وقد تسمعهم يقولون: القدر نافذ سواء دعوت أو لم تدع، تداويت أم لـم تداو، فهم يذهبون إلى إبطال الأعمال والعبادات والدعاء والتوكل وغير ذلك، فهل هناك جانب من جوانب الصواب مع هؤلاء ؟ أم أن التسبب بالأسباب كالدعاء وما شاكله لـه أثـر في القدر، كرده مثلاً، أو محوه، أو التخفيف منه ولنقف على أثر الدعاء في القدر، لنستبين إلى أي مدى ينفع الدعاء مع القدر.

 دور الدعاء والتوكل والاستغفار مع القدر:

 ذهـب المعتزلة وكثير من الفلاسفة إلى أنه لا ينفع مع القدر شيء لا دعاء ولا توكـل سـوى أنها عبادات محضة لا تأثير لها. يقول ابن القيم: (وصرح هؤلاء: أن التوكل والدعاء عبودية محضة لا فائدة إلا ذلك، ولو ترك العبد التوكل والدعاء ما فاته شـيء مما قدر له، ومن غلاتهم من يجعل الدعاء بعدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان عديم الفائدة، إذ هو مضمون الحصول، ورأيت بعض متعمقي هؤلاء – في كتاب له –لا يجوز الدعاء بهذا وإنما يجوزه تلاوة لا دعاء) [مدارج السالكين لابن القيم، مؤسسة المختار، ط١ سنة ١٤٢٢هـ، ١ /٥٣٥].

ويرجع ابن تيمية سبب عدم قبول الفلاسفة والمعتزلة لتأثير الدعاء في القدر إلى عقيدتهم في أن الله لا يعلم جزئيات العالم سفليه وعلويه، ولا هو فاعل باختياره، ولا له إرادة ومشيئة، ولا يقوم به صفة: (ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف، ولا من القدرية النفاة القائلين به) [مدارج السالكين لابن القيم، مؤسسة المختار، ط١ سنة ١٤٢٢هـ، ١ /٥٣٥].

ويعلق ابن القيم على ذلك بقوله: (فأي توكل لمن يعتقد بأنـه يكون في ملكه ما لا يشاء) [مدارج السالكين لابن القيم، مؤسسة المختار، ط١ سنة ١٤٢٢هـ، ١ /٥٣٥، وانظر: تهافت الفلاسفة، لأبي حامد الغزالي، دار المعارف، ص ٦٥].

 وهـذا الاشتباه في عدم فهم القدر فهماً صحيحاً يتضح بقولهم: (لأن الدعاء به  يتضمن الشك في وقوعه؛ لأن الداعي بين الخوف والرجاء، والشك في وقوع ذلك من باب من الشك في خبر الله، وهو من العظائم، وتحريم الدعاء بما أثنى الله على عباده وأوليائه بالدعاء به وطلبه، ولم يزل المسلمون – في عهد نبيهم –  وإلى الآن يدعون به في مقامات الدعاء) [السالكين مدارج ٥٣٥/١]

والذيـن تركوا الدعاء جملة بنوا تركهم على أن سبق القدر بالسعادة والشقاوة لا يتـبدل ولا يـتحول عمـل أو لم يعمل، كذلك المدعو به إن سبق العلم والحكم بحصوله حصـل، دعونا أو لم ندع، وإن سبقا بعدم حصوله لم يحصل وإن دعونا.

ولا شك أن هـؤلاء بـنوا ما بنوه على فهم فاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة الدين، ويظهر ذلك من خلال الرد عليهم، ومخالف لصـريح العقل والحس والمشاهدة [السالكين مدارج ٥٢٥/١].

 وإثبات فائدة الدعاء والتوكل وما في حكمهما.

أولاً: الآيات التي تحث على الدعاء لا حصر لها، ومنها ما يخبر بفائدة الدعاء وأخرى بأنه عمدة الأنبياء والعلماء يلجأون إليه دائماً، وآيات تبين بأن الله يبدل السيئات حسنات، ويغفر الذنوب، ويجيب دعوة الداعي، كل ذلك وغيره يبين أن الدعاء وطلب العون من المعبـود واسـتجابته لطلب الداعي يدل على تأثير الدعاء في القدر المكتـوب ومما يبين ذلـك.

 وفـي آيـات كثيرة منها قوله تعالى:  {ولَو أَن أَهلَ الْقُرى آمنُوا واتَّقَوا لَفَتَحنَا علَـيهِم بـركَاتٍ مِـن السـماءِ والْـأَرضِ ولَكِـن كَذَّبوا فَأَخَذْنَاهم بِما كَانُوا يكْسِبون} (الأعـراف:٩٦).

فانظـر إلـى أثر الإيمان والتقوى في إنزال البركات، وبالمقابل أثر التكذيب والجحود والفساد وترك الواجبات وعمل المنهيات في منع النعم ونزول النقم – فكل ذلك يدل على تأثير الأعمال في القدر المكتوب [انظر: عون المريد، ٢/٩٥٤، وشرح العقيدة الطحاوية، ص ٢٢١].

 ثانـياً: ومن السنة ما يدل على أثر الدعاء:

 ففي السنن أنه  قيل له: (يا رسـول الله: أرأيت رقى نسترقي بها، ودواء (نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ قال: هي من قدر الله)

فهذه أسـباب يطلب بها البرء والشفاء، والجميع بقدر الله، فإذا وفق العبد إلى الدعاء والدواء كان الشفاء، وهذا بخلاف من رام أن يصل إلى الشفاء دون الأخذ بالدواء أو أسـقط الدعـاء والدواء ليصل إلى رفع البلاء... فهذا الذي ذمه علماء السلف وعابه العقلاء ودعوه بالأحمق. 

وفي مثله قال ابن القيم: (فهل يعد أحد هذا من جملة العقلاء وهل  البهائم إلا أفقه منه ؟ فإن البهيمة تسعى في السبب بالهداية العامة، فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه... فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره، فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل...) [مدارج السالكين ٥٢٦/١].

وقوله: (هي من قدر الله) فيه فائدة عظيمة أشار إليها الإمام الزركشي في قوله: (إن الرقى والـدواء لا تستقل برد القضاء، لكن الله تعالى – إذا أراد رد قضائه بحسب سابق علمه، قدر التسبب باستعمال الرقى والأدوية، فكان هو في الحقيقة القاضي الراد، وقد صحت السنة بمشروعية التداوي والاسترقاء) [عـون المـريد، ٢/٩٥٥، وإحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، دار الوثائق، ط١ سنة١٤٢٠هـ، ١٦٥٥/٥].

وقد وردت أحاديث كثيرة تبين نفع الدعاء، والحث عليه منها:

 ١ -عـن ابـن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء) [الترمذي].

وقال أبو حامد الغزالي: (اعلم أن من  القضـاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة كما أن الماء سبب لخروج النبات... والذي قدر الخير قدره بسبب، والذي قدر الشر قدر لرفعهسبباً) [(إحياء علوم الدين، ٥/١٤٠، وانظر: إتحاف السادة المتقين للزبيدي، ٥/٣٩٠].

٢ -وعـن جابـر بـن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدعو على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم) [مسلم].

 والحديـث يدل بوضوح على تأثير الدعاء في القدر المكتوب، ولهذا ورد النهي والمنع من الدعاء على الأنفس والأرحام خوفاً من أن توافق ساعة إجابة.

وقال شارح الطحاوية: (فإذا قُدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال لا فائدة في الدعاء، كما لا يقـال لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب، فقول هؤلاء كما أنه مخالف للشرع فهو مخالف للحس والفطرة) [شرح العقيدة الطحاوية، ص ٤٦٠، وانظر مجموع الفتاوى، ٨/١٩٥-١٩٦].

 ٣ -نفـع الدعــاء فـي كل من القدر المبرم والمعلق: والدعاء ينفع في القضاء المبرم والمعلـق، أما القضاء المعلق فلا استحالة في رفع ما علق رفعه منه على الدعاء، ولا في نزول ما علق نزوله منه على الدعاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن البلاء لينزلُ فيتلقاه الدعاء، فيتعالجان إلى يوم القيامة) [رواه الحاكم في مستدركه وصححه، وانظر: مجموع الفتاوى، القدر، ٨ /٥٤٨].

 فقوله: (ممـا نـزل أي القضاء المبرم فيكون أثر الدعاء في التخفيف منه من ناحيتين: الأولى: في توسعة صدر المصاب فيصبر ويصابر ويرى في هذا القضاء خيراً كثيراً؛ لأنه ينظر بعين  {وعسـى أَن تَكْرهوا شَيئاً وهو خَير لَكُم وعسى أَن تُحِبوا شَيئاً وهو شَر لَكُم واللَّه يعلَم وأَنْتُم لا تَعلَمون} (البقرة: ٢١٦).

والثانـية: مـن ناحيـة المقضى يجعل وطأته خفيفة وكما قيل: بعض الشر أهون من بعض، وقد يستشهد له بعض الناس بما هو جار على ألسنة العامة (اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه). 

وقد اعترض عليه من العلماء العلامـة ابـن عثيمين: (وهذا الدعاء لا يصح نقلاً عن السلف وإن صح عن بعضهم فلا يمكـن أن يصـح عن الصحابة الذي أقوالهم مأثورة مشهورة فلو قال: اللهم إني أسألك اللطف في قضائك، لصح أما لا أسألك رد القضاء فالله – عز وجل – ما يقضي شيء لطف به أو شدد عليك إلا وهو قد قضاه)  [انظر: شرح العقيدة السفارينية، لابن عثيمين، ص ٣٦١]

٤ -وقـال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر) [رواه الترمذي وقال حسن غريب، وأخرجه ابن ماجة والحاكم وابن حبان من حديث ثوبان، وصحح الحاكم إسناده].

وهذا الحديث يبين بوضوح أن الدعاء يتسبب في رد القضاء المكتوب،وكذلك العمر يـزيد بالعمل الصالح وينقص بالعمل الفاسد. ولهذا قال الأستاذ أبو القاسم إسماعيل بن محمد: (إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق النسمة قال: فإن كان منها الدعاءرد عنها كذا وكذا وإن لم يكن منها الدعاء نزل بها كذا وكذا، وكذلك أجلها إن برت والديها ويكون ذلك فيما يكتب في الصحيفة) [إتحاف السادة المتقين للزبيدي، ٥/٣٩٠، وانظر: الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، لابن بطة العكبري، ط١ سنة ١٤٢٣هـ، ص ٢١٥].

٥ -الدعـاء وحقيقة المحو والإثبات: جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما دعا عبد قط بهذه الدعوات إلا وسع الله عليه في معيشته: يا ذا المن ولا يمن عليه... إن  كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً، فامح عني اسم الشقاوة و أثبتني عندك سعيداً موفقـاً للخير؛ فإنك تقول في كتابك الذي أنزلت: {يمحو اللَّه ما يشَاء ويثْبِتُ وعِـنْده أُم الْكِـتَابِ} (الرعد:٣٩)) [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وانظر: المطالب العالية لابن حجر، ط١ سنة ٤١٤ هـ ٣٤٦/٣]، واستشهاد ابن مسعود بالآية يدل على أن المحو والإثبات ممكـن لكل ما كتب ما دام أن الله علقه بمشيئته.

وكذلك جاء عن عمر -رضي الله عنه - أنه كان يقول وهو يطوف بالكعبة: (اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنـباً فامحه واجعلـه سـعادة ومغفـرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب) [أخرجه اللالكائي عن عمر في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، سنة ١٣١٥ هـ، ٣٤٦/٣]

وكذلك جاء عن بعض السلف أنه كان يكثر الدعاء بهذه الدعوات: (اللهم  إن كتبتـنا سـعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت) [أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره ٨/ ٢١٩].

فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته [فتح القدير للشوكاني، دار الفكر، ٣ /٨٨].

وبهذا يتبين لنا أهمية الدعاء كوسيلة مهمة يستفاد منه في تحقيق مصالح الدنيا والآخـرة، وخطأ من حاول أن يمنعه بقوله: لا فائدة فيه بعد أن كتب الله مقادير كل شيء، وبما وضحناه سابقاً تذهب الشبهة وتزول بحمد الله تعالى.

المطلب الرابع: ضرورة التفريق بين القضاء والمقضي، والقدر والمقدور، والفعل والمفعول

لكـي يتبيـن للعبد ما يجـب حبه والرضى به مما لا يجب ولا يجوز. فمن اشتبه عليه مفهوم القضاء والمقضى فسوى بينهما وقع في المحذور، ونسب لله ما كان يجب أن ينزه عنه من النقص، وربما ذهب ليؤكد قضية وجوب محبة المقضى وإن كان يجـب كراهته من ناحية شرعية فيقع في التناقض بين ما يجب حبه من المقضى، وما يجـب كراهـته مـن ناحـية شرعية أو يضطر العبد إلى أن ينسب بعض مخلوقات لله ومقدوراتـه إلـى الإنسان فراراً من أن تضاف إلى الله.

 ولهذا قالت المعتزلة: (فلو كان الجـور وما شاكله من خلقه، لوجب الرضى به، والإجماع يبطل ذلك) [المحيط بالتكليف للقاضي عبد الجبار، المجلد الأول، تحقيـق عمـر السيد عزمي، الدار المصرية، ص ٤٢١]

 ولهذا نسب المعتزلة خلق الجور للإنسان، والوجوب بالرضى قائم على التسوية بين معنى القضاء والمقضي؛ لأن الإيمــان بقدر الله وقضائه ركن من أركان الدين، فكيف لا يرضى بقضاء الله ؟! 

ولا شك أن هذه مغالطة؛ لأن هناك فرق بين القضاء والمقضي.

وهـذا موطـن مـزلة قـدم كثير من الباحثين، ولا مخرج له منه ولا ثبات إلا بالتفريق بين قدر الله الذي هو فعله وبين مقدوره الذي هو مفعوله، ومفعوله له تعلقات بأفعـال البشـر مـن ناحـية الاختيار وغيره، وفي مفعولاته ومقدوراته تدخل الشرور والنواقص وغيرها وهي من وجهة الله كلها خير وحكمة، وينظر إليها من جهة البشر على أنها نقص.

يقول ابن تيمية: (فمن لم يفرق في حق الرب – تعالى – بين الفعل والمفعول إذاً قـال إنها فعل الله – تعالى – وليس لمسمى فعل الله عنده معنيان، وحينئذ فلا تكون فعلاً للعبد ولا مفعولة له بطريق الأولى... وأكثر المعتزلة يوافقون هؤلاء على أن فعل الرب تعالى، أما الذين لا يكون إلا بمعنى مفعوله... فلهذا عظم النزاع وأشكلت المسألة) [مجموع الفتاوى ١٢٢/٨].

وإذا قـالوا بالتفريق بين الفعل والمفعول فقد انجلت المشكلة لديهم (وأما من قال: خلق الرب تعالى لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته قال: إن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات، ومفعولة للرب كسائر المفعولات، ولم يقل: إنها نفس فعل الرب وخلقه، بل قال: إنها نفـس فعـل العبد، وعلى هذا تزول الشبهة) [مجموع الفتاوى ١٢٣/٨].

ويترتب على هذا التفريق كما قال ابن تيمية: (... فإنه يقال الكـذب والظلـم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلاً لـه، كما يفعلها العبد، وتقوم به، ولا يتصـف بهـا من كانـت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صـفة لغيـره، كمـا أنه – سبحانه – لا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان... وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به، لا على الخالق الذي خلقها فعلاً لغيره) [مجموع الفتاوى، ٨/١٢٣، وانظر: شرح العقيدة السفارينية، ص ٣٦٧].

ومن هنا نعلم الخطأ الواضح الذي وقعت بسببه المعتزلة في نسبة بعض الخالق لغير الله – تعالى – فراراً أن يكون صفة الله وفعلاً له ولو أنهم ارتضوا التفريق بين الفعل والمفعول وجعلوا المكروهات من مفعولاته، وهي منفصلة عنه، وما كان من مفعولاته فإنـه ليس وصفاً له ولا يقوم به لكان الخطب يسيراً ولكنهم عطلوا فاعليته وجعلوا الخالق قادرين على أن يخلقوا ما لا يستطيعه إلا الله جلا وعلا، ويقول القاضي عبد الجبار: فلـو كانـت أفعال العباد كلها بقضاء الله تعالى وقدره للزم الرضا بها أجمع وفيها الكفر والإلحاد، والرضى بالكفر كفر) [شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، مكتبة وهبة، ط١ سنة ١٣٨٤هـ، ص ٧٧١].

يبين القاضي بهذا التدليل امتناع إضافة أفعال العباد الله تعالى؛ لأنه يترتب عليه وجـوب الرضـا بهـا وفيها من الكفر والإلحاد ما نهينا عن حبه والتعلق به، بل يجب كراهته والتنزه عنه، إذاً هي قطعاً ليست بقضاء الله ولا من قدره في شيء، ويواصل القاضي عبد الجبار نقده لمعتقد أهل السنة فيقول: (فإن قيل: إنا نرضى بالكفر من حيث خلقه الله تعالى ولا نرضى به من حيث إنه قبيح فاسد متناقض، قلنا: أي المعتزلة: دعنا مـن هذه الترهات أو ليس أن الكفر على سائر أوصافه وجهاته وقع بالله تعالى وبقضائه وقدره فكيف رضيتم به من وجه دون وجه) [شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، مكتبة وهبة، ط١ سنة ١٣٨٤هـ، ص ٧٧١. وانظر: رسائل العدل والتوحيد، ص ٣٠٠].

وهذا الجدل الطويل في هذه المسألة جاء بسبب الخلط بين معنى القضاء والمقضى، ولهذا نجد أن علماء السنة فرقوا بينهما وردوا علـى المعـتزلة هذا التخبط فقالوا: (فإن قيل: إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله فكيف ننكره ونكرهه ؟! فالجواب: 

أن يقـال أولاً: نحـن غير مأمورين بالرضى بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة، بـل من المقضى ما يرضى به، ومنه ما يسخط ويمقت، كما لا يرضـى به القاضي لأقضـيتـه – سبحانـه -، بل من القضاء ما يسخط، كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم... وفصل أهل السنة بين الفعـل القائم بذات الله تعالى، والمفعول الكائن بفعله والمنفصل عنه، وهو مفعوله المخلوق.

ويقال ثانيـاً: هنا أمـران: قضـاء الله، وهو فعل قائم بذات الله تعالى، ومقضى وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضـاء كله خير وعدل وحكمة، ونرضى به كله، والمقضى قسمان: منه ما يرضى به، ومنه لا يرضى به)  [شرح العقيدة الطحاوية، ص ٢٥٨ بتصرف، وانظر: الإنصاف فيما يجب اعتقاده للباقلاني، تحقيق الكوثري الخانجي، ط٣ سنة ١٤١٣هـ، ص ١٦٦، والإرشاد إلى قواطع الأدلة للجويني، ص ١٠٨].

وبهذا التفصيل يظهر الفرق والتمييز بين ما هو فعل الله تعالى ينبغي أن ننظر إليه بعين الكمـال والجلال؛ لأنه صفته وقائم به، وبين ما هو من أثر فعله وهو مفعوله والذي له تعلق بالعبد ونسبته إليه (فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به وإلى ما لا يرضى به) [شرح العقيدة الطحاوي، ص ٢٥٨، وانظر: المطالب العالية لابن حجر، ٩ /٢٤٥].

المطلب الخامس: ما بين النطق بمشيئة الله ووجوبه وعدم النطق بها وحرمته ضل أقوام، واهتدى آخرون

لا شك أنه لا يكون في ملك الله إلا ما يشاءه خلافاً للمعتزلة وهم محجوجون في ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع بسطها، فقـد جـاء الأمر في بعض المواضع بوجوب التلفظ بالمشيئة مقرونة بالمطلوب. [قال الراغب: المشيئة عند الأكثر كالإرادة سواء، وعند بعضهم أن المشيئة في الأصل إيجاد الشـيء وإصابته، فمـن الله الإيجاد، ومن الناس: الإصابة وفي العرف تستعمل موضع الإرادة، فـتح الباري، ١٣/ ٤٤٨، وانظر: معجم مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، دار الكتب العلمية.]

 ورتـب علـى عدم الاقتران فساد عريض دنيوي واخروي، وكذلك منع في مواضع من الاقتران بها وحث على الحزم والجزم بالمطلوب، وعلل ذلك بعلل:

المسألة الأولى: ورد الأمر بالتلفظ بالمشيئة مقرونة في أي مطلب أو عمل يتوجه إليه الإنسـان في المستقبل، فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {ولا تَقُولَن لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِك غَداً * إِلَّا أَن يشَاء اللَّه} (الكهف: ٢٣-٢٤)، نهـاه أن يقطع بشيء من الفعل في المستقبل حتى يرده إلى مشيئة الله 

[نظـر: نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني، مكتبة الثقافة الدينية، بدون طبعة، ص٢٥٩-٢٦٠، شرح المواقف للشريف الجرجاني، دار الكتب العلمية، ط١ سنة ١٤١٩هـ،. ٨/ ٩٦]

 قال ابن كثير: (هذا إرشاد من الله – تعالى – لرسوله  إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله فـي المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يستقبل إلا بعد مشيئة الله؛ لأنه لا يصح أن تقطـع على وقوع شيء في يكون وما لم يكن لو كان كيف يكـون) [تفسير ابن كثير، مكتبة الصفا، ط١ سنة ١٤١٣هـ، ٥/ ٩٠]

وقـد ورد فـي السنة من الأخبار ما يبين الفساد المترتب على ترك التعليق على المشيئة فـروى أبو هريرة عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام، لأطوفن الليلة على سبعين امرأة وفي رواية تسعين امرأة... تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله) ، فقيل له – وفي روايـة قال له الملك: قل: إن شـاء الله، فما ولـدت منهن إلا امرأة ولدت شق غلام)  [البخاري ومسلم].

وفي رواية (فلم يقل، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان) قـال نبي الله  لو كــان سليمـان استثنى لحملـت كـل امـرأة منهن فولدت فارساً في سبيل الله) [البخاري].

وهـذا الحديـث يبيـن بجلاء أثر الرجوع إلى القدر وعدم الاتكال على الفعل، فسـليمان عليه السلام قام بالفعل وانتظر ثمرته، ولكن هيهات، ويبين الرسول  سبب تخلـف ثمرة الفعل وهو عدم قرنه بمشيئة الله تبارك وتعالى.

وفي ذلك يقول ابن حجر: (قـال بعض السلف: نبه  في هذا الحديث على آفة التمني والإعراض عن التفويض، قال: ولذلك نسي الاستثناء ليمضي القدر) 

وفـي الحديـث تنبيه على الخسارة العظمى التي تلحق الأفعال والجهود المبذولة والتي غفـل أصحابها عن التفويض وذكر المشيئة، فوجب بذل العمل وقرنه بالمشيئة عسى أن تأتي الثمرة أعظم ما تكون.

المسألة الثانية: فعن أنس قـال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعوتم الله فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم إن شئت فأعطني، فإن الله لا مستكره له) [البخاري].

وفي رواية: (لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته إنه يفعل ما يشاء لا مكرِه له) [البخاري].

قـال ابن عبد البر: (لا يجوز لأحد أن يقول: اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا؛ لأنه كلام مستحيل لا وجه له؛ لأنه لا يفعل إلا ما شاءه) 

قـال ابـن حجر معقباً على كلام ابن عبد البر: (وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر) [الفتح]

وقوله: (فإنه لا مستكره له أو فإنه لا مكره له)، والمراد أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة ما إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه، ويعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، وأما الله فهو منزه عن ذلك فليس للتعليق فائدة، بل ربما يفيد معنى لا يليق بالله – سبحانه – وأن هناك ما يمنع إجابته للسائل.

ولذلك قال: "لا مكره له"، أي ما يكرهه على عدم الإجابة أو الإجابة والتعليق بالمشيئة كأن فيه استغناء من العبد عن إجابة المطلوب، فالأولى: حسم المسألة دون تقييدها بخيار المشيئة إن شاء أعطى وإن شاء منع، في الوقت الذي يكون فيه السائل محتاجاً إلى طلبته وتناسب هـذا هو الحـزم والجزم، ولهذا بوب الإمام البخاري عليه بقوله: (ليعزم المسألة، فإنه لا مكره له).

وقـال الداودي: (معنى قوله: "ليعزم المسألة" أن يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمستثنى، ولكن دعاء البائس الفقير) 

فهـذا الحديـث، خـص الدعاء وطلب المسألة دون سائر المسائل بعدم التعليق بمشيئة الله تعـالى، بـل عليه أن يحسن الظن بالله، ويجتهد في الدعاء ولا ييأس من الإجابة.

وقـد يغفل كثير من الناس فيقيس الدعاء على غيره من الأعمال والأقوال حيث أمـر الشـارع بربطها بالمشيئة فيستثنى فيقع في المحذور، وقد يستفسر عن الفرق بين الأمر بالمشيئة هنا والنهي منها هناك، فالجواب من وجهين:

أولاً: مقـام الدعاء وطلب الحاجات من الله – سبحانه – يظهر فيه مقام الغنى والقدرة الله تعالى ومقام الفقر والضعف للعبد، وكنوز الله ملأى، فلا يناسبه التعليق بالمشيئة بخلاف الحال في الأعمال والأقوال التي يقوم بها الإنسان فيحتاج فيها إلى عون الله ولطفه.

وثانياً: هو أن الاقتران بالمشيئة يحتاجه من يعلق عملاً أو قولاً كما ورد فهو يحتاج فيه إلـى الـتفويـض، وبعـبارة أخـرى يحتاج إلى التوقيف على أمر الشرع في الأعمال والأقوال، فحيث أمر بذكرها ذكرت بخلاف الحال في باب الدعاء فالقياس فاسد.

نتائج البحث:

أولاً: أن الإيمـان بالقضـاء والقـدر يعتبر من أكبر الدواعي التي تدعو الإنسان للعمل والنشاط بمـا يرضي الله تعالى، وهو من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعمل ويقدم على عظائم الأمـور بثبات وعزيمة ويقين، ولهذا لما سمع بعض الصحابة معاني القدر من النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب، فإن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدره الله عليه، ومكنه فيه، توجهوا إلى العمل، وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ودقة أفهامهم وصحة علومهم، فإن رسـول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن)، فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب وكلما زاد اجتهاداً في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه.

ثانياً: مصالح الدنيا، ومصالح الآخرة متعلقة بالقضاء والقدر، فكلما حقق الإنسان تنفيذ الأسباب الموصلة إلى هذه المصالح وتحققت له كان أسعد الناس بهذا الإيمان على خلاف من كان إيمانه بالقدر سلباً وتواكلاً فإنه لا يجنى في النهاية إلا الإحباط واليأس، ولهذا إذا رأى الإنسان أن مصالح دنياه تحققت بأسباب موصلة، علم أن الآخرة لا بد لها من أسباب اجتهد في تحصيلها أو كما قال ابن القيم: (فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا الطريق يفضي به إلى رياض مورقة وبساتين معجبة ومساكن طيبة ولذة ونعيم لا يشوبه نكد ولا تعب كان حرصه على سلوكها واجتهاده في المسير فيها بحسب علمه بما يفضى إليه).

ثالثاً: جاء عن السلف الصالح قولهم: (لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره) وذلـك لأنه إذا كان قد سبق له من سابقة وهيأه ويسره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها فإنها سبقت له من الله قبل الوسيلة منه وعلمها الله وشاءها وكتبها وقدرها وهيأ له أسبابها لتوصله إليها، فالأمر كله من فضله وجوده السابق، فسبق له من الله سابقة السعادة ووسيلتها وغايتها، فالمؤمن أشد فرحاً بذلك من كون أمره مجعولاً إليه كما جاء عن بعض السلف (والله ما أحب أن يجعل، فالقدر السابق معين على أمـري إلي، أنه إذا كان بيد الله خير من أن يكون بيدي الأعمـال ويحث عليهـا ومقتضٍ لها، لا أنه مناف لها وصاد عنها، وهذا موضع مزلة قدم، من ثبتت قدمه فاز بالنعيم المقيم، ومن زلت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم.

رابعاً: الإيمان بالقضاء والقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تفتك على المجتمعات وتورث الأحقاد بين الناس وتدفع إلى التحاسد والتباغض ونسيان معنى الأخوة بينهم، فلا يهنأ بنعيم، ولا يسعد براحة، ويفقد معنى القناعة بما رزقه الله.

خامسـاً: لا يخلو الأمر من مصاب جلل يحتاج من الإنسان أن يواجهه بالصبر ورباطة الجأش، فمـن أنعـم الله عليه بإيمان بخير القدر وشره اطمأن حاله، واستقر باله، ولا يرزق الصبر إلا من حقق الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره.

سادسـاً: المؤمن القوي في ميزان الله تعالى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ولا قوة تحمد إلا قوة المؤمن الذي يحرص على ما ينفعه ويستعين بالله ولا يعجز ولا يقنط وإن لحق به شيء أو أصابه مكروه لا يتردد من اللجوء إلى القدر، ويقول: قدر الله وما شاء فعل، ولا يرمي بنفسه في ميدان "لو" فيهلك وتنثني عزيمته فتغلبه وسوسة إبليس.

وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين

 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق