القول الأشبه في حديث (من عرف نفسه عرف ربه)
للإمام جلال الدين السيوطي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ ليس بالأوامر وحدها يتغير الإنسان، وإنما أساس التغيير يأتي من داخله، وذلك عندما تتغير معارفه ومُثله ومعتقداته، عندها يضيء عقله، ويستيقظ وجدانه، وتُشحذ إرادته، وهذا هو الذي يجدد له الثقة في ربه، ويجبر الهنات التي تقع من نفسه، فمن عرف نفسه لم يغتر بثناء الناس عليه، ومن عرف ربه لم يضره ذم الناس له.
وهذا الكتاب هو عبارة عن فتوى عن حديث اشتهر على الألسنة، وهو (من عرف نفسه عرف ربه)، وبيان ضعفه، وإزالة الإشكال عن معناه، وتقع هذه الفتوى في الجزء الثاني من كتاب (الحاوي للفتاوي) للجلال السيوطي، من الصفحة (٢٨٨ إلى ٢٩٠).
وقد قسم السيوطي الكلام على هذا الحديث إلى مقالين:
المقال الأول: بيان أن هذا الحديث ليس بصحيح.
المقال الثاني: في معناه.
وقد تطرقت في هذا المقال إلى أمور ستة، وهي:
١-بيان وضع هذا الحديث وأنه لا أصل له، وذلك من كلام العلماء، مع زيادة بعض المتأخرين عن السيوطي.
٢-بيان معنى هذه الكلمة من كلام العلماء، واخترتُ كلام ابن تيمية وابن القيم -ولم يذكرهما السيوطي في رسالته -وختمت بكلام السيوطي.
٣- إجمال المعاني الواردة في هذه العبارة (٤ -أقوال).
٤-بيان طرق التعرف إلى الله تبارك وتعالى (ذكرت ٧ منها).
٥-بيان مذاهب الفرق الكلامية في معنى هذه الكلمة (٥ -فرق) وكان المذهب الخامس هو مذهب أهل السنة.
٦-جواب مجمل عن نقل السيوطي أن الله في كل مكان -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ويتكون من جزأين (إثبات علو الله على خلقه)، والثاني (بيان حقيقة قولهم ننزه الله عن المكان).
أولاً: بيان ضعف هذا الحديث من كلام العلماء الأفذاذ:
ذكر السيوطي في كتابه، عن النووي في "فتاويه"، قال: إنه ليس بثابت، وعن ابن تيمية، قال: موضوع، وعن الزركشي: أنه من كلام يحيى بن معاذ الرازي، وإليك مزيد بيان:
١- قال الإمام النووي (ت ٦٧٦ هـ) في "فتاويه" (ص ٢٤٨): ليس هو بثابت؛ ولو ثبت كان معناه من عرف نفسه بالضعف والافتقار إِلى الله تعالى، والعبودية له، عرف ربه بالقوة، والقهر، والربوبية، والكمال المطلق، والصفات العليا.
ومن عرف ربه بذلك كَلَّ لسانُه عن بلوغ حقيقة شكره، والثناءِ عليه كما ثبت في "صحيح مسلم" وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "سبحانَك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك". انتهى.
٢-ويقول ابن تيمية (ت ٧٢٨ هـ) في "مجموع الفتاوى" (١٦/ ٣٤٩): وبعض الناس يروي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا هو في شيء من كتب الحديث ولا يعرف له إسناد.
ولكن يروى في بعض الكتب المتقدمة إن صح "يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك". وهذا الكلام سواء كان معناه صحيحا أو فاسدا لا يمكن الاحتجاج بلفظه فإنه لم يثبت عن قائل معصوم. لكن إن فسر بمعنى صحيح عرف صحة ذلك المعنى سواء دل عليه هذا اللفظ أو لم يدل.
٣-ويقول العلامة ابن قيم الجوزية (ت ٧٥١ هـ) في مدارج السالكين (١/ ٤٢٦): وليس هذا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو أثر إسرائيلي بغير هذا اللفظ أيضاً "يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك".
٤-ويقول العلامة ابن حجر الهيثمي (ت ٩٧٤ هـ) في "الفتاوى الحديثية" (ص ٢٢٦): لا أصل له، وإنما يُحكى من كلام يحيى بن معاذ الرازي الصوفي.
ومعناه: من عرف نفسه بالعجز والافتقار والتقصير والذلة والانكسار، عرف ربه بصفات الجلال والجمال على ما ينبغي لهما، فأدام مراقبته حتى يفتح له "باب" مشاهدته، فيكون من أخصائه الذين أفرغ عليهم سجال معرفته وألبسهم صوافيَ خِلافته.
٥- وقال السيوطي (ت ٩١١ هـ) في تدريب الراوي (٢/ ٦٢٦): «من عرف نفسه فقد عرف ربه» باطل لا أصل له.
٦- وقال ملا علي قاري (ت ١٠١٤ هـ) في الأسرار المرفوعة (٣٣٧): قيل لا أصل له أو بأصله موضوع.
٧- وقال الزرقاني (ت ١١٢٢)، في مختصر المقاصد (١٠٥٢): ليس بحديث.
ثانياً: توضيح معنى هذه القولة من كلام الشيوخ:
وقد ذكر السيوطي بيان الشيوخ لمعنى هذه المقولة، فنقل عن الإمام النووي -وقد تقدم، وابن عطاء الله في "لطائف المنن"، وأبو طالب المكي في "قوت القلوب"، والشيخ عز الدين -لعله ابن عبد السلام -، والقونوي -تلميذ ابن عربي، وقد أعرضنا عن تلك الشروحات، وذكرنا شرح الشيخين ابن تيمية وابن القيم والسيوطي، لأن فيها تفصيلاً ولجودة معانيهم وصحتها:
١- يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى -في مجموع الفتاوى" (٩/ ٢٩٥ -٢٩٨):
ويقال إنه "من عرف نفسه عرف ربه" من جهة الاعتبار ومن جهة المقابلة ومن جهة الامتناع.
- فأما "الاعتبار" فإنه يعلم الإنسان أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير فإنه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليه، لم يمكن أن يفهم ما غاب عنه ..لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة فقد قال ابن عباس رضي الله عنه: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء".. فالإنسان يعتبر بما عرفه ما لم يعرفه. ولولا ذلك لانسدت عليه طرق المعارف للأمور الغائبة.
- وأما من جهة "المقابلة"؛ فيقال: من عرف نفسه بالعبودية عرف ربه بالربوبية، ومن عرف نفسه بالفقر عرف ربه بالغنى، ومن عرف نفسه بالعجز عرف ربه بالقدرة، ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالعلم، ومن عرف نفسه بالذل عرف ربه بالعز، وهكذا أمثال ذلك؛ لأن العبد ليس له من نفسه إلا العدم وصفات النقص كلها ترجع إلى العدم، وأما الرب تعالى فله صفات الكمال وهي من لوازم ذاته يمتنع انفكاكه عن صفات الكمال أزلاً وأبداً، ويمتنع عدمها لأنه واجب الوجود أزلاً وأبداً..
-وأما من جهة "العجز والامتناع"؛ فإنه يُقال: إذا كانت نفس الإنسان التي هي أقرب الأشياء إليه بل هي هويته وهو لا يعرف كيفيتها ولا يحيط علما بحقيقتها فالخالق جل جلاله أولى أن لا يعلم العبد كيفيته ولا يحيط علما بحقيقته، ولهذا قال أفضل الخلق وأعلمهم بربه صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). انتهى كلامه ملخصاً.
٢- وبمثله قال ابن قيم الجوزية في المدارج (١/ ٤٢٧)، إلى أن قال:
والمقصود: أن هذا المشهد يعرف العبد أنه عاجز ضعيف، فتزول عنه رعونات الدعاوي، والإضافات إلى نفسه، ويعلم أنه ليس له من الأمر شيء، إن هو إلا محض القهر والعجز والضعف.
٣-وقال الإمام السيوطي في كتابه هذا:
وقد يُراد أن صفات نفسك على الضد من صفات ربك، فمن عرف نفسه بالفناء عرف ربه بالبقاء، ومن عرف نفسه بالجفاء والخطأ عرف ربه بالوفاء والعطاء، ومن عرف نفسه كما هي عرف ربه كما هو، واعلم أنه لا سبيل لك إلى معرفة إياك كما إياك..
ثالثاً: إجمال المعاني الواردة في هذه العبارة:
١-أن المراد عامل الله سبحانه بما تُحب أن تُعامل به، وذلك بالصبر على أوامره وأقضيته وأقداره.
٢-أن من عرف نفسه بالنقص والتقصير، عرف ربه بالكمال والغنى.
٣-أن من عرف نفسه أولاً، فحاله حال السالكين، ومن عرف ربه أولاً فحاله حال المجذوبين.
٤-أن المرء إذا كان عاجزاً عن إدراك نفسه، فهو عن إدراك ربه أعجز.
رابعاً: طرق التعرف إلى الله تبارك وتعالى:
١-(بالتدبير) ذلك باعتقاد أنه سبحانه مدبر أمر العالم، ومحركه، والمتصرف فيه وحده.
٢-(بالتوحيد)، وذلك باعتقاد أنه لا شريك له في ملكه وخلقه وتدبيره.
٣-(بالإرادة والمشيئة) وذلك باعتقاد أن الله سبحانه مُريدٌ لما يكون في كونه، فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإرادته ومشيئته.
٤-(بعلمه وقربه)، وذلك باعتقاد أن الله تعالى عالمٌ بجميع المخلوقات، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه قريب من عباده، لا يحول بينه وبينهم شيء.
٥-(بقيوميته) وذلك باعتقاد أنه سبحانه واجب الوجود، وأنه قائم بنفسه، وجميع الخلق مفتقرون إليه.
٦-(بتقديسه) وذلك باعتقاد أنه سبحانه منزه عن التمثيل والتكييف، فلا تدرك كنهه العقول.
٧-(بأسمائه وصفاته) وذلك باعتقاد صفاته، وأنها صفات كمال، وأنه سبحانه منزه عن كل نقص.
خامساً: مذاهب الفرق الكلامية في معنى هذه المقولة:
اختلفت الفرق فِي وَجه الْمعرفَة في قولهم (من عرف نفسه عرف ربه):
١-فَقَالَت الثنوية لما عُرف إشتمال نَفس الإنسان على الْخَيْر وَالشَّر عرف أَن لكل جِهَة مِنْهُ رَبًّا؟!! وهذا القول لا شك في بطلانه وكونه من الكفر العظيم.
٢-وقالت الْيَهُود بل: إن الرب فيه جزء خير وجزء شر!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
٣-وَقَالَت المشبهة هُوَ جسم؛ إِذْ فِي الشَّاهِد تكون معرفَة النَّفس للجسم.
٤-وقالت الجهمية: من عرف نَفسه بإثبات الصفات الحادثة عرف ربه بتنزيهه عنها، ونفيها عنه، وهذا هو عين التعطيل.
٥-وقال أهل السنة: من عرف نفسه بإثبات الصفات في الجملة، وإدراك معناها، فقد عرف ربه بإثبات صفات كماله، مع اختلاف حقائق الصفات.
سادساً: الجواب على نقل السيوطي (أنه سبحانه في كل مكان):
يقول السيوطي، نقلاً عن الشيخ عز الدين: (وكذلك الحق سبحانه وتعالى موجود في كل مكان ما خلا منه مكان وتنزه عن المكان والزمان)، وهذه المقولة باطلة، والجواب عليها من جزأين:
الجزء الأول: (وهو بيان أن الله تعالى فوق سماواته عالٍ على عرشه):
نقول: الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وأجمع عليه الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام أن الله تعالى استوى على عرشه، وعرشه فوق سمواته، بائن من خلقه وأن معنى قوله تعالى: {هو معهم أينما كانوا } (المجادلة:٧) أي بعلمه.
والقول بأن الله تعالى بذاته معنا في كل مكان كفر صريح، قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: (من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى به أهل القبلة ولا أهل الذمة).
وقال الباقلاني: ( ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه، والحشوش، والمواضع التي يرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يُرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله).
وقد أورد الإمام أحمد رحمه الله في رده على الزنادقة والجهمية حجة عقلية لا سبيل إلى ردها، وحاصلها أن المخالف يقر بأن الله تعالى كان ولا مكان، ثم خلق المكان، فلا يخلو من أن يقول:
١- خلق المكان في نفسه، فيكون حينئذ في كل مكان، وهذا كفر، لأنه يعني أنه أدخل الجن والوحش والقذر في نفسه.
٢- أو أن يقول: خلقه خارجاً عنه ثم دخل فيه، فصار في كل مكان، وهذا كفر، لأنه يعني أنه دخل في كل مكان قذر وخبيث، وفي نفوس الإنس والشياطين.
٣- أو أن يقول: خلقه خارجاً عنه ولم يدخل فيه، بل علا عليه سبحانه وتعالى، فهو فوق جميع مخلوقاته من أرض وسماء وكرسي وعرش وغير ذلك ، وهذا هو الحق الذي دلت عليه النصوص.
الجزء الثاني: (هل يصح إطلاق نفي الزمان والمكان عن الله تعالى)؟
والجوب: أن إطلاق القول بأن الله تعالى منزه عن المكان والزمان إطلاق لا يصح لأمرين:
الأول: أنه إطلاق لم ترد به سنة ، ولا هو معروف في كلام السلف.
الثاني: أنه إطلاق يوهم معنى فاسد، وغالب من يقرر ذلك الكلام، ويستعمله يريد به: نفي علو الله تعالى على خلقه ، واستوائه على عرشه، فوق سمائه.
ولا شك أن نفي علو الله وفوقيته على خلقه: اعتقاد باطل، وهو من أعظم ما خالف فيه الجهمية، ورد عليهم السلف تلك الضلالة، وقرروا أن اعتقاد ذلك: كفر برب العالمين، مناقض لما تواترت به النصوص الشرعية، وإجماع السلف، ومناقض لما هو من ضرورة العقل، ومقتضى الفطرة السليمة..
ثانياً: مع غلبة إطلاق هذه العبارة في المعنى الباطل، فلا مانع من سؤال قائلها عن مراده، لنبين له ما في مراده من المعنى الشرعي الصحيح، أو المقصد البدعي المردود، مع التنبيه على المنع من مثل هذه الإطلاقات الموهمة في حق الله تعالى.
فإذا قال القائل "ننزه الله عن المكان" قلنا له: ماذا تعني بذلك ؟ فإن قال : أعني به أن الله تعالى لا يحيط به شيء من مخلوقاته، قلنا له: هذا معنى صحيح نوافقك عليه؛ إذ كيف يحيط بالله الأول والآخر، والظاهر والباطن: شيء من مخلوقاته؛ بل الرب تعالى أعظم وأكبر من كل مخلوق، قد وسع كرسيه السموات والأرض.
فقد روى البخاري (٤٨١٢)، ومسلم (٢٧٨٧)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ ؟) .
وإن قال: أعلم ذلك، ولكني أعني بالمكان ما وراء العالم من العلو، فهو ينفي علو الله تعالى على خلقه، قيل له: فهذا معنى فاسد باطل، مناقض لصريح العقل، وصحيح النقل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق