فضل آل البيت للمقريزي
لأحمد بن علي المقريزي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: هذه رسالة نفيسة، عالج فيها المقريزي رحمه الله قضية محبة آل البيت من خلال شرحه لخمس آيات من كتاب الله تعالى، الأولى: (إنما يريد الله أن يُذهب عنكم الرجس أهل البيت)، والثانية: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم)، والثالثة: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان أبوهما صالحاً)، والرابعة: (جنات عدنٍ يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم)، والخامسة: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)، وقد جعل المقريزي هذه الآيات أصولاً يستند إليها في بحثه، الذي يدور حول ما لآل البيت من الحقوق والفضائل، وما يجب في حقهم من التوقير والتعظيم والنصرة والمحبة.
واعتمد في تفسير هذه الآيات على أشهر كتب التفسير في عصره، وهي: تفسير الطبري، والقرطبي، وابن عطية الأندلسي، والطوفي، بالإضافة إلى كلام غيرهم من أئمة التفسير، ثم أورد من الأحاديث ما يؤيد تلك التفاسير ويُدعمها، باعتبارها شواهد معضدة للمعنى، وكذلك بيان لما أُجمل في تلك الآيات.
ولا شك أن المقريزي وهو عالم ومؤرخ وكاتب معروف، صاحب عقلية ثاقبة، وفهم دقيق، ولذا لم يقف عند حدود النقل من هذه المصادر، بل تخطاها إلى مرحلة أخرى سلك فيها طريق الباحث المدقق، الذي يسعى وراء الحقيقة، ويُقدم بين يديها حشداً من الأدلة والبراهين التي اطمأن لها عقله، وأرد إليها تفكيره، بعد تحليل متأنٍ ومناقشة مستنيرة، فكان صاحب رأي فيما قدم لنا من آراء غيره، نراه مثلاً عندما نعرض لتفسير قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القُربى)، قال: "ولا اعتبار بقول الكلبي بأنهم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة؛ فإنه توجد له أشياء من هذا التفسير ما لو كان في زمن السلف الصالح لمنعوه من ذلك، وحجروا عليه...".
ثالثها: أن المقريزي لم يوجه كلمة نقد واحدة لنجم الدين الطوفي، حين علق على حصر "الشيعة" معنى "القربى في الآية في أولاد علي وفاطمة خاصة، فقال: "وعند هذا استطال الشيعة وزعموا أن الصحابة رضي الله عنهم خالفوا هذا الأمر، ونكثوا هذا العهد، بأذاهم أهل البيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم...".
والذي لا شك فيه أن ميول المقريزي إلى أهل البيت كانت واضحة؛ ولكنها لم تخرجه عن النصفة والعدالة، وهو يعرض لقضية من قضاياهم الكثيرة، فإنه لم يبن حكماً أبرمه في شيء من ذلك إلا على أساس من قوانين العلم وأدلة المنطق.
وبعد أن استوفى المقريزي الكلام في شرح الآيات الخمس، ختم رسالته بفصلٍ لطيف سرد فيه مجموعة من الرؤى والحكايات، اعتمد فيها على السماع من شيوخه ومعاصريه، وقصد منها إظهار مدى حُب الرسول صلى الله عليه وسلم لآل بيته، وتألمه مما يُصيبهم من مكروه على يد مُبغضيهم، فيكون لشيوع تلك الرؤى أثره في ترقيق قلوب الناس عليهم، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم، والأرواح تهيم بمحبتهم ومودتهم.
ومما سبق نخلص إلى أن هذا الكتاب دليل واضح على تمتع المقريزي بعقلية علمية منظمة، استطاعت أن تجمع كمية من الشعاعات المتفرقة هنا وهناك، وأن يكوّن منها في براعة واستيعاب حزمة من الضوء، بهرت منها الأبصار.
المقريزي في سطور:
هو أحمد بن علي بن عبد القادر تقي الدين المقريزي أشهر مؤرخي مصر الإسلامية في القرن التاسع عشر. ولد بالقاهرة في حارة "برجوان" بالجمالية سنة 766 هـ/ 1364م، وأصله من "بعلبك"، ثم هاجرت أسرته واستقر بها المقام في مصر.
بدأ حياته العلمية بالقاهرة بين أسرة عُرفت بالعلم والفضل؛ فحفظ القرآن الكريم، وتلقى مختلف العلوم والفنون على نخبة من علماء مصر المرموقين.
شهد المقريزي نهاية دولة المماليك البحرية (648 -784 هـ/ 1250 -1382م)، وبداية دولة المماليك البرجية (الجراكسة) (784 - 923هـ/ 1382 -1517م)، ومن أبرز السلاطين الذين عاصرهم: الظاهر سيف الدين برقوق، وابنه الناصر أبو السعادات فرج بن برقوق، والمؤيد شيخ المحمودي، وسيف الدين قطز، والأشرف برسباي.
تولى عدة وظائف في الدولة المصرية؛ فقد ولي وظيفة "الحسبة"، وهي تشمل جملة اختصاصات منها: ضبط الأسعار والموازين، والمكاييل والمقاييس، والعناية بالمنشآت العامة، والصناعات التي لها علاقة مباشرة بصحة المواطنين والمحافظة على الآداب العامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما تولى الخطابة والتدريس في أشهر مساجد القاهرة، وعلى رأسها جامع عمرو بن العاص، بالإضافة إلى توليه القضاء نائباً عن قاضي القضاة الشافعي، ثم تفرغ أخيراً لكتابة التاريخ، حتى اشتهر ذكره وبعد فيه صيته، كما يقول السخاوي.
زادت مؤلفات المقريزي على مائتي مجدلة، أرخ في جزء كبير منها لمصر: سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وعمرانياً، مثل: كتاب (عقد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط)، و(اتعاظ الحنفا بأخبار الفاطميين الخلفا)، و(السلوك لمعرفة دول الملوك)، و(درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة)، ثم موسوعته الكبرى (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار).
كما أرخ في السيرة والتاريخ العام، مثل كتاب (الخبر عن البشر)، و(إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والحفدة والمتاع)، و(الدرر المضية في تاريخ الدولة الإسلامية)، و(منتخب التذكرة) الخ.
وللمقريزي مجموعة من رسائل صغيرة عالج فيها بعض القضايا التاريخية الحاصلة، مثل: (النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هام)، و(ضوء الساري في معرفة خبر تميم الداري)، أو القضايا الاقتصادية مثل كتاب (إغاثة الأمة بكشف الغمة)، و(شذور العقود في ذكر النقود)، أو العلمية، مثل: (المقاصد السنية لمعرفة الأجسام المعدنية)، و(الإشارة والإيماء إلى حل لغز الماء)، أو الاجتماعية مثل: (الطرفة الغريبة من أخبار حضرموت العجيبة).
رحل المقريزي عدة مرات إلى بعض الأقطار الإسلامية، فحج بيت الله الحرام، وجاور بمكة سنوات، كما دخل دمشق، وعاش فيها مدة، تولى خلالها نظارة بعض الأوقاف، وتدريس علم الحديث في المدرسة الأشرفية والإقبالية.
كان من أبرز تلاميذ العلامة ابن خلدون، وقد تأثر بمنهجه في كتابة التاريخ تأثراً عميقاً، وساعده على سلوك هذا المنهج وقوفه على أحوال المجتمع المصري، وتبصُّره بعاداته وتقاليده، وامتزاجه بجميع الطوائف المصرية. توفي المقريزي عصر يوم الخميس 16 من رمضان سنة 845 هـ، بعد حياة امتدت نحو ثمانين عاماً، قدم خلالها تراثاً تاريخياً مجيداً، تعتز به الإنسانية في كل مرحلة من مراحل حياتها الفكرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق