أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 13 أغسطس 2022

شرح البردة للباجوري (والكلام على الاستشفاء بأبياتها) بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

شرح البردة للباجوري
(والكلام على الاستشفاء بأبياتها)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ تعتبر بردة البوصيري من أروع المدائح التي قيلت في مدح النبيِّ صلي الله عليه وسلم، وقد نالت حظاً كبيراً من عناية العلماء والمصنفين، فشرحوها عشرات المرات وبلغات مختلفة، وشطَّروها، وخمَّسوها، وسبَّعوها، وعارَضوها، ونظموا على نهجها، وغلا بعضهم فيها حتى جعل بعضهم لأبياتها بركة خاصة وشفاء من الأمراض، وهو ما نلاحظه في شرح الباجوري على البردة، ولعل لنا وقفات مع هذه القضية بالذات.

ولا شك أن لهذه المسألة علاقة مباشرة بالسبب الذي جعل البوصيري -رحمه الله -ينظم قصيدته هذه، يقول البوصيري عن سبب نظمه لهذه القصيدة: (كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله صلى االله عليه وسلم، منها ما اقترحه علي الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير، ثم اتفق بعد ذلك أن داهمني الفالج ) الشلل النصفي (فأبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه فعملتها واستشفعت إلى الله في أن يعافيني، وكررت إنشادها، ودعوت، وتوسلت، ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى علي بردة، فانتبهت ووجدت فيَّ نهضةً؛ فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحداً).

يكمل البوصيري كلامه؛ فيقول: (فلقيني بعض الفقراء، فقال لي: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول االله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أي قصائدي؟ فقال: التي أنشأتها في مرضك، وذكر أولها وقال: والله إني سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعجبته وألقى على من أنشدها بردة. فأعطيته إياها)!!. 

وهكذا شفي البوصيري من مرضه، بعد أن نظم هذه القصيدة، وعادت اليه كامل صحته وحيويته، وشاع هذا المنام، وذاع بين الناس، مما كتب لهذه القصيدة الذيوع والانتشار، ولكن هل هذه الحادثة التي وقعت للبوصيري أضفت على القصيدة خاصية الشفاء، وجعلت لكل بيت منها طريقة للعلاج من الأمراض والأدواء؟!!

وقد كتب حول البردة والتحذير منها عددٌ من العلماء وطلبة العلم أمثال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وعبد الرحمن بن حسن بن عبد الوهاب الذي ذكر في بعض رسائله أن أحد شيوخ اليمن وهو محمد بن أحمد الحفظي (ت ١٢٣٧ هـ) كان يستشفي بها هو وأخوه وأبوه، ولكنهم تابوا من ذلك، وكذلك الشيخ علوي السقاف في مقال له منشور بعنوان (قراءة في قصيدة البردة) والتي خلص فيها إلى أن البردة فيها من الغلو وأن البوصيري كان مضطرب الشخصية، ولكن قليلٌ من تعرَّض لهذه المسألة.

وأكثر ما لفت انتباهي هو قول أحد محققي شرح الباجوري عبد الرحمن حسن محمود في (مقدمة شرحه، ص 5): ولعل أحداً يعترض ويقول: كيف يستشفي بها وهي ليست قرآناً ، ولا دعاء من أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم، الوارد فيها نصوص صريحة؟ فنقول ابتداءً: "إن السر في الكف لا في الحرف"!!، يقول: فكم من كاتب يكتب البسملة والأدعية المأثورة ولا يُشفى المكتوب له، ذلك لأن البركة منزوعة من الكاتب!! ولعل أصدق مثل على ذلك ما نتداوله في بلادنا: (هذه الفاتحة وأين عمر؟). يقول: "على أن الاستشفاء بالبردة، أو بأبيات منها، ليس هو استشفاء بها هي، وإنما الاستشفاء بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، إذ هو بركة الدنيا والآخرة صلى الله عليه وسلم" انتهى.

والجواب على هذا الإيراد أن يُقال إن جعل أبيات البردة مما يستشفى به، يضعها إلى جنب الرُّقى، ومن المعلوم أن: (الرقية شرعية لا بد أن تجتمع فيها شروط ثلاثة: 

١-أن تكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه أو بصفاته، أو بالأدعية والأذكار النبوية.

٢-وأن تكون باللسان العربي لمن يعرفه، أو بما يعرف معناه من غير العربية، وألا تشتمل على كلمات غير مفهومة لا يُعقل معناها.

٣- وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بقدرة الله تعالى.

ولذلك لم يقل أحدٌ من أهل العلم بجواز الاستشفاء بالبردة ولا بغيرها لأن هذا يفتح باباً البدع والغلو.

والاستشفاء إنما يكون بٱثار النبي صلى الله عليه وسلم (كالشعر والظفر وغيره ...) وليس بجرد مدحه، فإنه لم ذلك في حديث صحيح ولا ضعيف، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم أو أحدٌ من الصحابة أو السلف الصالحين، بل لم يظهر ذلك إلا عند بعض المتأخرين، الذين زاد غلوهم في البردة لما رأوا انتشارها وعناية الناس بها.

وعوداً على ما سبق، فقد انتشرت هذه القصيدة انتشار واسعاً، حيث ترجمت إلى اللغات الأخرى: كالفارسية، والأردوية، والبنجالية، والسندية، والبنجابية، والتركية، والإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، وغيرها من اللغات.

يقول الشيخ علوي السقاف في كتابه (قراءة في شعر البوصيري، ص ١٣): (والحاصل أن البوصيري كان من غلاة الصوفية الشاذلية، ولا ينفع الذين دافعوا عنه التماسهم العذر له في بعض الأبيات أو توجيهها وجهة حسنة، فهذا إنما يقال لمن كان سليم المعتقد سليم المنهج والطريقة ثم تزل قدمُه في مسألة أو مسألتين، فهذا يُلتمس له العذر فيها، أمّا من كانت هذه طريقته، وهذا معتقده، وهذا ديدنه، فمهما التمسنا له العذر في بيت أو بيتين فماذا عن الباقي؟! وماذا عن شرّاح هذه القصائد الذين يؤكدون هذه المعاني ويتتابعون عليها في شرح قصائده؟! وهذا كله لا يمنعنا أن نشيد بقوةِ شِعْره وجزالته، سواء كان من شعر مديح المصطفى صلى الله عليه وسلم أو ما فيه من حِكَمٍ ودُرَرٍ…).

أولاً: ترجمة الإمام البوصيري:

١-اسمه ونسبه:

هو شرف الدين أبو عبد الله محمد ابن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن صنهاج بن هلال الصنهاجي البوصيري.

٢-مولده ونشأته:

ولد بقرية دلاص إحدى قرى بني سويف من صعيد مصر، يوم الثلاثاء أول شوال ٦٠٨ هجري، التي كان منها أحد أبويه، والآخر من بوصير، وكلتاهما بمديرية بني سويف، ونشأ بقرية بوصير القريبة من مسقط رأس.

٣-نسبته (بوصيري):

ولما كان أحد أبويه من بوصير الصعيد، والآخر من دلاص، فركبت النسبة منهما فقيل: الدلاصيري، ثم اشتهر بالبوصيري، وقيل: ولعلها بلد أبيه فغلبت عليه، وأسرته ترجع جذورها إلى قبيلة صنهاجة إحدى قبائل البربر، التي استوطنت صحراء جنوبي المغرب الأقصى

٤-حياته التعليمية:

نشأ البوصيري في العصر المملوكي، وتلقي تعليمه في العديد من مدارس القاهرة، التي انتقل إليها، حيث تلقى علوم العربية والأدب منذ نعومة أظفاره فحفظ القرآن في طفولته، وتتلمذ على عدد من أعلام عصره، من العلماء المعروفين، منهم: أبو حيان أثير الدين محمد ابن يوسف الغرناطي الأندلسي، وأبو الفتح محمد بن محمد العمري الأندلسي الإشبيلي المصري، المعروف بابن سيد الناس، والعز بن جماعة وغيرهم من العلماء والأدباء، الذين اكتظت بهم مدن مصر خلال تلك الفترة.

٥-تأثره بالصوفية:

التقى البوصيري بأبي الحسن الشاذلي، وأبي العباس المرسي وغيرهما، وتأثر بهما، وتشرب أفكارهما.

٦-حياته العملية:

وقد تقلب الإمام البوصيري في العديد من المناصب في القاهرة والأقاليم، وعمل بديوان الإنشاء،وبرع في الكتابة والأدب، وأجاد قرض الشعر البليغ الذي تجلت فيه مظاهر الجزالة والسهولة، وتميّز بخفة الروح، والميل إلي الدعابة في غير الموضوعات الدينية.

وباشر أعماله في الشرقية مستقراً بلبيس مديرا لها، وله مجموعة من الأشعار في وصف موظف الدولة، وسوء معاملاتهم للشعب، وسرقة أمواله، وأخذهم الرشاوى، ومن أشهرها قصيدته التي يقول في مطلعها:

(نقدت طوائف المستخدمينا … فلم أرَ فيهمو حُراً أمينا)

٧-مساهمته في الأدب العربي:

نظم الإمام البوصيري الشعر منذ حداثة سنه، وله قصائد كثيرة، ويمتاز شعره بالرصانة والجزالة، وجمال التعبير، والحس المرهف، وقوة العاطفة، وأكثر ما اشتهر بمدائحه النبوية استعمال البديع فيها، كما برع في استخدام البيان، ولكن غلبت عليه المحسنات البديعية في غير تكلف؛ وهو ما اكسب شعره ومدائحه قوة ورصانة وشاعرية متميزة لم تتوفر لكثير ممن خاضوا غمار المدائح النبوية والشعر الصوفي. 

ترك الإمام البوصيري عددا كبيرا من القصائد والأشعار ضمها ديوانه الشعري الذي حققه محمد سيد كيلاني، وطبع بالقاهرة سنة (١٣٧٤ هـ- ١٩٩٥م)، منها:

-قصيدته البردة الشهيرة بالكواكب الدرية في مدح خير البريه.

-والقصيدة المضرية في مدح خير البرية. 

-والقصيدة المحمدية.

-وقصيدة ذخر المعاد.

-ولامية في الرد على اليهود والنصارى، نشرها الشيخ أحمد فهمي محمد بالقاهرة سنة (١٣٧٢ هـ/ ١٩٥٣ م).

-وله أيضاً تهذيب الألفاظ العامية، وقد طبع كذلك بالقاهرة.

وهنا يمكن أن نقسم شعره إلي قسمين أساسيين:

الأول: (شعره الاجتماعي): الذي قاله في المديح والهجاء، والعتاب وشكوى الحال، وغير ذلك من أمور الحياة والعيش آنذاك، وتتجلي فيه مظاهر السهولة والسلاسة، ويتميز بخفة الروح، والميل إلي الفكاهة والدعابة، فاقترب به من الروح الشعبي لغة وتعبيرا، التي اشتهر بها بين شعراء عصره.

أما الثاني: (فشعره الديني): الذي قاله في مدح الرسول صلي الله عليه وسلم، وجاء قويا رصينا، بدوي الصياغة، يميل فيه إلي احتذاء الشعراء المتقدمين في أساليبهم وتعبيراتهم، والعديد من صورهم، المستمدة من حياة الصحراء والبادية، ولذلك كثر فيه ذكر العديد من أسماء بقاع شبه الجزيرة العربية المشهورة.

ومن العجيب أن شعره في أغلبه لا يمتاز بجودة ولا بلاغة ولا بروعة كبيرة، ولكن مدائحه النبوية وحدها هي التي نالت من البيان والبلاغة أعلى نصيب، واستحوذت على قصب السبق في كل رهان، فتراه في هذه القصيدة العصماء-أعني البردة -

ثناء العلماء عليه:

وبسبب تفوقه في شعر المديح النبوي، أثني عليه العديد من العلماء البارعين، ومؤرخي هذا العصر، فقال عنه ابن حجر الهيتمي في مقدمة " المنح المكية شرح الهمزية البوصيرية": (هو الشيخ الإمام العارف الكامل الهمام، المتفنن المحقق، البليغ الأديب المدقق، إمام الشعراء وأشعر العلماء، وبليغ الفصحاء وأفصح البلغاء).

وقال الشيخ ابن علان الصديقي في مقدمة كتابه "الذخر والعدة في شرح البردة": (أما بعد فهذا تعليق لطيف وترصيف قريب منيف على القصيدة المنبِئة عن كمال المودة، المسماة بالبردة للعارف بالله العالم العامل المخبت الأواه، شرف الدين أبي عبد الله محمد ابن سعيد البوصيري أثابه الله).

وقال الشيخ الباجوري في شرحه على البردة: (ومن أجل الشعراء الإمام الكامل والهمام العالم العامل البليغ الأديب أشعر العلماء وأفصح الحكماء الشيخ شرف الدين أبو عبد االله محمد بن سعيد البوصيري).

وقال الشيخ بسام محمد بارود في حاشيته على" العمدة شرح البردة": (إمام الشعراء، وشاعر الأئمة العلماء، بل هو الفرقد الوضاء الذي أنار الطريق إلى المدائح النبوية).

ومن مؤرخي هذا العصر، الذين أثنوا عليه ، فقال عنه ابن شاكر الكتبي: (وشعره في غاية الحسن واللطافة، عذب الألفاظ، منسجم التراكيب).

كما أثني عليه العماد الأصفهاني، فقال (برع في النظم).

وقال فيه ابن سيد الناس: (هو أحسن من الجزائر والوراق)، ولا شك أنهما من مشاهير الشعراء في عصر المماليك.

وفاته:

توفى البوصيري سنة (٦٩٥ هـ) عن عمر بلغ (٨٧) عاماً، ودفن قريبا من ضريح شيخه أبو العباس المرسي في شرق الإسكندرية أمام الميناء الشرقي بمصر.

أسماء قصيدة البردة:

١-البردة، وهي أشهر أسمائها، قال الباجوري: (وإنما اشتهرت بذلك لأنه لما نظمها بقصد البرء من داء الفالج الذي أصابه فأبطل نصفه حتى أعجز الأطباء رأى النبي صلى الله عليه وسلم، في منامه فمسح بيده الكريمة عليه ولفه في بردته فبرأ لوقته كما ذكره الناظم في تعليقه.

٢-البرأة، قال الباجوري :سميت بها البرأة لأن المؤلف برأ بها.

٣-الكواكب الدرية في مدح خير البريه.

٤-الكواكب البدرية في مناقب أشرف البرية سماها بذلك الشيخ جلال ابن قوام بن الحكم كما في كشف الظنون.

ولا شك أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى كما هو مشهور.

عدد أبيات هذه القصيدة

اختلف العلماء عن تحديد عدد أبياتها، فمنهم من قال أن عددها مائة واثنين وثمانين (١٨٢) بيتاً، ومن قال أن عددها مائة واثنين وستون (١٦٢) بيتاً، وقال بعضهم أن عددها مائة وواحد وسبعون (١٧١) بيتاً، ولكن معظم النسخ الصحيحة اتفقت على أن عدد ِ أبياتها مائة وستون بيتا (١٦٠) بيتاً: أولها:

أمن تذكر جيرانٍ بذي سلم مزجتَ دمعاً جرى من مُقلة بدمِ

ويشهد لذلك قول بعضهم:

أبياتها قد أتت ستين مع مائةٍ فرج بها كربنا يا واسع الكرمِ





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق