مناقشة أحاديث الزيارة في "شفاء السُّقام"
من كتاب "الصارم المنكي" لابن عبد الهادي
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ هذا هو الفصل الأول من الصارم المنكي في الرد على السُّبكي، استللناه من الكتاب، ووضعناه هنا مجرداً، ليستبين لكل باحثٍ مُنصف صدق كلمة شيخ الإسلام ابن تيمية في كون أحاديث الزيارة واهية أو موضوعة، وذلك من خلال موقف الشيخ ابن عبد الهادي المنتصر لكلام شيخ الإسلام، في رده على ابن السُّبكي، الذي تصدى للردِّ كلام شيخ الإسلام بغير علم، ولا إنصاف، ولذلك قال ابن عبد الهادي في بداية جوابه عليه:
"وجميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب وزعم إنها بضعة عشر حديثاً ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفة واهية، وقد بلغ الضعف ببعضها إلى أن حكم عليه الأئمة الحفاظ بالوضع، كما أشار إليه شيخ الإسلام"، ونحن نذكرها هنا تامةً، ولعلنا نُحلقها فيما بعد بتعليقات أُخر، ووشحناها بمشجرات الأسانيد، وبيان مظان الأحاديث، وغير ذلك مما يُعين القارئ على فهم كلام ابن عبد الهادي، ورحم الله الجميع.
الحديث الأول:
1. «من زار قبري وجبت له شفاعتي»، (وهذا الحديث ضعيفٌ جداً، رواه الدارقطني في "السنن": 2/ 278، والبيهقي وغيرهما).
وزعم ابن السُّبكي في "شفاء السُّقام": أن أقل درجات هذا الحديث أن يكون حسناً إن توزع في دعوى صحته؛ وذكر أن الراجح كونه من رواية عبيد الله المصغر الثقة لا من رواية عبد الله المكبر المضعف، وقال في أثناء كلامه: يحتمل أن يكون الحديث عن عبيد الله وعبد الله جميعاً ويكون موسى سمعه منهما فتارة حدث به عن هذا وتارة حدث به عن هذا.
قال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": "والجواب أن يقال: هذا الحديث الذي ابتدأ المعترض بذكره وزعم أنه حديث حسن أو صحيح هو أمثل حديث ذكره في هذا الباب، وهو مع هذا حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو حديث منكر عند أئمة هذا الشأن ضعيف الإسناد عندهم لا يقوم بمثله حجة ولا يعتمد على مثله عند الاحتجاج إلا الضعفاء في هذا العلم، وقد بين أئمة هذا العلم والراسخون فيه والمعتمد على كلامهم والمرجوع إلى أقوالهم ضعف هذا الخبر ونكارته كما سنذكر بعض ما بلغنا عنهم في ذلك إن شاء الله تعالى".
وقد قال البيهقيُّ في "الشعب": "وسواءٌ قال (أي: موسى بن هلال العبدي) عبيد الله، أو عبد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر، لم يأت به غيره، وهكذا ذكر الإمام الحافظ البيهقي أن هذا الحديث منكر عن نافع عن ابن عمر سواء قال فيه موسى بن هلال عن عبيد الله أو عن عبد الله، والصحيح أنه عن عبد الله المكبر، كما ذكره أبو أحمد بن عدي وغيره.
وهذا الذي قاله البيهقي في هذا الحديث به عليه قوله صحيح بين وحكم جلي واضح ولا شك فيه من له أدنى اشتغال بهذا الفن، ولا يرده إلا رجل جاهل بهذا العلم.
وكذلك أن تفرد مثل هذا العبدي المجهول الحال الذي لم يشتهر من أمره ما يوجب قبول أحاديثه وخبره عن عبد الله بن عمر العمري المشهور بسوء الحفظ وشدة الغفلة عن نافع عن ابن عمر بهذا الخبر من بين سائر أصحاب نافع الحفاظ الثقات الأثبات من أقوى الحجج وأبين الأدلة وأوضح البراهين على ضعف ما تفرد به وإنكاره ورده وعدم قبوله، وهل يشك في هذا من شم رائحة الحديث أو كان عنده أدنى بصر به… فلما لم يروه عنه ثقة يحتج به ويعتمد عليه علم أنه ليس من حديثه، وأنه لا أصل له، بل هو مما أدخل بعض الضعفاء المغفلين في طريقه فرواه وحدث به.
وقد قال الحافظ أبو جعفر محمد بن عمر العقيلي في كتاب "الضعفاء": موسى بن هلال البصري سكن الكوفة عن عبيد الله بن عمر. لا يصح حديثه ولا يتابع عليه. وقال أبو جعفر العقيلي (4/ 170): "والرواية في هذا الباب فيها لين".
هذا جميع ما ذكره العقيلي في كتابه، وقد حكم على الحديث المذكور بعدم الصحة، وأن روايه لم يتابع عليه، ولكن قال في روايته عن عبيد الله بالتصغير، والصحيح عن عبد الله بالتكبير.
قال الحافظ أبو أحمد عبد الله بن عدي في كتاب "الكامل في معرفة الضعفاء" (6/ 235): موسى بن هلال ثم ذكر هذا الحديث كما رواه البيهقي من طريقه بإسناده، ثم قال ابن عدي: وعبد الله أصح.
قلتُ: وهذا الذي صححه ابن عدي هو الصحيح، وهو أنه من رواية عبد الله بن عمر العمري الصغير المكبر المضعف ليس من رواية أخيه عبيد الله العمري الكبير المصغر الثقة الثبت: فإن موسى بن هلال لم يلق عبيد الله فإنه مات قديماً سنة بضع وأربعين ومائة، بخلاف عبد الله فإنه تأخر دهراً بعد أخيه وبقي إلى سنة بضع وسبعين ومائة.
ولو فرض أن الحديث من رواية عبيد الله لم يلزم أن يكون صحيحاً، فإن تفرد موسى بن هلال به عنه دون سائر أصحابه المشهورين بملازمته وحفظ حديثه وضبطه من أدل الأشياء على أنه منكر غير محفوظ، وأصحاب عبيد الله بن عمر المعروفين بالرواية عنه مثل يحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن نمير… فإذا كان هذا الحديث لم يروه عن عبد الله أحمد من هؤلاء الأثبات، ولا رواه ثقة غيرهم علمنا أنه منكر غير مقبول، وجزمنا بخطأ من حسنه، أو صححه بغير علم.
وقد ذكر الإمام ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" (8 /166): أن موسى بن هلال روى عن عبد الله العمري، ولم يذكر أنه يروي عن عبيد الله ثم قال: سألت أبي عنه فقال: مجهول.
وذكر الحافظ أبو الحسن بن القطان في كتابه "الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام" لعبد الحق الإشبيلي: أن هذا الحديث الذي رواه موسى بن هلال حديث لا يصح، وأنكر على عبد الحق سكوته عن تضعيفه.
وقال: "أُراه تسامح فيه لأنه من الحث والترغيب على عمل، ثم ذكر كلام أبي حاتم الرازي والعقيلي في موسى ومال إلى قولهما. وقال: "فأما أبو أحمد بن عدي فإنه ذكر هذا الرجل بهذا الحديث، ثم قال: ولموسى غير هذا، وأرجو أنه لا بأس به".
قال ابن القطان: وقد ضعف أبو محمد (يعني الإشبيلي) حديث: (إنما النساء شقائق الرجال)، و(احتلام المرأة) من أجل عبد الله بن عمر العمري، وذكر اختلاف المحدثين فيه، وكذلك فعل أيضاً في حديث: (أول الوقت رضوان الله)، فإنه رده من أجله، وترك في الإسناد متروكاً لا خلاف فيه لم يتعرض له؛ فكان ذلك عجباً من فعله.
وكذلك فعل أيضاً في حديث نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نكح العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل)؛ فإنه اتبعه أن قال: "فيه العمري وهو ضعيف" وهذا الذي عمل به في هذا الأحاديث من تضعيفها من أجل العمري هو الأقرب إلى الصواب.
ثم ذكر (يعني ابن القطان) أنه (يعني الإشبيلي) سكت عن أحاديث من رواية العمري منها، هذا الحديث المروي عنه في الزيارة، وذكر أن سكوته عنها غير صواب.
وقد تكلم في عبد الله العمري جماعة من أئمة الجرح والتعديل، ونسبوه إلى سوء الحفظ والمخالطة للثقات في الروايات.
قال أبو حاتم ابن حبان البستي في كتابه "المجروحين" (2/ 6- 7): عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري، أخو عبيد الله بن عمر من أهل المدينة يروي عن نافع، روى عنه العراقيون وأهل المدينة، كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الأخبار وجودة الحفظ للآثار فوقع المناكير في رواته، فلما فحش خطؤه استحق الترك ومات سنة ثلاث وسبعين ومائة. قال: وروى عن نافع عن ابن عمر … فيما يشبه هذا من المقلوبات، والملزوقات التي ينكرها من أمعن في العلم وطلبه من مظانه".
وقال الترمذي في "جامعه" (1/ 323): وعبد الله بن عمر ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه.
وقال البخاري في "تاريخه" (5/ 145): عبد الله بن عمر بن حفص العمري المدني قرشي، كان يحيى بن سعيد يضعفه
وقال النسائي في كتاب "الكنى": أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر ضعيف.
وقال العقيلي: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت يحيى بن معين عن عبد الله بن عمر العمري، فقال: ضعيف، حدثنا عبد الله قال: سألت أبي عن عبد الله بن عمر فقال: كذا وكذا.
وقال أبو زرعة الدمشقي، قيل لأحمد بن حنبل كيف حديث عبد الله بن عمر، فقال كان يزيد في الأسانيد ويخالف وكان رجلاً صالحاً.
وقد ذكر العقيلي هذا القول عن الإمام أحمد بن حنبل من رواية أبي بكر الأثرم عنه؛ وروى إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين، قال: "عبد الله بن عمر صويلح"، وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه: "ضعيف".
وقال أبو حاتم الرازي: "يكتب حديثه ولا يحتج به".
وقال يعقوب بن شيبة: "صدوق في حديثه اضطراب".
وقال: صالح بن محمد البغدادي: "لين مختلط الحديث".
وقال الحاكم أبو أحمد: "ليس بالقوي عندهم".
فإذا كانت هذه الحال عبد الله بن عمر العمري عند أهل هذا الشأن، والراوي عنه مثل موسى بن هلال المنكر الحديث، فهل يشك من له أدنى علم في ضعف ما تفرد به ورده وهل يجوز أن يقال فيما روياه من حديث منفردين به أنه حسن أو صحيح؟ وهل يقول هذا إلا رجل لا يدري ما يقول.
قال ابن عبد الهادي: "وقد ذكر هذا الحديث بعض الحفاظ المتأخرين في كتاب كبير له رأيت قطعة منه، قال في حديثه: عن عبد الله بن عمر قد ذكرناه بأسانيده في الكتاب الكبير، ولا نعلم رواه عن نافع إلا العمري، ولا عنه إلا موسى بن هلال العبدي، تفرد به والله أعلم، انتهى كلام هذا الحافظ، وهو في طبقة أبي عبد الله بن مندة، وأبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك".
والكتاب الذي روي في هذا الحديث، ووقفت على بعضه يدل على سعة حفظه ورحلته، ولا يجوز أن يكون هو ابن مندة… ولا يجوز أن يكون الحاكم أبا عبد الله، لأن رحلة هذا المؤلف أوسع من رحلة الحاكم… ولا يجوز أن يكون الحافظ أبا نعيم لتأخره عن هذا.
وفي الجملة مؤلف هذا الكتاب حافظ كبير من بحور الأحاديث، وقد ذكر في هذا الكتاب من الأحاديث الغريبة والمنكرة والموضوعة شيئاً كثيراً، وذكر في هذا الباب الذي روي فيه هذا الحديث هو الباب الثلاثون بعد المائتين عدة أحاديث موضوعة لا أصل لها.
وقد ذكر أن هذا الحديث تفرد به موسى بن هلال العمري وذكر أن بعض الرواة قال في حديثه "عن عبيد الله" وقد ذكرنا أن الأصح رواية من قال "عن عبد الله"، وكأن موسى بن هلال حدث به مرة عن عبيد الله فأخطأ، لأنه ليس من أهل الحديث ولا من المشهورين بنقله، وهو لم يدرك عبيد الله ولا لحقه فإن بعض الرواة عنه لا يروي عن رجل عن عبيد الله، وإنما يروي عن رجل عن آخر عن عبيد الله فإن عبيد الله متقدم الوفاة كما ذكرنا ذلك فيما تقدم، بخلاف عبد الله فإنه عاش دهراً بعد أخيه عبيد الله، وكأن موسى بن هلال لم يكن يميز بين عبد الله وعبيد الله ولا يعرف أنهما رجلان فإن لم يكن من أهل العلم، ولا ممن يعتمد عليه في ضبط باب من أبوابه.
فقد تبين أن هذا الحديث أن هذا الحديث الذي تفرد به موسى بن هلال لم يصححه أحدٌ من الأئمة المعتمد على قولهم في هذا الشأن، ولا حسَّنه أحد منهم، بل تكلموا فيه وأنكروه حتى أن النووي ذكر في "شرح المهذب" (7/ 203) إن إسناده ضعيف جداً.
وقد تفرد هذا المعترض على شيخ الإسلام (يعني ابن السُّبكي) بتحسينه أو تصحيحه، وأخذ في التشنيع والكلام بما لا يليق الذي بقدر آحاد الناس على مقابلته بمثله وبما هو أبلغ منه،وجميع ما تفرد به هذا المعترض من الكلام على الحديث وغيره خطأ فاعلم ذلك والله الموفق.
فإن قيل: قد روى الإمام أحمد بن حنبل عن موسى بن هلال، وهو لا يروي إلا عن ثقة ؟
فالجواب أن يقال: رواية الإمام أحمد عن الثقات هو الغالب من فعله، والأكثر من عمله كما هو المعروف… وقد يروي الإمام أحمد قليلاً في بعض الأحيان عن جماعة نُسبوا إلى الضعف وقلة الضبط على وجه الاعتبار والاستشهاد لا على طريق الاجتهاد والاعتماد … فيروي عمن اشتهر الكلام فيه، وهكذا روايته عن موسى بن هلال إن صحت روايته عنه.
ولو فرض أن موسى بن هلال العبدي، وعبد الله بن عمر العمري من الرواة الثقات الإثبات المشهورين، والعدول الحفاظ المتقنين الضابطين، وقدر أن هذا الحديث المروي من طريقهما من الأحاديث الصحيحة المشهورة المتلقاة بالقبول، لم يكن فيه دليل إلا على الزيارة الشرعية؛ وتلك لا ينكرها شيخ الإسلام ولا يكرهها بل يندب إليها ويحض عليها ويستحبها.
والخلاصة: أن هذا الحديث ضعيف الإسناد جداً؛ لضعف عبد الله بن عمر العمري، وأيضاً موسى بن هلال العبدي، وقد ترجم الذهبيُّ له في "ميزان الاعتدال" (4/ 225 -226)، وقال: هو صالح الحديث، وأنكر ما عنده حديثه عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، وذكر هذا الحديث، ثم قال: رواه ابن خزيمة في "مختصر المختصر" عن إسماعيل الأحمسي عنه.
ورواية ابن خزيمة أرودها الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (6/ 158)؛ فقال: "قال ابن خزيمة في صحيحة، باب في زيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم: إن ثبت الخبر، إن في القلب منه"، وساق رواية ابن خزيمة له، ثم قال: "وما تقدَّم من عبارة ابن خزيمة، وكشفه عن علة هذا الخبر، لا يحسن أن يُقال: أخرجه ابن خزيمة في صحيحه إلا مع البيان".
قلتُ: وهذه قاعدةٌ عظيمة نبَّه عليها الحافظ ابن حجرٍ في ضرورة بيان علة الحديث عند الاستشهاد به، وبيان قول راويه فيه إن كان به علَّةٌ قادحة، لأن مجرد العزو إلى مظانِّ ورود الحديث لا يكفي دون بيان العلة.
وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (ص 12، برقم: 65)، ومن طريقه البيهقي في السنن (5/ 245)، من طريق رجلٍ من آل عمر عن عمر. وقال البيهقيُّ عقبه: هذا إسنادٌ مجهول، وسواء قال عبيد الله، وعبد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر، لم يأت به غيره.
وأخرجه البزار (2/ 57) برقم (1198) عن قتيبة، ثم قال: عبد الله بن إبراهيم لم يُتابع على هذا، وإنما يكتب ما يتفرد به.
وقال النوويُّ في "شرح المهذب": إسناده ضعيفٌ جداً.
وقال ابن عبد الهادي: لم يُصححه أحدٌ من الأئمة المعتمد قولهم في هذا الشأن، ولا حسنه أحدٌ منهم، بل تكلموا فيه وأنكروه.
قلتُ: ولم يثبت حديثٌ صحيحٌ في وجوب زيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإنما تُشرع زيارة قبره صلى الله عليه وسلم تبعاً لزيارة المسجد، ولا تُقصد الزيارة لذاتها، ولا يُشد الرجل من أجلها.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (27/ 29): "وأما قوله: (من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي)، وأمثال هذا الحديث مما روي في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم؛ فليس منها شيءٌ صحيح، ولم يروه أحدٌ من أهل الكتب المعتمدة شيئاً منها… بل عامة هذه الأحاديث مما يُعلم أنها كذبٌ موضوعة".
****
الحديث الثاني
2. «من زار قبري حلت له شفاعتي» (رواه الإمام أبو بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار في مسنده كما في كشف الأستار (). قال ابن السُّبكي: وهذا هو الحديث الأول بعينه إلا أن في الحديث الأول (وجبت) وفي هذا (حلت)، فلذلك أفردته بالذكر).
وهذا حديث منكر، ويبدو أن ابن السُّبكي توسع كثيراً في تخريج حديثه هذا، قال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": "ذكر كلاماً كثيراً لا حاجة إلى ذكره ليعظم حجم الكتاب"، وكذلك: ليلبس على من لا علم له بالحديث وعلله.
وقال في "الصارم المنكي" بعد أن ذكر مثالاً للحشو الذي لا فائدة منه في مقام الاحتجاج: "وأطال -يعني ابن السُّبكي -عقب الحديث المذكور بمثل هذا الحشو الذي لا يحتاج إلى ذكره، ولو ذكر بدل هذا الحشو ما يتعلق بعلة الحديث وتحرير القول في إسناده لكان أحسن وأولى".
ثم قال: "وأعلم أن هذا الحديث الذي ذكره من رواية البزار حديث ضعيف منكر ساقط الإسناد لا يجوز الاحتجاج بمثله عند أحد من أئمة الحديث وحفاظ الأثر"، أخرجه العقيلي في «الضعفاء الكبير» ( 170/4) وقال: فيه عبد الله بن إبراهيم كان يغلب على حديثه الوهم، وأخرجه ابن عدي في «الكامل في الضعفاء» (351/6)، وذكر ابن عدي لعبد الله بن إبراهيم أحاديث كثيرة منكرة، بل موضوعة، ثم قال: وعامة ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات.
وأخرجه الدارقطني (278/2)، وفيه عبد الله بن إبراهيم وهو ابن أبي عمرو الغفاري، أبو محمد المدني، وهو شيخ ضعيف الحديث جداً، منكر الحديث، ونسبه بعض الأئمة إلى الوضع.
قال الذهبيُّ في الميزان (2/ 288) عن "عبد الله بن إبراهيم": قال أبو داود: "منكر الحديث"، وقال الدارقطني: حديثه منكر، وقال الحاكم: يروي عن الثقات أحاديث موضوعة لا يرويها عنهم غيره، وقال البزار عقب روايته لهذا الحديث: وعبد الله بن إبراهيم حديث بأحاديث لا يتابع عليها.
قلتُ (أي ابن عبد الهادي): انظر كيف ينقل ابن السُّبكيِّ ما يوافقه ويترك ما لا يوافقه فهو قد نقل الحديث من البزار، ولم ينقل كلام البزار في عبد الله بن إبراهيم هذا.
وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ وهو ضعيف غير محتج به عند أهل الحديث؛ ضعفه أحمد بن حنبل، وعبد الرحمن بن مهدي، والبخاري وأبو حاتم الرازي وعلي بن المديني جداً؛ وقال أبو داود وأبو زرعة والنسائي والدارقطني: ضعيف، وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار؛ فاستحق الترك.
وقد حدَّث عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه. قال الحاكم أبو عبد الله: روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه.
وقال ابن خزيمة: عبد الرحمن بن زيد ليس ممن يحتج أهل الحديث بحديثه؛ وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: حدث عن أبيه لا شيء، وتكلم فيه مالكٌ، والشَّافعيُّ، وضعفه كثيرٌ من العلماء؛ منهم الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب".
ومن العجيب حقاً أن يُقوي ابن السُّبكيِّ حديث عبد الله بن إبراهيم الغفاري بحديث موسى بن هلال العبدي، مع أنه لا يصلح أحدهما لتقوية الآخر، فإنهما في غاية الضعف والنكارة، وذلك بناءً على تصحيح حديث الحاكم لحديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في التوسل.
قال ابن عبد الهادي: "وإني لأتعجب منه كيف قلد الحاكم فيما صححه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الذي رواه في التوسل، وفيه قول الله لآدم: (لولا محمد ما خلفتك) مع أنه حديث غير صحيح ولا ثابت، بل هو حديث ضعيف الإسناد جداً، وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع وليس إسناده من الحاكم إلى عبد الرحمن بن زيد بصحيح، بل هو مفتعل على عبد الرحمن كما سنبينه، ولو كان صحيحاً إلى عبد الرحمن لكان ضعيفاً غير محتج به، لأن عبد الرحمن في طريقه".
قال رحمه الله: وقد أخطأ الحاكم في تصحيحه وتناقض تناقضاً فاحشاً كما عرف له ذلك في مواضع فإنه قال في كتاب الضعفاء بعد أن ذكر عبد الرحمن منهم، وقال: ما حكيته عنه فيما تقدم أنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه.
وقد قال أبو عبد الله الحاكم في آخر كتابه: فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به، فإن الجرح لا استحله تقليداً، والذي اختاره لطالب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء الذين سميتهم، فالراوي لحديثهم دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)".
قال ابن عبد الهادي: "ثم إنه (الحاكم) رحمه الله لما جمع المستدرك على الشيخين ذكر فيه من الأحاديث الضعيفة والمنكرة بل والموضوعة جملة كثيرة، وروى فيه لجماعة من المجروحين الذين ذكرهم في كتابه في الضعفاء وذكر أنه تبين له جرحهم، وقد أنكر عليه غير واحد من الأئمة هذا الفعل، وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره فذلك وقع منه ما وقع وليس ذلك ببعيد، ومن جملة ما أخرجه في المستدرك حديث لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في التوسل قال بعد روايته: هذا حديث صحيح الإسناد وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب؛ فانظر إلى ما وقع للحاكم في هذا الموضوع من الخطأ العظيم والناقض الفاحش".
****
الحديث الثالث
3. «من جاءني زائراً لا يعمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة». (رواه الدارقطني في "أماليه"، والطبراني في معجمه الكبير: 12/291، 13149، من طريق مسلمة بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر).
قال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": "هذا الحديث ليس في ذكر زيارة القبر، ولا ذكر الزيارة بعد الموت، مع أنه حديث ضعيف الإسناد لا يصلح الاحتجاج به، ولا يجوز الاعتماد على مثله، ولم يخرجه أحمد في مسنده، ولا نقله أحد من الأئمة المعتمد على ما أطلقوه في روايتهم، ولا صححه إمامٌ يُعتمد على تصحيحه، وقد تفرد به هذا الشيخ (مسلمة بن سالم الجهني) الذي لم يعرف بنقل العلم ولم يشتهر بحمله، ولم يعرف من حاله ما يُوجب قبول خبره وهو مسلمة بن سالم الجهني، الذي لم يشتهر إلا برواية هذا الحديث المنكر، وله حديث آخر موضوع ذكره الطبراني بالإسناد المتقدم ومتنه (الحجامة في الرأس أمان من الجنون والجذام والبرص والنعاس والضرس).
ورُوِيَ عنه (أي مسلمة) حديث آخر منكر من رواية غير العبادي عنه، وإذا تفرد مثل هذا الشيخ المجهول الحال القليل الرواية بمثل هذين الحديثين المنكرين عن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وهو أثبت آل الخطاب، من بين سائر أصحاب عبيد الله الثقات المشهورين والأثبات المتقين، علم أنه شيخ لا يحل الاحتجاج بخبره، ولا يجوز الاعتماد على روايته، هذا مع أن الراوي عنه وهو عبد الله بن محمد العبادي أحد الشيوخ الذين لا يحتج بما تفردوا به.
وقد خالفه (يعني العبادي) من هو أمثل منه وهو مسلم بن حاتم الأنصاري، وهو شيخ صدوق فرواه عن مسلمة بن سالم عن عبد الله، يعني العمري كما رواه الحافظ أبو نعيم، وهذه الرواية (رواية مسلم بن حاتم) التي قال فيها عن عبد الله وهو العمري الضعيف أولى من رواية (العبادي) التي اضطرب فيها، وقال عن عبيد الله يعني العمري الثقة الثبت، وكلا الروايتين لا يجوز الاعتماد عليهما لمدارهما على شيخ واحد غير مقبول الرواية، وهو (مسلمة بن سالم)، وهو شبيهٌ بموسى بن هلال صاحب الحديث المتقدم، الذي يرويه عن عبد الله العمري، أو عن أخيه عبيد الله، وقد اختلف عليه في ذلك كما اختلف على مسلمة هذا.
وقد اختلف عليه شيخان غير معروفين بالنقل ولا مشهورين بالضبط في إسناد الحديث ومتنه (يعني مسلمة والعبادي)، وقد تفرد أحدهما في روايته بـ(زيارة قبره) ولم يذكرها الآخر، ومثل هذا الحديث إذا تفرد به شيخان مجهولان الحال قليلاً الرواية عن شيخ سيئ الحفظ مضربِ الحديث، واختلفا عليه واضطربا في الرواية عنه، لم يجز الاحتجاج به على حكم من الأحكام الشرعية ولا الاعتماد عليه في شيء من المسائل الدينية.
وكم من حديث له طرق كثيرة أمثل من طريق هذا الحديث وقد نص أئمة هذا الشأن على ضعفه وعدم الاحتجاج به واتفقوا على رده وعدم قبوله، والمحفوظ من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: (من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل، فإني أشفع لمن مات بها)..." .
وذكر ابن عبد الهادي من أخرج هذا الأخير المحفوظ من الأئمة: (من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل)، وأنه مُخرَّجٌ في الصحيح؛ ثم قال: "وهذه الألفاظ (يعني للحديث السابق: من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل) التي رواها أصحاب الصحيح والسنن والمسانيد من رواية نافع وغيره عن عبد الله بن عمر بن الخطاب هي الصحيحة المشهورة المحفوظة عنه، وفيها البحث على الإقامة بالمدينة وترك الخرج منها والصبر على لأوئها وشدتها وأن من استطاع أن يموت بها فليفعل لتحصل له شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم".
وبيَّن رحمه الله أن لهذا الحديث المحفوظ شواهد كثيرة، عن أبي سعيد الخدري أخرجه أحمد في "مسنده"، وأبي هريرة أخرجه مسلم في "صحيحه"، وروي معناه عن عمر بن الخطاب أخرجه البخاري في "صحيحه"، قال ابن عبد الهادي: "وقد روى أيضاً من حديث سعد بن أبي وقاص (كما في الصحيحين)، وجابر، وأسماء بنت عميس وغيره، وقد كان المهاجرون إلى المدينة يكوهون أن يموتوا بغيرها ويسألون الله تعالى أن توافهم بها".
وذكر ابن عبد الهادي حديثاً آخر يستدلُّ به هذا المعترض؛ وهو: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل، فإني أشفع لمن مات بها» (قال ابن السُّبكي: وهو من رواية ابن عمر، ذكره الدارقطني في العلل في مسند ابن عمر، من طريق: عون بن موسى، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر، وقيل للختلي (أحد رواة الحديث): إنما هو سفيان بن موسى، قال: اجعلوه عن ابن موسى، وقال موسى بن هارون (الراوي عن الختلي): ورواه إبراهيم بن الحجاج، عن وهيب، عن أيوب، عن نافع مرسلاً عن النبيِّ؛ فلا أدري سمعه من إبراهيم بن الحجاج أم لا ! قال ابن السُّبكي: وإنما لم أفرد الحديث بترجمة، لأن نسخة العلل للدارقطني التي نقلت منها سقيمة).
قال ابن عبد الهادي في الجواب على هذا الاستدلال: "وهذا اللفظ المذكور غلط في هذا الحديث، حديث نافع عن ابن عمر ولفظ الزيارة فيه غير محفوظة، ولو كان محفوظاً لم يكن فيه حجة على محل النزاع، والمحفوظ في هذا عن أيوب السختياني ما رواه هشام الدستوائي وسفيان بن موسى عنه، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت فإنه من مات بها كنت له شفيعاً أو شهيداً)، هذا هو حديث أيوب عن نافع ليس فيه ذكر الزيارة أصلاً.
وقد وقف على هذا المعترض على ما ذكره الدارقطني في كتاب العلل من الاختلاف في إسناد الحديث ومتنه، ولم ينقل منه إلا طريقاً واحدة أخطأ فيه الراوي، ونقل لفظاً واحداً وهم فيه الناقل وأعرض عن ذكر الطرق الواضحة والألفاظ الصحيحة، وهل هذا إلا عين الخذلان أن ينظر الرجل في ألفاظ الحديث، وطرقه في موضع واحد، فينقل منها الضعيف والسقيم، ويدع القوي الصحيح من غير بيان لذلك، ثم يعتل بأن النسخة التي نقل منها سقيمة، وهذا الحديث الذي نقله المعترض من كتاب العلل للدارقطني أخطأ رواية في إسناده ووهم في متنه.
أما خطؤه في إسناده فقوله عن عون بن موسى: وإنما هو سفيان بن موسى وهو شيخ من أهل البصرة، روى له مسلم في صحيح حديثاً واحداً متابعةً يرويه عن أيوب… وقد ذكر ابن أبي حاتم أنه سأل عنه أباه فقال: مجهول، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات.
وأما وهمه في متنه فقوله: (من زارني إلى المدينة)، ولفظ "الزيارة" في حديث أيوب عن نافع ليس بصحيح، والمعروف من حديثه عنه: (من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل)، وأصح منه اللفظ الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)".
ثم بيَّن رحمه الله أنه لا وجه لاحتجاج ابن السُّبكي بهذا الحديث؛ فقال: "وليس في شيء من هذه الروايات الصحيحة التي تقدم ذكرها عن نافع وغيره، عن ابن عمر ذكر زيارة القبر ولا قوله من جاءني زائراً لا ينزعه حاجة إلا زيارتي، فعلم أن ما رواه مسلمة بن سالم الجهني وموسى بن هلال العبدي من ذلك شاذ غير محفوظ وكأن هذين الشيخين سمعا شيئاً أو بلغهما أمر فلم يحفظاه ولم يضبطاه لكونهما ليسا من أهل الحديث ولا من المشهورين بحمل العلم ونقله، ولو كان ما روياه محفوظاً عن نافع لبادر إلى روايته عنه أيوب السختياني، ومالك بن أنس وغيرهما من أعيان أصحابه المعتمد على حفظهم وضبطهم وأتقانهم، فلما لم يتابعهما على ما نقلاه مختلفين فيه ثقة يحتج به بل خالفهما فيما روياه الثقات المشهورين والعدول الحفاظ المتقنون، علم خطؤهما فيما حملاه ولم يجز الرجوع إليهما ولا الاعتماد عليهما فيما روياه والله الموفق".
ثم يذكر رحمه الله اعتراضاً ربما يذكره بعض من يُجيز شدَّ الرحال إلى القبور، ويُجيب عنه؛ فقال: "فإن قيل: وقد ورد معنى الخبر الذي رواه مسلمة بن سالم الجهني من وجه آخر لم يذكره المعترض، قال بعض الحفاظ في زمن ابن مندة والحاكم في كتاب كبير له وقفت على بعضه -فذكر إسناده - عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبروتان)" .
قال: "فالجواب أن هذا الخبر ليس فيه ذكر زيارة القبر ولا قوله: من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي مع أن خبر موضوع، وحديث مصنوع لا يحسن الاحتجاج به، ولا يجوز الاعتماد على مثله، وفي إسناده ممن لا يحتج بحديثه ولا يعتمد على روايته غير واحد من الرواة منهم أسيد بن زيد الجمال الكوفي، قال عنه ابن معين: كذاب، وقال أبو حاتم: كانوا يتكلمون فيه، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المناكير، وقال ابن عدي، والدارقطني: ضعيف الحديث، وقال ابن ماكولا: ضعفوه".
وختم ابن عبد الهادي اعتراضات هؤلاء، بقوله: "ولو فرض صحة هذا اللفظ الذي رواه أسيد بن زيد، وقدر ثبوت ما رواه مسلمة بن سالم الجهني، وما رواه موسى بن هلال العبدي، لم يكن في شيء من ذلك دلالة على الزيارة على غير الوجه المشروع، وشيخ الإسلام لا ينهي عن الزيارة الشرعية ولا ينكرها… ورواية هذه الأحاديث الموضوعة غلطٌ من غلط في استحباب السفر لمجرد زيارة القبر، وإلا فليس هذا قولاً منقولاً عن إمام من أئمة المسلمين، وإن قدر أنه قاله بعض العلماء كان هذا قولاً ثالثاً في المسألة، فإن الناس في السفر لمجرد زيارة القبور لهم قولان: النهي والإباحة".
****
الحديث الرابع
4. «من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي». (رواه الدارقطني في "سننه" ورواه غيره أيضاً، وذكره من حديث أبي الربيع الزهراني عن حفص بن أبي داود، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي"، وفي لفظ "من حج فزارني بعد وفاتي كان كمن زارني وصحبتي) هكذا في هذه الرواية بزيادة صحبتي").
وهذا الحديث مُنكر المتن، ساقط الإسناد.
قال ابن عبد الهادي: "وأعلم أنه هذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به، ولا يصلح الاعتماد على مثله، فإنه حديث منكر المتن، ساقط الإسناد، لم يصححه أحد من الحفاظ ولا احتج به أحد من الأئمة، بل وضعفوه وطعنوا فيه، وذكر بعضهم أنه من الأحاديث الموضوعة والأخبار المكذوبة، ولا ريب في كذب هذه الزيادة فيه (يعني صحبني) (= وقال ص 62: وهذه الزيادة فيه منكرة جداً، والحديث من أصله ليس بصحيح).
وأما الحديث بدونها فهو منكر جداً وفيه: "حفص بن أبي داود" لم يكن من أهل الحديث، ولا ممن يعتمد عليه في نقله، ولهذا جرحه الأئمة وضعفوه وتركوه واتهمه بعضهم.
قال ابن معين: ليس بشيء، وقال أحمد: متروك الحديث، وقال البخاريُّ: تركوه، وقال مسلم: متروك، صالح بن محمد البغدادي: لا يكتب حديثه وأحاديثه كلها مناكير، وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال أبو حاتم: هو ضعيف الحديث لا يصدق متروك الحديث … وروى البيهقيُّ في كتاب السنن الكبير حديث حفص الذي رواه في الزيارة، وقال تفرد به حفص وهو ضعيف في رواية الحديث".
ثم قال: "واعلم أن هذا المعترض -يعني ابن السبكي -على شيخ الإسلام قد ارتكب من الكلام على هذا الحديث الذي رواه حفص أمراً يدل على جهله، أو على أنه رجل متبعٌ لهواه، وهو أنه توقف في كون حفص بن أبي داود راوي هذا الحديث هو حفص بن سليمان القاري، بل يحتمل أن يكون حفصاً آخر عنده، ويكون قد تابع حفصاً على رواية هذا الحديث، ويكون الحفصان قد اتفقا في اسم الأب وكنيته وجعل ذلك من مواضيع النظر!...
وهذا الذي ذكره هو خلاصة نظره ونهاية تحقيقه وغاية بحثه وتدقيقه، وهو كما ترى مشتمل على الوهم والإبهام والخبط والتخطيط والتلبيس، لأن راوي هذا الحديث هو حفص بن سليمان القاري الضعيف وهو حفص بن أبي داود بلا شك ولا ريب.
وإن أدنى من يعد من طلبة علم الحديث بعرف ذلك ولا بجهله ولا يشك فيه، ومن ادعى أن هذا الحديث رواه رجلان كل منهما يقال له حفص بن أبي داود وحفص بن سليمان وأحدهما ثقة والآخر ضعيف، فهو جاهل مخطئ بالإجماع أو معاند صاحب هوى متبع لهواه مقصود الترويج والتلبيس، وخلط الحق بالباطل.
وقد بيَّن الإمام ابن عبد الهادي وهم ابن السُّبكي في حفص وجعله رجلان، وهو في الحقيقة واحدٌ؛ فقال: "ومن نظر من آحاد الناس في كتب الحديث واطلع على كلام أئمة الجرح والتعديل، وعنى بذلك بعض العناية تبين له أن راوي هذا الحديث هو حفص بن سليمان القارئ وأنه حفص بن أبي داود وأنه لم يتابعه على روايته حفص آخر غيره قد وافقه في اسمه واسم أبيه وكنيته، وهو مع هذا من جملة الثقات، وها أنا أسوق هذا الحديث من كتب بعض من ذكره من الأئمة وأشير إلى ما يتبين به من كلامهم من رواية حفص بن سليمان القاري الذي يقول فيه بعض الرواة: حفص بن أبي داود"، وذكر ما يؤيد كلامه من كلام البيهقيِّ في "السنن الكبرى"، وابن أبي عديِّ في "الكامل، وابن حبان في "المجروحين".
(=وقال ص 63: فقد تبين بما ذكرناه من هذه الروايات وكلام أئمة الجرح والتعديل أن حفص بن سليمان راوي هذا الحديث هو حفص بن أبي داود وهو حفص القاري صاحب عاصم، وأنه لا يصلح الاحتجاج به ولا الاعتماد على روايته، وإن من توهم أن هذا الحديث رواه رجلان مشتركان في الاسم، واسم الأب وكنيته أحدهما ثقة والآخر ضعيف، فقد أخطأ بيناً، وارتكب أمراً منكراً لم يتابعه أحد عليه ولم يسبقه أحد إلى توهمه).
قال: "وما نقله هذا المعترض -يعني ابن السُّبكي -عن كتاب الثقات لابن حبان وأنه ذكر فيه حفص بن أبي داود، يروي عن الهيثم بن حبيب، ويروي عنه أبو الربيع الزهراني لم أره في النسخة التي عندي (وهذا هو الحق والصواب)، بكتاب الثقات لابن حبان، ولعل المعترض رآه حاشية في كتاب فظن أنها من الأصل.
فإن صح أن ابن حبان ذكر حفص بن أبي داود في كتاب الثقات، وزعم أنه غير القاري الضعيف، بل هو من جملة الثقات فقد أخطأ في ظنه ووهم في زعمه، فإن حفص بن أبي داود الذي يروي عن الهيثم، ويروي عنه أبو الربيع هو حفص بن سليمان القاري بلا شك، ولكن كان أبو الربيع يسميه حفص بن أبي داود لما اشتهر من ضعفه وعرف من جرحه (ص 59 - 62)".
وليس ببدع من هذا الرجل المعترض (ابن السبكي) على شيخ الإسلام المتبع لهواه أن يأخذ يقول أخطأ فيه قائله، ولم يوافق عليه، ويدع قولاً أصاب قائله وتويع عليه والله الموفق".
ثم قال ابن عبد الهادي راداً على ابن السُّبكي في فحش قوله وبُعده التام عن التحقيق: "وإني لأتعجب من هذا الرجل المعترض كيف يرتكب مثل هذا التخليط في الكلام والتلبيس في القول بعد التعب العظيم والكدح الكثير، ثم يزعم مع هذا أن كلام شيخ الإسلام مشتمل على التخليط وعدم البيان وتبعيد المعنى عن الأفهام، فإنه قال في أثناء كلامه في كتابه الذي ألفه في الرد على الشيخ، وقد وقفت له على كلام طويل في ذلك يعني في التوسل والاستغاثة رأيت في الرأي القويم أن أميل عنه إلى الصراط المستقيم، ولا أتبعه بالنقض والإبطال… ويمكن الإنسان أن يقابل هذا المعترض على ما في كلامه من الكذب وسوء الأدب بأضعاف ما قاله ويكون صادقاً في قوله مصيباً في عمله، وليس المقصود هنا مقابلته على ما في كلامه هذا من الجور والعدوان والظلم، وإنما المراد تبين خطئه في الكلام على حديث حفص بن سليمان المذكور، وما وقع منه من التخليط والتلبيس وقد حصل ذلك ولله الحمد"
وقال أيضاً: "وقد قال شيخ الإسلام في أثناء كلامه على حديث حفص بن سليمان بعد أن ذكر ضعف حفص وكلام أئمة الجرح والتعديل فيه قال: ونفس المتن باطل فإن الأعمال التي فرضها الله تعالى ورسوله لا يكون الرجل بها مثل الواحد من الصحابة، بل في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو انفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه) فالجهاد والحج ونحوهما أفضل من زيارة قبره باتفاق المسلمين ولا يكون الرجل بهما كمن سافر إليه في حياته ورآه".
****
الحديث الخامس
5. «من حج البيت، ولم يزرني فقد جفاني». (رواه ابن عدي في الكامل: 7 /2480، من طريق محمد بن النعمان، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعاً به).
وذكر ابن عدي في "الكامل" (7 /2480) أحاديث للنعمان ثم قال: هذه الأحاديث عن نافع عن ابن عمر يحدث بها النعمان بن شبل عن مالك، ولا أعلم رواه عن مالك غير (النعمان بن شبل)؟ ولم أر في أحاديثه حديثاً غريباً، قد جاوز الحد فأذكره، وروى في صدر ترجمته عن عمران بن موسى الزجاجي أنه ثقة، وعن موسى بن هارون أنه منهم، وهذه التهمة غير مفسرة فالحكم بالتوثيق مقدم عليها… وذكر أبو الحسن الدارقطني هذا الحديث في أحاديث مالك بن أنس الغرائب التي ليست في الموطأ، بإسناده من طريق: محمد بن محمد بن النعمان بن شبل، حدثنا جدي (النعمان بن شبل) حدثنا مالك عن نافع، عن ابن عمر به. قال الدارقطني: تفرد به هذا الشيخ وهو منكر، والظاهر أن هذه الإنكار منه بحسب تفرده وعدم احتماله له بالنسبة إلى الإسناد المذكور".
وبعد أن ذكر كلام ابن السُّبكي، قال في الجواب عليه: "واعلم أن هذا الحديث المذكور منكر جداً لا أصل له، بل هو من المكذوبات والموضوعات، وهو كذب موضوع على مالك مختلق عليه، لم يحدث به قط ولم يروه إلا من جمع الغرائب والمناكير والموضوعات،ولقد أصاب الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في ذكره في الموضوعات، وأخطأ هذا المعترض في رده وكلامه، والحمل في هذا الحديث على محمد بن محمد بن النعمان لا على جده، كما ذكره الدارقطني في الحواشي على كتاب (المجروحين) لأبي حاتم بن حبان البستي.
وهذا المعترض لم يقف على كلام الدارقطني الذي نحكيه عنه، قال ابن حبان في كتاب "الضعفاء": النعمان بن شبل أبو شبل من أهل البصرة يروي عن أبي عوانة ومالك والبصريين والحجازيين، روى عنه ابن ابنه محمد بن محمد بن النعمان بن شبل، حدثنا مالك عن نافع، عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني).
وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني في الحواشي، على كتابه: هذا حديث غير محفوظ عن النعمان بن شبل إلا من رواية ابن ابنه، عن ابنه، والطعن فيه عليه لا على النعمان.
ولقد صدق الحافظ أبو الحسن في هذا القول، فإن النعمان بن شبل إنما يعرف برواية هذا الحديث عن محمد بن الفضل بن عطية المشهور بالكذب، ووضع الحديث عن جابر الجعفي، عن محمد بن علي، عن علي بن أبي طالب، هكذا رواه الحافظ أبو عمر وعثمان بن خرزاذ عن النعمان بن شبل كما تقدم ذكره.
وهذا الحديث الموضوع لا يليق أن يكون إسناده إلا مثل هذا الإسناد الساقط ولم يروه عن النعمان بن شبل عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر إلا ابن ابنه محمد بن محمد بن النعمان، وقد هتك محمد في رواية هذا الحديث ستره وأبدى عن عورته وافتضح بروايته حيث جعله عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، ومن المعلوم أن أدنى من له علم ومعرفة بالحديث أن تفرد مثل محمد بن محمد بن النعمان بن شبل المتهم بالكذب والوضع عن جده النعمان بن شبل الذي لم يعرف بعدالة ولا ضبط ولم يوثقه إمام يعتمد عليه، بل اتهمه موسى بن هارون الحمال أحد الأئمة الحفاظ المرجوع إلى كلامهم في الجرح والتعديل من أبين الأدلة وأوضح البراهين على فضيحته وكشف عورته وضعف ما تفرد به وكذبه ورده وعدم قبوله، ونسخه مالك عن نافع عن ابن عمر محفوظة معروفة مضبوطة رواها عن أصحابه رواة الموطأ وغير رواة الموطأ، وليس هذا الحديث منها، بل لم يروه مالك قط ولا طرق سمعه..
ولو كان من حديثه لبادر إلى روايته عنه بعض أصحابه الثقات المشهورين، بل لو تفرد بروايته عنه ثقة معروف من بين سائر أصحابه لأنكره الحفاظ عليه، ولعدوه من الأحاديث المنكرة الشاذة، فكيف وهو حديث لم يروه عنه ثقة قط، ولم يخبر عنه عدل.
وما ذكره المعترض عن عمران بن موسى أنه وثق النعمان بن شبل ليس بصحيح عنه، وعمران ليس من أئمة الجرح والتعديل المرجوع إلى أقوالهم، فلو ثبت عنه ما حكاه المعترض لم يرجع إلى قوله فكيف وهو لم يثبت عنه.
ومن العجب قول هذا المعترض في آخر كلامه على الحديث: فلا جرم قبلنا كلام الدارقطني ورددنا كلام ابن الجوزي مع أن كلام الدارقطني، وكلام ابن الجوزي متفق غير مختلف.
فإن الدارقطني ذكر أن الحديث منكر، وأن الطعن والعمل فيه على محمد بن محمد بن النعمان، وابن الجوزي ذكره في الموضوعات، وحكى قول الدارقطني محتجاً به، ومعتمداً عليه فقبول المعترض قول أحدهما ورده قول الآخر مع اتفاقهما في المعنى من باب الخبط والتخبيط وليس ذلك ببدع في كلامه وتصرفاته.
والحاصل أن هذا الحديث الذي تفرد به محمد بن محمد بن النعمان عن جده عن مالك لا يحتج به ويعتمد عليه إلا من أعمى الله قبله، وكان من أجهل الناس بعلم المنقولات، ولو فرض أنه خبر صحيح وحديث مقبول لم يكن فيه حجة إلا على الزيارة الشرعية وقد ذكرنا غير مرة أن شيخ الإسلام لا ينكر الزيارة الشرعية وإنما ذكر في جواب السؤال المشهور في السفر مجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين
****
الحديث السادس
6. «من زار قبري أو (من زارني) كنت شفيعاً له أو (شهيداً)، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله عز وجل من الآمنين يوم القيامة». (رواه أبو داود الطيالسي: 1/12، وذكره الدارقطني في انظر منحة المعبود: 1/228).
قال ابن عبد الهادي: "هذا الحديث ليس بصحيح لانقطاعه وجهالة إسناده واضطرابه، ولأجل اختلاف الرواة في إسناده واضطرابهم فيه جعله المعترض ثلاثة أحاديث، وهو حديثٌ واحدٌ ساقط الإسناد، لا يجوز الاحتجاج به، ولا يصلح الاعتماد على مثله.
وقد خرجه البيهقي في كتاب "شعب الإيمان"، وفي كتاب "السنن الكبير"، وقال في كتاب "السنن" بعد تخريجه: هذا إسناد مجهول.
وأما شيخ سوار في هذه الرواية، رواية ابي داود فإنه شيخ مبهم، وهو أسوأ حالاً من المجهول، وبعض الرواة يقول فيه عن رجل من آل عمر كما في هذه الرواية، وبعضهم يقول عن رجل من ولد حاطب، وبعضهم يقول من آل الخطاب.
وقد خالفه أبا داود غيره في إسناده ولفظه، وسوار بن ميمون شيخه يقلبه بعض الرواة، ويقول ميمون بن سوار وهو شيخ مجهول لا يعرف بعدالة ولا ضبط ولا يشتهر بحمل العلم ونقله.
وقد قال البخاري في "تاريخه" ميمون بن سوار العبدي عن هارون أبي قزعة عن رجل من ولد حاطب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات في أحد الحرمين) قاله يوسف بن راشد. حدثنا وكيع حدثنا ميمون، هكذا سماه البخاري ميمون من رواية وكيع عنه ولم يذكر فيه عمر، وزاد فيه ذكر هارون وقال عن رجل من ولد حاطب، وفي هذا مخالفة لرواية أبي داود من وجوه.
وقال في حرف "الهاء" من التاريخ (لم أجده في الطبعة التي بين يدي ولكن يحتمل أن يكون فيها سقط فإن أكثر المتقدمين يثبتون تلك): هارون أبو قزعة عن رجل من ولد حاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات في أحد الحرمين) روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه.
وقال العقيلي في كتاب الضعفاء (4/ 361) : هارون بن قزعة مدني، روى عنه سوار بن ميمون حدثني آدم قال: سمعت البخاري يقول: هارون بن قزعة مدني لا يتابع عليه هكذا ذكر العقيلي هارون بن قزعة، والذي في تاريخ البخاري هارون أبو قزعة، وقد يكون اسم أبي هارون قزعة وهارون يكنى بأبي قزعة.
وأما شيخ سوار في هذه الرواية، رواية أبي داود (هارون بن قزعة) فإنه شيخ مبهم، وهو أسوأ حالاً من المجهول، وبعض الرواة يقول فيه (أي هارون يروي) عن رجل من آل عمر كما في هذه الرواية، وبعضهم يقول عن رجل من ولد حاطب، وبعضهم يقول من آل الخطاب.
ومدار الحديث على "هارون" وهو شيخ مجهول لا يعرف له ذكر إلا في هذا الحديث، وقد ذكره أبو الفتح الأزدي، وقال: هو متروك الحديث لا يحتج به. وقال أبو بشر الدولابي في كتاب "الضعفاء والمتروكين": قال البخاريُّ: هارون أبو قزعة: روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه.
وقال أبو أحمد بن عدي في كتاب "الكامل": هارون أبو قزعة سمعت ابن حماد يقول: قال البخاري: هارون أبو قزعة روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه، قال ابن عدي: وهارون أبو قزعة لم ينسب، وإنما روى الشيء الذي أشار إليه البخاري.
هذا جميع ما ذكره ابن عدي في ترجمة هارون، ولو كان عنده شيء من أمره غير ما قاله البخاري لذكره، كما هي عادته، فقد تبين أن مدار هذا الحديث على هارون أبي قزعة وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث الضعيف ولم يشتهر من حاله ما يوجب قبول خبره، ولم يذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل، ولا ذكره الحاكم أبو أحمد في كتاب الكنى، ولم يذكره النسائي في كتاب الكنى أيضاً: وقد تفرد بهذا الحديث عن هذا الرجل المبهم الذي لا يدري من هو… ومثل هذا لا يحتج به أحد ذاق طعم الحديث أو عقل شيئاً منه، هذا مع أن رواية عن هارون شيخ مختلف في اسمه غير معروف يحتمل العلم ولا مشهور بنقله ولم يوثقه أحد من الأئمة ولا قوى خبره أحد منهم، بل طعنوا فيه وردوه ولم يقبلوه.
وقد خلَّط المعترض (ابن السُّبكي) في هذه المواضع تخليطاً كثيراً، وجعل هذا الحديث الضعيف المضطرب ثلاث أحاديث، وأخذ يقويه على عادته في تقوية الضعيف، ثم أخذ يناقش من تكلم فيه ويبين حاله من الأئمة الحفاظ، وهذا دأب هذا المعترض يقوي الضعيف ويضعف القوي.
(قال المعترض: وسوار بن ميمون روى عنه شعبة، وروايته عنه دليل على ثقته عنده فلم يبق في الإسناد من ينظر فيه إلا الرجل الذي من آل عمر، والأمر فيه قريب لا سيما في هذه الطبقة التي هي طبقة التابعين).
فيُقال: لا نعرف رواية شعبة عن سوار إلا في هذا الحديث الضعيف المضطرب الإسناد، وقد زاد في روايته عنه على رواية الطيالسي ذكر هارون بن قزعة الجهول الذي لم يتابع على ما رواه، وأسقط ذكر عمر الذي ذكره الطيالسي، فإن كانت رواية شعبة عن سوار هي المحفوظة فالحديث غير صحيح لانقطاعه وجهالة رواته، فهو على التقديرين غير صحيح ولا ثابت، سواء صحت رواية شعبة عن سوار، أو لم تصح.
والغالب على طريقة شعبة الرواية عن الثقات، وقد يروي عن جماعة من الضعفاء الذين اشتهر جرحهم والكلام فيهم: الكلمة والشيء والحديث والحديثين وأكثر من ذلك… وسوار بن ميمون إن صحت رواية شعبة عنه من هذا النمط… وهو متكلم فيه… فإنه شيخ مجهول الحال قليل الرواية، بل لا يعرف له رواية إلا هذا الحديث الضعيف المضطرب، ومع هذا قد اختلف الرواة في اسمه ولم يضبطوه؛ فبعضهم يقول: ميمون بن سوار، وبعضهم يقول: بالقلب سوار بن ميمون، والله أعلم هل كان اسمه سواراً أو ميموناً، فكيف يحسن الاحتجاج بخبر منقطع مضطرب نقلته غير معروفين ورواته في عداد المجهولين.
(ثم قول المعترض: فلم يبق في الإسناد من ينظر فيه إلا الرجل الذي من آل عمر والأمر فيه قريب) كلامٌ ساقط جداً، وقد بينا الاضطراب في هذا الرجل والاختلاف في إسناد حديثه، وقول من قال فيه عن رجل من ولد حاطب وكون الرجل المبهم الذي هو أسوأ حالاً من المجهول في إسناد الحديث هو من بعض أسباب ضعف.
والحاصل: أن هذا الحديث الذي رواه هذا الرجل المبهم حكم عليه بالضعف وعدم الصحة لأمور متعددة وهي: الاضطراب والاختلاف والانقطاع والجهالة والإبهام.
(فقول المعترض عن الرجل المبهم: والأمر فيه قريب) كلام لا ينفعه ولا يحصل غرضه، بل لو ناقضه غيره، وقال: والأمر فيه بعيد لكان كلامه أقرب إلى الصحة وأبعد عن الخطأ من كلامه والله أعلم.
(ثم قال المعترض: وأما قول البيهقي هذا إسناد مجهول، فإن كان سببه جهالة الرجل الذي من آل عمر فصحيح، وقد بينا قرب الأمر فيه، وإن كان سببه عدم علمه بحال سوار بن ميمون فقد ذكرنا رواية شعبة عنه وهي كافية).
والجواب أن يقال: هذا الذي ذكره البيهقي هو أحد أسباب رد الحديث وضعفه وعدم قبوله، وهو جهالة إسناده، وهذه الجهالة ثابتة للإسناد، محكوم بها عليه من جهة الرجل المبهم، ومن جهة الراوي عنه هارون بن أبي قزعة، ومن جهة سوار بن ميمون أيضاً فالإسناد محكوم عليه بالجهالة لإجماع هؤلاء المجهولين في سنده، مع أن الرجل المبهم فيه يكفي في الحكم عليه بالجهالة، فكيف إذا كان معه مجهول غيره.
(وقول المعترض: أنه قد بين قرب الأمر فيه)، دعوى مجردة غير مطابقة فتقابل بالمنع والرد وعدم القبول، وقد تكلمنا على رواية شعبة عن سوار بما فيه كفاية وبينا أن الحديث ليس بصحيح سواء ثبتت روايته عنه أولم تثبت ونبهنا على أن شعبة قد يروي عمن لا يحتج به من الرواة الكلمة والشيء والخبر والخبرين وأكثر من ذلك.
****
الحديث السابع
7. «من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة». (رواه أبو جعفر العقيلي: 4/361، 1973، من رواية سوار بن ميمون المتقدم على وجه آخر غير ما سبق، ومن طريقه رواه البيهقي، وابن عساكر عن البيهقي).
قال ابن عبد الهادي: "هذا الحديث السابع الذي ذكره هو الحديث السادس بعينه؛ فجعل المعترض له حديثين بل ثلاثة أحاديث، وهو حديث واحد ضعيف مضطرب مجهول الإسناد من أوهى المراسيل وأضعفها، هو من باب التهويل والتكثير بما لا يحتج به… وقد علم أن ضعفه حصل بأمور متعددة وأشياء مختلفة، وهي: الاضطراب، والاختلاف، والجهالة، والإرسال، والانقطاع، وبعض هذه الأمور تكفي في ضعف الحديث ورده، وعدم الاحتجاج به عند أئمة هذا الشأن فكيف باجتماعها في خبر واحد.
(وقوله: إن هارون بن قزعة ذكره ابن حبان في الثقات)، ليس فيه ما يقتضي صحة الحديث الذي رواه ولا قوته، وقد علم أن ابن حبان ذكر في هذا الكتاب عدداً كبيراً وخلقاً عظيماً من المجهولين الذين لا يعرف هو ولا غيره أحوالهم، وقد صرح ابن حبان بذلك في غير موضع من هذا الكتاب. "وذكر أمثلةً لذلك"... وينبغي أن ينبه لهذا ويعرف أن توثيق ابن حبان للرجل بمجرد ذكره في هذا الكتاب من أدنى درجات التوثيق؛ فقد ذكره في الثقات ثم يعيد ذكرهم في المجروحين ويُبين ضعفهم وذلك من تناقضه وغفلته، أو من تغير اجتهاده وقد ذكر الشيخ أبو عمر بن الصلاح عنه أنه غلط الغلط الفاحش في تصرفه… وقال ابن حبان: فيه هارون أبو قزعة يروي عن رجل من ولد حاطب المراسيل، كذا قال، ولم يذكر لهارون شيخاً غير هذا الرجل ولد حاطب، وهذا الشيخ الذي فوق هارون مبهم لا يحتج بخبره، والشيخ الذي دونه أيضاً لا يحتج بخبره، والخبر مع هذا من أوهى المنقطعات، وأضعف المراسيل
(وأما قول المعترض في أثناء كلامه على الحديث: وعلى كلا التقديرين فهو مرسل جيد)؛ فإن قوله ساقط، بل هو من أضعف المراسيل وأسقطها، وكيف يكون مرسلاً جيداً ومرسله مجهول العين والحال واسم الأب، غير معروف بنقل العلم ولا مشهور بحمله، بل لم يأت ذكره إلا في هذا الحديث الضعيف المضطرب.
وقول المعترض (عن خبر هارون أبي قزعة عن رجل من ولد حاطب أنه مرسل جيد) ومثل هذا القول لم يقله أحد من أئمة أهل الحديث، وكيف يكون مرسلاً جيداً، ومرسله ليس بمعروف أصلاً، بل هو مجهول العين، والحال، والبلد، والاسم، واسم الأب، وراويه عنه مجهول لم يتابع على ما رواه، وراويه عنه أيضاً مجهول لم يعرف من حاله ما يوجب قبول روايته، بل قد اختلف الرواة في اسمه، واسم أبيه، ولا يعرف ذكره في غير هذا الخبر المرسل الضعيف المضطرب الذي رده الأئمة وطعنوا فيه ولم يقبلوه، ولم نعلم أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين قوي هذا الخبر واحتج به غير هذا المعترض على شيخ الإسلام، وجميع ما تفرد به خطأ فاعلم ذلك.
****
الحديث الثامن
8. «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي». (ورواه الدارقطني وغيره، من طريق هارون بن أبي قزعة، عن رجل من آل حاطب، عن حاطب مرفوعاً، وفي طريق آخر بلفظ (وفاتي) بدل (موتي)، ومن طريقه رواه البيهقي في "الشعب").
قال ابن عبد الهادي: "والجواب أن يقال: هذا الحديث الذي جعله حديثاً ثامناً هو بعينه الحديث السادس والسابع؛ فهو حديث واحد ضعيف مضطرب الإسناد، وهذه الرواية التي ذكرها تلم زده إلا اضطراباً في الإسناد، وفي المتن أيضاً.
وقد خرجها البيهقي في كتاب (شعب الإيمان) من طريق الدارقطني، ثم قال: كذا وجدته في كتابي، وقال غيره: سوار بن ميمون: وقيل ميمون بن سوار، ووكيع هو الذي يروي عنه أيضاً وفي تاريخ البخاري ميمون بن سوار العبدي، عن هارون ابن قزعة، عن رجل من ولد حاطب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات في أحد الحرمين)، قال يوسف بن راشد: حدثنا وكيع، حدثنا ميمون.
والحاصل أن هذه الرواية المذكورة عن محمد بن الوليد، عن وكيع لم تزد الحديث إلا ضعفاً واضطراباً في إسناده، وفي لفظه، فالحديث حديث واحد ضعيف مجهول الإسناد مضطرب اضطراباً شديداً، ومداره على هارون أبي قزعة، وقيل ابن قزعة، وبعض الرواة يذكره وبعضهم يسقطه، وشيخه الرجل المبهم بعضهم يذكره وبعضهم يسقطه وبعضهم يقول فيه: عن رجل من آل عمر، وبعضهم يقول:عن رجل من آل الخطاب، وبعضهم يقول: عن رجل من ولد حاطب، ثم بعضهم يسنده عن عمر، وبعضهم يسنده عن حاطب، وبعضهم يرسله ولا يسنده، لا عن حاطب، ولا عن عمر وهو الذي ذكره البخاري وغير واحد.
ثم الراوي عن هارون يسميه بعض الرواة سوار بن ميمون ويقلبه بعضهم فيقول ميمون بن سوار، ويسميه بعضهم الأسود بن ميمون.
ولا يرتاب من عنده أدنى معرفة بعلم المنقولات أن مثل هذا الاضطراب الشديد من أقوى الحجج وأبين الأدلة على ضعف الخبر وسقوطه ورده وعدم قبوله، وترك الاحتجاج به، ومع هذا الاضطراب الشديد في الإسناد فاللفظ مضطرب أيضاً اضطراباً شديداً مشعراً بالضعف وعدم الضبط.
وأما ما وقع من الزيادة في الإسناد عن وكيع عن خالد بن أبي خالد، وأبي عون أو ابن عون عن الشعبي، أو بإسقاط الشعبي، فإنها زيادة منكرة غير محفوظة، وليس للشعبي مدخل في إسناد هذا الحديث.
وخالد بن أبي خالد، وأبو عون أو ابن عون قد ذكر في الرواية الأولى أنهما يرويان عن الشعبي، وفي الأخرى أنهما يرويان عن هارون بن أبي قزعة ولم يذكر في الأولى عمن أسند الشعبي الحديث وأسقط في الآخر ذكره بالكلية وذكر الرجل الذي يروي عنه هارون الحديث، وكل ذلك مشعر بشدة الضعف وعدم الضبط.
وقوله عن خالد بن أبي خالد وهم، وإنما هو ابن أبي خلده، قال البخاري في "تاريخه": خالد بن أبي خلدة الحنفي الأعور سمع الشعبي وإبراهيم، وروى عنه الثوري ومروان بن معاوية منقطع. وقال ابن أبي حاتم: خالد بن أبي خلدة الحنفي الأعور، روى عن الشعبي وإبراهيم النخعي وذر روى عنه الثوري وابن عيينة ومروان بن معاوية سمعت أبي يقول ذلك.
والحاصل: أن ذكر هذه الزيادة المظلمة في الإسناد لم تزد في الحديث قوة، بل لم تزده إلا ضعفاً واضطراباً، فقد تبين أن هذا الحديث الذي احتج به المعترض على شيخ الإسلام وجعله ثلاثة أحاديث هو حديث واحد غير صحيح، ولو فرض أنه حديث صحيح ثابت لم يكن فيه دلالة على غير الزيادة على الوجه المشروع، وقد قدمنا غير مرة أن شيخ الإسلام لم ينكر الزيادة الشرعية ولم ينهه عنها ولم يكرهها، بل ندب إليها واستحبها وحض على فعلها.
****
الحديث التاسع
9. «من حج حجة الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة وصلّى عليّ في بيت المقدس، لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه». (رواه الحافظ أبو الفتوح الأزدي في الجزء الثاني من فوائده).
قال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": "والجواب أن يُقال: هذا الحديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب عند أهل المعرفة بالحديث،و لم يحدث به عبد الله بن مسعود قط، ولا علقمة، ولا إبراهيم، ولا منصور، ولا سفيان الثوري، وأدنى من يعد من طلبة هذا العلم يعلم أن هذا الحديث مختلق مفتعل على سفيان الثوري، وأنه لم يطرق سمعه قط، وما كنتُ أظن أن الجهل بلغ بالمعترض (ابن السُّبكي) إلى أن يروي مثل هذا الحديث الموضوع المكذوب ولا يبين أنه من الموضوعات المكذوبات، بل يذكره في مقام الاحتجاج والاعتماد أو الإعضاد والاستشهاد ويأخذ في ذكر الثناء على بعض رواته ومدحهم بما لا يغني شيئاً.
ولقد افتُضح واضع هذا الحديث حيث جعله عن سفيان الثوري، عن منصور عن إبراهيم. ولو جعله عن سفيان عن بعض شيوخه الضعفاء كان استر له، وعمار بن محمد هو أبو اليقظان الكوفي وهو ابن أخت سفيان، وهو بريء من عهدة هذا الحديث، وإن كان فيه كلام لبعض الأئمة. قال ابن حبان في "المجروحين": كان ممن فحش خطؤه وكثر وهمه حتى استحق الترك من أجله. وكلام ابن حبان فيه مبالغة، وقد أثنى على عمار جماعة أعلم من ابن حبان، وتكلم فيه بعضهم بكلام قريب. فقد تبين بما ذكرناه عن هؤلاء الأئمة أن عمار بن محمد صدوق وأنه لا يستحق الترك، وظهر أن كلام ابن حبان فيه مشتمل على المبالغة، وتجاوز الحد؛ فهو يرى من عهدة هذا الحديث الموضوع الذي لم يصل إليه، بل الحمل فيه على غيره، وكذلك الحسن بن عثمان أبو حسان الزيادي، بريء من عهدته أيضاً فإنه معروف بالصدق والأمانة.
والحمل في هذا الحديث على بدر بن عبد الله المصيصي الذي لم يعرف بثقة ولا عدالة ولا أمانة، أو على صاحب الجزء أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي، فإنه متهم بالوضع، وإن كان من الحفاظ. قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب "الضعفاء": كان حافظاً، ولكن في حديثه مناكير وكانوا يضعفونه. وذكره الخطيب، وقال: في حديثه مناكير، وضعفه البرقاني، وكان أهل الموصل يضعفونه ولا يعدونه شيئاً، وأنه اتهم بوضع الحديث، ومن هذه حالة لا يعتمد على روايته ولا يحتج بحديثه، ولا يخفى أن هذا الحديث الذي رواه في "فوائد" موضوعٌ، مُرَكَّبٌ، مفتعلٌ إلا على من لا يدري علم الحديث، ولا شم رائحته والله الموفق.
****
الحديث العاشر
10. «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني وأنا حي». (رواه أبو الفتوح سعيد بن محمد بن إسماعيل اليعقوبي في جزء له فيه فوائد).
قال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": "والجواب: أن يُقال هذا حديثٌ منكرٌ لا أصل له، وإسناده مظلم، بل هو حديثٌ موضوع على عبد الله العمري الصغير المكبر المضعف، والحسن بن محمد السوسي، وأحمد بن سهل بن أيوب الأهوازي، يرويان المنكر، لا يُحتج بخبرهما، ولا يعتمد على روايتهما، وخالد بن يزيد هو العمري بلا شك، وهو متروك الحديث متهم بالكذب، قال ابن أبي حاتم: أبو الوليد خالد بن يزيد العمري كتب عنه أبو زرعة وترك الرواية عنه، وقال يحيى بن معين: خالد بن يزيد العمري كذاب، سئل أبي عنه فقال: كان كذاباً أتيته بمكة ولم أكتب عنه وكان ذاهب الحديث.
وقال أبو حاتم بن حبان في كتاب "المجروحين": خالد بن يزيد العمري أبو الوليد شيخ كان يسكن مكة ينتحل مذهب الراي يروي عن الثوري، منكر الحديث جداً، أكثر من كتب عنه أصحاب الرأي لا يشتغل بذكره، لأنه يروي الموضوعات عن الإثبات.
وقال العقيلي في "الضعفاء": خالد بن يزيد العمري الحذاء مولى لهم يحدثنا بالخطأ، ويحكي عن الثقات ما لا أصل له، وقال الأزدي: متروك الحديث. وقال الدارقطني والبيهق: ضعيف، وقال البخاريُّ، والحاكم في "الكنى": ذاهب الحديث. قال أبو أحمد بن عدي في "الكامل": مقدار ما يرويه عمن رواه لا يتابع عليه، وعامة ما يًُحدث به مناكير، وهكذا فرق بينهما وهو رجل واحد كنيته أبو الوليد على الأصح، وهو ساقط الحديث منكره.
فإذا كانت هذه حال خالد بن يزيد العمري عند أئمة هذا الشأن فكيف يعتمد على حديث رواه، أو يحتج بخبر هو في طريقه، هذا لو كان الإسناد إليه واضحاً فكيف هو إسناد مظلم، وقد ذكر له ابن عدي وغيره من الحفاظ أحاديث منكرة يستدل بها على ضعف روايته وسقوط خبره -وقد ذكر له ابن عديِّ عدة أحاديث منكرة، قال بعدها: وهذا حديثٌ مُنكر، وفيها دليلٌ على ردِّ روايته وعدم قبولها.
****
الحديث الحادي عشر
11. «من زارني في المدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً». وفي رواية: «من زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة». (شفاء السقام: 110 ــ 112).
قال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": "والجواب أن يقال: هذا الحديث ليس بصحيح ولا ثابت، بل هو حديثٌ ضعيف الإسناد منقطع.
ولو كان ثابتاً لم يكن فيه دليل على محل النزاع، ومداره على أبي المثنى سليمان بن يزيد الكعبي الخزاعي المديني وهو شيخ غير محتج بحديثه، وهو بكنيته أشهر منه باسمه، ولم يدرك أنس بن مالك؛ فروايته عنه منقطعة غير متصلة، وإنما يروي عن التابعين وأتباعهم.
وقد ذكره ابن حبان في كتاب "الثقات" في أتباع التابعين، وذكره أيضاً في كتاب "المجروحين". قال في كتاب الثقات: سليمان بن يزيد أبو المثنى الكعبي من أهل المدينة يروي عن عمر بن طلحة، روى عنه ابن أبي فديك، هكذا ذكره.
وقال في كتاب "المجروحين": أبو المثنى شيخ يروي عن هشام بن عروة، روى عنه عبد الله بن نافع الصائغ يخالف الثقات في الروايات، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا للاعتبار.
وذكره الدارقطني في "العلل" وقال عنه: ضعيف. وقال ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل": قال أبي: أبو المثنى هذا منكر الحديث ليس بقوي.
فقد تبين أن ابن حبان تناقض في ذكره أبا المثنى في الكتابين كتاب الثقات وكتاب المجروحين، وكأنه توهم أنه رجلان، وذلك خطأ، بل هو رجل واحد منكر الحديث غير محتج به لم يسمع من أنس، بل روايته عنه منقطعة غير متصلة.
ولو فرض أن روايته عنه صحيحة متصلة، وأنه من جملة الثقات المشهورين لم يكن في هذا الخبر الذي رواه حجة على جواز شد الرحال، وإعمال المطي إلى مجرد زيارة القبر، بل إنما فيه ذكر الزيارة فقط، والمراد بها الزيارة الشرعية، وتلك لا ينكرها شيخ الإسلام، بل يندب إليها ويحض عليها، كما تقدم ذكره غير مرة وبالله التوفيق.
****
الحديث الثاني عشر
12. «ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر». وعن أنس: «من زارني ميتاً فكأنّما زارني حياً، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة وما من أحد من أمتي له سعة، ثم لم يزرني فليس له عذر». (شفاء السقام: 112).
قال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": "هكذا ذكر المعترض (ابن السُّبكي) هذا الحديث وخرس بعد ذكره فلم ينطق بكلمة، وهو حديث موضوع مكذوب مختلف مفتعل مصنوع من النسخة الموضوعة المكذوبة الملصقة بسمعان المهدي قبح الله واضعها، وإسنادها إلى سمعان ظلماتٌ بعضها فوق بعض، وأما سمعان فهو من الحيوانات التي لا تدري هل أوجدت أم لا، وهذا المعترض إن كان لا يدري أن هذا الحديث من أقبح الموضوعات، فهو من أجل الناس، وإن كان يعلم إنه موضوع ثم يذكره في معرض الاحتجاج ويتكثر به ولا يبين حاله، فهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)، فهو إما جاهل مفرط في الجهل، أو معاند صاحب هوى متبع لهواه، نعوذ الله من الخذلان.
قال أبو حاتم: في هذا الخبر دليل على صحة ما ذكرنا أن المحدث إذا روى، لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم مما تقول عليه، وهو يعلم ذلك يكون كأحد الكاذبين، على أن ظاهر الخبر ما هو أشد، وذلك أنه قال صلى الله عليه وسلم: (من روى عني حديثاً وهو يرى أنه كذب)، ولم يقل إنه يتيقن أنه كذب، فكل شاك فيما يروي أنه صحيح، أو غير صحيح داخل في ظاهر خطاب هذا الخبر، ولو لم يتعلم التاريخ، وأسماء الثقات والضعفاء ومن يجوز الاحتجاج بأخبارهم ممن لا يجوز إلا لهذا الخبر الواحد لكان الواجب على كل من ينتحل السنن أن لا يقصر في حفظ التاريخ حتى لا يدخل في جملة الكذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
****
الحديث الثالث عشر
13. «من زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً» أو قال: «شفيعاً». (راجع تفصيل سند الحديث في شفاء السقام: 112، رواه العُقيلي في "الضعفاء"، ومن طريقه ابن عساكر).
قال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": "وهو حديث منكر جداً ليس بصحيح، ولا ثابت، بل هو حديث موضوع على ابن جريح، وقد وقع تصحيف في متنه وفي إسناده.
أما التصحيف في متنه فقوله:(من زارني)، من الزيارة وإنما هو (من رآني في المنام كان كمن زارني في حياتي)، هكذا رأيته في كتاب العقيلي في نسخة ابن عساكر: (من رآني) من الرؤية وعلى هذا يكون معناه معنى الحديث الصحيح: (من زارني في المنام فقد رآني لأن الشيطان لا يتمثل بي)، وفي رواية: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة،أو فكأنما في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي).
وأما التصحيف في اسناده؛ فقوله: سعيد بن محمد الحضرمي، والصواب شعيب بن محمد، كما في رواية ابن عساكر.
والحديث ليس بثابت على كل حال، سواء كان بلفظ الزيارة، أو الرؤية، ورواية فضالة بن سعيد بن زميل المازني "المأربي" شيخ مجهول لا يعرف له ذكر إلا في هذا الخبر الذي تفرد به ولم يتابع عليه.
وأما محمد بن يحيى المازني، فإنه شيخ معروف لكنه مختلف في عدالته، وقد ذكره ابن عدي في كتاب الضعفاء، وقال: وهو منكر الحديث. وقال ابن عدي: محمد بن يحيى أحاديثه مظلمة منكرة. لا نعلم أحداً روى هذا الحديث غير العقيلي في كتاب الضعفاء، أو من ذكره من طريقه، والله أعلم.
****
الحديث الرابع عشر
14. «من لم يزر قبري فقد جفاني». (شفاء السقام: 114).
قال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": والجواب: أن يقال: هذا الحديث من الموضوعات المكذوبة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والنعمان بن شبل ليس بشيء، ولا يعتمد عليه. ومحمد بن الفضل بن عطية، كذاب مشهور بالكذب ووضع الحديث، وجابر هو الجعفي ولم يكن بثقة، ومحمد علي أبو جعفر الباقر، ولم يدرك جد أبيه علي بن أبي طالب، فلو كان الإسناد صحيحاً إليه كانت روايته عن علي منقطعة، فكيف والإسناد إليه ساقط مظلم، وقد تقدم ذكر هذا الحديث وبيان حاله، وكلام الأئمة في رواية بما فيه كفاية والله أعلم.
ثم قال المعترض: وقد روى حديث علي رضي الله عنه من طريق أخرى ليس فيه تصريح بالرفع، ذكر هذا ابن عساكر -بإسناده … - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (من سأل لرسول الله صلى الله عليه وسلم الدرجة الوسيلة حلت له الشفاعة يوم القيامة، ومن زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": وهذا من المكذوبات أيضاً على علي رضي الله عنه، وعبد الملك بن هارون بن عنترة متهم بالكذب ووضع الحديث. قال أبو حاتم بن حبان في كتاب "المجروحين": كان ممن يضع الحديث لا يحل كتب حديثه إلا على جهة الاعتبار. وقال البخاريُّ: منكر الحديث. وقال الإمام أحمد: ضعيف الحديث، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: عبد الملك بن هارون بن عنترة كذاب، وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث ذاهب الحديث، وقال الجوزجاني: دجال كذاب. وقال أبو عبد الرحمن النسائي، وأبو بشر الدولابي: متروك الحديث، وقال الحاكم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. وقال الدارقطني: متروك يكذب… وقد تبين أن ما روي عن علي في هذا الباب مرفوعاً وموقوفاً ليس له أصل، بل هو من الكذب المفترى عليه والله أعلم.
****
الحديث الخامس عشر
15. «من أتى المدينة زائراً لي، وجبت له شفاعتي يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعث آمناً». (لاحظ وفاء الوفا للسمهودي: 4/1348. والدرة الثمينة: 397. ورفع المنارة ممدوح محمود: 327 ــ 329).
قال ابن عبد الهادي: "وهذا آخر الأحاديث التي ذكرها في الباب الأول وهو حديث باطل لا أصل له وخبر معضل لا يعتمد على مثله، وهو من أضعف المراسيل وأوهى المنقطعات، ولو فرض أنه من الأحاديث الثابتة لم يكن فيه دليل على محل النزاع.
أما ما ذكره من قوله: (من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر إبراهيم الخليل) فإنه من الأحاديث المكذوبة والأخبار الموضوعة وأدنى من يعد من طلبة العلم بعلم أنه حديث موضوع وخبر مفتعل مصنوع، وأن ذكر مثل هذا الحديث المكذوب من غير تبيين لحالة القبيع بمن ينتسب إلى العلم.
فقد تبين أن جميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفة أو موضوعة لا أصل لها، وكم من حديث له طرق أضعاف هذه الطرق التي ذكرها المعترض، وهو موضوع عند أهل هذا الشأن فلا يعتبر بكثرة الطرق وتعددها، وإنما الاعتماد على ثبوتها وصحتها.
والحاصل في هذا الباب:
1- أن ما سلكه هذا المعترض (ابن السُّبكي) من جمع الطرق في هذا الباب وتصحيح بعضها واعتماده عليه، وجعل بعضها شاهداً لبعض ومتابعاً له، هو مما تبين خطوة فيه، وظهر تعصبه وتحامله في فعله.
2- وأن ما ذهب إليه شيخ الإسلام من تضعيفها وردها وعدم قبولها هو الصواب، وقد قال في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم): "ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روي في ذلك شيئاً لا أهل الصحاح، ولا السنن ولا الأئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره، وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره.
3- وأن أجل حديث روي في ذلك رواه الدارقطني وهو ضعيف باتفاق أهل العلم، بل الأحاديث المروية في زيارة قبره؛ كقوله (من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة) ومن زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ومن حج ولم يزرني فقد جفاني) ونحو هذه الأحاديث كلها مكذوبة موضوعة.
4-وأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور مطلقاً بعد أن كان قد نهى عنها كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)، وفي الصحيح أنه قال: (استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)، فهذه زيارة لأجل تذكر الآخرة، ولهذا يجوز زيارة قبر الكافر لأجل ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع ويسلم على موتى المسلمين ويدعو لهم، فهذه زيارة مختصة بالمسلمين كما أن الصلاة على الجنازة تختص بالمؤمنين.
5-وقد استفاض عنه -صلى الله عليه وسلم -في الصحيح أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا) قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً، وفي الصحيح أنه ذكرت له أم سلمة كنيسة بأرض الحبشة وذكرت من حسنها وتصاوير فيها فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد بنوا على قبرة مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة).
6- وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، إلا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)، ومعنى هذه الأحاديث متواتر عنه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي.
وكذلك عن أصحابه، فهذا الذي نهى عنه من اتخاذ القبور مساجد مفارق، لما أمر به وشرعه من السلام على الموتى والدعاء لهم، فالزيارة المشروعة من جنس الثاني، والزيارة المبتدعة من جنس الأول، فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها، وعن قصد الصلاة عندها، وكلاهما منهي عنه باتفاق العلماء؛ فإنهم قد نهوا عن بناء المساجد على القبور، بل صرحوا بتحريم ذلك كما دل عليه النص.
واتفقوا أيضاً على أنه لا يشرع قصد الصلاة والدعاء عند القبور، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين أن الصلاة عندها والدعاء عندها أفضل منه في المساجد الخالية عن القبور، بل اتفق علماء المسلمين على أن الصلاة والدعاء في المساجد التي لم تبنى عند القبور أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد التي بنيت على القبور، بل الصلاة والدعاء في هذه منهي عنه مكروه باتفاق، وقد صرح كثير منهم تحريم ذلك بل وبإبطال الصلاة فيها، وإن كان في هذا نزاع، ثم بسط الشيخ القول في ذلك بسطاً شافياً والله سبحانه الموفق للصواب.