قصيدة البردة للبوصيري
دراسة أدبية للباحث محمد أبو الحسين
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذه القصيدة المتقنة والمتألقة جاءت في مديح الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وتعداد خصاله وشمائله الشريفة، وما وهبه الله من الشرف والرفعة والتكريم، عبر فيها البوصيري عن ذلك بأفصح العبارات وأبلغها، وأكثرها تأثيراً في النفس، وقد جاءت حافلة بالعاطفة الصادقة، والإخلاص المتين، والحكمة الخالدة، وفنون القول، وجودة التصوير، كما أنها احتوت على خطرات رائقة، وأنواعٍ متنوعة من علوم البيان، كما أنها تميزت بالعذوبة، والرقة، والفخامة، مع السهولة والسلاسة التي قد تصل إلى السهل الممتنع.
كما يظهر من أبياتها أن البوصيري يقتبس معانيه من القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والقصص الإسلامي، والسيرة النبوية المطهرة، وإن كان كثيراً منها لا يثبت، وظهر أثر ذلك واضحاً في العديد من أبيات القصيدة، مع قدرة الشاعر التعبيرية التي مكنته من التشخيص والتمثيل للمعاني المجردة على هيئة أشخاص وأفعال تتحرك وتحس.
ولا يخفى ما تعرضت له البردة من النقد العقدي والحديثي والتاريخي، حيث يرى كثيرٌ من العلماء المعاصرين أن فيها غلواً ومبالغة في المدح والثناء، بل وإن فيها ما يخالف الاعتقاد السوي والدين الحق، ولا نريد أن نخوض في هذه المسألة، فإننا لو جردنا البردة من تلك الأبيات المعترض عليها، فإنها ستكون في غاية النفاسة وعلو القدر، وعليه فلا يجوز أن نمحو السيء بالسيء، وإنما ندفع السيء بالحسن، وسيجد القارئ لها أثراً طيباً في نفسه.
ويغلب على الظن أن البوصيري قد تأثّر بنظم ابن الفارض في "ميميته"، وابن الفارض هو الشاعر الصوفي المعروف، المتوفى عام ٦٣٢ هـ، فاستأنس البوصيري عند نظمه البردة " بميمية" ابن الفارض جرى على منوالها وزنا وقافية، والتي يقول في مطلعها:
(هل نار ليلى بدت ليلاً بذي سلم… أم بارق لاح في الزوراء فالعلمِ)
(أرواح نعمــــــــــان هلاّ نسمة سحراً … ومـــــــــــــاء وجرة هــــلا نهـــــلة بفمِ)
الأمر الذي يناسب مطلع قصيدة البوصيري، حين يقول:
(أمن تذكر جيرانٍ بذي سلمِ … مزجتَ دمعاً جرى من مُقلةٍ بدمِ)
ثم قول ابن الفارض في "ميميته":
(يا لائما لامني في حبهم سفهاً … كف الملام فلو أحببت لم تلم)
يناسبه من شعر البوصيري، قوله:
(يا لائمي في الهوى العُذري معذرةً … مني إليك ولو أنصفت لم تَلُمِ)
وغير ذلك من المعاني التي تابع فيها البوصيري ابن الفارض في ميميته، ولايعني هذا أنه لو لا ميمية ابن الفارض ما كانت بردة البوصيري، وكانت بردة البوصيري تشبه ميمية ابن الفارض في الوزن الشعري، فكلاهما من البحر البسيط، وهو أحد الأبحر الثلاثة التي دارت على ألسنة الشعراء في مختلف العصور، وهي الطويل والبسيط والكامل.
كما أخذ البوصيري الروي أيضاً عن قصيدة ابن الفارض، فكان حرف الميم المكسور، الذي يُضفي على القصيدة جرساً موسيقياً مميزاً، مع تنويعه في الأساليب بين الأسلوب الخبري والأسلوب الطلبي المنفعل، الذي يلامس القلب، ويتغلغل في الوجدان.
ولكن جاءت ميمية ابن الفارض في (١٨) ثمانية عشر بيتاً في الوقت الذي وصلت فيه قصيدة البوصيري إلى (١٦٠) مائة وستين بيتاً، فميمية ابن الفارض خيط قصير، في النسيج الطويل للبردة.
لقد حظيت قصيدة البردة بما لم تحظ به قصيدةٌ قبلها من تنافس الناس في حفظها، والإكثار من ترديدها في مجالسهم، وأقبل الشراح يشرحونها، والشعراء يعارضوها، كما شطروها وخمسوها وسبعوها وتفننوا في ذلك حتى نشأ فن شعري جديد سمي بالبديعيات جاء علي هديها ونسقها، وصار من الموضوعات الشعرية الشائعة في عصر المماليك، واستمرت معارضتها حتى العصر الحديث، ومن أشهر هذه المعارضات:
١-معارضة الشاعر الكبير، الملقب بأمير الشعراء أحمد شوقي في "نهج البردة".
٢- ومعارضة البارودي في قصيدته، وغيرهما.
وقد تناول الباحث -في بحثه هذا -عدة محاور لهذه القصيدة، أبرزها:
أولاً: ترجمة الإمام البوصيري، وبيان عصره، وثناء الناس عليه، وأهم قصائده.
ثانياً: الأجزاء الرئيسية المكونة لقصيدة البردة:
ثالثاً: الأجزاء الثلاثة الأولى من قصيدة البردة حيث تناولها الباحث بالدراسة والشرح والتوضيح، وهي تمثل الجوانب المختلفة التي أراد الشاعر أن يعبر عنها، ويركز عليها.
الأجزاء الرئيسية المكونة قصيدة البردة:
والقصيدة من المطولات الشعرية، حيث أنها تقع في مائة وستين بيتاً، وتتكون القصيدة من عشرة أجزاء رئيسية، وهي:
-النسيب النبوي ١ -١٢
-التحذير من هوى النفس ١٣ -٢٨
-مدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ٢٩ - ٥٨
-في الحديث عن مولده صلى الله عليه وسلم ٥٩ -٧١
-في الحديث عن معجزاته صلى الله عليه وسلم ٧٢ -٨٧
-في شرف القرآن الكريم ومدحه ٨٨ - ١٠٤
-في جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وغزواته ١١٨ -١٣٩
-في التوسل والتشفع بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ١٤٠ -١٥١
-في المناجاة والتضرع ١٥٢ -١٦٠
ثالثاً: الأجزاء الثلاثة الأولى من قصيدة البردة، هي:
القسم الأول: ما يتعلق بذكر المحبة والهيام والشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: ما يتعلق بأحوال النفس وأمراضها وعلاجها.
القسم الثالث: مدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وبيان خصائصه وخصاله.
وقد استهل البوصيري قصيدته بهذا النسيب النبوي الذي جاء في صورة هذا الغزل الطاهر البرئ، الذي نلمح من خلاله نار تشوقه إلي معالم تلك الأراضي الطاهرة التي يحن إليها قلب كل مسلم، فيجرد الشاعر من نفسه إنسانا آخر ليخاطبه، متسائلا عن سبب هذا البكاء، وتلك الدموع المنهمرة، أهو تذكر الأحبة وأماكنهم؟ أم أن الريح جاءت من ناحيتهم، تحمل بعضا من عبيرهم وشذاهم، فأثارت شجونه، وأحيت ذكرياته عنهم؟
(أمن تذكر جيرانٍ بذي سلمِ … مزجتَ دمعاً جرى من مُقلةٍ بدمِ)
(أم هبَّت الريح من تلقاء كاظمةٍ … وأومض البرق في الظلماء من إضمِ)
ويستطرد الشاعر في وصف حبه وهيامه، الذي لا يستطيع إخفائه وستر أمره عن أعين اللائمين، فمهما حاول التجلد والصبر، وتكلف إظهار الجلد، فلم يستطع إخفائه، فعلامات المحبة والهيام تفضحه، وتكشف ما خفي من أمره، وكيف ينكر أمر هذا الحب والعشق بعد ما شهدت به مجموعة من الشهود والعدول، هيمان الدمع- واضطراب القلب- وإراقة دمعه علي الأطلال- وتمكن الحب من قلبه- وأرقه لذكر البان والعلم، فهل بعد هذه الأدلة يجد إنكار، أو يفيد تستر وإخفاء، فلولا الحب ما بكيت علي ديار الأحبة، وما استعصى عليك النوم، وخاصم جفنيك، كلما مر بخاطرك موطن حبك القديم:
(لولا الهوى لم تُرق دمعاً على طَللِ … ولا أرقتَ لذكر البانِ والعلم)
(فما لعينيكَ إن قلتَ اكففا هَمَتا …ومَا لِقَلْبِك إنْ قُلْتَ اسْتَفِقْ يَهِمِ)
(أَيَحْسَبُ الصَّبُّ أنَّ الحُبَّ مُنْكتِمٌ… ما بَيْنَ مُنْسَجِم منهُ ومضطَرِمِ)
ثم يعود الشاعر بعد أن اكتشف أمره، وأفصحت حاله عن حبه وهيامه، فيطلب المعذرة، وعدم المؤاخذة لهذا الهوى، فلو أصابك أيها العازل ماأصابني، وحل بك ما حل بي، لا تظلمني بهذا اللوم، ولأنصفت، وعدلت فلم تلم، لأنه ليس هناك اختيار في الحب، ثم يدعو علي لائمه هذا بأن يصاب بما أصيب به حتى يعذره ، ويكف عن لومه:
(يا لائمي في الهوى العذري معـــــذرة … مني إليك ولو أنصفت لم تلــــــــــمِ)
(عدتك حالي لا سري بمســــــــــــــتتر … عن الوشاة ولا دائي بمنحســـــــــم)
ثم يعترف الشاعر للائمه بما أسداه إليه من النصح، ولكنه لم يستمع اليه، ولم يلتفت إلى نصحه، وهذه شيمة من يتمكن الهوى والحب من قلوبهم، فلا ينصتون لناصح، أو يستمعون إلي عاذل، إن المحب عن العذال في صمم، فوفر عليك نصحك، فلن أستجيب لك أبدا، لأن حب الله ورسوله قد تمكن في قلبي، وخالط لحمي ودمي:
(محضتني النصح لكن لست أســـــمعهُ … إن المحب عن العذال في صــــــممِ)
(إنى اتهمت نصيح الشيب في عـــــذلي… والشيب أبعد في نصح عن التهــــمِ)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق