مناقب الإمام الشَّافعيِّ
لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (٣٨٤- ٤٥٨هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ يُعدُّ الإمام الشَّافعيُّ رحمه الله من أكثر الأئمة اتباعاً، وأقواهم احتجاجاً، وأصحُّهم قياساً، ولذا لقبوه بـ(ناصر السُّنَّة)، لأنه مؤسس فقهها، وفاتح أقفالها، ومستنبط فنونها، ومُجلِّي دقائقها، ببيانه الحسن، وأسلوبه الرصين.
وكان للبيهقي دورٌ بارزٌ في ترتيب كتب الشافعي وتصنيفها، وتخريج أحاديثها، فله (السُّنن) الذي خرَّجه على كتاب "المبسوط"، وله (معرفة السنن والآثار)، الذي خرَّج فيه كلام الشافعي على الأخبار بالجرح والتعديل، وله (المدخل) المُخرَّج على أصول الإمام، فيستدل بالآثار على صحة أصوله، وحسن بنائه الفروع عليها.
وقد رأى الإمام البيهقيُّ أن يخصَّ الإمام بترجمةٍ في كتاب مستقل أطلق عليه اسم (مناقب الشافعي)، وكان ذلك باقتراحٍ من أصحابه، ولم يتعرَّض البيهقي في هذه الترجمة لأصول الشَّافعيِّ وفروعه وقياساته، ذلك أن هذه المواضيع لها مُصنَّفات خاصَّةٌ بها، ويحصل العلم بها بالنظر في تلك المصنفات..
وللبيهقي ذيل على كتاب (المناقب)، ذكر فيه مناقب وحكايات أخر للشافعي، لم يخرجها هنا، وإنما أخرجها في ذلك الذيل المسمى (نوادر الحكايات).
ومن لطيف ما يذكر أن إمام الحرمين بالغ في الثناء على البيهقي؛ فقال: "ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منة، إلا البيهقي؛ فإن له على الشافعي منة لتصانيفه في نصرة مذهبه وأقاويله" .
والحق أن كتاب المناقب للبيهقي يعد عمدة في بابه؛ فكل من ترجم للشافعي بعده، اعتد عليه، وأكثر من النقل عنه، سواء ترجم له ترجمة مفردة أو غير مفردة.
وممن اعتمد عليه في نقله: ياقوت الحموي في (معجم الادباء)، وابن عساكر في (تاريخه)، وابن كثير (في طبقاته وتاريخه)، والسبكي، والرازي في (مناقبه)، وغيرهم..
وقد لخص ابن حجر أكثر فصوله في كتابه (توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس)، مع تعقبه بعض الأخبار، وردها، ومناقشة بعضها..
نظرةٌ عامة على الكتاب:
● بدأ البيهقيُّ كتابه ببيان فضل أهل الحديث، وأنهم الطائفة المنصورة، ثُمَّ تحدث عن فضل قريشٍ، وما جاء في تقديمها، وأنَّها أحقُّ بالإتباع، وأن الشافعيَّ هو المقصود بحديث (عالم قريش) الذي يملأ طباق الأرض علماً.
● ثُمَّ تحدث عمَّا جاء في تخصيص بن هاشم، وبني المطلب بالاصطفاء، وبيان انتماء الشافعيِّ لهم، وأنه رضع لبان الحكمة من أُمِّه الأزدية اليمانية، وأهل اليمن هم أهل الفقه والحكمة، وفصَّل القول في حديث (المجدد على رأس كل مائة)، وتأويل بعض العلماء أن الشافعيَّ هو الذي جاء على رأس المائة الثانية.
● وتحدَّث بعد ذلك عن مولد الشافعي، وولادته بغزَّة (عسقلان)، وانتقاله بعد ذلك إلى مكَّة، وطلبه العلم، ثم ذهابه إلى المدينة، ودراسته على مالك، ثُمَّ عودته إلى مكة، وتوليته بعض أعمال اليمن، وما جرى له من اتهامه بالخروج مع العلويين ضد الرشيد، واقتياده من اليمن إلى بغداد، والتقائه بمحمد بن الحسن، ثُمَّ عودته إلى مكة، وجلوسه للتدريس في الحرم، وتأليفه (للرسالة) بإشارة من عبد الرحمن بن مهدي الذي بعث إليه ذلك، وهو بالبصرة، ثُمَّ عودته إلى بغداد وجلوسه للدرس فيها، ووضع مذهبه القديم، وتأليف كتابه (الحجة)، وردِّه على أصحاب الرأي، ونصرته لأصحاب الحديث، ثُمَّ انتقاله إلى مصر، ووضعه لمذهبه الجديد، وتأليفه كتاب (الأم)، وقد وضع فيه فروعه، وبقائه فيها إلى أن مات سنة ٢٠٤هـ.
● ثُمَّ عقد باباً في إقبال العلماء على الشَّافعيِّ، للاقتباس من علمه، وحسن ثنائهم عليه، وما تميَّزت به كتبه من: حسن النظم والترتيب، وذكر الحجج في المسائل مع مراعاة الأصول، وتحري الإيجاز والاختصار فيما يؤلفه.
● كذلك ذكر ما يُستدلُّ به على حفظ الشَّافعيِّ لكتاب الله، ومعرفته بالقراءات، وحسن صوته بالقرآن، ومعرفته بتفسيره، وألفاظه، وحروفه، وقوله في الإيمان قولٌ وعمل، وإثباته الصفات، والمشيئة، والقضاء، والرؤية، وأنَّ القرآن كلامُ الله غير مخلوق، وإثباته عذاب القبر والشفاعة، وذكر اعتقاده في فضل الصحابة وعدالتهم، وذمُّ من ينتقصهم، أو يسبُّهم..
● وذكر معرفته بمعاني أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسامي الرواة، وأنسابهم، وأحوالهم، ومعرفته بعلل الحديث، وأسباب وروده، وجرح الرواة وتعديلهم، وما برع فيه الشافعيُّ من فقه الحديث، وأصول الفقه، وأصول الحديث، مع قوة استنباطه، وقدرته على التقعيد والتأصيل.
● ثُمَّ عقد باباً فيما يستدل به على فصاحة الشافعيِّ، وبلاغته، ومعرفته باللغة والشعر، ومعرفته بالطب، والنجوم، والفراسة، وما جاء في سخائه وجوده، وحسن مبارزته، وشجاعته، وركوبه الخيل، ورميه السَّهمَ، وذكر ثناء أئمة اللغة عليه؛ كالأصمعي الذي صحَّح أشعار هُذيل عليه، والجاحظ الذي وصف كتبه بأنَّها الدُّر المنظوم، وكذلك ثناء أبو العباس بن ثعلب، والمُبرَّد، ومصعب الزبيري، وأبي عثمان المازنيّ النحوي .
● وأفرد باباً في بيان زهد الشَّافعي، وتمام عقله، وورعه، وجملةٍ من حكمته، وثناء العلماء عليه من أمثال الإمام أحمد، وابن مهدي، وأبو ثور، والحميدي، والمُزني، ومن ثَمَّ ذكر وصيَّة الشافعيِّ، ومرضه ووفاته بمصر، ومن روى عنه من علماء الحجاز، واليمن، ومصر، والعراق، وخراسان، ومن جلس في حلقته بعد وفاته، وخبر تنازع طلبته عليها، وما ظلم به المُزني شيخه الشافعيّ لوهمٍ وقع فيه المُزني، وجواب أبي زرعة الرازي عليه.
👈 الخلاصة:
لم نقصد من هذا العرض نريد أن نستقصي كُلَّ ما أورده البيهقي أو غيره في مناقب الشَّافعي وآثاره، وألوان عظمته، ولكن حسبنا ما رواه البيهقي عن داود بن علي الظاهري (٢٧٠هـ)، أنَّه قال في الشَّافعي:
اجتمع للشافعي- رحمه الله- من الفضائل ما لم تجتمع لغيره:
فأول ذلك: شرف نسبه ومنصبه،
وأنه من رهط النبي، صلى الله عليه وسلم.
ومنها: صحة الدين وسلامة الاعتقاد من الأهواء والبدع.
ومنها: سخاوة النفس.
ومنها: معرفته بصحة الحديث وسقمه.
ومنها: معرفته بناسخ الحديث ومنسوخه.
ومنها: حفظه لكتاب الله، وحفظه لأخبار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومعرفته بسير النبي، صلى الله عليه وسلم، وسير خلفائه.
ومنها: كشفه لتمويه مخالفيه.
ومنها: تأليفه الكتب القديمة والجديدة.
ومنها: ما اتفق له من الأصحاب والتلامذة، مثل أبي عبد الله: أحمد بن حنبل وغيره . ٢/ ٣٢٤- ٣٢٥.
وقد تكفَّل كتاب المناقب -هذا- ببيان وتفصيل هذه الأوصاف الجليلة المستطابة، التي تدلُّ على إدراك حقيقي لفضائل الشافعي، وبصر دقيق بجوانبها الدقيقة.
ترجمة موجزة للإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه
الإمام الشافعي؛ هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف.
فهو قرشي مطلبي، وجده السائب بن عبيد أسر يوم بدر مشركا، وكان حامل لواء المشركين، ثم أسلم ن، وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله في (مناقب الشافعي): واعلم أن السائب بن عبيد أسر يوم بدر وأسلم، وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصورة والخلقة، وروي أنه عليه السلام لما أتى بالسائب وبعمه العباس قال للسائب: (هذا أخي وأنا أخوه)، فالسائب صحابي، وعبد الله بن السائب أخو شافع بن السائب أيضاً صحابي.
وحكى الخطيب في تاريخ بغداد عن القاضي أبي الطيب الطبري أنه قال: شافع بن السائب الذي ينسب إليه الشافعي -رضي الله عنه -لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع، وأما السائب فكان صاحب راية الهاشميين، ولما فدى نفسه ثم أسلم، فقيل له: لم لم تسلم قبل إعطاء الفداء؟ قال: ما كنت أحرم المؤمنين ما طمعوا فيه مني.
أما أمه فالمشهور أنها من الأزد، وفي رواية ضعيفة أنها مطلبية.
ولد رحمه الله تعالى في مدينة غزة من أرض فلسطين سنة مثة وخمسين للهجرة، وهي السنة التي مات فيها الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، وهكذا سنة الله في خلقه لا يقبض علماً من أعلام العلم والهداية حتى يغيث خلقه بعلم آخر ولله الحمد.
فلم يلبث إلا قليلاً حتى توفي والده، فحملته أمه إلى أرض آبائه في الحجاز؛ لثلا يضيع نسبه القرشي، وحدبت عليه تنشئته النشأة الصالحة التي تليق بأمثاله من أولاد النسب الشريف.
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: لا خلاف علمته بين أهل العلم والمعرفة بأيام الناس، من أهل السير، والعلم بالخبر، والمعرفة بأنساب قريش وغيرها من العرب، وأهل الحديث والفقه : أن الفقيه الشافعي -رضي الله عنه -هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.
ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم -في عبد مناف بن قصي.
والنبي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.
والشافعي محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، وإلى شافع وعلق الشيخ محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى: ومن زعم أن شافعاً كان مولى لأبي لهب، فطلب من عمر أن يجعله من موالي قريش فامتنع، فطلب من عثمان ذلك ففعل، فقد بعد عن الصواب، وشذ عن الجماعة. والتعويل عليه من بعض الحنفية والمالكية تعصب بارد، ولهم أن يناقشوه في علمه لا في نسبه!.
وحفظ القرآن العظيم لسبع سنين، وكان لفقر أهله لا يملك ما يعطيه لشيخ المكتب، فرضي منه أن يلقن الصغار القرآن إذا غاب عنه.
أما سنده في قراءة القرآن فيقول الشافعي: قرأت القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، وكان شيخ أهل مكة في زمانه، قال: قرأت على شبل بن عباد ومعروف بن مشكان، قال: قرأت على يحيى بن عبد الله بن كثير قال قرأت على مجاهد، قال: قرأت على ابن عباس قال: قرأت على أبي بن كعب قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحبب إليه علم الأدب واللغة حتى بلغ فيه شأواً، لكن الله تعالى أراد له خير الدنيا والآخرة، فأرشده شيخه مسلم بن خالد الزنجي رحمه الله لدراسة الفقه والآثار، فعن الحميدي قال: قال الشافعي: خرجت أطلب النحو والأدب، فلقيني مسلم بن خالد الزنجي، فقال: يا فتى من أين أنت؟ قال: من أهل مكة. قال: أين منزلك؟ قلت: بشعب الخيف. قال: من أي قبيلة أنت؟ قلت: من عبد مناف، فقال: بخ بخ؛ لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة، ألا جعلت فهمك هذا في الفقه فكان أحسن بك".
وطفق يقرأ على علماء مكة؛ كمسلم بن خالد الزنجي ويكتب ما علق على أكتاف الإبل ورقاق الجلود، حتى ملا منها حبا كبيرا (والحب: الجرة الكبيرة، وكانوا يضعون فيها الورق)، مع التردد إلى بوادي هذيل وأخذ اللغة شفاها عنهم، وهم من أفصح العرب، فجمع الله تعالى له أساس علوم الأمة، فلا اجتهاد بلا نص وبلا فهم للنص، ولا يكون ذلك إلا بإحكام اللغة، وفهم مواضعات أهلها.
ثم طمحت نفسه إلى لقاء مالك إمام دار الهجرة والأخذ عنه، فحفظ الموطأ ورحل إليه فتوسم مالك فيه مخايل النجابة والصلاح، فأدناه منه وجعل يحدب عليه، روى ابن عبد البر رحمه الله في الانتقاء أن الشافعي جاء إلى مالك بن أنس، فقال له: إني أريد أن أسمع منك الموطأ، فقال مالك: تمضي إلى حبيب كاتبي، فإنه الذي يتولى قراءته، فقال له الشافعي: تسمع مني رضي الله عنك صفحاً، فإن استحسنت قراءتي قرأته عليك، وإلا تركت، فقال له: اقرأ، فقرأ صفحاً ثم وقف، فقال له مالك: هيه، فقرأ صفحاً، سكت، فقال له: هيه، فقرأ. فاستحسن مالك قراءته، فقرأه عليه أجمع.
قال المزني وابن عبد الحكم: فلذلك يقول الشافعي: أخبرنا مالك.
وروى الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي رحمه الله تعالى عن الإمام الجليل أحمد بن حنبل رحمه الله : قال الشافعي: أنا قرأت على مالك، وكان يعجبه قراءتي. قال أحمد: لأنه كان فصيحا!.
وفي حلقة مالك طابت له الإقامة فحط الرحال هناك، وبقي فيها ست عشرة سنة تخللتها أسفار وذهاب إلى البادية ليشافه الأعراب ويأخذ عنهم اللغة، حتى وفاة مالك رحمه الله تعالى.
ثم سعى له بعض أقربائه من بني هاشم فولي عملا للسلطان في نجران من أرض اليمن، لما رآه من رقة حاله؛ فانتقل إليها طالبا للعلم قبل كل شيء، فهو شغفه ومطمحه، فتلقى الشعر عن أهل البوادي، والفراسة عن أهلها، كما لقي من أهل العلم: مطرف بن مازن الصنعاني، وعمرو بن أبي سلمة صاحب الأوزاعي رحمهم الله تعالى، ومضى في عمله سائرا فيه سيرة من لا يخشى في الله لومة لائم، مما أثار عليه حفيظة المنتفعين فدبروا له تهمة كفيلة بقتله؛ فادعوا أنه يدعو للقائم من آل محمد، وقال فيه حاسده: يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه ! .
فحمل في الحديد مع من اتهموا معه إلى بغداد، ليمثل أمام أمير المؤمنين هارون الرشيد رحمه الله تعالى، وهناك رأى الرؤوس تتدحرج أمامه فكل تهمة أمام هذه التهمة جلل، فلما قدم للكلام مالت الرؤوس إليه واستيقن أمير المؤمنين بطلان ما افتري عليه.
وكان الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى حاضر المجلس، وشفع في الشافعي لما رأى من وفور علمه وسعة عقله، فعفا عنه الرشيد ووصله بخمسين ألف دينار فرقها الشافعي على فقراء أهله. و
هكذا يكون العلم رحماً بين أهله، وكما حصل الشافعي علم مالك رحمه الله في المدينة، وعلم الأوزاعي رحمه الله في اليمن حصل علم أبي حنيفة رحمه الله وفقه أهل العراق وحديثهم، فكان في بداية أمره حجازي الهوى مالكي المنزع، فاطلع على مدرسة كبرى في الفهم والاجتهاد، وجلس في مجالس الإمام محمد بن الحسن وهو من هو علماً وفقهاً، حتى قال: حملت عن محمد بن الحسن حمل بختي، ومرة قال: وقر بعير، ليس عليه إلا سماعي منه .
لكنه في دراسته على الإمام محمد رحمه الله كان ناقداً بصيراً شأن من بلغ في العلم شأواً كبيراً.
فهو يناقش ويناظر مناظرة الواعي الفاهم، ولعلي لا أعدو الصواب إذا قلت: إن هذه المناظرات كانت من أهم ما فتق العقلية الاجتهادية الرائعة التي تميز بها الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
كما كتب فقه الليث بن سعد.
وجالس أهل العلم في بغداد، كالإمام وكيع بن الجراح، والحافظ حماد بن أبي أسامة الكوفي، والحافظ الثقة عبد الوهاب بن عبد المجيد المصري.
وفي جو بغداد العلمي وجد هذا الطالب المجد أفقاً لتلاقح علمه الذي حصله في الحجاز واليمن، مع جو بغداد في فترة من أبهى فترات الحضارة الإسلامية.
وعاد إلى مكة ولكن على غير ما خرج منها، وبدأ بعقد أول مجالسه وله من العمر خمس وأربعون سنة.
و في هذه الأثناء التقى بالإمام أحمد وعرف كل منهما فضل الآخر، وقديماً قالوا: لا يعرف الفضل إلا أهله.
وقال أحمد رحمه الله لما سئل عنه : لقد من الله به علينا، لقد كنا تعلمنا كلام القوم وكتبنا كتبهم حتى قدم علينا الشافعي، فلما سمعنا كلامه علمنا أنه أعلم من غيره، وقد جالسناه الأيام والليالي فما رأينا منه إلا كل خير. رحمة الله عليه.
وكان شديد التعظيم له؛ حتى قال ابنه صالح: ركب الشافعي حماره فسار أبي يمشي إلى جانبه وهو يذاكره، فبلغ ذلك يحيى بن معين، فبعث إلى أبي في ذلك، فبعث إليه أبي : لو كنت في الجانب الآخر من الحمار لكان خيرا لك.
ثم عن له السفر مرة أخرى إلى بغداد، فحمل أهله ومضى إليها، ولبث فيها يسيرا ونشر هناك مذهبه القديم في كتاب «الحجة»، وصنف «رسالته القديمة»، ومن أشهر الرواة عنه: الإمام الكرابيسي وهو راوي كتبه القديمة، والإمام أبو ثور، والإمام الزعفراني، والإمام المبجل أحمد بن حنبل -رضي الله عنه.
فالشافعي رحمه الله تعالى قدم العراق مراراً ثلاثة، المرة الأولى حين حمل في الحديد إلى الرشيد رحمه الله، وفي هذه القدمة قرأ على الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى وحمل عنه وقر بختي من العلم.
ثم يحدثنا تلميذه الإمام الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني رحمه الله تعالى: قدم علينا الشافعي بغداد سنة خمس وتسعين ومثة، فأقام عندنا أشهراً، ثم خرج إلى مصر، وبها مات.
ففي قدمته سنة خمس وتسعين ومثة ألف «الرسالة» بطلب من الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى، وصنف «الحجة»، واتصل به أبو ثور والزعفراني وأحمد وأبو عبد الرحمن، وأخذوا عنه.
وفي القدمة الأخيرة لزمه الكرابيسي شهرين، وسأله أن يعرض عليه الكتب فأبى، وقال: خذ كتب الزعفراني فانسخها، فقد أجزتها لك، فأخذها إجازة كما أخرجه الرامهرمزي عن الزعفراني وداود، وهاتان القدمتان وقعتا في عهد إمامته في الفقه.
وبعدها قرر الهجرة إلى أرض مصر، فارتحل إليها لما دعاه أميرها العباسي ليلحق به هناك، مع ما تلبد به جو العراق في تلك الأيام، بما تحول بعدها إلى فتنة الاعتزال، وكان الشافعي رحمه الله تعالى بطبعه كارها للكلام وأهله.
فلما أتته الدعوة من والي مصر، لبى سريعا ومضى إليها هاربا بنفسه من فتنة عصفت بالمسلمين وأخرت تطورهم الحضاري سنوات طويلة، وروى
الإمام الزعفراني أن الشافعي رحمه الله تعالى، لما أراد الخروج من العراق إلى مصر، أنشده لنفسه:
أخي أرى نفسي تتوق إلى مصر .. ومن دونها قطع المفاوز والقفر
فو الله ما أدري للفوز والغنى .. أساق إليها أم أساق إلى قبري
قال الزعفراني: فو الله لقد سيق إليهما جميعاً.
وحط رحاله في مصر، وهناك رأى تعصب أهلها لأقوال مالك رحمه الله تعالى، ولمس تغير الأعراف، كما روى فيها من الآثار ما لم يكن بلغه، فأكب على تصنيف كتبه الجديدة التي حواها كتاب «الأم».
وناظر أصحاب مالك، كما ألف في نقد علماء عصره وبيان الحق فيما ارتآه، والتف حوله ثلة من أهل الفضل والعلم أحبهم وأحبوه؛ كالإمام المزني، الإمام البويطي، وحرملة التجيبي، ومحمد بن عبد الحكم، والربيع بن سليمان المرادي؛ راوي كتبه وأثبت الناس في النقل عنه، والربيع بن سليمان الجيزي.
وفي مصر عاوده داء قديم أثقل عليه وأنهك قواه، وهو البواسير، حتى كان الدم يسيل من عقبه إذا ركب، ويوضع تحته طست إذا جلس أو صلى.
وبعد مكابدة للمرض لقي ربه في آخر ليلة من رجب سنة أربع ومئتين للهجرة وله من العمر أربعة وخمسون عاما رحمه الله تعالى.
قال الإمام المزني: دخلت على الشافعي ين وهو عليل فقلت: كيف أصبحت يا أستاذ؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولسوء أفعالي وعلى الله واردا، ولكأس المنية شاربا، ولا والله لا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها، ثم أنشأ يقول:
إليك إله الخلق أرفع رغبتي … وإن كنت يا ذا المن والجود مجرما ..
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي … جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته … بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ولولاك ما يقوى بإبليس عابد … وكيف وقد أغوى صفـيـك آدما
فإن تعف عني تعف عن متمرد … ظلوم غشوم لا يزايل مأثما
وإن تنتقم مني فلست بآيس … ولو أدخلت نفسي بجرمي جهنما
فجرمي عظيم من قديم وحادث … وعفوك يا ذا العفو أعلى وأجسما
أما أهله وعقبه فقد تزوج من امرأة من آل عثمان بن عفان -رضي الله عنه؛ وهي حمدة بنت نافع بن عمرو بن عنبسة بن عمرو بن عثمان بن عفان.
وأولدها محمداً وزينب وفاطمة.
وصار محمد قاضي حلب، ولم يعقب رحمه الله تعالى.
كما تسرى بجارية ورزق منها طفلا يقال له : الحسن، مات صغيراً.
أما حليته: فقد كان يخضب بالحناء وتارة بالصفرة اتباعا للسنة، وكان طويلا سابل الخدين، قليل لحم الوجه، خفيف العارضين، طويل العنق طويل القصب، آدم، يخضب لحيته بالحناء قانئة، وفي وقت بصفرة، حسن الصوت، حسن السمت، عظيم العقل، حسن الوجه حسن الخلق، مهيبا فصيحا، إذا أخرج لسانه بلغ أنفه.
وكان كثير الأسقام، حتى قال يونس بن عبد الأعلى: (ما رأيت أحدا لقي من السقم ما لقي الشافعي).
قال الإمام النووي: وسبب هذا والله أعلم لطف الله تعالى به، ومعاملته بمعاملة الأولياء، لقوله تؤذ في الحديث الصحيح: (نحن معاشر الأنبياء أشد بلاء، ثم الأمثل فالأمثل).
وقال الربيع: كان الشافعي -رحمه الله -الوجه، حسن الخلق، محببا إلى كل من
بمصر من الفقهاء والنبلاء والأمراء، كلهم يجل الشافعي ويعظمه، وكان مقتصداً في لباسه، ويتختم في يساره، نقش خاتمه: «كفى بالله ثقة لمحمد بن إدريس».
وكان مجلسه مصوناً، وكان ذا معرفة تامة بالطب والرمي، حتى كان يصيب عشرة من عشرة.
وهذه عجالة في سيرة هذا الإمام الجليل، والله ولي الهداية والتوفيق.
ذكر جملة شيوخ الشافعي ممن روى عنهم، وتلاميذه ومن روى عنه:
سمع رحمه الله من مالك بن أنس، وإبراهيم بن سعد، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وأبي ضمرة أنس بن عياض، وإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وحاتم بن إسماعيل، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وإسماعيل بن جعفر، ومحمد بن إسماعيل بن أبي فديك، وعطاف بن خالد المخزومي، وعبد الله بن نافع الصائغ المدنيين، وسفيان بن عيينة، وداود بن عبد الرحمن العطار، ومسلم بن خالد الزنجي، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعمه محمد بن علي بن شافع، وعبد الله بن المؤمن المليكي التيمي المخزومي، وإبراهيم بن عبد العزيز بن أبي محذورة القرشي، وعبد الله بن الحارث المخزومي، ومحمد بن عثمان بن صفوان الجمحي، وسعيد بن سالم القداح، وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد المكيين، ومطرف بن مازن، وهشام بن يوسف، ومحمد بن خالد الجندي اليمنيين، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وإسماعيل بن علية، ويوسف بن خالد السمتي البصريين.
ومحمد بن الحسن الشيباني الفقيه، ويحيى بن حسان، وعمرو بن أبي سلمة التنيسيين. وأيوب بن سويد الرملي وغيرهم.
روى عنه: سيلمان بن داود الهاشمي، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور إبراهيم بن خالد، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وسعيد بن تليد الرعيني، وعمرو بن سواد السرحي، وأحمد بن يحيى بن وزير، والحسين بن علي الكرابيسي، وأبو يحيى محمد بن سعيد بن العطار البغداديون.
وأبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، ومحمد بن عبد الله بن الحكم، وحرملة بن يحيى، والربيع بن سليمان المرادي، والربيع بن سليمان الجيزي، وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، ويونس بن عبد الأعلى، وبحر بن نصر المصريون.
وأبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، وإبراهيم بن المنذر الخزامي، كما روى عنه موسى بن أبي الجارود المكي، وعبد العزيز المكي صاحب «الحيدة»، وأحمد بن محمد الأزرقي، وأحمد بن سعيد الهمداني، وأحمد بن أبي شريح الرازي، وأحمد بن عبد الرحمن الوهبي، وابن عمه إبراهيم بن محمد الشافعي، وإسحاق بن راهويه، وإسحاق بن بهلول، وأبو عبد الرحمن أحمد بن يحيى الشافعي المتكلم، والحارث بن سريج النقال، وحامد بن يحيى البلخي، وسليمان بن داود المهري، وعبد العزيز بن عمران بن مقلاص، وعلي بن معبد الرقي، وعلي بن سلمة اللبقي، وعمرو بن سواد، وأبو حنيفة قحزم بن عبد الله الأسواني، ومحمد بن يحيى العدني، ومسعود بن سهل المصري، وهارون بن أسعد الأيلي، وأحمد بن سنان القطان، وأبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح.
وقد أفرد الدار قطني كتاب من له رواية عن الشافعي في جزأين، وصنف الكبار في مناقبه قديما وحديثاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق