تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره
والرد على من ضعَّفه
تأليف محمد ناصر الدين الألباني
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذه الرسالة ألفها العلامة الألباني رداً على كلمة كتبها الشيخ عبد الله الهرري في كتابه (التعقب الحثيث) تعقب فيها الشيخ الألباني في تصحيحه لحديث أنس رضي الله عنه، أنه أفطر في بيته قبل إرادته الخروج للسفر، وأخبر أنس أنه (سُنة) يعني عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا يجعله في حكم المرفوع.
ولا شك أن هذا الحديث يُفيد جواز إفطار الصائم في بيته قبل سفره، وقد نُشر مقال الألباني في مجلة التمدن الإسلامي، ثم رأى الألباني أن يُفرده في هذه الرسالة المستقلة، فجزاه الله خيراً.
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة وهي إفطار الصائم قبل سفره، بناءً على تصحيح هذا الحديث وتضعيفه، مع وجود روايات أخرى تعضد ما ذهبوا إليه، وبيان تلك المذاهب المشهورة، فيما يلي:
١-ذهب أكثر أهل العلم، ومنهم الشافعية، والمالكية، الحنفية، إلى أن من أصبح صائماً ثم سافر، فعليه أن يُتم صومه، وليس له أن يفطر في ذلك اليوم ألبتة. بخلاف ما لو خرج قبل الفجر، فله الإفطار؛ لأنه لم يتلبس بالعبادة بعد.
واستدلوا بقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة: ١٨٧)، مع تركهم العمل بحديث أنس الآتي، وأخذهم بالأحوط.
٢-وذهب الحنابلة إلى أن له الفطر إذا برز عن البيوت، وهو قول المزني من الشافعية، واحتجوا بالحديث الصحيح: (أنه صلى الله عليه وسلم أفطر في رمضان حين بلغ الكديد، وهو في طريقه إلى مكة).
والاستدلال بهذا الحديث لا يصح، فقد قال الحافظ في الفتح: "ومن قال كذلك، قاله ظناً منه أنه صلى الله عليه وسلم أفطر في اليوم الذي أخرج فيه من المدينة، وليس كذلك، فإن بين المدينة والكديد عدة أيام" انتهى.
٣-وذهب داود الظاهري، وغيره إلى أن له الفطر إذا وضع رجله في الرحل، وهو مخالف لرواية أنس أنه أفطر، ثم ركب رحله.
٤-وذهب جمع من الصحابة والتابعين والعلماء إلى أن له الفطر في بيته يوم يريد السفر، قبل أن يخرج.
وهو قول أنس بن مالك الموافق لروايته، والحسن البصري، وعدد من الصحابة والتابعين (كما سيأتي في الوجه السادس، وهو مذهب ابن العربي من المالكية في "عارضة الأحوذي"، وتبعه عليه القرطبي في "تفسيره"، والحافظ ابن عبد البر في "التمهيد"، وهو ما استظهره الصنعاني في "سبل السلام"، والشوكاني في "نيل الأوطار".
وبناءً على ذلك يصفو لنا مذهبان:
(أحدهما) وهو قول أكثر أهل العلم، وهو المنع في الفطر بعد الفجر لمريد السفر.
(والثاني) إباحة الفطر بعد الفجر لمريد السفر، وهو قول أنس والحسن، ومن وافقهما من المعاصرين كالإمام الألباني الذي ذهب إلى تصحيح هذا الحديث في هذه الرسالة.
________________________________
ويمكن تلخيص كلام الألباني في هذه الرسالة في أربعة أمور:
الأول: الجواب على الاعتراضات الموجهة إلى حديث أنس.
الثاني: تأكيد صحة حديث أنس، والجواب على من ضعف.
الثالث: الاستدلال بحديث أبي بصرة الغفاري.
الرابع: فقه الحديث ومن قال به.
_________________________________
أ- حديث أنس رضي الله عنه:
وهذا الحديث حسَّنه الترمذي، ثم قال: وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث، وقال: للمسافر أن يُفطر في بيته قبل أن يخرج، وليس له أن يقصر حتى يخرج من جدار المدينة أو القرية، وهو قول إسحاق.
أما حديث الترمذي (799 -باب من أكل ثم أخرج يُريد سفراً)، فقال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن زيد بن أسلم، عن محمد بن المنكدر، عن محمد بن كعب، أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً، وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة ثم ركب.
وقال (800): حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثني زيد بن أسلم قال: حدثني محمد بن المنكدر، عن محمد بن كعب، قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان، فذكر نحوه.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن، ومحمد بن جعفر هو ابن أبي كثير هو مديني ثقة، وهو أخو إسماعيل بن جعفر، وعبد الله بن جعفر هو ابن نجيح والد علي بن عبد الله المديني، وكان يحيى بن معين يضعفه".
________________________________
أولاً: الاعتراضات الواردة على حديث أنس رضي الله عنه (أربعة):
الأول: ترجيح أبي حاتم لرواية الدارودي، بلفظ: (ليس بسنة)، على الرواية الأخرى عن عبد الله بن جعفر: (نعم سنة)، وعبر عنها "برواية الإثبات".
الثاني: تضعيف الحافظ العراقي للرواية الأخرى.
الثالث: عدم جزم بعض الرواة بها.
الرابع: الاختلاف في متنه على سعيد بن أبي مريم، فذكر بعضهم عنه: أن اللفظ كان من أجل السفر، وبعضهم أنه كان من أجل يوم الشك.
______________________________________
ثانياً: بيان هذه الاعتراضات والجواب عنها:
وقد ضعَّف حديث الترمذي اثنان من العلماء، وهما:
١- أبو حاتم الرازي، كما في العلل لابنه (ص 240).
٢-والحافظ الزين العراقي كما في "شرحه على الترمذي" (مخطوط).
ولكن هذا التضعيف مُعارض بتصحيح غيرهما، وهم جماعةٌ من العلماء والمحدثين، منهم: الترمذي، وابن العربي، والضياء المقدسي، وابن القيم في "الزاد"، وأبو المحاسن المقدسي في "مختصر أحاديث الأحكام"، ويمكن أن يُضمَّ إليهم إسحاق بن راهويه والإمام أحمد، فإنهما أخذا بهذا الحديث وعملا به، وهذا دليل على أن الحديث ثابتٌ عندهم.
_______________________________________
-أما الجواب على تضعيف أبي حاتم لهذا الحديث:
فقد قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه عبد العزيز الدراوردي، عن زيد بن أسلم، عن محمد بن المنكدر، عن محمد بن كعب: أنه أتى أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً، فوجده قد رحلت راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلنا: أسنة؟ قال: ليس بسنة.
ثم ذكر الرواية الأخرى الموافقة لما في "الترمذي"؛ فقال: ورواه محمد بن عبد الرحمن بن مجبر، عن ابن المنكدر، عن محمد بن كعب: أنه أتى أنس بن مالك ... فذكر الحديث؛ قال: فقلت: سنة؟ فقال: نعم، سنة.
ثم قال أبي: حديث الدراوردي أصح. انتهى.
قال المعترض (الهرري): الظاهر أن أبا حاتم رجح رواية النفي على رواية الترمذي التي فيها الإثبات.
وأجاب الألباني على هذا الاعتراض من وجهين:
الوجه الأول: أن ترجيح أبي حاتم إنما هو محصور بين روايتين (رواية الداروردي، ورواية ابن مجبر) وليس منهما الترمذي، ثم هو ترجيح صحيح، لأن الداروردي ثقةٌ على ضعفٍ يسير في حفظه. خلاف الحديث الآخر الذي فيه ابن مجبر، فإنه ضعيف اتفاقاً. ويُفهم من هذا ترجيح رواية الداروردي على رواية الترمذي.
أما رواية الترمذي، فلم يرد لها ذكرٌ في كلام أبي حاتم، لا تصريحاً ولا تلويحاً، بل لعله لم يقف عليها أصلاً .. ثم هي أقوى من رواية الدارودي، كما سيأتي.
الوجه الثاني: أن قول الدارودي في روايته (ليس بسنة) منكر، أو على الأقل شاذ، لسببين:
أ- مخالفته لمن هو أوثق منه ألا وهو محمد بن جعفر بن أبي كثير، وهو ثقة كما قال الترمذي، .. بل احتج به الشيخان وجميع أصحاب السنن وغيرهم، فروايته هي الراجحة عند التعارض على رواية الداروردي؛ لأنه مختلف فيه.
ب-أن رواية الدارودي لا متابع لها، ولا شاهد، خلافاً لرواية محمد بن جعفر، فإن لها متابعاً، وشاهد. أما المتابع فهو ما روي عن عبد الله بن جعفر (وهو ضعيف، يكتب حديثه) ولا بأس به في المتابعات. وأما الشاهد فهو حديث ابن مجبر) ولا يضر ضعف لأنه في الشواهد.
_______________________________________
-أما الجواب على تضعيف الزين العراقي لهذا الحديث:
فهو كما يلي: فقد ضعف الزين العراقي حديث الترمذي بعبد الله بن جعفر، وقال صاحب "الميزان": متفق على ضعفه.
وبين أن الترمذي إنما حسَّن رواية عبد الله بن جعفر بن نجيح التي فيها الإثبات برواية محمد بن جعفر بن أبي كثير، وهو لم يسُق رواية الأخير، وإنما قال فيها: نحوه.
قال العراقي: وقوله (بنحوه) لا يقتضي أنه بلفظه، أي بلفظ الإثبات.
وأيد العراقي قوله برواية أخرى عند إسماعيل بن إسحاق القاضي في "كتاب الصيام"، فذكر فيها رواية محمد بن جعفر، وفيها: عن محمد بن المنكدر، عن محمد كعب، قال: فقلت أهو سُنة؟ قال: فلا أحسبه إلا قال نعم!
وقوله (لا أحسبه إلا قال نعم) هذه اللفظة محتملة، ويرد عليها الشك.
ثم إن رواية الترمذي … عن سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر (مضطربة)، ذلك أن رواية سعيد بن أبي مريم، ذلك أن السياق جاء في صيام يوم الشك، كما في رواية الطبراني عند في الأوسط. مع مجيء ما يعضد رواية سعي بن أبي مريم، فقد تابعه خالد بن نزار على روايته من هذا الوجه، وهي عند الطبراني -أيضاً -في الأوسط.
وأجاب الألباني على هذا الاعتراض من وجوه:
الوجه الأول: أن رواية محمد بن جعفر التي لم يجزم فيها بكون الفطر بعد الفجر سنة، لا تعارض الرواية التي جزم فيها بأنه سنة، وغاية ما في الأمر أنه لم يصرح بالإثبات، ولكنه لم ينفِ، وعليه ترجح رواية الإثبات؛ لأن المثبت لديه زيادة علم.
الوجه الثاني: أن الرواية التي لم يجزم فيها بكون ذلك سنة، تفرد بها عيسى بن مينا، عن محمد بن جعفر، وعيسى بن مينا: ضعيف في الحديث. ثم قد روى الضياء المقدسي في "المختارة" هذا الحديث من طريق عيسى بن مينا، بلفظ الإثبات. والظاهر أن إسماعيل القاضي -الذي يروي عن ابن مينا -لم يضبط الرواية عنه، فقال: (أحسبه قال…).
الوجه الثالث: أن رواية الترمذي لحديث محمد بن جعفر من طريق شيخة محمد بن إسماعيل البخاري، وإحالته على حديث عبد الله بن جعفر الذي قبله، وقوله (بنحوه) يُفيد إلى أنه مثله في المعنى، و"نحوه" وإن كانت لا تفيد المماثلة إلا أنها تفيد المشابهة، والاتفاق في بعض الألفاظ.
الوجه الرابع: أن رواية يحيى بن سعيد العلاف عن سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر أن القصة (يوم يشكون) لم يوافقه عليها أحدٌ ممن روى هذه القصة عن سعيد بن أبي مريم، كما أن العلاف ضعيف، وإذا كان ثقةً فروايته شاذة، فكيف وهو ضعيف، فلا شك أن روايته منكرة، وروى هذا الحديث الدارقطني من طريق سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر، فذكر أنه قال: هو سنة، ولم يشك. ولذا قال ابن العربي: حديث أنس صحيح، ولم يقل به إلا أحمد بن حنبل (انظر ص 26).
الوجه الخامس: أنه يشهد لحديث أنس القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: ١٨٤)، وهذا يشمل من كان في السفر، ومن تأهَّب للسفر.
ويشهد له ما رواه أحمد في مسنده (٢٧٢٣١): عن دحية بن خليفة، أنه خرج من قريته إلى قريب من قرية عقبة في رمضان، ثم أنه أفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا، قال: فلما رجع إلى قريته قال: «والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أن أراه، إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه» ، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: «اللهم اقبضني إليك» وهذا حديث صحيح.
الوجه السادس: أنه ثبت عن عددٍ من الصحابة والتابعين العمل به، مثل: عمر بن الخطاب، وأبو موسى الأشعري، وابن عمر، وابن عباس، وعمرو بن شرحبيل، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري.
_______________________________________
ثالثاً: بيان حديث أبي بصرة الغفاري:
قال أبو داود في سننه (٢٤٢١): حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثني عبد الله بن يزيد، (ح) وحدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا عبد الله بن يحيى، المعنى حدثني سعيد بن أبي أيوب، وزاد جعفر، والليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، أن كليب بن ذهل الحضرمي أخبره، عن عبيد، قال: جعفر ابن جبر، قال: كنت مع أبي بصرة الغفاري -صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط -في رمضان، فرفع ثم قرب غداه، قال جعفر في حديثه: فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة، قال: اقترب قلت: ألست ترى البيوت، قال أبو بصرة «أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال جعفر في حديثه: فأكل.
وقد ذكر المعترض أنه لا يكفي سكوت أبي داود على الحديث في تصحيحه، وإنما ينبغي النظر في أقوال الأئمة بعده.
الوجه الأول: أن رجال أبي داود وأحمد كلهم ثقات محتج بهم في الصحيحين، عدا كليب بن ذهل، وقد وثقه ابن حبان، وقال الحافظ في "التقريب": مقبول، ووثقه يعقوب بن سفيان، والعجلي، وهو صحيح على شرط هذا المعترض، كما أنه صحيح في نفس الأمر.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث هو اعتبارٌ ثانٍ لحديث أنس المتقدم، لمجيئه بنفس معناه، لأن أقل أحواله أنه حسنٌ لغيره.
الوجه الثالث: أن حديث أبي بصرة موافق لحديث أنس في المعنى، بدلالة ترجمة أبلي داود له، بقوله (باب متى يُفطر المسافر إذا خرج؟)، وترجمة الإمام البليهقي له، بقوله (باب من قال يُفطر وإن أخرج بعد طلوع الفجر)، وبقرينة اعتراض عُبيد بن جبر في الرواية على أبي بصرة، بقوله (ألست ترى البيوت؟). أما قول عُبيد بن جبر: "ثم قرب إليه غداءه" والغدوة عندهم ما بين الفجر إلى طلوع الشمس، وليس الغداء المعروف في وقتنا المعاصر الذي يكون بعد الظهر.
____________________________________
خلاصة كلام العلامة الألباني في رسالته رداً على الهرري:
١-خطأ الهرري في تضعيف حديث أنس، وهو صحيح كما تقتضيه قواعد علم الحديث.
٢-إعراضه عن تقليد من صححه مع أنهم أكثر ممن ضعف، وهذا خلاف المفروض في المقلدين ومنطقهم، الذي من العادة أن يحتجوا بالكثرة والسواد الأعظم!
٣-تضعيفه لحديث أبي بصرة خطأ، بل إنه صحيح على مقتضى نهج المعترض في التصحيح، حيث أنه يقبل توثيق ابن حبان.
٤-إعراض المعترض عن الاستشهاد بحديث أبي بصرة مع أنه صالح لذلك عنده.
٥-كتم المعترض لحديث دحية، مع أنه صحيح أيضاً على منهجه، وما ذلك إلا لأنه صريح الدلالة على خلاف مذهبه.
٦-غفلته عن تأييد القرآن للأحاديث الثلاثة.
٧-غفلته أيضاً عن الآثار المؤيدة لها، وبعضها عن عمر الفاروض، رضي الله عنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق