أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 2 نوفمبر 2024

فتاوى ابن تيمية في الخمر والمسكرات الشيخ محمد الحفناوي بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 فتاوى ابن تيمية في الخمر والمسكرات

الشيخ محمد الحفناوي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد: الخمر أم الخبائث، ومجمع السوء، ومنشأ الرذيلة، وذلك لما فيها من امتهان العقل، وضياع المال، وتفويت العافية، وإيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، أضف إلى ذلك صدها عن ذكر الله وعن الصلاة، فلا غرابة إذن في كونها رجسٌ من عمل الشيطان، يلجأ إليها التائهون في فلوات الضلال، والمنهمكون في لذائذ الحياة، هروباً من الواقع، وابتغاء النشوة والمتعة الزائلة.

ومن يقرأ في إحصائيات الدول المتعاطية للخمر، يجد أن عدد السكرين والمدمنين على الخمر في زيادة مطردة، سواءً في عالمنا العربي والإسلامي، أو في دول شرق وغرب أوروبا، وهذا يوجب علينا كمسلمين طرق هذا الموضوع بجدية، والنظر إلى هذه الكبيرة بعين الاعتبار، منعاً لتفشيها، وحداً من تعاطيها؛ لأنها إن فشت أهلكت ودمرت، وهذا يجعلنا نضع المسؤولين أمام مسؤولياتهم.

وهذا الكتاب هو جملة مجموعة من فتاوى الإمام ابن تيمية في مسألتي: الخمر والحشيش، يتعلق بكل ما فيهما من أحكام وعقوبات وآثار مدمرة على الصحة والعقل والنفس والنسل، وتبلغ هذه الفتاوى (17) سبع عشرة فتوى، نقل فيها مذاهب علماء الأمصار وإجماعاتهم وبعض دقائق خلافهم، مما يدل على تبحر هذا الإمام في الدين، وبالطبع فقد كانت هذه الفتاوى متفرقة، ولعل تكرار السؤال عنها زمن شيخ الإسلام، دفع به إلى تكرار الإجابة عليها في كل مرة، مع زيادة توضيحات، وتفصيل بحسب مقام السائل وماهية السؤال، وختم الحفناوي بثلاث مسائل، وهي: التداوي بالخمر، وتخللها بنفسها، وتثريد الطعام بها.

وهنا أنقل اختيارات ابن تيمية –رحمه الله -في قضية "الخمر" ليسهل على القارئ فهمها وحفظها:

1-تعريف الخمر:

أ -لغة: هو ما خامر العقل، أي: خالطه، وهي تُذكر وتؤنث، وسُميت خمراً لأنها تُركت فاختمرت، واختمارها تغيُّر ريحها.

ب -اصطلاحاً: كل ما أذهب العقل، من أي مادةٍ، سواءً أكان من الحبوب والثمار وغير ذلك، وسواء كان ذلك مطبوخاً أم نيئاً، أو جامداً أو مائعاً، مأكولاً أم مشروباً، وضابطه (كل ما أسكر كثيره فقليله حرام).

2-حكم الخمر:

الخمر حرام بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين من الصحابة والتابعين، فقد أجمعوا على أم كل مسكر خمر، وكل خمرٍ حرام، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام، وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.

واستثنى الحنفية: ما أسكر من غير الشجرتين (العنب والنخل)، كنبيذ الحنطة والشعير والذرة والعسل ولبن الخيل، فأباحوا منه القدر الذي لا يُسكر.

والقول الأول هو الصحيح؛ لقوة أدلته، وعُذر أصحاب القول الثاني: أن أحاديث التحريم لم تبلغهم، أو بلغهم عن بعض الصحابة شرب النبيذ فظنوا أن الذي شربوه مُسكراً، وليس كذلك.

3-زمن تحريم الخمر:

حُرمت الخمر بعد غزوة أحد، في السنة الثالثة من الهجرة، وكانت الخمر تُصنع من التمر، ولم تكن من عصير العنب، وإنما خمر العنب كان يتخذها أهل الشام، وكانت معروفةً عندهم.

4-مراحل تحريم الخمر (وهو دليل تحريمها من الكتاب):

حُرمت الخمر على ثلاث مراحل، المرحلة الأولى: نزل فيها قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (البقرة: 219)، وبعد نزول هذه الآية، قال الصحابة: يا رسول الله: ننتفع بها كما قال الله عز وجل؟ فسكت عنهم.

المرحلة الثانية: نزل فيها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء: 43)، فقيل: حُرمت الخمر بعينها، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: إنا لا نشربها قرب الصلاة؛ فسكت عنهم.

المرحلة الثالثة: وهي التي نصت على التحريم القطعي للخمر، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90)، وبعد نزول هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: (حُرمت الخمر) رواه أبو داود. وأمرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإراقتها، فكسروا أوعيتها، وشقوا ظروفها.

5-دليل تحريمها من السُّنة النبوية:

أ- جاء في صحيح مسلم وغيره: عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: (كل مُسكر خمر، وكل مُسكرٍ حرام). وفي روايةٍ له عنه: (كل مُسكرٍ خمر، وكل خمرٍ حرام).

ب- وفي الصحيحين أيضاً: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مُسكر خمر).

ج -وفي الصحيحين: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شراب أسكر فهو حرام).

الشاهد من الأحاديث: أن المراد بالمسكر هو ما أسكر كثيره؛ كما يُقال: الخبز مُشبع، والماء يروي.

وحد الكثير منه ما بينه حديث عائشة رضي الله عنها في السنن، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مُسكر خمر، وما أسكر الفَرَقُ منه فهو حرام) وقال الترمذي: حسن صحيح، والفَرَق: مكيال يُقال إنه يسع 16 رطلاً.

6-أنواع الخمر وأسماؤها:

خمر العنب: ويعرفه أهل الشام لكونهم يزرعونه ببلادهم، ويُسمى (النصوح).

خمر التمر: وهو الذي كان يعرفه أهل المدينة، ووقع عليه التحريم ابتداءً هو والعنب

خمر الحنطة، وخمر الشعير: ويعرفه أهل اليمن والشام.

خمر الذرة: ويُسمى (المِزر) يشربه أهل اليمن أو (الغبيراء).

خمر العسل: ويُسمى (البِتْع) وكان أهل اليمن يشربونه.

خمر لبن الخيل: وكان يتخذه الترك ونحوهم من التتر.

خمر الجزر: ويُسمى (السُّويفة).

الحشيشة: وظهرت في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة الهجري، حيث ظهرت دولة التتر.

7-عقوبة شارب الخمر، وهي عقوبتان:

أ –العقوبة الدنيوية:

شارب الخمر يجُلد أربعين جلدة وقيل: ثمانين، ومذهب الشافعي وأحمد: أنه يُجلد أربعين، وأما الأربعين الثانية فإنها تعزير، يُرجع فيه إلى اجتهاد الإمام وتكرره منه.

وأما الحديث الذي فيه قتل شارب الخمر في الثالثة والرابعة؛ فهو منسوخ عند الأئمة، وهو المشهور من مذهبهم، واستدلوا لذلك بأن رجلاً من الصحابة اسمه عبد الله وكان يُدعى "حماراً"، كان يشرب الخمر ويُجلب في كل مرة؛ فيجلده، ونهى النبيُّ عن سبه، وهذا يقتضي أنه جلده مع كثرة شربه، وقيل: وجوب القتل منسوخ وجوازهُ باقٍ، يُرجع فيه إلى رأي الإمام.

ومثل شارب الخمر: شارب الحشيشة، وإذا لم يمكن إقامة الحد عليه فإنه يُعمل معه الممكن؛ فيُهجر ويُوبّخ، حتى يفعل المفروض ويترك المحظور.

ويجب عليه قضاء الصلاة والصيام، ولا يقبل الله صلاة شاربها أربعين يوماً؛ لخبر: (من شرب الخمر، لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً؛ فإن تاب، تاب الله عليه).

وأما مسُتحلها فيُستتاب فإن أقرَّ بالتحريم جُلد، وإن أصرَّ على استحلالها قُتل مرتداً، لا يُصلى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين.

ب - العقوبة الأخروية:

روى مسلم في صحيحه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إن على الله عهداً لمن يشرب المُسكر أن يسقيه من طينة الخبال"، قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: (عَرَقُ أهل النار).

وروى أبو داود في سننه: عن ابن عمر، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، والآكل منها).

8-الانتباذ في الأوعية:

تعريفه: في اللغة هو الإلقاء والطرح، ومرادنا هنا: أن يُنقع التمر أو الزبيب في الماء حتى يحلو؛ فيُشرب حُلواً قبل أن يشتد، وهذا حلالٌ باتفاق المسلمين، وجاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يشرب النبيذ.

9-الأوعية التي يُنتبذ بها:

أ- أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالانتباذ في الظروف الموكاة، أي: المغطاة، التي يُربط فمها بالجلد ونحوه، لأن هذه الظروف إن اشتد الشراب بها انشق الظرف؛ فلا يشربون مُسكراً.

ب - ونهى أن يُنتبذ في الأوعية الصلبة والقوية، لأن الانتباذ بها يُسرع اشتداد النبيذ وغليانه، فتصيرُ خمراً، ولا ينشق الظرف بسبب ذلك، فلا يُعرف ذلك، ومن هذه الأوعية:

-الدُّباء: وهو القرع.

- الحنتم: وهو ما يُصنع من الطيب (الفخار).

- النقير: وهو الخشب الذي يُنقر.

- المزفت: وهو الظرف الذي يُطلى بالزفت.

- ومثلها ظروف الخشب، والحجر، والحديد، ونحوها.

ج -ثم نُسخ هذا الحكم بعد ذلك:

بحديث رواه مسلم في صحيحه: عن بُريدة بن الحصيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كنتُ نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مُسكراً)، وفي رواية: (كنتُ نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفاً لا يُحل شيئاً ولا يُحرمه، وكل مُسكرٍ حرام).

10-النبيذ إذا طُبخ:

إذا طُبخ النبيذ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، وصار كالمُربّى لم يبقَ مُسكراً.

وإذا طُبخ وأضيف إليه أفاويه (أنواع من التوابل والعطور)؛ فيبقى مسكراً وهو من الخليطين المحرم.

أما إن طُبخ النبيذ طبخاً غير تام، بأن ذهب ثلثه أو نصفه، أو طُبخ على مرتين حتى ذهب ثلثاه وكان مُسكراً؛ فإنه يحرم؛ لأن مناط التحريم هو الإسكار باتفاق العلماء.

11-مفاسد الخمر:

ومن المفاسد التي حُرمت لأجلها الخمر: أنها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وتُوقع في العداوة والبغضاء، وأما المنفعة الحاصلة منها فهي ما يحصل لشاربها من اللذة وربح التجارة؛ لأنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص، فيبيعونها في الحجاز بربح كثير.

12--شرب الخمر من علامات الساعة:

روى أبو داود في سننه: من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليشربنَّ ناسٌ من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها).

13-نجاسة الخمر:

ذهب جمهور العلماء إلى أن الخمر نجسة واختاره ابن تيمية، وقال: إنه أصح قولي العلماء، وقيل: إنها طاهرة، وقيل: يُفرق بين يابسها ومائعها.

14-ما يُغيب العقل (مثل البنج):

ليس بنجس، ويجب فيه التعزير.

15-ما يُسكر بعد الاستحالة (كجوزة الطيب):

ليست بنجس، ويجب فيها التعزير.

16-ما يُذهب العقل (كالحشيشة):

وهي حرام قليلها وكثيها كسائر المسكرات، واختار ابن تيمية نجاستها.

17-عدم قربان الصلاة:

من سكر من شرابٍ مُسكر أو حشيشة مُسكرة، لم يحل له قربان المسجد حتى يصحو، ولا تصح صلاته حتى يعلم ما يقول، ولا بُد أن يغسل فمه ويديه وثيابه في هذا وهذا.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق