أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 12 أغسطس 2022

حاشية الترمسي على المنهاج القويم المسماة بـ(المنهل العميم بحاشية المنهج القويم) للشيخ محمد محفوظ بن عبد الله الترمسي بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

حاشية الترمسي على المنهاج القويم

المسماة بـ(المنهل العميم بحاشية المنهج القويم)

للشيخ محمد محفوظ بن عبد الله الترمسي 

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ يعد كتاب (المنهج القويم) من كتب الشافعية المحررة والمعتمدة، ولذا كتب له القبول والانتشار بين الفقهاء الشافعية، لما تميز به من جودة عبارته، وغزير مادته، ومكانة مؤلفه، وقد تكاثرت عليه الشروح والحواشي والتعليقات، والتي كان من أبرزها هذه الحاشية، المسماة (بالمنهل العميم على المنهج القويم)، أو (حاشية ذي الفضل على شرح العلامة ابن حجر مقدمة بافضل) للعلامة الترمسي -رحمه الله تعالى.

وقد أوضح فيها الترمسي مهمات المسائل، وأزاح الغموض عن خفي العبارات، كما أنه جمع المتفرق في غيرها، وفصل المجمل منها، فجاءت كالماء الزلال في عذوبتها وصفائها، وقد جمعت غرر الفوائد، ودرر الفرائد، كما أنه أورد فيها أبياتاً مناسبة للمقام يستشهد بها من المناظيم الفقهية، بالإضافة إلى عنايته التامة بالحديث وفنونه، والأصول واللغة مما يدل على ما تمتع به المحشي من تحقيق وتدقيق، وتفننه في علوم الشرع.

وتقع هذه الحاشية في سبع مجلدات كبار، أما المجلد الأول فمن (كتاب الطهارة إلى الاستنجاء)، والثاني (من موجبات الغسل إلى سنن الركوع)، والثالث من (سنن الاعتدال إلى بيان إدراك المسبوق للركعة)، والرابع (من صفات الأئمة المستحبة إلى دفن الجنازة)، والخامس (من باب الزكاة إلى ما يبطل به الاعتكاف)، والسادس (من كتاب الحج إلى أول كتاب البيع) والسابع (من الربا إلى أول كتاب الفرائض).

وحازت شرف طباعة هذه الحاشية وتجويدها دار المنهاج، وهي بالمجمل حاشية نفيسة القدر، عالية النفس، زكية الأنفاس، وقد لاقت قبولا ر في شتى بقاع المعمورة، حتى ذاع صيتها في داغستان من روسيا، وغيرها من الأقطار النائية كالهند وجاوة، وغيرها.

وقد ختم الترمسي حاشيته بترجمة موجزة للعلامة ابن حجر -رحمه الله تعالى، وفرغ من تسويدها يوم السبت، الرابع من ربيع الأول، سنة (1327 هـ)، وفي ذيل الكتاب تقريظات العلماء لحاشية الترمسي، منها تقريظ عبد الله بن زيني دحلان، وأبو بكر السقاف، ومحمد سامي برادة، 

ما تميزت به هذه الحاشية

(عن ط -دار المنهاج)

١-أنها من أوسع حواشي المتأخرين، فقد عكف المحشي على نصوص "المنهج القويم" وأضاءها بالتحرير والضبط، والتحقيق والتدقيق.

٢-ولما كانت هذه الحاشية من أوسع حواشي المنهج وأبسطها.. جمعت في طياتها فوائد عزيزة من الفنون المستطابة؛ ففيها مباحث تتعلق باللغة بشتى فروعها، وكثيرا ما ينقل نصوص اللغويين من قواميسهم في الصحاح وتهذيب اللغة والقاموس المحيط، ويشفع ذلك بذكر أبيات من مناظيم في النحو والصرف والبلاغة، إضافة إلى فوائد شتى من مختلف العلوم .  

وهذا الصنيع جعلها واسطة عقد الحواشي، وهي بطيئة المعاني والمباني، ليس لها ثاني، ومن هنا اكتسبت تلك الأهمية الفائقة .  

٣- إن من خصائصها المباركة عناية الترمسي رحمه الله تعالى بذكر الدليل من المصدرين النيرين كتاب الله الفرقان وسنة رسوله المأمور بالبيان صلى الله عليه وسلم.  

كما يعنى بتخريج الأحاديث غالباً، وربما نقل أقوال أهل التخريج من المحدثين الحفاظ كالعراقي وابن الملقن وابن حجر رحم الله تعالى الجميع.  

٤ـ وإن من هذه الخصائص عنايته التامة بإيراد عبارات الفقهاء بعينها والمقارنة بينها، وكثيراً ما يورد عبارة الشارح الإمام ابن حجر في كتبه مقارنا مشيراً إلى الراجح منها .  

 

٥-وجرت عادة الترمسي رحمه الله تعالى: أنه لا يكاد يمر على علم بارز من أعلام الشافعية. إلا وترجم له ترجمة عامرة، مبينا مكانته العلمية، ومؤلفاته، وما يتصل بذلك من المهمات .  

 ترجمة العلامة الترمسي 

  ( ١٢٨٥ - ١٣٣٨ هـ) 

عن ط -دار المنهاج (ص ١١ /١٤)

اسمه ونسبه:  

هو الإمام العلامة الفقيه الأصولي المحدث المقرئ محمد محفوظ بن عبد الله بن عبد المنان، الترمسي، الجاوي، ثم المكي، الشافعي.  

مولده ونشأته:  

ولد بقرية ترمس - بفتح التاء وسكون الراء وفتح الميم - من قر صولو بجاوه في الثاني عشر من جمادى الأولى سنة ( ١٢٨٥ ه)، وأبوه غائب عنه في مكة المشرفة .  

فتربى في حجر والدته وأخواله ، فحفظ القرآن وتلقى مبادئ العلوم عن شيخ مكتب القرية من أفاضل جاوه .  

استقدمه والده إلى مكة المكرمة سنة (١٢٩١ هـ)، فاستوطنها، وقرأ عليه جملة من الكتب، ثم رجع إلى جاوه بصحبة أبيه.

وانتقل إلى سماران، ولازم بها الشيخ صالح بن عمر السماراني ومكث عنده في الرباط، وقرأ عليه جملة من الكتب.  

ثم رحل ثانياً منها مهاجرا إلى مكة المشرفة ، فأقام بها وتلقى العلوم والفنون على كبار علمائها، وتفقه على العلامة السيد أبي بكر محمد شطا المكي وهو عمدته في الرواية والتحديث.  

سمع كثيراً من كتب الحديث والمصطلح على العلامة المحدث السيد حسين بن محمد الحبشي المكي، وقرأ كثيرا من كتب الحديث وعلومه على العلامة شيخ الشافعية بمكة الشيخ محمد سعيد بابصيل، وأخذ القراءات الأربع عشرة على العلامة عمدة المقرئين بمكة الشيخ محمد الشربيني الدمياطي، وجد واجتهد في التحصيل وطلب العلوم والفنون حتى برز في الحديث وعلومه والفقه وأصوله والقراءات، وشارك في فنون كثيرة، وأجازه مشايخه بالتدريس، وتصدى للإفادة بالمسجد الحرام عند باب الصفا وبمنزله، فأقبل عليه الناس وأقبل عليه الطلاب من كل حدب لاجتناء ثماره اليانعة!. 

صفاته الخلقية :  

كان الإمام الترمسي حسن الأخلاق، لطيف المعاشرة، لا يتدخل فيما لا يعنيه، وكان يأتيه من بلدته ما يكفيه، قانعا متورعا، غاية في التواضع!.

شيوخه:  

تتلمذ الإمام الترسمي رحمه الله تعالى على أعيان علماء عصره ، فأفاد منهم ونهل من معينهم، ومن أبرز شيوخه:  

١- العلامة الشيخ مصطفى بن محمد بن سليمان العفيفي المكي الشافعي، ولد ببلدة عفيف من قرى مصر، حفظ القرآن وجوده، وحفظ كثيرا من المتون وعرضها على مشايخ الأزهر، وقرأ على كثير من علماء الأزهر؛ كالشيخ مصطفى البولاقي، ثم قدم مكة واستقر بها ، فقرأ على الشيخ جمال الحنفي وغيره، فأجازه مشايخه بالتدريس ؛ فجلس له بالمسجد الحرام، فدرس وأفاد، قال الإمام الترمسي رحمه الله تعالى: (حضرت عنده في الشرح المحقق المحلي على "جمع الجوامع" و"مغني اللبيب") توفي بمكة سنة (١٣٠٨ هـ) ، رحمه الله تعالى.

٢- العلامة الشيخ أبو بكر بن محمد زين العابدين شطا الشافعي المكي، ولد بمكة سنة (١٢٢٦ ه)، حفظ القرآن وعمره سبع سنوات، وحفظ مجموعة متون في القراءات والفقه الشافعي والفرائض والنحو والبلاغة، لازم السيد أحمد دحلان وأخذ عنه شروح ما حفظه من المتون ، فنبغ في العلوم العقلية والنقلية، وتصدى للتدريس بالمسجد الحرام، وأقبل عليه طلاب العلم، وتخرج على يده خلق كثير، منهم الإمام الترمسي، وله تصانيف منها: "هداية الأذكياء إلى طريق الأولياء"، وشرحها "كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء"، و"نفحة الرحمن في مناقب السيد أحمد زيني دحلان"، و"إعانة الطالبين على حل ألفاظ الفتح المبين". قال الإمام الترمسي رحمه الله تعالى: (قدوتنا الأكمل، هو الذي عولت عليه وفزت بشرف الانتساب إليه. . . فقد أخذت منه العلوم الشرعية وآلاتها الأدبية؛ من منقول ومعقول، وفروع وأصول، ثم أجازني خاصة وعامة بما تضمنه ثبتا العلامة عبدالله الشرقاوي (ت ١٢٢٧ هـ) والعلامة الشنواني (ت ١٢٣٣ هـ)، توفي بمكة سنة (١٣١٠ هـ)، رحمه الله تعالى.

٣- العلامة الشيخ عمر بن بركات بن أحمد الشامي البقاعي الأزهري المكي الشافعي، ولد في البقاع في قرية بعلول سنة (١٢٤٥ ه) ، ونشأ فيها، ثم ارتحل إلى دمشق وقرأ فيها بعضا من العلوم، ثم انتقل إلى مصر والتحق بالأزهر وقرأ على علمائه، ومنهم العلامة الباجوري، والعلامة السقا، ومكث فيه خمسة عشر عاما مشتغلا بالعلم، ثم قدم مكة سنة (١٢٧٦ ه)، فابتدأ قراءة الدروس فيها، فانتفع به خلق كثير، وله تآليف، منها: «شرح على العدة» في الفقه، و«متن في علم البيان» شرحه وحشاه، قال الإمام الترمسي رحمه الله تعالى: (حضرت عنده في «شرح شذور الذهب» لمؤلفه)، توفي بمكة سنة ( ١٣١٣ ه)، رحمه الله تعالى.

٤- والده الإمام العلامة الشيخ عبد الله بن عبد المنان الترمسي، قال ابنه الإمام محمد محفوظ: ( قرأت عليه «شرح الغاية لابن قاسم الغزي» ، و«المنهج القويم»، و«فتح المعين»، و«شرح المنهج»، و«شرح الشرقاوي على الحكم العطائية» بالتمام، و«تفسير الجلالين» إلى أثناء سورة يونس عليه الصلاة والسلام، وغير ذلك؛ كالعلوم الأدبية والفنون المعقولة، توفي بمكة سنة (١٣١٤ هـ ) رحمه الله تعالى.

٥-العلامة محمد المنشاوي، الشهير بـالمقرىء، قرأ العلوم في الجامع الأزهر على المشايخ الأجلاء؛ كالعلامة الباجوري والعلامة السقا، فبرع وتفنن في العلوم منطوقها والمفهوم، ثم قدم مكة في نيف وستين ومائتين وألف، فحضر دروس العلامة عثمان الدمياطي، ولما توفي. . لازم مفتي مكة الشيخ أحمد الدمياطي، وأذن له مشايخه بالتدريس وأجازوه، فمكث يدرس بالمسجد الحرام في فنون عديدة، قال الإمام الترمسي رحمه الله تعالى: (قرأت عليه القرآن المجد قراءة عاصم من رواية حفص بما تيسر من التجويد، وحضرت عنده في قراءة «شرح ابن القاصح على الشاطبية ولم يتم)، توفي بمكة سنة (١٣١٤ هـ)، رحمه الله تعالى.

٦- العلامة السيد أحمد الزواوي المكي المالكي، ولد بمكة سنة (١٢٦٢هـ) ، وحفظ القرآن وكثيراً من المتون، ثم طلب العلم ؛ فقرأ على جماعة من علماء عصره، منهم السيد أحمد دحلان، فقد لازمه وقرأ عليه الحديث والتفسير والنحو والصرف والمعاني والبيان، والشيخ محمد بسيوني، وتفقه على الشيخ عبد القادر مشاط، تصدى للتدريس بالمسجد الحرام، وتخرج به كثيرون، قال الإمام الترمسي رحمه الله تعالى: (حضرت عنده في درس شرح عقود الجمان المؤلفة، وبعضاً من "الشفاء للقاضي عياض"، توفي بمكة سنة (١٣١٦ هـ) ، رحمه الله تعالى. 

٧- العلامة الشيخ محمد الشربيني الدمياطي، ولد بدمياط، ونشأ بها ثم رحل إلى مصر، وقرأ بالجامع الأزهر على المشايخ الأجلاء، ثم قدم المدينة المنورة، ولبث بها مدة، ثم قدم إلى مكة المكرمة سنة (١٣٠٠ ه) وجاور بها، تصدى للتدريس بالمسجد الحرام وانتفع به الكثير، قال الإمام الترمسي رحمه الله تعالى: (شيخنا وعمدتنا في القراءة، بل وعمدة المقرئين في مكة المشرفة. . . تلقيت عنه و«شرح ابن القاصح على الشاطبية» ، و«شرح الدرة المضية»، و«شرح طيبة النشر في القراءات العشر»، و«الروض النضير» للمتولي، و«شرح الزائية»، و«إتحاف البشر في القراءات الأربعة عشر» لابن البناء، وعدة تحريرات لـ«الشاطبية»، وحضرت عنده درس في «تفسير البيضاوي بحاشية شيخي زاده»، توفي بمكة سنة (١٣٢١ ه)، رحمه الله تعالى.

٨- العلامة الشيخ الصالح المسند محمد أمين بن أحمد رضوان المدني، ولد بالمدينة المنورة سنة (١٢٥٢هـ )، يروي عن الشيخ عبد الغني الدهلوي، والشيخ عبد الحميد الشرواني، والشيخ عثمان الخربوتي وغيرهم، له «ثبت مطبوع»، قال العلامة الترمسي: (قرأت عليه «الدلائل، والأحزاب، والبردة، وأوليات العجلوني، والموطأ»، كل ذلك بالتمام في المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، وقد أجازني بجميع مروياته الكثيرة مشافهة ومكاتبة"، توفي سنة ( ١٣٢٩ هـ) ، رحمه الله تعالى.  

٩- العلامة الحبيب حسين بن محمد بن حسين الحبشي الشافعي، ولد بسيئون من بلاد حضرموت، ونشأ بها وأخذ عن جماعة كثيرين، ولازم والده وأخذ عنه، وعن السيد عيدروس بن عمر الحبشي وأجازه بسائر مروياته، وأخذ عن السيد محمد بن عبد الباري الأهدل، قدم مكة ولازم السيد أحمد زيني دحلان وبه تفقه وعليه تخرج وأجازه بجميع مروياته، وتصدر للتدريس بالمسجد الحرام، وأخذ عنه خلق كثيرون، قال الإمام الترمسي رحمه الله تعالى: (سمعت منه جملة مستكثرة من أوائل صحيح البخاري وأواخره) ، توفي بمكة سنة (١٣٣٠ هـ)، رحمه الله تعالى.

١٠- العلامة محمد سعيد بابصيل الحضرمي الشافعي المكي مفتي الشافعية وشيخ  العلماء بمكة، ولد بها سنة (١٢٤٥ هـ)، ولازم دروس العلامة السيد أحمد دحلان وتخرج على يديه، وتصدر للتدريس بالمسجد الحرام، له مصنفات منها: "القول المجدي في الرد على عبد الله بن عبد الرحمن السندي"، و"رسالة فيما يتعلق بالأعضاء السبعة"، و"رسالة في التحذير من عقوق الوالدين وقطيعة الرحم"، و"رسالة في أذكار الحج المأثورة وآداب السفر والزيارة"، و"رسالة في البعث والنشور وأحوال الموتى والقبور"، قال الإمام الترمسي رحمه الله تعالى: (حضرت عنده في دروس سنن أبي داود  والترمذي والنسائي)، توفي بمكة سنة (١٣٣٠ ه) ، رحمه الله تعالى.

١١- العلامة الشيخ محمد صالح بن عمر السماراني ، قال الإمام الترمسي رحمه الله تعالى:  (حضرت عنده في تفسير الجلالين بتمامه مرتين، وشرح الشرقاوي على الحكم كذلك، ووسيلة الطلاب، و شرح المارديني في الفلك).

تلاميذه:  

وبعد أن أجازه مشايخه بالعلوم الشرعية العقلية منها والنقلية وأذنوا له بالتدريس، تصدر الإمام الترمسي للتدريس والإفادة بالمسجد الحرام عند باب الصفا كما تقدم، فأقبل عليه الناس من كل حدب، وتخرج على يديه ما لا يحصى، وروئ عنه ما له جماعة من العلماء والأعيان؛ فمن هؤلاء:

١- العلامة علي بن عبد الله بن محمد أرشد بن عبد الله البنجري الأندونيسي المكي الشافعي، ولد بمكة سنة (١٢٨٥هـ) ونشأ بها ، ولازم السيد أبا بكر شطا والشيخ سعيد يماني وبهما تخرج، ولازم دروس الإمام محمد محفوظ الترمسي، وحضر دروسه في الفقه والنحو وأخذ عنه، وأجيز من مشايخه بالتدريس، فدرس في المسجد الحرام في النحو والفقه الشافعي، وكان منزله مقصدا لطلاب العلم ، له "الكوكب البري في ثبت البنجري"، توفي سنة (١٣٤٨ ه ).

٢- أخوه العلامة محمد دمياطي الترمي ، توفي سنة ( ١٣٥٤ هـ )، رحمه الله تعالى.

٣- العلامة عمر بن أبي بكر بن عبد الله بن عمر بن علي بن محمد باجنيد الحضرمي المكي، ولد بحضرموت سنة (١٢٧٠ ه)، حفظ القرآن الكريم ، وسافر به والده إلى الحرمين الشريفين، ولازم الشيخ محمد سعيد بابصيل ملازمة تامة وبه تخرج، وأخذ عن السيد أحمد زيني دحلان، ولازم اليد حسين بن محمد الحبشي ، وأخذ في الحديث عن السيد محمد بن جعفر الكتاني، تولى التدريس بالمسجد الحرام ، وأخذ عنه عدد من علماء المسجد الحرام، توفي سنة (١٣٥٤ هـ )، رحمه الله تعالى.

٤- العلامة المقرىء المحدث أحمد بن عبد الله بن محمد شهاب الدين الدمشقي المخللاتي، ولد بدمشق سنة (١٢٨٧ هـ)، تعلم أولا في مدرسة الخياطين ثم في مدرسة نور الدين الشهيد، وأخذ عن علماء الشام؛ كالشيخ أبي الفتح بن عبد الرحيم الخطيب، والشيخ سليم العطار، والمحدث بدر الدين الحسني، وغيرهم ، ثم سافر إلى مكة سنة (١٣٠٣ ه)، والتحق بالمدرسة الصولتية ، فتلقى فيها على كثير من الأجلاء، وأجازه الإمام الترمسي إجازة عامة وكتب له ذلك، وله مؤلفات ، منها: نظم في قراءة ابن كثير، والسراج المنير في شرح منظومتي لقراءة ابن كثير ، وا المقاصد الحميدية، والجوهر المكنون في إعراب كن فيكون، توفي سنة ( ١٣٦٢ هـ)، رحمه الله تعالى.

٥- العلامة الحافظ محمد حبيب بن عبد الله بن أحمد ما يأبى الجنكي الشنقيطي المالكي، ولد بشنقيط سنة (١٢٩٥ ه)، وتعلم على خيرة علماء بلده؛ كالحافظ محمد أمين الجنكي، ولازم العلامة أحمد بن أحمد بن الهادي وبه تخرج، ثم سافر إلى مراكش وفاس ودمشق والحرمين ومصر وأخذ عن علمائها، وله تأليف كثيرة، منها: دليل السالك إلى موطأ مالك، وزاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم، وأنوار النفحات في شرح نظم الورقات، وإبراز الدر المصون على الجوهر المكنون، توفي بمصر سنة ( ١٣٦٣ ه)، رحمه الله تعالى. 

٦-العلامة محمد باقر الجاوي المريكي، ولد سنة (١٣٠٥ هـ)، أخذ عن والده، وعن الإمام محمد محفوظ الترمسي، وعن الشيخ عبد الكريم الداغستاني، والشيخ دمياطي أخي الإمام محفوظ الترمسي، كان أحد المدرسين الذين يعتمد عليهم في العلوم العقلية والنقلية، تصدر للتدريس والإفادة بالمسجد الحرام، فأخذ عنه كثير من أهل العلم، توفي بمكة المكرمة سنة (١٣٦٣ ه) رحمه الله تعالى.

٧- العلامة الشيخ الكياهي باقر بن محمد نور بن فاضل بن ابراهيم الجوكجاوي الأندونيسي المكي، ولد في مدينة جوكجا بجاوه الوسطى سنة (١٣٠٦ ه)، ورحل إلى مكة، ونشأ بها وطلب العلم، فأخذ عن الإمام محمد محفوظ الترمسي، والشيخ أحمد بن عبد اللطيف المتكاباوي، والسيد حسين بن محمد الحبشي، أجازه مشايخه بالتدريس؛ فتصدر له بالمسجد الحرام وبمنزله، فأفاد منه كثير من الأعيان، وله تأليف كبير في تراجم علماء أندونيسيا، توفي بمكة المكرمة سنة ( ١٣٦٣ هـ) ، رحمه الله تعالى. 

٨- العلامة محمد عبد الباقي بن علي بن محمد معين الأيوبي اللكنوي، ولد في لكنهو سنة (١٢٨٦هـ)، حفظ القرآن على المقرئ جعفر علي البسواني، وقرأ ضروريات الفقه على صهره عبد الوهاب بن محمد عبد. الرزاق الأنصاري، وأخيه محمد إبراهيم الأنصاري، وأخذ العربية على السيد حمزة النقوي، وأخذ الإجازة من أكابر العلماء؛ كالشيخ عبد الحي اللكنوي، والشيخ علي القضاة، والشيخ فضل الرحمن بن أهل الله المراد آبادي، ثم هاجر إلى الحرمين سنة ( ١٣٢٢ ه)، وأخذ عن كبار علماء مكة والمدينة، ومنهم الإمام محمد محفوظ الترمسي، وله مؤلفات كثيرة منها : رسالة السعادة في شرح رسالة الآداب لطاش كبرى زاده، والمنح المدنية في مذهب الصوفية، وتحفة الماجد بحكم صلاة الجنازة في المساجد، توفي بالمدينة سنة (١٣٦٤ هـ) ، رحمه الله تعالى.

٩- العلامة محمد هاشم أشعري الجومباني الشافعي، ولد في قرية من قرى جومبان بجاوه الشرقية سنة ( ١٢٨٢ ه ) حفظ القرآن الكريم، وأخذ الفقه والنحو والصرف عن الشيخ خليل بن عبد الله طيف البنكلاني، ثم سافر إلى مكة المكرمة، وجاور فيها ست سنوات؛ طلبا للعلم والعبادة، وبها أخذ عن الإمام محمد محفوظ الترمسي ولازم دروسه، وهو عمدته في علماء مكة المكرمة، كما لازم السيد علوي بن أحمد السقاف، والسيد حسين بن محمد الحبشي، وغيرهم، ثم عاد إلى بلده سنة (١٣١٤ ه)، واتجه نحو التدريس في المعهد العلمي الذي أنشأه والده ، فقام بتوسيعه، واستقدم العلماء من أنحاء البلاد، وأنشأ المعاهد والمدارس الإسلامية في شتى أنحاء بلاده، وأسس رابطة باسم (جمعية نهضة العلماء) وتولى رئاستها، توفي في جاوه الشرقية سنة (١٣٦٦ هـ)، رحمه الله تعالى.

١٠- العلامة المحدث عمر بن حمدان بن عمر المحرسي المدني المكي، ولد بجربة بتونس سنة (١٢٩١ ه )، قرأ القرآن ومبادئ العلوم على علماء بلده، ثم سافر به والده إلى أرض الحجاز سنة (١٣٠٤ ه)، فقرأ على علماء الحرمين؛ كالشيخ أبي الحسن علي الوتري، والعلامة أحمد بن إسماعيل البرزنجي، والمحدث محمد بن جعفر الكتاني، وغيرهم، وكان ممن أجازه الإمام الترمسي إجازة عامة بجميع مروياته وبمؤلفاته، وكتب له الإجازة بخطه على ظهر مؤلفه شرح ألفية السيوطي، مؤرخة في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة (١٣٣٧ هـ)، توفي سنة ( ١٣٦٨ هـ) ، رحمه الله تعالى.

١١- العلامة المحقق الشيخ الكياهي إحسان بن عبد الله بن محمد صالح بن عبد الرحمن الجمفسي، من قرية جمفى بجاوه الوسطى، أخذ عن الإمام محمد محفوظ الترمسي بمكة سنة (١٣٢١ ه)، وأجازه إجازة عامة، وأخذ أيضاً عن الشيخ زين الدين بن بدوي الصومباوي المكي، والشيخ عمر بن صالح السماراني، وغيرهم، توفي بجمفس سنة (١٣٧٤ه)، رحمه الله تعالى.

١٢- العلامة الشيخ الكياهي عبد المحيط بن يعقوب بن فانجي السرباوي الجاوي المكي، ولد بسرابايا في جاوه الشرقية سنة (١٣١١ ه) ، وفي سنة (١٣٢٩ ه ) رحل إلى الحجاز فلازم الإمام محمد محفوظ الترمسي وأخذ عنه الفقه والعربية والقراءات، وسمع عليه الكتب الستة، وهو عمدته في الرواية، وأخذ عن الشيخ عمر بن صالح بن عمر الماراني، والشيخ عبد الشكور بن عبد الجليل السرباوي، وغيرهم، توفي بجدة سنة (١٣٨٤ هـ )، رحمه الله تعالى.

١٣- العلامة المعمر الكياهي بيضاوي بن عبد العزيز بن بيضاوي الأندونيسي اللاسمي الشافعي، ولد بلاسم، أخذ عن الشيخ الكياهي عمر هارون الساراني، فلازمه مدة طويلة نحوا من عشر سنين، وقرأ على الكياهي محمد إدريس صولو، والكياهي هاشم فاداعان، ثم قدم مكة المكرمة؛ رغبة بالمجاورة وطلب العلم، وفيها لازم الإمام الترمسي مدة أربع سنوات، وقرأ عليه في فنون متعددة، واستفاد منه وبه تخرج، ثم عاد إلى بلاده وتصدى للتدريس والإفادة في معهده العلمي، توفي بلاسم سنة (١٣٩٠ ه) ، رحمه الله تعالى. 

١٤- العلامة المعمر الكياهي معصوم بن أحمد بن عبد الكريم اللاسمي، ولد بلاسم بجاوه الوسطى سنة (١٢٩٠ ه)، أخذ عن الشيخ خليل بن عبد اللطيف البنكلاني المادوري، وعن العلامة عمر صالح السماراني، وغيرهما، ثم رحل إلى الحرمين؛ رغبة في زيادة الاستفادة، فأخذ عن الإمام محمد محفوظ الترمسي وأخيه محمد دمياطي الترمسي، وبعد رجوعه إلى بلده لاسم تصدر للتدريس فتخرج به جملة من العلماء، توفي في لاسم سنة (١٣٩٢ هـ)، رحمه الله تعالى.  

١٥- العلامة عبد القادر بن صابر المندهيلي، ولد سنة (١٢٨٣هـ )، وكان واحدا من خمسة عشر عالما اختيروا للتدريس بالجد الحرام سنة (١٣٣٣ هـ).

١٦- العلامة الشيخ الكياهي صديق بن عبد الله بن صالح بن محمد اللاسمي الجمبري، من بلدة لاسم، توطن بجمبر من جاوه الشرقية، من شيوخه: الإمام محمد محفوظ الترمسي، والعلامة زين الدين بن بدوي الصوماوي، والشيخ عبد الغني صبح البيماوي.

١٧- العلامة الفقيه الكياهي عبد الوهاب بن حسب الله الجومباني، من جومبانج في جاوه الشرقية، كان كثير التردد لزيارة بيت الله الحرام في مواسم الحج، أخذ عن الإمام محمد محفوظ الترمسي وهو عمدته في الرواية والتحديث.  

١٨- كاتبه الكياهي خليل اللاسمي.

مؤلفاته:  

لقد صنف الإمام الترمسي رحمه الله تعالى مصنفات عديدة في مختلف العلوم هي في غاية الحسن والإتقان، ما يدل على فضل هذا الإمام وسعة اطلاعه وتفننه في العلوم؛ فقد صنف في الفقه وأصوله، والحديث وعلومه ، والقراءات وغير ذلك، ومن مصنفاته :  

- إسعاف المطالع بشرح البدر اللامع نظم جمع الجوامع. 

- انشراح الفؤاد في قراءة الإمام حمزة روايتي خلف وخلاد.  

- البدر المنير في قراءة الإمام ابن كثير. 

- بغية الأذكياء في البحث عن كرامات الأولياء رضي عنهم. 

- تعميم المنافع بقراءة الإمام نافع.  

- تنوير الصدر في قراءة الإمام أبي عمرو  

- تهيئة الفكر بشرح ألفية السير، للعراقي رحمه الله تعالى.

- ثلاثيات البخاري. 

- الخلعة الفكرية شرح المنحة الخيرية.

- السقاية المرضية في أسامي كتب أصحابنا الشافعية.  

- عناية المفتقر فيما يتعلق بسيدنا الخضر عليه السلام  

-غنية الطلبة بشرح نظم الطيبة في القراءات العشرية.  

- فتح الخبير بشرح مفتح السير.

- الفوائد الترمسية في أسانيد القراءات العشرية.  

- كفاية المستفيد فيما علا من الأسانيد.  

- المنحة الخيرية في أربعين حديثا من أحاديث خير البرية صلى الله عليه وسلم.

- منهج ذوي النظر في شرح منظومة علم الأثر.

- موهبة ذي الفضل حاشية على شرح مختصر بافضل، وهو كتابنا هذا.  

- نيل المأمول بحاشية غاية الوصول في علم الأصول. 

وفاته:  

وبعد حياة ملأها بالتعلم والتعليم والتدريس والإفادة والتأليف توفي الإمام محمد محفوظ الترمسي بمكة المكرمة قيل مغيب شمس الأحد سنة (١٣٣٨ ه)، وشيعت جنازته في محفل  عظيم، ودفن بحوطة آل شطا من مقبرة المعلاة، ولم يخلف إلا ولداً حافظاً لكتاب الله يعرف بكياهي محمد بن محمد محفوظ.  

رحم الله الإمام الترمسي رحمةً واسعة، وأسكنه فسيح جناته. .  

مدرستا المذهب العراقية والخرسانية

محمد طارق محمد هشام مغربية

عن كتابه (المذهب الشافعي)

بدأ المذهب الشافعي في العراق ثم حط رحاله في مصر؛ فنشأ مذهبان قديم وجديد.  

وفي الجديد نشأ الاجتهاد المقيد بأصول الإمام رحمه الله تعالى، والتخريج على قوله، وظهرت مدرستان رئيسيتان في رواية المسائل واستنباط الأحكام؛ هما: مدرسة العراقيين، ومدرسة الخراسانيين؛ وذلك في أواخر القرن الرابع وبدايات القرن الخامس.  

ويلاحظ فضيلة العلامة عبد العظيم الديب رحمه الله تعالى: أن اصطلاح العراقيين والخراسانيين نسب علمي، فهذا إمام المدرسة العراقية أبو حامد الإسفراييني، ينتسب إلى اسفرايين وهي: بلدة بخراسان من نواحي نيسابور، لكنه عراقي التفقه.  

وقل مثل ذلك في شيخه الداركي، فهو أصبهاني نيسابوري خراساني، تفقه بأبي إسحاق المروزي، ودرس في نيسابور، إلا أنه انتهى عراقياً، انتهى إليه الفقه في بغداد، وعنه أخذ عامة شيوخها؛ على حد قول السبكي رحمه الله.

ومما ينتبه إليه أيضاً أن الخراسانيين يسمون بالمراوزة؛ فتارة يقولون: أصحابنا المراوزة، وتارة يقولون: أصحابنا الخراسانيون. وهما سواء كما قال ابن الملقن في طبقاته. وعلل ذلك بقوله: لأن أكثر الخراسانيين من مرو وما والاها".

ويذكر الشيخ عبد العظيم سبباً لإطلاق تسمية المراوزة على الخراسانيين؛ وهو أن شيخ الطريقة وهو القفال كان مروزياً، وكان شيخه أبو زيد المروزي، وشيخ شيخه أبو إسحاق المروزي، فصح لذلك نسبة المدرسة كلها إلى مرو، وصارت خراسان عَلَماً على مدرسة ممتدة تشمل الجناح الشرقي لدار الإسلام.  

أما العراقيون فهم وإن غلب عليهم إطلاق البغداديين، لشهرة بغداد وكونها محجة علماء الإسلام، إلا أن مدرسة العراقيين حوت مدارس أصغر كالبصريين، إضافة إلى البغداديين.

وقد نقل الإمام الماوردي رحمه الله تعالى خلافات بينهم؛ كقوله في باب استقبال القبلة: "وقد اختلف أصحابنا هل يلزمه استقبال القبلة فيه أم لا؛ أي: عند السلام للمتنفل على الراحلة؟ على وجهين:  

أحدها: وهو قول البصريين يلزمه التوجه عنده، لأنه أحد طرفي الصلاة كالإحرام.  

الثاني: وهو قول البغداديين لا يلزمه، لأن السلام خروج من الصلاة فكان أخف من أثناء الصلاة".  

كما ذكر الإمام الماوردي شروط البيع وخلاف العراقيين في شرط شرطه أبن المرزبان وجواب البصريين والبغداديين عليها.  

ومن أمثلة خلاف العراقيين فيما بينهم ما حكاه الماوردي رحمه الله من خلافهم على ترك الأذان فقال أبو إسحاق المروزي: يقاتلون وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يقاتلون".  

وقال الإمام السبكي رحمه الله تعالى: لنا خلاف شهير؛ أن القضاء هل يجب فيه الفور؟ جمهور العراقيين على عدم الوجوب!"  

فتعبيره بلفظ : جمهور العراقيين يدل على وجود الخلاف داخل مدرستهم.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: إذا أطلق الفقيه الشافعي: أهل العراق فمراده مقابل المراوزة منهم. فتح الباري ٩/ ٣٨٩. ط. السلفية.  

وثمة ملاحظة تخطر بالبال؛ وهي أن لفظ العراقيين يطلق على هذه المدرسة في كتب المذهب، أما في الأعم الغالب فيراد بهم الحنفية، كما عبر بذلك الإمام الشافعي فسمى كتابه : (اختلاف العراقيين). وعنى: أبا حنيفة وابن أبي ليلى رحمهما الله تعالى.  

وكذلك ما فعله الإمام ابن القاص في (تلخيصه)، فهو وإن كان عراقياً، إلا أنه يذكر قول العراقيين في مقابل قول الشافعي رحمه الله، فظهرت إرادته الحنفية.  

وقد نقل الشيخ عبد العظيم رحمه الله تعالى في «مقدمة النهاية» ص ١٥٠ عن الإمام النووي خلافا بين البغدادين والبصريين في حكم الوطء في الحيض، والتصدق بدينار أو بنصف، قال الماوردي: «كان أبو حامد الإسفرايني وجمهور البغداديين يجعلونه قولا قديماً، وكان أبو حامد المروزي وجمهور البصريين لا يجعلونه قولا قديما، ولا يحكونه مذهباً للشافعي.. المجموع ٣٦٠/٣.  

ثم علق بقوله: ويلوح لي أن هذا خلاف ثانوي داخل طريقة العراقيين، ولهذا لم يشر إليه النووي وهو تكلم عن الطرق في حكاية المذهب.  

والظاهر أن فضيلته لم يعد للحاوي مباشرة فهو طافح بذكر الخلاف داخل المدرسة العراقية، والله أعلم.  

ويدور بالخلد سؤال وهو: ما دور الشام ومصر؟ 

وهما كما يقول السبكي في طبقاته: هذان الإقليمان مركز ملك الشافعية، منذ ظهر مذهب الشافعية، اليد العليا لأصحابه في هذه البلاد لا يكون القضاء والخطابة في غيرهم.  

ويلوح الجواب في تأمل تاريخ تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الإسلام، فقد شغلت أرض الشام بصد جحافل الصليبيين عن أرض فلسطين - أعادها الله وسائر أراضي المسلمين السليبة - مما أعاق الحركة العلمية فيها، كما لم تكن خلصت للمذهب الشافعي بعد، فلا زالت فئة كبيرة تتعبد الله تعالى على مذهب الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى إمام أهل الشام.  

أما مصر فقد كانت في تلك الفترة تعيش اضطراباً شديداً تتنازعها الخلافة العباسية والفاطمية، إلى ما تحملته أيضا من تبعات قتال الصليبيين حتى يسر الله تعالى دحرهم وكتب النصر لعباده المسلمين.  

لكن هذا لا ينفي وجود أئمة كبار من أهل البلدين، فهذا الإمام أبو عبيد بن حربويه المعدود من أقطاب العراقيين وأحد أصحاب الوجوه المشهورين يلي قضاء مصر وجميع أحكامه بمصر من اختياراته".

 كما أن الإمام أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي، أحد أئمة المذهب، ومن رؤوس البغداديين، وقد انتهت إليه رياسة المذهب بعد ابن سريج، تفقه به سبعون من أهل المذهب حتى صاروا أئمة، وشرح مختصر المزني وألف في الأصول والفروع؛ يجلس في مجلس الشافعي في مصر، فيجتمع الناس إليه ويضربون إليه أكباد الإبل، ويدفن في مصر عند الشافعي"!.

ويحدثنا الإمام النووي رحمه الله تعالى في: «تهذيب الأسماء واللغات» عن الإمام نصر المقدسي فيقول: الإمام أبو الفتح نصر المقدسي ثم الدمشقي، المجمع على جلالته.  

قال الحافظ ابن عساكر: وحكي عن بعض أهل العلم قال: صحبت إمام الحرمين أبا المعالي بخراسان، ثم قدمت العراق فصحبت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، وكانت طريقته عندي أفضل من طريقة أبي المعالي، ثم قدمت الشام فرأيت الفقيه أبا الفتح نصراً المقدسي، فكانت طريقته أحسن من طريقتهما وصحبه الغزالي متبركا به حين قدم دمشق متزهداً.  

وله مع ذلك الكتب الكبار في المذهب؛ فمنها «الانتخاب الدمشقي» في المذهب نحو بضعة عشر مجلداً، وهو على هيئة «تعليق القاضي أبي الطيب الطبري»، ويحذو حذوه وينقل منه كثيراً، وكتاب «التهذيب» نحو عشر مجلدات و«الكافي» مجلد مختصر يحذو فيه حذو شيخه سليم الرازي في كتاب «الكفاية»، ولا يذكر فيه قولين ولا وجهين، بل يخرج بالراجح عنده، وفيه نفائس!".

والشيخ نصر معدود في العراقيين. فكما اتسعت المدرسة الخراسانية لتشمل الجناح الشرقي من أرض المسلمين، فكذلك الحال للمدرسة العراقية والجانب الغربي .  

أما عن مميزات كل مدرسة؛ فنجد الإمام النووي رحمه الله تعالي يقول في مقدمة المجموع: ((اعلم أن نقل أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي وقواعد مذهبه ووجوه متقدمي أصحابنا أتقن وأثبت من نقل الخراسانيين غالباً، والخراسانيون أحسن تصرفاً وبحثاً وتفريعاً وترتيباً".

ويعلق الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى في كتابه عن الشافعي: ومن هذا ترى أن النووي يجعل فضل العراقيين في النقل، وفضل الخراسانيين في التصرف والبحث والتفريع، وذلك لأنه في بيئة العراق ومصر نشأ المذهب الشافعي قديمه وجديده.

وكان الاحتياج إلى التفريع خضوعاً لحكم البيئة غير كثير، لأن هذه البيئة قد أثرت تأثيرها في نشأة المذهب، وأما خراسان وما وراءها، فهي بيئة جديدة عليه لم ينشأ فيها، فكان لا بد من أن يكون فيه تصرف وبحث وتفريع، ليسعف هذه البيئة وغيرها بحاجتها وليعيش فيها، ويترعرع في ظلها".

والتعليل بالبيئة غير مسلم للشيخ، وإن درج عليه طائفة كبيرة من أهل العلم، فالوقائع متجددة في خراسان والعراق على حد سواء، ونصوص الشافعي نقلت إلى خراسان كما نقلت إلى غيرها من أصقاع المسلمين، كما مر أن كثيرا من فقهاء العراق نشأ وتعلم في خراسان"  

والذي يظهر والله أعلم أن المسألة راجعة إلى طبيعة شيوخ الطريقتين، فما درج عليه كل شيخ في مجالس البحث والنظر، تناقله طلابه وقرروه في كتبهم ونافحوا عنه، فتكونت الطريقة وأخذت في التوسع، وقد ذكر العلامة الشيخ سليمان الكردي أن أصحاب القفال والشيخ أبي حامد مع كثرتهم لا يفرعون ويؤصلون إلا على طريقته غالباً وإن خالفت سائر الأصحاب".  

ثم بدأت مرحلة تدوين الموسوعات الجامعة، فصار كل مؤلف يذكر قول أشياخه ويحاول تزييف قول الخصم، ويذكر الحجج والبراهين لقوله"؟  

فلما أتت مرحلة التحرير متمثلة بالإمام الرافعي وتاليه الإمام النووي -رحمهما الله تعالى؛ كانت كتب الطريقتين نصب أعينهم، يرجحون منها ما وافق الدليل أو نص الشافعي رحمه الله تعالى.

فمن أمثلة ذلك ما ذكره ابن الملقن رحمه الله تعالى عند اختلاف المتناكحين في بقاء النكاح أو فسخه: ((واعلم أن ما جزم به المصنف من كون النكاح لمن حلف منهما هو ما رآه الإمام وتبعه الغزالي والرافعي والمصنف، لكن النص في الأم بطلان نكاحهما؛ وبه قال الماوردي والعراقيون كما أفاده ابن الرفعة)). 

هذا مع بيان أن الإمامين معدودون في زمرة الخراسانيين، فنستطيع أن نقول: الفقه الشافعي الآن خراساني بصبغة عراقية، والله أعلم.  

فتجد الخراسانيين ميالين للتخريج، أما العراقيون فالتزموا بنص الإمام.  

وينظر في ذلك (نهاية المطلب) وهو من كتب متأخري الخراسانيين وقد رد فيه كثيراً على فقهاء العراقيين، وكذلك منع الإمام الماوردي في حاويه الكبير وهو من كبار أئمة العراقيين.  

أما أهم كتب الطبقتين فيقول العلامة أحمد بك الحسيني رحمه الله تعالى -في مقدمة كتابه: «مرشد الأنام لبر أم الإمام»: تتميم في مراد المراد من قولهم: طريقة العراقيين والخراسانيين: 

اعلم أن مدار كتب أصحابنا العراقيين أو جماهيرهم مع جماعة من الخراسانيين على (تعليق الشيخ أبي حامد الإسفراييني)، وهو في خمسين مجلداً، جمع فيه من النفائس ما لم يشاركه في مجموعه غيره، من كثرة المسائل والفروع وذكر مسائل العلماء وبسط أدلتها والجواب عنها، وعنه انتشر فقه أصحابنا العراقيين، وهو شيخ طريقة العراق. 

وممن تفقه عليه من أئمة الأصحاب أبو الحسن الماوردي، صاحب «الحاوي الكبير»، والقاضي أبو الطيب الطبري، صاحب «التعليقة» المشهورة، وسليم الرازي صاحب «المجرد» وأبو الحسن المحاملي صاحب «المجموع»، وأبو علي البندنيجي صاحب «الذخيرة»، وغير هؤلاء ممن لا يحصى كثرة.  

فإذا أطلقوا في الكتب لفظ قال أصحابنا العراقيون كذا، وطريقة أصحابنا العراقيين كذا، فمرادهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني وأتباعه هؤلاء المذكورون .  

كما أنهم إذا أطلقوا لفظ: قال أصحابنا الخراسانيون كذا، طريقة أصحابنا الخراسانيين كذا، فمرادهم القفال المروزي شيخ طريقة خراسان وأتباعه، وهم: أبو بكر الصيدلاني وأبو القاسم الفوراني والقاضي حسين المروروذي والشيخ أبو محمد الجويني وأبو علي السنجي قيل: والمسعودي، فتارة يقولون: قال الخراسانيون، وتارة يقولون: قال المراوزة. وهما عبارتان عن معبر واحد.  

فالخراسانيون وإن كانوا أعم من المراوزة لأن مدن خراسان العظيمة أربعة: مرو، ونيسابور، وبلخ، وهراة، لكنهم يعبرون تارة عن طريقة الخراسانيين بقولهم: قال المراوزة، لأن شيخ طريقة الخراسانيين ومعظم أتباعه مراوزة.

فالقفال المروزي أخذ عن أبي زيد المروزي عن أبي إسحاق المروزي.

والشيخ أبو حامد الإسفراييني أخذ عن أبي القاسم الداركي، عن أبي إسحاق المروزي، فأبو إسحاق المروزي إليه منتهى الطريقين.  

وأما إذا قالوا: في كتب الخراسانيين كذا، فإن هذا الإطلاق يشمل كتب أصحاب الطريقة المذكورين وسائر كتب أئمة خراسان، كما أنهم إذا قالوا: في كتب العراقيين كذا، فإنه يشمل كتب أصحاب الطريقة المذكورين وسائر كتب أئمة العراقيين.  

فمن كتب الخراسانيين: «النهاية» لإمام الحرمين، و«الوسيط» للغزالي،و«تعليق» القاضي حسين، و«الإبانة» للفوراني، و«التتمة» للمتولي، و«التهذيب» للبغوي، و«العدة» لأبي المكارم الروياني، و«بحر المذهب» لأبي المحاسن الروياني وغيرها.  

ومن كتب العراقيين: «المجموع» و«اللباب» و«المقنع» للمحاملي، و«الذخيرة» لأبي علي البندنيجي، و«المجرد» لسليم، و«تعليق» القاضي أبي  الطيب الطبري، و«الحاوي الكبير» للماوردي، و«المعتمد» لأبي نصر البندنيجي، و«المهذب» و«التنبيه» للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، و«الشامل» لابن الصباغ، و«التهذيب» لنصر المقدسي، و«الحلية» لفخر الإسلام الشاشي، و«العدة» للحسين بن علي الطبري، و«الذخائر» لمجلي، وغيرها.  

وأما إذا طلقوا في الكتب لفظ الأصحاب فهذا الإطلاق يعم أصحاب الطريقين ومن عاصرهم ومن كان قبلهم من الأئمة العظام ومن كان بعدهم.  

ثم بعد أصحاب الطريقين جماعة من الأصحاب ينقلون الطريقين، كأبي عبد الله الحليمي، والروياني صاحب البحر»، ومجلي صاحب الذخائر»، وإمام الحرمين والمتولي صاحب «التتمة» والغزالي، وغيرهم.  

وأما أصحاب الوجوه، فهم أخص من لفظ الأصحاب؛ لأن كل من كان من أصحاب الوجوه يدخل تحت لفظ الأصحاب ولا عكس، وأصحاب الوجوه معروفون ويدخل فيهم أصحاب الطريقين".  

ولكن ما هي طبقات الطريقتين وصولاً لعصر الترجيح؟  

أما الخراسانيون؛ فالطبقة الأولى منهم من تلاميذ الإمام، فمنهم إسحق بن راهويه الحنظلي، وحامد بن يحيى بن هانئ البلخي، ومنهم أبو سعيد الأصفهاني الحسن بن محمد بن يزيد، وهو أول من حمل علم الشافعي إلى أصفهان، ومنهم أبو حسن النيسابوري علي بن سلمة بن شقيق.  

والطبقة الثانية طبقة تلامذتهم، وعلى رأسهم: أبو بكر بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح، ومنهم أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي، الذي ولد ببغداد، ونشأ بنيسابور، وتفقه بمصر على أصحاب الشافعي، وسكن بسمرقند، ومنهم أبو محمد المروزي عبدان بن محمد بن عيسى، تفقه على المزني، قال ابن السمعاني: هو الذي أظهر مذهب الشافعي بمرو. ومنهم أبو عاصم فضيل بن محمد الفضيلي الكبير الفقيه، فقيه هراة ومفتيها، ومنهم أبو الحسن الصابوني، ومنهم أبو سعيد الدرامي، ومنهم أبو عمرو الخفاف رئيس نيسابور، ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم العبدي البوشنجي.  

ثم تلتهم طبقة ثالثة هي طبقة تلامذة هؤلاء، وعلى رأسهم: أبو علي الثقفي، وأبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب الصبغي، وأبو بكر المحمودي المروزي، وأبو الفضل يعقوب بن إسحاق بن محمود الهروي.  

ثم تلتهم طبقة رابعة هي تلاميذ الثالثة؛  فمنهم أبو إسحاق المروزي، وعنده تلتقي سلسلة الطريقتين، ومنهم أبو الوليد حسان بن محمد القرشي النيسابوري، وأبو الحسين النسوي، وأبو بكر البيهقي.  

ثم الطبقة الخامسة، وعلى رأسهم: أبو زيد المروزي، وأبو سهل الصعلوكي، وأبو العباس الهروي، وأبو حفص الهروي وغيرهم.  

ثم الطبقة السادسة من تلامذتهم، وعلى رأسهم: أبو بكر القفال المروزي شيخ الطريقة، وأبو الطيب الصعلوكي، وأبو أيوب الأبيوردي، وأبو إسحاق الإسفرايني.  

الطبقة السابعة وعلى رأسهم القاضي حسين، وأبو علي السنجي، وأبو بكر الصيدلاني.  

ثم الطبقة الثامنة وهي من أواخر طبقات هذه السلسلة، فمنهم إلكيا الهراسي، وأبو سعد المتولي، ومحيي السنة البغوي، والروياني، وإمام الحرمين، وحجة الإسلام الغزالي.  

أما طبقات العراقيين:  

فالطبقة الأولى من تحمل عن الإمام في العراق، كالحارث بن سريج النقال الذي نقل رسالة الإمام الشافعي للإمام عبد الرحمن بن مهدي، ومنهم أبو عبدالله الصيرفي، ومنهم أبو عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبدالعزيز البغدادي، والإمام المجتهد أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي.  

والطبقة الثانية من العراقيين، كان على رأسهم أبو القاسم عثمان بن سعيد الأنماطي، أحد أئمة الشافعية الكبار ممن انتشر بهم المذهب في الأقطار، وأبو بكر النيسابوري، وأبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي الذي كان شيخ الشافعية بالعراق قبل ابن سريج، والقاضي أبو عبيد علي بن الحسين بن حربويه البغدادي، وأبو إسحاق الحربي.  

والطبقة الثالثة وهم من تلاميذ أبي القاسم الأنماطي، فعلى رأسهم أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج، الباز الأشهب وأحد أئمة الدنيا، والإمام أبو سعيد الإصطخري، وأبو علي بن خيران، وأبو حفص عمر بن عبد الله المعروف بابن الوكيل.  

والطبقة الرابعة من تلاميذهم: كأبي إسحاق المروزي، وأبي علي بن أبي هريرة، وأبي الطيب بن سلمة، وأبي بكر الصيرفي البغداديين، وأبو العباس ابن القاص البغدادي، وأبو جعفر الاستراباذي، وأبو بكر أحمد بن الحسين بن سهل الفارسي، وأبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن القطان.  

ثم الطبقة الخامسة وعلى رأسهم أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله الداركي شيخ العراق، وأبو علي الطبري، وأبو الحسن بن المرزبان.  

ثم  الطبقة السادسة وعلى رأسهم الإمام أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد  الإسفراييني، شيخ العراقيين ورافع لوائهم، فعن كتبه يصدرون، وبتعليقته يأخذون، ومنهم أبو الحسن الماسرجسي، وأبو الفضل النسوي.  

ثم الطبقة السابعة،  فمنهم أبو الحسن الماوردي صاحب «الحاوي»، والقاضي أبو الطيب، وسليم الرازي، وأبو إسحاق الشيرازي صاحب «المهذب»، وأبو الحسن المحاملي الضبي ناشر علم أبي حامد في كتبه وتلخيصاته. والبندنيجي، والقاضي أبو سعيد الأبيوردي.  

ثم  الطبقة الثامنة وهي من خواتيم طبقات العراقيين، فمنهم القاضي أبو السائب عقبة بن عبدالله بن موسى الهمداني، وأبو بكر محمد بن عمر البغدادي، وأبو محمد الجوزجاني  

هذا التقسيم يعطي فكرة تقريبية عن طبقات الطريقتين، فربما وجد من يعد من العراقيين أو الخراسانيين لكنه جامع فقه الطريقين، كما قالوا عن أبي علي السنجي وكما مر عن أبي إسحاق المرزوي الذي انتهت إليهما الطريقتان. 

كما أن إمام الحرمين والإمام الرافعي والنووي جمعوا فقه الطريقتين وإن كان الغالب عليهم المدرسة الخراسانية.  

وقد أبان الإمام النووي عن سنده إلى الإمام الشافعي في مقدمة «المجموع»، و«تهذيب الأسماء واللغات»، فيقول رحمه الله تعالى: 

فأما أنا فأخذت الفقه قراءة وتصحيحاً وسماعاً وشرحاً وتصحيحاً عن جماعات؛ أولهم شيخي الإمام أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي ثم المقدسي هن، ثم شيخنا أبو عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن إبراهيم المقدسي ثم الدمشقي مفتي دمشق، ثم شيخنا أبو حفص عمر بن أسعد بن أبي طالب الربعي ثم الأربلي، وتفقه شيوخنا على الإمام أبي عمرو بن الصلاح وتفقه هو على والده فأخذ عنه الطريقتين.  

أما طريقة العراقيين: فعلى ابن سعيد عبد الله بن هبة الله بن علي بن أبي عصرون الموسوي، وتفقه أبو سعيد على القاضي أبي علي الفارقي، وتفقه الفارقي على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، الذي تفقه على القاضي أبي الطيب الطبري طاهر بن عبدالله، وأبو الطيب تفقه على أبي الحسن الماسرجسي محمد بن علي بن سهل بن مصلح، وتفقه المروزي على ابن سريج على أبي القاسم عثمان بن سعيد بن بشار الأنماطي، وتفقه الأنماطي على المزني أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى، وتفقه المزني على الإمام الشافعي.  

وأما طريقة أصحابنا الخراسانيين، فأخذتها عن شيوخنا المذكورين عن ابن الصلاح عن والده عن أبي القاسم بن البزري الجزري عن إلكيا الهراسي أبي الحسن علي بن محمد بن علي، والذي تفقه على إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني عن والده أبي محمد الجويني عن القفال المروزي الصغير، والذي تفقه على أبي زيد المروزي محمد بن أحمد بن عبد الله، وأخذ أبو زيد عن أبي إسحاق المروزي عن ابن سريج على ما سبق.

ويدل كلام النووي رحمه الله تعالى على وجود الطريقتين حتى عصره، يتناقلها علماء المذهب ويذكرون الخلاف في حلق التدريس.  

فلما كتب الإمام الرافعي «شرحه الكبير» ولاشرحه الصغير» والمحرر»، ثم تلاه الإمام النووي في «الروضة» و«المنهاج» و«المجموع» ذكرا ما ترجح عندهما، وقل ذكر الطريقتين في الكتب ومجالس التدريس.  

وصار المؤلفون والمدرسون يذكرون ما رجحه النووي والرافعي رحمهما الله تعالى، ثم يذكرون من وافق قولهم ممن قبلهم.  

التخريج على قول الإمام وأصحاب الوجوه

محمد طارق محمد هشام مغربية

من أهم العوامل التي ساعدت على مرونة المذهب الشافعي وغيره وقابليتها للتطور التخريج على قول الإمام، من نصه مباشرة أو على أصوله من قبل أصحاب الوجوه وأهل الترجيح، وسنتعرف في هذا الفصل على معاني التخريج عامة، ومعناه في المذهب الشافعي خاصة، وأحواله بين مانع ومجيز، ومن يحق له التخريج على قول الإمام، ونسبة القول المخرج إلى المذهب.

تعريف التخريج:  

لغة: قال الإمام ابن فارس اللغوي رحمه الله تعالى: الخاء والراء والجيم أصلان.  

فالأول: النفاذ عن الشيء، والثاني: اختلاف لونين.  

والمعنى الأول هو الأصل فيما نحن بصدده؛ فالتخريج مصدر للفعل خرج المضعف، وهو يفيد التعدية بأن لا يكون الخروج ذاتيا، بل من خارج عنه، ومثله أخرج الشيء واستخرجه فإنهما بمعنى استنبطه، وطلب إليه أن يخرج، والإخراج بمعنى التخريج؛ غير أن الإخراج أكثر ما يقال في الأعيان، ويقال في التكوين الذي هو من فعل الله تعالى، والتخريج أكثر ما يقال في العلوم والصنائع".

وقد تنوعت معاني التخريج عند الفقهاء والأصوليين فاختلف تعريفهم له تبعاً لذلك فمنها:  

١)- القياس الأصولي: وذهب إلى هذا جمع منهم ابن تيمية والشوكاني رحمهما الله تعالى.

٢) إطلاق التخريج على رد الخلافات الفقهية إلى القواعد الأصولية، على نمط ما في كتاب «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني، أو «التمهيد في تخريج الفروع على الأصول» للأسنوي.  

وهو بهذا المعنى يتصل اتصالاً واضحاً بالجدل وبأسباب اختلاف الفقهاء، إذ هو في حقيقته يتناول واحداً من تلك الأسباب، وهو الاختلاف في القواعد الأصولية.  

٣) قد يطلقون التخريج بمعنى التعليل، أو توجيه الآراء المنقولة عن الأئمة وبيان مآخذهم فيها، عن طريق استخراج واستنباط العلة وإضافة الحكم إليها، وهو من قبيل ما يسمى: ((تخريج المناط)). 

٤) هو القول الذي لم ينص عليه أهل المذهب يخرج من قول منصوص، وأصول المذهب تدل على وجوده. 

ومعنى تخريج الوجوه: استنباطها من كلام الإمام؛ كأن يقيس ما سكت عنه على ما نص عليه لوجود معنى ما نص عليه فيما سكت عنه، سواء نص إمامه على ذلك المعنى، أو استنبطه من كلامه، ويستخرج حكم المسكوت عنه بعد دخوله تحت عموم ذكره أو قاعدة قررها. 

فيكون التخريج هنا - كما يقرر الدكتور عبد الوهاب الباحسين - بمعنى "الاستنباط المقيد؛ أي: بيان رأي الإمام في المسائل الجزئية التي لم يرد عنه فيها نص، عن طريق إلحاقها بما يشبهها من المسائل المروية عنه"، فهو بهذا المعنى قياس، لكن على نص المجتهد لا على نص الشارع.  

وأكثر من ذكر التخريج من فقهاء الشافعية وغيرهم أراد به هذا المعنى.  

ونقل الدكتور نوار بن الشلي عن أئمة كبار من المالكية كابن العربي وابن المقري وابن عبد السلام رحمهم الله تعالى عدم الاعتداد بالقول المخرج مطلقاً؛ لأن المخرج يتنزل في إلحاقه بمنصوصات إمامه، منزلة إمامه في إلحاقه بنصوص الشرع.  

ولا شك أن من يسمع هذه الكلمة يستنكرها بادي الرأي، إذ كيف تتنزل نصوص إمام مذهب منزلة نصوص الشارع الحكيم؟!  

ولكن يبدو عند التأمل أن الخلاف لفظي، فالمخرج إنما يستنبط من قاعدة الإمام التي استنبطها من الشرع، لكنه لقصوره عن تحصيل ملكة الاجتهاد المطلق لجأ إلى هذا النوع من الاجتهاد المقيد.  

ولا مشاحة في الاصطلاح  

 وقد أكثر الأئمة رحمهم الله تعالى القول فيه، فمن مانع له، وموسع للأخذ  به حتى صحح نسبته لإمام المذهب، ومتوسط أجاز ذلك بشروط ارتآها على ما يأتي بيانه.  

فالمجيزون شرطوا لذلك أموراً بيَّنها الإمام النووي رحمه الله تعالى فقال:  

((ثم تارة يخرج عن نص معين لإمامه وتارة لا يجده، فيخرج على أصوله بأن يجد دليلا على شرط ما يحتج به إمامه فيفتي بموجبه، فإن نص إمامه على شيء ونص في مسألة تشبهها على خلافه فخرج من أحدهما إلى الآخر سمي قولاً مخرجا، وشرط هذا التخريج أن لا يجد بين نصيه فرقاً، فإن وجده وجب تقريرهما على ظاهرهما، ويختلفون كثيرا في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق)).

فهنا نجده فرق بين التخريج على نص للإمام في مسالة تشابه المسكوت عنها، أو التخريج على القواعد و الأصول العامة للمذهب، وفي كلا الحالين لا يأمن المخرج الفرق.  

فابن الصلاح رحمه الله تعالى أكد على ضرورة التحري في التماس الفرق بين المتشابهات؛ فقال:  

((ومهما أمكنه الفرق بين المسألتين لم يجز له في الأصح التخريج، ولزمه تقرير النصين على ظاهرهما معتمداً على الفارق، فكثيرا ما يختلفون في القول بالتخريج في مثل ذلك؛ لاختلافهم في إمكان الفرق والله أعلم)).

بل رأت فئة من الشافعية استحالة التشابه من كل وجه، فمنعت نسبة القول المخرج للإمام الشافعي رحمه الله تعالى، ومن أشهر هؤلاء الإمام أبو إسحق الشيرازي رحمه الله، إذ يقول:  

((إن القول إنما يجوز أن يضاف إلى الإنسان إذا قاله أو دل عليه بما يجري مجرى القول، فأما ما لم يقله ولم يدل عليه فلا يحل أن يضاف إليه، ولأن الظاهر أن مذهبه في إحدى المسألتين خلاف مذهبه في الأخرى، لأنه نص فيهما على المخالفة فلا يجوز الجمع بين ما خالف!))

والإمام الشيرازي رحمه الله إنما قصد الاعتراض على من نسب القول المخرج للإمام الشافعي رحمه الله، ومن أشهر هؤلاء إمام الحرمين الجويني رحمه الله ومن تابعه، فقال رداً عليهم:  

((لا يجوز أن ينسب إلى الشافعي يتهن ما يخرج على قوله فيجعل قولا له ومن أصحابنا من قال يجوز لنا: وهو أن قول الإنسان ما نص عليه أو دل عليه بما يجري مجرى النص، وما لم يقله ولم يدل عليه فلا يحل أن يضاف إليه، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لا ينسب لساكت قول)). 

فإذا لم يجز نسبة القول المخرج للإمام الشافعي، فهل تجوز نسبته للمذهب، وما هي درجات التخريج من حيث موافقته لنصوص الشافعي وقواعد المذهب وأصوله؟  

جالت هذه الأسئلة في ذهن الإمام شهاب الدين الأذرعي رحمه الله تعالى، فأرسل يسأل عنها إمام المذهب في عصره شيخ الإسلام تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى، فأجابه بما يشفي الغلة ويبين الصواب.  

وهاك السؤال وجوابه كاملا، فهو خير بيان وتلخيص للمسألة:  

نقل أبو زكريا عن الشيخ أبي عمرو بن الصلاح رحمهما الله ما لفظه:  

((والأوجه لأصحاب الشافعي المنتسبين إلى مذهبه يخرجونها على أصوله، ويستنبطونها من قواعده، ويجتهدون في بعضها، وإن لم يأخذوها من أصله.  

أشكل هذا الكلام على الخادم في عد مثل هذا وجها في المذهب، وأي فرق بين هذا وبين مفردات المزني؟ والمشهور أنها لا تعد من المذهب، أنه كيف يسوغ لمن سئل عن حكم مسألة في مذهب الشافعي من مفتي العصر أن يجيب فيها مصرحا بإضافة ذلك إلى مذهب الشافعي، إذا لم يعلم أن ذلك من منصوصاته أو مخرجا منها. والمسؤول كشف الغطاء في ذلك حرس مجدكم وكبت ضدكم.  

الجواب: الحمد الله؛ قد يؤخذ من نص معين، في مسألة معينة؛ فيخرج منها إلى مثلها المساوية لها من غير فرق، ولا نص يعارضه، وهذا أقوى ما يكون من التخريج، وتارة يكون من نص معين في مسألة معينة، وله في نظيرها نصٌّ يخالفه، فيتحزب الأصحاب؛ منهم من يتكلف فرقاً، 

ومنهم من يقول: قولان بالنقل والتخريج وهذه رتبة ثانية في التخريج، 

وتارة لا يكون له نص معين في مسألة معينة، ولكن يكون له قواعد مذهبية، ونصوص مختلفة في مسائل يؤخذ منها قاعدة كلية، تدل على حكم في مسألة لم يوجد فيها له نص  وهذه رتبة ثالثة، وقد تكون أقوى من الثانية، وإذا ظهر الفرق في الثانية ولم يظهر في هذه وهو يزاحم الأولى، وقد يربو عليها، لأن الأولى من مسألة واحدة وهذه من مسائل شتى.  

وقد يكون باجتماعهما يقوى على ما يؤخذ من تلك الواحدة، وقد لا يجد المخرج شيئا من هذه الأنواع الثلاثة، ولكن يجد دليلا شرعيا جاريا على أصل من أصول الشافعي الذي قرره في أصول الفقه، وهذه مرتبة رابعة.  

وقد لا يجد نوعا من هذه الأربعة، ولكن يجد دليلا شرعيا جاريا على أصل من جنس ما يقول به الشافعي وإن لم يكن له نص في ذلك الأصل، وهذه رتبة خامسة.  

وقد لا يجد شيئا من الخمسة، لكنه رجل قد تكيف بمذهب الشافعي، وبتصرفاته الفقهية والأصولية، حتى صارت له مزاجاً، ومن يكون كذلك تجده يدرك مراد الشخص فيما لم يصرح به، ثم تجد مع ذلك دليلا شرعيا، فيقول به فيما لم يجد نصا للشافعي، وهذه رتبة سادسة.  

وفي جميعها تقيد بالمذهب، وتارة لا يكون شيء من ذلك، ولا يكون الشخص مقلداً لإمامه في المذهب، ولا في الدليل، وإنما ينسب إليه لكونه سلك طريقه في الاجتهاد ودعا إلى سبيله، فيقول قولا فهو فيه كالمجتهد المطلق، ولكن لانتسابه إلى الشافعي وقدوته بقوله يعد قوله وجهاً.  

وليس فوق هذه السبعة رتبة إلا الاجتهاد المطلق الذي لا يسلك فيه طريقة غيره، ولا ينتسب إليه وهي التي اختلف في إثباتها للمزني، حتى إن تفرد لا تعد من المذهب، وله مع ذلك ما يشارك فيه السبعة المتقدمة فيعد ما قاله على ذلك من المذهب، والقسم الذي قاله ابن الصلاح وأشكل عليكم جدير بأن يكون هو السادس.

وأما من يسأل عن مذهب الشافعي  ويجيب مصرحا بإضافته إلى مذهب الإمام الشافعي، ولم يعلم ذلك منصوصا للشافعي ولا مخرجا على منصوصاته، فلا يجوز ذلك لأحد، بل اختلفوا فيما هو مخرج، هل يجوز نسبته إلى الشافعي أو لا؟.  

واختيار الشيخ أبي إسحاق أنه لا ينسب فهذا في القول المخرج، وأما الوجه فلا تجوز نسبته بلا خلاف، نعم إنه مقتضى قول الشافعي أو من مذهبه بمعنى أنه من قول أهل مذهبه، والمفتي يفتي به إذا ترجح عنده، لأنه من قواعد مذهب الشافعي، ولا ينبغي أن يقال: قال الشافعي.. إلا لما وجد منصوصا له.  

ولا مذهب الشافعي إلا لما جمع أمرين: 

أحدهما: أن يكون منصوصا له.  

والثاني : أن يكون قال به أصحابه أو أكثرهم.  

وأما ما كان منصوصا وقد خرج عنه الأصحاب، إما بتأويل وإما بغيره، فلا ينبغي أن يقال: إنه مذهب الشافعى، لأن تجنيب الأصحاب له يدل على ريبة في نسبته إليه.  

وما اتفق عليه الأصحاب، وقالوا إنه ليس بمنصوص، فيسوغ تقليدهم فيه، ولكن لا يطلق إنه مذهب الشافعي، بل مذهب الشافعية.  

وما اتفقوا عليه ولم يعلم هو منصوص له أو لا... يسوغ اتباعهم فيه، ويسهل نسبته إليهم لأن الظاهر من اتفاقهم أنه قال به)).

ففي هذا النص أوضح رحمه الله تعالى مراتب التخريج، وبقيت أمور تحتاج مزيد إيضاح وبسط، فمنها ما أوضحه ولده الإمام تاج الدين عبد الوهاب فقال في طبقاته الكبرى عن تخريجات كبار أصحاب الوجوه معلقا على قول الإمام النووي السالف:  

وقوله : (ويجتهدون في بعضها، وإن لم يأخذوه من أصله) يوهم أنه يعد من المذهب مطلقا، وليس كذلك، بل القول الفصل فيما اجتهدوا فيه، ولم يأخذوه من أصله، أنه لا يعد إلا إذا لم يناف قواعد المذهب، فإن نافاها لم يعد، وإن ناسبها عد، وإن لم يكن فيه مناسبة ولا منافاة..  ففي إلحاقه بالمذهب تردد.  

وكل تخريج أطلقه المخرج إطلاقا، فيظهر أن ذلك المخرج، وإن كان يغلب عليه التمذهب و التقيد كالشيخ أبي حامد والقفال عد من المذهب وإن كان ممن كثر خروجه كالمحمدين الأربعة فلا يعده!))؟  

يظهر مما قاله الإمام السبكي وولده التاج رحمهما الله تعالى عن رتب التخريج وتقسيمها إلى ستة؛ اشتراط كون القول المخرج مأخوذاً من نص الإمام مباشرة وهي الرتبة الأولى والثانية، أو مأخوذا من جملة نصوص وقواعد مجملة، وهي المراتب الثلاث الأخرى، وتبقى مرتبة المتمرس بالمذهب العارف مراد إمامه لمداومة النظر والتلقي، وعدها جميعا داخلة فى مذهب الشافعية، وهذه هي مراتب الوجوه.  

ثم نص ولده التاج على ضرورة كون القائل ممن لا يعتاد الخروج عن أصول الإمام، ويغلب كونه من أهل المذهب.  

ولكن معرفة هؤلاء عسرة جداً، قلَّ من حدٍّ له ضابطا ولو أغلبيا، وسياتي كلام الإمام القرافي المالكي رحمه الله تعالى مبينا من يجوز له التخريج.  

والإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه العظيم: تهذيب الأسماء واللغات، ينص على كون المترجم من أصحاب الوجوه، وتبقى المسألة بحاجة لمزيد شرح وبيان لا يحتمله هذا المدخل.

وقد ألف فضيلة الشيخ الدكتور محمد حسن هيتو حفظه الله كتابا أسماه: الاجتهاد وطبقات مجتهدي الشافعية، وهو من أوسع من تكلم في الموضوع على وجازته.  

أمثلة للتخريج:

قال الإمام الشيرازي رحمه الله تعالى:  

((فإذا كان المرهون في يد الراهن لم يجز للمرتهن قبضه إلا بإذن الراهن، لأن للراهن أن يفسخه قبل القبض، فلا يملك المرتهن إسقاط حقه، فإن كان في يد المرتهن، فقد قال في الرهن: إنه لا يصير مقبوضا بحكم الرهن إلا بإذن الراهن، 

وقال في الإقرار: والواهب إذا وهب له عينا في يده صارت مقبوضة من غير إذن. فمن أصحابنا من نقل جوابه في الرهن إلى الهبة، وجوابه في الهبة إلى الرهن فجعلهما على قولين، أحدهما: لا يفتقر إلى واحد منهما إلى الإذن في القبض،.. والثاني أنه يفتقر وهو الصحيح، لأنه عقد يفتقر لزومه إلى القبض فافتقر القبض إلى الإذن.  

ومن أصحابنا من حمل المسألتين على ظاهرهما، فقال في الهبة: لا تفتقر إلى الإذن، وفي الرهن يفتقر، لأن الهبة عقد يزيل الملك، فلم يفتقر إلى الإذن لقوته، والرهن لا يزيل الملك، فافتقر إلى الإذن لضعفه، والصحيح هو الطريق الأول، لأن هذا الفرق يبطل به إذا لم تكن العين في يده، فإنه يفتقر إلى الإذن في الرهن والهبة، مع ضعف أحدهما وقوة الآخر.  

وكذلك خلافهم في ضمان الدرك: وهو ضمان الثمن للمشتري إن خرج المبيع معيبا أو متحقا، بأن يقول: تكفلت بما يدرك في هذا البيع.  

وقد تعارض فيه أمران: قياسه على بقية الديون قبل ثبوتها فيمتنع.  

والثاني : ملاحظة عموم الحاجة إليه فيحكم بجوازه.  

والقياس الجزئي يقتضي منعه لأنه ضمان ما لم يجب، ولكن عموم الحاجة إليه لمعاملة الغرباء وغيرهم يقتضي جوازه. فقال ابن سريج بالمنع على مقتضى القياس وخرجه قولا.  

و الأصح صحته بعد قبض الثمن لا قبله، لأنه وقت الحاجة المؤكدة.  

فائدة:  

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: وقول الأصحاب في كتب المذهب: هذا من كيس الربيع، هذا من كيس فلان، هو بكسر الكاف؛ ومرادهم أن هذا من عنده وتخريج بنفسه وتصرفه، وليس هو منصوصاً للشافعي.

من هم أهل التخريج؟  

التخريج على قول إمام المذهب ليس بالأمر الهين، فهو محتاج لمعارف شتى وخبرة بنصوص الإمام وأصوله التي ارتضاها للاستنباط، بل إن المخرج يجتهد لكن مع نصوص إمامه لا مع الدليل الشرعي.  

وقد وقفت على كلام نفيس للإمام أبي العباس القرافي المالكي أحد أعيان العلماء في الفقه و الأصول في بيان طبقات أهل المذهب و من يحق له الإفتاء والتخريج منهم، أسوقه لما فيه من فوائد.  

يقول رحمه الله تعالى في كتابه العظيم «الفروق» الفرق الثامن والسبعون:

اعلم أن طالب العلم له أحوال:  

الحالة الأولى: أن يشتغل بمختصر من مختصرات مذهبه فيه مطلقات مقيدة في غيره وعمومات مخصوصة في غيره، ومتى كان الكتاب المعين حفظه وفهمه كذلك، أو جوز عليه أن يكون كذلك حرم عليه أن يفتي بما فيه؛ وإن أجاده حفظا وفهما، إلا في مسألة يقطع فيها أنها مستوعبة التقييد وأنها لا تحتاج إلى معنى من كتاب آخر، فيجوز له أن ينقلها لمن يحتاجها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان، وتكون هي الواقعة المسؤول عنها لا أنها تشبهها و لا تخرج عليها بل هي هي حرفا بحرف، لأنه قد يكون هنالك فروق تمنع من الإلحاق أو تخصيص أو تقييد يمنع من الفتيا بالمحفوظ فيجب الوقف.  

الحالة الثانية: أن يتسع في تحصيله في المذهب بحيث يطلع من تفاصيل الشروحات والمطولات على تقييد المطلقات وتخصيص العمومات، ولكنه مع ذلك لم يضبط مدارك إمامه ومسنداته في فروعه ضبطا متقنا، بل سمعها من حيث الجملة من أفواه الطلبة والمشايخ، فهذا يجوز له أن يفتي بجميع ما ينقله ويحفظه في مذهبه اتباعا لمشهور ذلك المذهب بشروط الفتيا، ولكنه إذا وقعت له واقعة ليست في حفظه لا يخرجها على محفوظاته، ولا يقول: هذه يصح ممن أحاط بمدارك إمامه وأدلته وتشبه المسألة الفلانية. لأن ذلك إنما أقيسته وعلله التي اعتمد عليها مفصلة، ومعرفة رتب تلك العلل ونسبتها إلى المصالح الشرعية.

وهل هي من باب المناسب الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم، أو جنسه في جنس الحكم، وهل هي من باب المصلحة المرسلة التي المصالح أو من قبيل ما شهدت لها أصول الشرع بالاعتبار، أو هي أدنى رتب هي من باب قياس الشبه أو المناسب أو قياس الدلالة أو قياس الإخالة أو المناسب القريب إلى غير ذلك... وسبب ذلك أن الناظر في مذهبه والمخرج على أصول إمامه نسبته إلى  مذهبه و إمامه كنسبة إمامه إلى صاحب الشرع في اتباع نصوصه والتخريج على  مقاصده، فكما أن إمامه لا يجوز له أن يقيس مع قيام الفارق، لأن الفارق مبطل للقياس.

والقياس الباطل لا يجوز الاعتماد عليه، فكذلك هو أيضا لا يجوز له أن يخرج على مقاصد إمامه فرعا على فرع نص عليه إمامه مع قيام الفارق بينهما، لكن الفروق إنما تنشأ عن رتب العلل وتفاصيل أحوال الأقيسة، والضابط له ولإمامه في القياس والتخريج أنهما متى جوزا فارقا يجوز أن يكون معتبرا حرم القياس، ولا يجوز القياس إلا بعد الفحص المنتهي إلى غاية أنه لا فارق هناك ولا معارض ولا مانع يمنع من القياس، وهذا قدر مشترك بين المجتهدين والمقلدين للأئمة المجتهدين.  

فمهما جوز المقلد في معنى ظفر به في فحصه واجتهاده أن يكون إمامه قصده أو يراعيه حرم عليه التخريج، فلا يجوز التخريج حينئذ إلا لمن هو عالم بتفاصيل أحوال الأقيسة و العلل ورتب المصالح وشروط القواعد وما يصلح أن يكون معارضا وما لا يصلح، وهذا لا يعرفه إلا من يعرف أصول الفقه معرفة حسنة، فإن كان موصوفا بهذه الصفة وحصل له هذا المقام تعين عليه مقام آخر وهو النظر وبذل الجهد في تصفح تلك القواعد الشرعية، وتلك المصالح وأنواع الأقيسة وتفاصيلها، فإذا بذل جهده فيما يعرفه ووجد ما يجوز أن يعتبره إمامه فارقا أو مانعا أو شرطا وهو ليس في الحادثة التي يروم تخريجها حرم عليه.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق