أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 29 أكتوبر 2020

رسالة الهدى في اتباع المُقتدى صلى الله عليه وسلم -نظم العلامة الشيخ محمد سعيد صفر المدني


رسالة الهدى في اتباع المُقتدى صلى الله عليه وسلم

نظم العلامة الشيخ محمد سعيد صفر المدني

رحمه الله تعالى

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ هذه رسالة فريدةٌ في بابها، عجيبةٌ في نظمها، تضمنت تفضيل شرف العلم والاقتداء على شرف النسب والتقليد، وقد رد بها العلامة محمد سعيد صفر على رسالة للسيد عبد الله المحجوب الميرغني، التي فضَّل فيها شرف النسب على شرف العلم، وقد قرظ له علماء عصره؛ كالعلامة عفيف الدين عبد الله الفطان المكي، والشيخ محمد حياة السندي المدني، والمحدث أبي الحسن السندي، وغيرهم، وسماها بـ(الهدى في اتباع المُقتدى صلى الله عليه وسلم).

ولا شك أن البلد الذي تكثر فيه مقلدة المذاهب لا بُد أن يؤول أمره إلى البدعة والدمار، والتفرُّق والتشتت، فالواجب على الفقهاء أن يجعلوا الصولة والقول الأخير للرسول صلى الله عليه وسلم.

  • التعريف بالمؤلف رحمه الله:

وهو العلامة الفقيه المحدث: محمد سعيد صفر بن أمين الحنفي المدني، ثم المكي، والأثري، نزيل مكة والمدرس بحرمها، ولد بمكة سنة (1114 هـ)، تفقه على جماعة من فضلاء مكة، وسمع الحديث على الشيخ محمد بن عقيلة، والشيخ تاج الدين القلعي، وطبقتهما، وبالمدينة على أبي الحسن السندي الكبير، وغيره. 

وله ثبتٌ منظوم في أشياخه على حرف النون، وعدة من ذكر فيه منهم خمسة وعشرون، وله أيضاً قصيدةٌ في الشكوى على لسان أهل المدينة، تُشبه قصيدة السيد جعفر البرزنجي، وله قصيدة في الحض على السنة والعمل بها رداً على متعصبة المقلدة، سماها "رسالة الهدى".

وكان حسن التقرير لما يُمليه في دروسه، حضره السيد عبد الرحمن عيدروس في بعض دروسه وأثنى عليه، وفي آخر عمره كف بصره حزناً على فقد ولده، وفي أثناء سنة (1174 هـ) ورد مصر، ثم توجه إلى الروم عن طريق حلب، فقرأ هناك شيئاً من الحديث، وحضره علماؤها، ومنهم الشيخ السيد أحمد بن محمد الحلوى، وذكره في جملة شيخه، وأثنى عليه، ورجع إلى الحرمين، وقطن بالمدينة المنورة، وتوفي سنة (1194 هـ) ليلة الجمعة من رمضان.

  • دعوة الأئمة الفقهاء إلى العودة إلى الكتاب والسنة وترك التقليد:

ومن الجدير بالذكر أن الأئمة الأربعة المجتهدين أنفسهم قد دعوا إلى ما دعا إليه الشيخ محمد سعيد صفر في "منظومته"، وما يدعو إليه كل مسلمٍ حُر من تحكيم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل الخلاف، وترك آرائهم واجتهاداتهم إذا ظهر أنها تُخالف الكتاب والسنة، لأن الله سبحانه لم يفرض على الناس إلا اتباع أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

وبهذه المناسبة نسوق جملةً من أقوال الأئمة التي تدعو إلى الاتباع:

1-الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي (ت 150 هـ):

وهو أول الأئمة الفقهاء، وقد روي عنه أصحابه أقوالا شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها؛ قال أبو حنيفة رحمه الله: "لَا يحل لأحد أَن يَأْخُذ بقولنَا ما لم يعلم من أَيْن أخذناه"، وفي رواية: "حرامٌ على من يعرف دليلي أن يُفتي بكلامي"، وزاد في رواية: "فإننا بشرٌ نقول القول اليوم، ونرجع عنه غداً"، وقال رحمه الله: "إذا قُلتُ قولاً يُخالف كتاب الله وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي".

وقال ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار": "ونظير هذا ما نقله العلامة بيري في أول شرحه على "الأشباه" عن شرح الهداية لابن الشحنة، ونصُّه: إذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عُمِلَ بالحديث، ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيا بالعمل به، فقد صح عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقد حكى ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة".

وقال الشعراني في "الميزان" ما مختصره : "واعتقادنا واعتقاد كل منصف في الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه؛ أنه لو عاش حتى دُوِّنَت الشريعة، وبعد رحيل الحفاظ في جَمْعِها من البلاد والثغور، وظفر بها؛ لأخذ بها، وترك كل قياس كان قاسه، وكان القياس قلَّ في مذهبه، كما قل في مذهب غيره بالنسبة إليه، لكن لما كانت أدلة الشريعة مفرقة في عصره مع التابعين وتابعي التابعين في المدائن والقرى والثغور؛ كثر القياس في مذهبه بالنسبة إلى غيره من الأئمة ضرورةً؛ لعدم وجود النص في تلك المسائل التي قاس فيها؛ بخلاف غيره من الأئمة؛ فإن الحفاظ كانوا قد رحلوا في طلب الأحاديث وجمعها في عصرهم من المدائن والقرى، ودوّنوها؛ فجاوبت أحاديث الشريعة بعضها بعضاً، فهذا كان سبب كثرة القياس في مذهبه  وقلته في مذاهب غيره".

ونقل الفلاني في "إيقاظ الهمم": عن الشعراني في "الميزان"، أنه قال: "فإن قلت فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي، ولم يأخذ بها فالجواب ينبغي لك أن تعمل بها؛ فإن إمامك لو ظفر بها وصحت عنده لربما كان أمرك بها؛ فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشريعة ومن فعل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه، ومن قال لا أعمل بحديث إلا أن أخذ به إمامي فاته خيرٌ كثير كما عليه كثيرٌ من المقلدين لأئمة المذاهب، وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم تنفيذاً لوصية الأئمة؛ فإن اعتقادنا فيهم أنهم لو ظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم لأخذوا بها، وعملوا بما فيها، وتركوا كل قياسٍ كانوا قاسوه، وكل قولٍ كانوا قالوه".

2- الإمام مالك بن أنس الأصبحي (ت 179 هـ)

وأما الإمام مالك بن أنس، فقد قال رحمه الله: "إِنَّمَا أَنا بشر أخطئ وَأُصِيب فانظروا فِي رَأْيِي كل مَا وَافق الْكتاب وَالسّنة فَخُذُوا بِهِ ومالم يُوَافق الْكتاب وَالسّنة فاتركوه". وقال رحمه الله: "لَيْسَ أحد من خلق الله إِلَّا يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك إِلَّا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم".

وقد جاء في "مقدمة الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، عن ابن وهبٍ، قال: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؛ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خفَّ الناس. 

فقلت له: عندنا في ذلك سنة؛ فقال: وما هي؟

قلت: حدثنا الليث بن سعد، وابن لهيعة، وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن المستورد بن شداد القرشي قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه). فقال: إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع.

 3- الإمام محمد بن إدريس الشَّافعيّ (ت 204 هـ)

وأما الإمام الشافعي رحمه الله، فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب، قال الإمام الشَّافعيُّ رحمه الله: "لم أسمع أحدا نسبته إِلَى الْعلم، اَوْ نسبته الْعَامَّة إِلَى علم أَو نسب نَفسه إِلَى علم يحْكى خلافًا فِي أَن فرض الله تَعَالَى اتِّبَاع أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالتَّسْلِيم لحكمه؛ فَإِن الله تَعَالَى لم يَجْعَل لأحد بعده إِلَّا اتِّبَاعه، وَأَنه لَا يلْزم قَول رجل قَالَ إِلَّا بِكِتَاب الله تَعَالَى، أَو سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن مَا سواهُمَا تبع لَهما، وَأَن فرض الله تَعَالَى علينا وعَلى من بَعدنَا وَقَبلنَا قبُول الْخَبَر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم". 

وَقد قَالَ الشَّافِعِي: "مَا من أحد الا وَيذْهب عَلَيْهِ سنة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتعزب عَنهُ. وَقَالَ رحمه الله: أجمع النَّاس على أَن من استبانت لَهُ سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن لَهُ أَن يَدعهَا لقَوْل أحد".

وقَالَ أيضاً: "لَا قَول لأحد مَعَ سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم"، وقد اشْتهر عَن الشَافِعِيّ قوله: "إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي".

وقال رحمه الله: "كل مَسْأَلَة صَحَّ فِيهَا الْخَبَر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد أهل النَّقْل بِخِلَاف مَا قلت فَأَنا رَاجع عَنْهَا فِي حَياتِي وَبعد موتِي" (انظر: إيقاظ الهمم).

وقال ابن حزم في "الإحكام": "إن الفقهاء الذين قُلِّدوا مبطلون للتقليد، وإنهم نهوا أصحابهم عن تقليدهم، وكان أشدهم في ذلك الشافعي؛ فإنه رحمه الله بلغ من التأكيد في اتباع صحاح الآثار، والأخذ بما أوجبته الحجة، حيث لم يبلغ غيره، وتبرَّأ من أن يُقَلَّدَ جملة، وأعلن بذلك، نفع الله به، وأعظم أجره؛ فلقد كان سبباً إلى خير كثير".

وقال الفلاني في "إيقاظ الهمم" عن الشعراني في "الميزان" في شرح قول الإمام الشافعي (إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي)، قال: "قال ابن حزم: صح عنده، أو عند غيره من الأئمة".

وقال الإمام النووي رحمه الله في "مقدمة المجموع" ما مختصره: وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب، واشتراط التحلل من الإحرام بعذر المرض، وغيرهما مما هو معروف في كتب المذهب، وممن حُكي عنه أنه أفتى بالحديث من أصحابنا:

أبو يعقوب البُويطي، وأبو القاسم الدَّارَكي، وممن استعمله من أصحابنا المحدثين: الإمام أبو بكر البيهقي وآخرون، وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث، ومذهب الشافعي خلافه؛ عملوا بالحديث، وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث".

وقال الشيخ أبو عمرو: "فمن وجد من الشافعية حديثا يخالف مذهبه نظر: إن كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقاً، أو في ذلك الباب أو المسألة كان له الاستقلال بالعمل به. وإن لم يكمل وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه جواباً شافياً، فله العمل به، إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذراً له في ترك مذهب إمامه هنا، وهذا الذي قاله حسن متعين والله أعلم".

قال الألباني في "صفة الصلاة": "وهناك صورة أخرى لم يذكرها ابن الصلاح، وهي فيما إذا لم يجد من عمل بالحديث من الأئمة؛ فماذا يصنع؟ أجاب عن هذا تقي الدين السُّبكي في رسالة (معنى قول المطلبي إذا صحَّ الحديث): "والأولى عندي اتباع الحديث وليفرض الإنسان نفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمع ذلك منه أيسعه التأخر عن العمل به؟ لا والله وكل أحد مكلف بحسب فهمه".

وقال الشَّافعيُّ للإمام أحمد: "أنتم أعلم بالحديث والرجال مني؛ فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفياً أو بصرياً أو شامياً حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً".

وعلق على ذلك الإمام الفُلاني الذي يقول في "إيقاظ الهمم": "قال البيهقي: ولهذا كثر أخذه -يعني الشافعي -بالحديث وهو أنه جمع علم أهل الحجاز والشام واليمن والعراق وأخذ بجميع ما صح عنده من غير محاباة منه، ولا ميل إلى ما استحلاه من مذهب أهل بلده، مهما بان له الحق في غيره وممن كان قبله من اقتصر على ما عهد من مذاهب أهل بلده، ولم يجتهد في معرفة صحة ما خالفه والله يغفر لنا ولهم".

4-الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (ت 241 هـ):

وأما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة جمعا للسنة وتمسكاً بها، حتى قال أحمد رحمه الله: "لَا تقلدني وَلَا تقلد مَالِكًا وَلَا الشَّافِعِي وَلَا الْأَوْزَاعِيّ وَلَا الثَّوْريّ وَخذ من حَيْثُ أخذُوا وَقَالَ من قلَّة فقه الرجل أَن يُقَلّد دينه الرِّجَال". 

وقال رحمه الله: "من ردَّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة".

وقال: "رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار"

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "مجموع رسائله": "الواجب عَلَى كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه: أن يبينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظم، قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ، ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العُلَمَاء عَلَى كل من خالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد، لا بغضًا له؛ بل هو محبوب عندهم، معظم في نفوسهم؛ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَحَبّ إليهم، وأمره فوق أمر كل مخلوق، فَإِذَا تعارض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر غيره؛ فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يقدم ويتبع".

ومما سبق نرى كمال علم الأئمة، وتقلهام، حيثُ أشاروا إلى أنهم لم يُحيطوا بالسنة كلها، وقد صرَّحوا بذلك، ونحن مأمورون بالتمسُّك بالسُّنن، وأن نجعلها من مذهبهم رضوان الله تعالى عليهم.

وفيما يلي نثبت الأبيات الشهيرة التي تتحدث عن ذمِّ التقليد المتعصب الذي لا ينبني على دليل، قال الشيخ محمد سعيد صفر المدني:

  • منظومة (رسالة الهدى):

1-الحمد لله العظيم الشان … من أنزل القرآن والمثاني

2-وحقق التوحيد والأحكاما … وبين الحلال والحراما

3- أَرسلَ بالهدى ودين الحقِّ … رسولَه ورحمةً للخلقِ

4-على الأنام أوجب اتباعه … فقد أطاع الله من أطاعه

5-ومن عصاه فهو عاصِ الله … مخالفٌ له بلا اشتباه

6- صلى عليه الله بالسلام… مؤيداً بالعز والإكرام

7-والآل والأصحاب والأتباع … لهم بإحسانٍ وكلُّ داعٍ

* * * 

8- وبعد إن هذه الرسالة … فيها اتباعُ صاحب الرسالة

9- فقد أُمرنا باتباع هديه … في أمره وننتهي عن نهيه

10- قال: (وما آتاكم الرسولُ) … قد ضلَّ من عن هديه يميلُ

* * * 

الشاهد من هذا الكتاب

85- وقول أعلام الهدى: "لا يُعمل … بقولنا بدون نص يقبلُ"

86- فيه دليل الأخذ بالحديث … وذاك في القديم والحديث

87- قـــــــــــال أبـــــو حنيفة الإمامُ:  … "لا ينبغي لمن له إســــلام

88- أخذاً بأقوالي حتى تعرضا … على الكتاب والحديث المرتضى"

89- ومالك إمام دار الهجرة … قال وقد أشار نحو الحجرة: 

90- "كل كلام منه ذو قبول… وكلُّ مردود سوى الرسول"

91- والشافعي قال: "إن رأيتموا … قولي مخالفاً لما رويتموا 

92- من الحديث فاضربوا الجدارا …  بقولي المخالف الأخبارا"

93- وأحمد قال لهم: "لا تكتبوا … ما قلته بل أصل ذلك أطلبوا"

94- فاسمع ما قالت الهداة الأربعة … واعمل بها فان فيها منفعة

95- لقمعها لكل ذي تعصب … والمنصفون يكتفون بالنبي

* * *



ومعها مقال في حكم قتال الكفار من كتاب 

هداية الحيارى من اليهود والنصارى 

للإمام محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

فيقول محمد بن حسين نصيف: "لما طبعت مجموعة الرسائل للإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المتضمنة خمسة رسائل، الأولى: رأس الحسين رضي الله عنه، وأين هو؟ والرابعة: قاعدة في حكم قتال الكفار، استبعد بعض الناس نسبتها لشيخ الإسلام، فاقتضى الحال لنشر ما هو أصرح منها من كتاب هداية الحيارى للإمام محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تلميذ الإمام ابن تيمية، وهي من آخر صحيفة (10) إلى أول صحيفة (11)، قال رحمه الله:

"فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَجَابَ لَهُ وَلِخُلَفَائِهِ بَعْدَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، وَلَمْ يُكْرِهْ أَحَدًا قَطُّ عَلَى الدِّينِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُقَاتِلُ مَنْ يُحَارِبُهُ وَيُقَاتِلُهُ. 

وَأَمَّا مَنْ سَالَمَهُ وَهَادَنَهُ: فَلَمْ يُقَاتِلْهُ، وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256)، وَهَذَا نَفْيٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدِّينِ.

وقد نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رِجَالٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ، قَدْ تَهَوَّدُوا وَتَنَصَّرُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ: أَسْلَمَ الْآبَاءُ وَأَرَادُوا إِكْرَاهَ الْأَوْلَادِ عَلَى الدِّينِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ.

وَالصَّحِيحُ: أن الْآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا فِي حَقِّ كُلِّ كَافِرٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، فَلَا يُكْرَهُونَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ، بَلْ: إِمَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي الدِّينِ، وَإِمَّا أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، كَمَا تَقُولُهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَإِنِ اسْتَثْنَى هَؤُلَاءِ بَعْضَ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ. 

وَمَنْ تَأَمَّلَ سِيرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يُكْرِهْ أَحَدًا عَلَى دِينِهِ قَطُّ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَاتَلَ مَنْ قَاتَلَهُ، وَأَمَّا مَنْ هَادَنَهُ فَلَمْ يُقَاتِلْهُ مَا دَامَ مُقِيمًا عَلَى هُدْنَتِهِ، لَمْ يَنْقُضْ عَهْدَهُ، بَلْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَفِيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ مَا اسْتَقَامُوا لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (التوبة: 7).

ولَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَالَحَ الْيَهُودَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا حَارَبُوهُ وَنَقَضُوا عَهْدَهُ وَبَدَءُوهُ بِالْقِتَالِ قَاتَلَهُمْ، فَمَنَّ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَأَجْلَى بَعْضَهُمْ، وَقَاتَلَ بَعْضَهُمْ. 

وَكَذَلِكَ لَمَّا هَادَنَ قُرَيْشًا عَشْرَ سِنِينَ لَمْ يَبْدَأْهُمْ بِقِتَالٍ حَتَّى بَدَءُوا هُمْ بِقِتَالِهِ وَنَقْضِ عَهْدِهِ، فَحِينَئِذٍ غَزَاهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، وَكَانُوا هُمْ يَغْزُونَهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا قَصَدُوهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَيَوْمَ بَدْرٍ أَيْضًا هُمْ جَاءُوا لِقِتَالِهِ وَلَوِ انْصَرَفُوا عَنْهُ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ. 

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُكْرِهْ أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِهِ اخْتِيَارًا وَطَوْعًا، فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ دَخَلُوا فِي دَعْوَتِهِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْيَمَنِ كَانُوا عَلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَكْثَرُهُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: (إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ -وَذَكَرَ الْحَدِيثَ). 

ثُمَّ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ وَلَا رَهْبَةٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ مَذْكُورُونَ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي، لَمْ يُسْلِمُوا رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا وَلَا رَهْبَةً مِنَ السَّيْفِ، بَلْ أَسْلَمُوا فِي حَالِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ أَعْدَائِهِمْ، وَمُحَارَبَةِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ سَوْطٍ وَلَا نَوْطٍ، بَلْ تَحَمَّلُوا مُعَادَاةَ أَقْرِبَائِهِمْ وَحِرْمَانَهُمْ نَفْعَهُمْ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ مَعَ ضَعْفِ شَوْكَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقِلَّةِ ذَاتِ أَيْدِيهِمْ. 

فَكَانَ أَحَدُهُمْ يُعَادِي أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَيَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، لَا لِرِئَاسَةٍ وَلَا مَالٍ، بَلْ يَنْخَلِعُ مِنَ الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ، وَيَتَحَمَّلُ أَذَى الْكُفَّارِ مِنْ ضَرْبِهِمْ وَشَتْمِهِمْ وَصُنُوفِ أَذَاهُمْ وَلَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ.









الأربعاء، 28 أكتوبر 2020

قضاء صلاة العيد لمن فاتته مع الجماعة -إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

قضاء صلاة العيد لمن فاتته مع الجماعة

دراسة فقهية حديثية

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

غزة -فلسطين

اتفق الفقهاء على استحباب صلاة العيد جماعةً في المُصلى، وأن وقتها: ما بين ارتفاع الشمس قدر رمح إلى أول الزوال، واختلف الفقهاء في جواز قضاء صلاة العيد بعد فوات وقتها، ولذلك صورتين:

الصورة الأولى: أن يصليها الناس في وقتها، وتفوت بعض الأفراد:

أ- فعند الحنفية في قول أنه لا يقضيها مطلقاً.

ب- وعند جمهور الشافعية والحنابلة والمالكية والحنفية في رواية: أنه يقضيها استحباباً، على هيئتها المعروفة، وبنفس العدد من التكبيرات (وهو الصحيح).

وقالت الشافعية والحنابلة: له أن يُصليها في جماعة أيضاً، بينما يمنع من ذلك المالكية، وبه قال قتادة، ومعمر، وأبي ثور، والأوزاعي.

وفي روايةٍ عند الحنابلة أنه يقضيها أربعاً، وهو قول الثوري، وفي روايةٍ ثالثة عند الحنابلة أنه مُخيَّرٌ بين الثنتين والأربع، وهو قول الأوزاعي.

  • واستدلَّ القائلون بأنه يقضيها أربع ركعات:

1- بما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، والطبرانيُّ في "الكبير"، عن عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: (من فاته العيد فليصل أربعاً). 

وهذا الأثر ضعيفٌ عن ابن مسعود، وقال الألبانيُّ في "الإرواء": منقطع، وضعفه الإمام ابن المنذر في "الأوسط"، وقال: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد ركعتين، فكل من صلى صلاة العيد صلاها كما سنها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تجوز الزيادة في عدد الصلاة لمن فاته العيد بغير حجة، ولا أحسب خبر ابن مسعود يثبت"، ولذلك فالأظهر هو ما ذهب إليه الجمهور من المالكية والشافعية، وأنه يقضي صلاة العيد على نحو ما فاتته تلك الصلاة بدون زيادة فيها.

ولكن هذا الأثر صحَّح إسناده القسطلاني في "إرشاد الساري"، وابن حجر في "الفتح"، وقال الحافظ عن أثر ابن مسعود: "أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح"، وهذا الأثر لم نجده عند سعيد بن منصور في المطبوع الذي بين أيدينا، ولكن إن صحَّ ما قاله ابن حجر رحمه الله، وكان هذا الأثر له طريقٌ صحيح، لم يطلع عليه ابن المنذر ولا غيره من المتقدمين، فحينئذٍ يكون استدلال الحنابلة بهذا الحديث ظاهرٌ، ولكنه مع ذلك لا يسلم من المناقشة.

2-واستدلوا بما رواه البيهقيُّ في الكبرى" وابن حزم في "المحلى" عن على رضي الله عنه، أنه قال: (إني أمرت رجلاً أن يصلي بضعفة الناس، أمرته أن يصلي أربعاً). 

وهذه الرواية صحح إسنادها ابن حزم، وقال في "المحلى": إن ضعفوا هذه الرواية، قيل لهم : هي أقوى من التي تعلقتم بها عنه أو مثلها. وفيها عاصم بن على بن عاصم، قال ابن حجر: "صدوقٌ ربما يهم"، وقال الذهبيُّ: "ثقة مكثر، لكن ضعفه ابن معين، و أورد له ابن عدى أحاديث منكرة". 

وروى ابن أبي شيبة في "المصنف"، والبيهقيُّ في "الكبرى"، عن علي أنه "أمر رجلاً أن يصلي بضعفة الناس يوم العيد في المسجد ركعتين"، ورجاله ثقات، وعليه فقد ثبت ما يُعارض المتقدم عنه، ولذا قال الشَّافعيُّ في "معرفة السنن" عن هذا الحديث والذي قبله: وهذان حديثان مختلفان.

وقال البيهقيُّ: "ويحتمل أن يكون أراد ركعتين تحية المسجد ثم ركعتي العيد مفصولتين عنهما"، ولذا ساق بعده في "الكبرى" بإسناده عن علي بن أبي طالب: "صلوا يوم العيد في المسجد أربع ركعات: ركعتان للسنة، وركعتان للخروج"، وإسنااد ضعيف، ضعف البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة"، فيه حنش بن المعتمر.

وفيه أيضاً: "ليث بن سليم"، قال ابن حجر في "التقريب": "صدوق اختلط جداً ولم يتميز حديثه فترك"، وقال الذهبيُّ: "فيه ضعف يسير من سوء حفظه ، بعضهم احتج به"، وهذا الحديث ضعيف. و

3- واستدلوا من النظر؛ فقالوا: إن صلاة العيد تُشبه صلاة الجمعة؛ لأن من فاتته صلاة الجمعة صلاها أربعاً قضاءً في الوقت، فكان قضاؤها أربعا، كقضاء الجمعة، وهذا منطقيٌّ من حيث أن صلاة العيد تُشبه صلاة الجمعة،فصلاة العيد والجمعة ركعتان، وكلاهما فيه خطبة؛ فلما اشتبهتا في نواحٍ متعددة، كأنه قيس عليها.

ولكن إن كان هذا هو مناط الحكم (أي بالقياس) فهذا فيه نظرٌ ظاهرٌ جداً؛ لأن من فاتته صلاة الجمعة يرجع إلى فرض الظهر (أربع ركعات)، بخلاف العيد فإنه ليس يرجع إلى شيءٍ آخر، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُبين ذلك، وإنما يقضي ذلك على النحو الذي فاته، وهو ما قاله الحافظ ابن حجر في "الفتح".

  • واستدلَّ القائلون بأن من فاتته صلاة العيد مع الإمام؛ يُصليها على هيئتها مع أهل بيته في جماعة، بأدلةٍ منها:

1-ما رواه ابن أبى شيبة في "مصنفه"، والبيهقيُّ في "الكبرى"، من طريق هُشيم، عن عبد الله بن أبي بكر بن أنس، عن جده أنس بن مالك: "أنه كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام بالبصرة، جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبى عتبة مولاه فيصلى بهم ركعتين، يكبر فيهما". 

قال الألباني في "الإرواء": ضعيف. وفيه هشيم بن بشير، قال الحافظ في "التقريب":  ثقة ثبت كثير التدليس و الإرسال الخفى، وقال الذهبيُّ:  إمام ثقة، مدلس، وقد عنعنه. وقال العيني في "نخب الأفكار": طريقه صحيح.

2-أنَّها قضاءُ صلاةٍ؛ والأصل في قضاء الصلوات أن يؤتى بها على هيئتها المعتادة، ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا بدليل، وأما القياس على صلاة الجُمعة فلا يصحُّ دليلاً، لأن القياس في العبادات ممنوع، وقد ثبت عن عليِّ بن أبي طالب أنه أمر أن تُصلى ركعتين، وهذه هو الراجح، والله أعلم.

3-واستدلوا بما رواه البخاري ومسلم، عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يقول: (إذا أُقيمتِ الصلاةُ فلا تأتوها تَسعَونَ، وأتُوها تَمشُونَ وعليكم السَّكينةُ؛ فما أدركتُم فصلُّوا، وما فاتَكم فأتمُّوا)؛ فكما جاز لمن فاتته ركعةٌ من صلاة العيد أن يشفعها بركعةٍ أخرى يُتمم بها صلاته، فكذلك يُشرع له إنشاء صلاة العيد ابتداءً إذا لم يدرك شيئاً منها.

الصورة الثانية: أن لا يصليها الناس في وقتها من أول يومٍ؛ لعدم علمهم بدخول وقت العيد:

أ- فذهب المالكية والظاهرية إلى عدم القضاء مُطلقاً، وهو قولٌ عند الشافعية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن العثيمين..

ب- وذهب الحنفية وأظهر القولين عند الشافعية والمشهور عند الحنابلة إلى أن لهم تأخيرها إلى اليوم الثاني، ويُصليها الإمام بالناس جماعة (وهو الراجح، والمسألة محتملة).

  • استدلَّ المانعون من القضاء لمن فاته وقت صلاة العيد، بأدلةٍ منها:

1-النظر؛ فقالوا: إنها صلاة مؤقتة إلى قبل الزوال، فإذا فات وقتها لم يصح فعلها، وذلك مثل صلاة كسوف الشمس وخسوف القمر.

  • واستدل القائلون باستحباب القضاء من اليوم الثاني، بأدلَّةٍ منها:

1- بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائيُّ ،وابن ماجه  عن أبي عمير بن أنسٍ عن عمومةٍ له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن ركبًا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون أنهم رأَوُا الهلال بالأمس، فأمَرهم أن يُفطروا وإذا أصبحوا أن يَغدوا إلى مُصلاَّهم).

ويُقال: إن اسم أبي عُمير: عبد الله، هو أكبر أولاد أنس بن مالك، وهو من صغار التابعين، روى عن جماعةٍ من الصحابة، وعمّر بعد أبيه زمناً طويلاً، وروى عن أبي عُمير كُلاً من: جعفر بن أبي وحشية، وأبو بشر، وروى شعبة الحديث من طريقهما، ورواه هُشيم من طريق أبي بشر.

وهذا الحديث صححه: ابن المنذر في "الأوسط"، وابن السكن، وابن حزم في "المحلى"، والبيهقي في "الكبرى"، والخطابي في "معالم السنن"، والدارقطني في "سننه"، وابن حجر في "بلوغ المرام، والتلخيص"، والنووي في "المجموع".

وقال ابن المنذر: والقول بهذا الحديث واجب، ومثله الخطابيّ، قال: والمصير إليه واجب. 

وقال ابن حزم: "وهذا سند صحيح، وأبو عُمير مقطوع على أنه لا يخفى عليه من أعمامه من صحت صحبته ممن لم تصح صحبته، وإنما هذا يكون علة ممن يمكن أن يخفى عليه هذا، والصحابة كلهم عدول رضي الله عنهم، قال: وهذا قول أبو حنيفة والشافعي".

2- ما رواه البخاري ومسلم، عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال نبيُّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (مَن نسِي صلاةً، أو نامَ عنها، فكفَّارتها أن يُصلِّيَها إذا ذكَرها).

قالوا: ويُقاس السهو والخطأ على النسيان والنوم؛ لحديث: "رُفِعَ عن أمتي الخطأُ والنسيانَُ وما اسْتُكْرِهوا عليه"، وعليه فلهم قضاء هذه الصلاة من اليوم التالي، وهذه المسألة لا يُمكن تصورها إلا في عيد الأضحى؛ لأن الوقت لا يزال باقياً.

  • وأختم بهاذين القولين عن الإمام الشَّافعيِّ رحمه الله تعالى:

قال الشَّافعيُّ في "الأم" إذا دخل وقت الزوال ولم يُصلِّ الناسُ العيد: "لم يكن عليهم أن يصلوا يومهم بعد الزوال، ولا الغد لأنه عمل في، وقت فإذا جاوز ذلك الوقت لم يعمل في غيره".

قال: "ولو ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس من الغد إلى عيدهم قلنا به". 

قلتُ (محمد): وقد ثبت ذلك من حديث أبي عُمير بن أنس.

وقال رحمه الله: "وقلنا أيضاً فإن لم يخرج بهم من الغد خرج بهم من بعد الغد، وقلنا: يصلي في يومه بعد الزوال إذا جاز أن يزول فيه، ثم يصلي جاز في هذه الأحوال كلها، ولكنه لا يثبت عندنا".


  • مصادر البحث:

  • فقه السنة؛ سيد سابق.

  • الدرر السنية.

  • موسوعة الفقه الإسلامي.

  • الموسوعة الفقهية الكويتية.

  • الشرح الكبير على المقنع؛ لابن قدامة.

  • الشرح الممتع على زاد المستقنع

  • نهاية المطلب في دراية المذهب.

  • روضة الطالبين.
  • أسنى المطالب، والإقناع، ومغني المحتاج.




الاثنين، 26 أكتوبر 2020

رفع الملام عن الأئمة الأعلام -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

رفع الملام عن الأئمة الأعلام
شيخ الإسلام ابن تيمية (ت ٧٢٨هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

    تمهيد/ لقد امتنَّ الله عز وجل على هذه الأمة بعلماء أجلاء، وسادةٍ نُبلاء، حفظوا الكتاب، وتعلَّموا السُّنة، وتفقَّهوا في دين الله، وبذلوا أعمارهم رخيصةً في سبيل طلب العلم وتعليمه، وأنفقوا في سبيله نفائس أوقاتهم، وزهرة شبابهم، وسطروا صفحاتٍ ناصعة من بذل العلم والخير للناس، وخدموا هذه الشريعة ودرسوها واستنبطوا منها الأحكام، فكانوا كالنجوم المُضيئة، والشموس المُنيرة، والعافية للناس من كل فتنة، ونحن نُجلهم، وندين الله بحبهم، ونعدهم أئمة الدين، وقدوة المسلمين، والسلف الصالح لمن بعدهم.

وقد أدوا -رحمهم الله تعالى -أمانة العلم، ونصحوا الأمة لما فيه الخير والرشد، وقاموا بما أوجبه الله عليهم من النُّصح وبيان الحق، كاملاً غير منقوص، وكانوا مثالاً يُحتذى به في الورع والتقوى والعلم والعمل والإيمان والإخلاص، وهم إمام دار الهجرة: مالك بن أنس، وفقيه أهل الكوفة وعالمها الإمام أبي حنيفة، وناصر السنة والحديث مُحمد بن إدريس الشَّافعيِّ، والإمام الصابر أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنهم أجميعن.

  وأجمع المسلمون على الثناء على هؤلاء الشرفاء، والترضي عن هؤلاء النبلاء، الذين أظهروا للناس ما في الدين من أحكام، ونحن نقتفي آثارهم الحميدة في اتباع الكتاب والسنة، والاحتكام إليها حين التنازع، وتقديمها على كل قول، وعدم التعصب للرجال، ثم إننا نعتقد أن هؤلاء الفضلاء قد خدموا الدين خدمةً عظيمة، ونحن مدينون لهم في حفظ كثيرٍ من أحكام الإسلام، وفهمها، فجزاهم الله عنا خير الجزاء.

 وأما من ينتقصهم ويطعن فيهم ويعيبهم ويذمهم ولا يعرف لهم قدرهم وعلمهم ومكانتهم؛ فإنه لا يُمكن أن يكون سلفياً أو مُتبعاً للسلف بحالٍ من الأحوال، لأن السلفية هي اتباع طريق السلف الصالح، وتعظيم الأئمة المجتهدين، وهؤلاء الأعلام في طليعة هؤلاء سلفنا الصالح، ومن خيارهم، ونحن أولى الناس بتقديرهم وحبهم والدفاع عنهم.

    ومع علمنا أن كثيراً من خصوم الدعوة السلفية قد افتروا على هذه الدعوة المباركة، ونقلوا للناس عنها خلاف الحق، وقالوا عنها إنها تبغض الأئمة، وتطعن فيهم، وتُسفه آراءهم، كما فعل البوطي في "اللامذهبية" وغيره في كتاب "الاجتهاد والمجتهدون"، واتخذوا من بعض المخالفات لبعض الأئمة في بعض المسائل الفقهية ذريعةً للكذب والافتراء على هذه الدعوة.

    ونحن نعلنها أن كل ما يُنقل عن السلفيين من ذلك فهو كذبٌ واختلاق، وليس له نصيبٌ من الصحة أبداً، وهو خلاف اعتقادنا في هؤلاء الأئمة الأعلام، بل ونحن بريئون منه تماماً، ولا يحسبنَّ أحدٌ أننا نقول هذ خوفاً من أحد، أو مجاملةً لأحد، فنحن ولله الحمد لا نخاف إلا الله سبحانه وتعالى، وليس من شيمتنا الخوف والتملق وإرضاء الناس، فالحق عندنا أغلى من كل أحد، وقد علمنا الإسلام الجراءة في قول الحق، والصراحة في إبداء الرأي، ونحن نتحدى كل من يدعي عليما خلاف ما ذُكر أن يأتي بشبه دليلٍ على ذلك وهيهات.

وقد وضع شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الرسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) في بيان أن الأئمة المجتهدين قد يقعون في بعض المخالفات للنصوص؛ لأسباب كثيرة، مبناها على الاجتهاد الذي لا يُقصد به مناهضة الشرع أو مخالفته، وما من إمام يجتهد إلا ويخطئ ويُصيب.

وهذا الخطأ الوارد عن المتقدمين ورد أكثر منه عند المتأخرين، ورحمة الله على شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي يقول في "مجموع الفتاوى": "ومن اجتهد في طلب الحق فعجز عنه فلا يعاقب، وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له. وكثيرٌ من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة؛ إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم. وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وفي الصحيح أن الله قال: (قد فعلت)".

وقال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين": "ولا بُدَّ من معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم للَّه ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها لا يُوجب اطِّراح أقوالهم جملة وتنقّصهم والوقيعة فيهم.

فهذان طرفان جائران عن القصد، وقَصْدُ السبيل بينهما، فلا نُؤثّم ولا نَعْصم، ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في عليّ ولا مسلكهم في الشيخين، بل نسلك بهم مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة، فإنهم لا يؤثّمونهم ولا يعصمونهم، ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يهدرونها. 

فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكًا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة؟ ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح اللَّه صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين:

* جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم.

* أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث اللَّه بها رسوله.

ومن له علم بالشرع والواقع؛ يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قَدَم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهَفْوة والزَّلَّة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده؛ فلا يجوز أن يُتَبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين".

ومثل ذلك ما قاله الإمام الشاطبيُّ رحمه الله في "الموافقات": "وهذا كله وما أشبهه دليل على طلب الحذر من زلة العالم… وهو وإن كان على غير قصد ولا تعمد وصاحبه معذور ومأجور، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم، وقد قال الغزالي: "إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرة وهي في نفسها صغيرة… فهذه ذنوب يتبع العالم عليها، فيموت العالم ويبقى شره مستطيراً في العالم آماد متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه". وهكذا الحكم مستمر في زلته في الفتيا من باب أولى، فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة أو بعض المقاصد العامة في خصوص مسألته، فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعاً يُتقلد، وقولاً يعتبر في مسائل الخلاف، فربما رجع عنه وتبين له الحق فيفوته تدارك ما سار في البلاد عنه ويضل عنه تلافيه، فمن هنا قالوا: زلة العالم مضروب بها الطبل".

ثم قال الإمام الشاطبيُّ رحمه الله: "إذا ثبت هذا، فلا بد من النظر في أمور تنبني على هذا الأصل: منها: أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليداً له وذلك؛ لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عدت زلة، وإلا فلو كانت معتداً بها؛ لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً، فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين".

ولذلك كان واجباً على كل من كان لديه أهليةٌ للبحث والنظر ألا يأخذ قولاً إلا بعد معرفة دليله، وعليه أن لا كون إمعةً يُقلد هذا وذاك دون نظر أو دليل، وقد روي عن عبد الله بن مسعود: "اغد عالماً أو متعلماً، ولا تغد بين ذلك"، ولهذا حمل بعض السلفيين على التقليد والمقلدين الذين يستطيعون النظر والبحث وتعقُّل الأدلة، ثُم يتركون ذلك، وصرحوا بذمه وتحريمه، لأن ذلك يؤدي بصاحبه إلى الإعراض عن الكتاب والسنة في سبيل التمسك بالآراء والتقليد على غير بصيرة وهدى، حتى دعا ذلك أبا الحسن الكرخي رئيس الحنفية بالعراق، وأستاذ الكبراء منهم إلى أن يقول: "كلُّ آيةٍ تُخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة، أو منسوخة، وكل حديثٍ كذلك فهو مؤول أو منسوخ" /تاريخ التشريع، للخضري، ص 332/.

ونقل هذه الكلمة المنكرة والشنيعة صاحب كتاب "الاجتهاد والمجتهدون (ص 82) عن كتاب "تنقيح الحامدية"، وأقرها، كما نقل عن كتاب "الكشف الكبير": "أنه لا يجوز أن يُقال عن حديثٍ يُخالف مذهب أبي حنيفة: أنه لم يبلغه؟!!"، وهذه النهاية في التعصُّب؛ وكأنهم رأوا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله معصومٌ لا يمكن أن يفوته شيءٌ من الشريعة، ولا يُمكن أن يُخطئ في شيء، وهذا من الغلو المذموم.

فليت شعري ماذا تكون النتيجة إذ قال مقلدوا كل مذهب مثل ذلك، ونحن نعرف أنهم اختلفوا في كثيرٍ من المسائل؛ فإذا كانت اجتهادات كل واحدٍ منهم صواباً؛ فإن معنى ذلك أن دين الله متناقض، ومعنى ذلك أن الحق متعدد مع أن الله عز وجل بيَّن أن الاختلاف من صفة كلام البشر، وهو سبحانه منزهٌ عن ذلك، فقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (النساء: 82)، وقال بصريح العبارة: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (يونس: 32).

وقد عقد حافظ المغرب الإمام أبو عمر بن عبد البر المالكي في كتابه القيم "جامع بيان العلم" باباً لبيان أن الاختلاف خطأ وصواب، وليس صواباً كله، وذكر أمثلةً كثيرة مما خطَّاً فيه الصحابة والسلف بعضهم بعضاً، وأنكر بعضهم على بعض، وتباحثوا في بعض الاجتهادات، ورجع بعضهم عن رأيه؛ فقال: "هذا (أي التخطئة والرد) كثيرٌ في كتب العلماء وكذلك اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم من المخالفين وما رد فيه بعضهم على بعض لا يكاد أن يحيط به كتاب، فضلاً أن يجمع في باب، وفيما ذكرنا منه دليلٌ على ما عنه سكتنا وفي رجوع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض ورد بعضهم على بعض دليلٌ واضح على أن اختلافهم عندهم خطأ وصواب، ولولا ذلك كان يقول كل واحد منهم: جائز ما قلت أنت، وجائز ما قلت أنا، وكلانا نجمٌ يُهتدى به، فلا علينا شيء من اختلافنا.

قال أبو عمر: والصواب مما اختلف فيه وتدافع وجه واحد ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خطأ السلف بعضهم بعضا في اجتهادهم وقضاياهم، وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشيء ضده صوابا كله.

 ولقد أحسن القائل

إثبات ضدين معا في حال ... أقبح ما يأتي من المحال".

وذكر الإمام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" عن الإمامين مالك، والليث بن سعد، أنهما قالا في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رداً على من زعم أن في الاختلاف رحمة وسعة للأمة؛ فقالا: ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب. و "سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتراه من ذلك في سعة؟ فقال: لا والله حتى يصيب الحق وما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صواباً جميعاً ؟ وما الحق والصواب إلا واحد".

ونقل ابن عبد البر، عن المزني (صاحب الشافعي)، قال: "يقال لمن جوز الاختلاف وزعم أن العالمين إذا اجتهدا في الحادثة؛ فقال أحدهما: حلال وقال الآخر حرام فقد أدى كل واحد منهما جهده وما كلف، وهو في اجتهاده مصيب الحق، أبأصل قلت هذا أم بقياس؟ 

فإن قال: بأصل، قيل له: كيف يكون أصلا والكتاب أصل ينفي الخلاف، وإن قال بقياس؛ قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف، ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف؟ هذا ما لا يجوزه عاقل فضلاً عن عالم.

ويقال له: أليس إذا ثبت حديثان مختلفان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى واحد؛ فأحله أحدهما وحرّمه الآخر وفي كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على إثبات أحدهما ونفي الآخر؟

أليس يثبت الذي يثبته الدليل ويبطل الآخر ويبطل الحكم به، فإن خفي الدليل على أحدهما وأشكل الأمر فيهما وجب الوقوف ؟

فإذا قال: نعم ولا بد من نعم، وإلا خالف جماعة العلماء، قيل له: فلم لا تصنع هذا برأي العالمين المختلفين؟ فتثبت منهما ما أثبته الدليل وتبطل ما أبطله الدليل؟".

فمما سبق كله تعلم خطأ تلك القولة الشنيعة التي قالها الكرخي، ورده مقلدوه أصحاب كتاب "الاجتهاد والمجتهدون" وهذه القولة التي بلغت الغاية في التعصب والجمود والضلال؛ إذ جعلت المذهب هو الأصل والكتاب والسنة هما الفرع؛ فيُعرضان على المذهب فما وافقه قُبل، وما خالفه منهما رُدَّ بأي حجة، وحمل على النسخ والتأويل، أو الترجيح ليتخلص منه، ولا يُهم بعد ذلك إن كان هناك دليلٌ على النسخ أو التأويل أو الترجيح أم لا. ولكن الذي يُهم أن يُثبت المذهب ولا يُرد بحالٍ من الأحوال، ولا بأس أبداً أن يُردّ الكتاب والسنة لأجل ذلك، وهذا يُبين لك بوضوح خطر التعصُّب المذهبي وضلال المتعصبين لها، ألا ترى أن تلك المقولة تؤدي إلى معاداة الكتاب والسنة، وردهما.

والغرض المقصود من هذه الرسالة هو التماس الأعذار للعلماء والفضلاء من هذه الأمة بما ورد عنهم من الأخطاء، وعلى رأسهم الأئمة الأربعة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية حوالى عشرة أعذار للأئمة الأربعة فيما ورد عنهم من مخالفةٍ صريحة لصحيح السُّنة، وجماعها في ثلاثة أمور:

أحدها: عدم اعتقاده أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال شيئاً يُخالف قوله الذي اختاره لمذهبه. 

والثاني: اعتقاده أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أراد تلك المسألة بما قاله من التأويل والتفسير للنص.

والثالث: اعتقاده أن ذلك الحديث منسوخ لا يُعمل به.

وقد فصل رحمه الله هذه الأعذار وضرب الأمثلة عليها بما يكفي ويشفي، وننتقل للحديث أكثر عن هذه الرسالة، فنقول:

  • أهمية الرسالة:

1- بيان ما يجب على كل مسلم من موالاة المسلمين، وخاصة العلماء، وعلى رأسهم أصحاب المذاهب المتبوعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، واحمد.
2- وأنه لا يسوغ لمسلم أن يتعصب لإنسان مهما علا قدره، ومهما كانت الدواعي والأسباب، فلا يبالغ في مدحه واطرائه، ولا حتى في الاغارة عليه، والانتقاص من قدره.
3- بيان أن جميع الأئمة الاربعة متفقون على وجوب اتباع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سلم من المعارضة، وأنه لا يجوز تقديم قول أحدهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- ويجب أن نعتقد أنهم إذا خالفوا الحديث الصحيح، فإن مخالفتهم له قد يكون لسبب واضح جلي، أو لعلة غامضة خفية، لا عن هوى أو شهوة مخالفة.
4- وأنه لو ترتب على مخالفتهم تحليل حرام، او تحريم حلال، عن اجتهاد منهم، انهم لا يعاقبون على ذلك، ولا يدخلون في الوعيد من اللعنة، والغضب، والعذاب؛ لأنهم متأولون تأويلا سائغا في الجملة، بل إنهم مأجورون على اجتهادهم، مغفور لهم خطؤهم.

وقد اطال ابن تيمية النفس في الحديث عن مسألة الوعيد يثبت فيها أن "لُحُوقَ الْوَعِيدِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تحقق شُرط: (عدم العذر بالفعل)ٍ؛ وانتفاء المَوَانِع (من اجتهاد، او تأويل، او تقليد)".

5- ونحن لَا نَعْتَقِدُ فِي الأئمة المتبوعين الْعِصْمَةَ، بَلْ نُجَوِّزُ عَلَيْهِمْ الذُّنُوبُ، وَنَرْجُو لَهُمْ -مَعَ ذَلِكَ- أَعْلَى الدَّرَجَاتِ؛ لِمَا اخْتَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ،وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّة، ومع ذلك فَلَيْسُوا بِأَعْلَى دَرَجَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

6- بيان أن الأولى بالمسلم أن يأخذ القول مشفوعاً بالدليل، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأنه لا عذر لمقلد في ترك النص إن تبين أنه الحق، وأن مذهبه مذهب مفتيه، وأن من أدرك شيئا من العلم فعليه العمل به.


            ● بيان اعذار الأئمة في تركهم الأخذ والعمل ببعض النصوص:

    ١) عدم بلوغهم الحديث، او عدم معرفته به؛ لقصور العقل عن الإحاطة بكل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وقد وقع ذلك للصحابة وهم اقرب الناس من رسول الله ﷺ فكيف بمن جاء بعدهم ؟!.

يقول ابن تيمية: "فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ قَدْ بَلَغَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، أَوْ إمَامًا مُعَيَّنًا؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا قَبِيحًا".

وقال: "وَلَا يَقُولَن قَائِلٌ: إن الْأَحَادِيثَ قَدْ دُوِّنَتْ وَجُمِعَتْ؛ فَخَفَاؤُهَا وَالْحَالُ هَذِهِ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّوَاوِينَ الْمَشْهُورَةَ فِي السُّنَنِ إنَّمَا جُمِعَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ"(ص ١٧).

٢) اعتقادهم عدم ثبوت الحديث عن النبي ﷺ، وذلك "إمَّا لِأَنَّ رجلاً من مِنْ رِجَالِ الْإِسْنَادِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ، أَوْ مُتَّهَمٌ، أَوْ سَيِّئُ الْحِفْظِ. وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مُسْنَدًا بَلْ مُنْقَطِعًا؛ أَوْ لَمْ يَضْبُطْ لَفْظَ الْحَدِيث، مع أن الحديث قد يكون ثابتاً وصحيحاً عند غيره؛ لأنه جاء من وجه آخر" (ص ٢٠).

٣) اعتقادهم ضعف الحديث باجتهاد معين؛ كالاختلاف في جرح الرواة وتعديلهم، وفي كون الراوي الثقة يخالف روايته، فلا يعمل بها، وكانوا يعدون ذلك سببا قادحا في الرواية، ومثل أن يرد الحجازي رواية الشامي والعراقي إن لم يكن لها أصل يوافقه؛ لاعتقادهم ان الحجازي ضبط السنة (ص ٢١).

٤) اختلافهم في شروط قبول خبر الواحد؛ فاشترط بعضهم أن يكون له أصل في الكتاب او السنة الصحيحة، واشترط بعضهم أن يكون الراوي فقيهاً، واشترط فريق أن تكون الرواية مشهورة، مما تعم بها البلوى. (ص ٢٢).

٥) أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُ لَكِنْ نَسِيَهُ؛ وذهل عنه؛ فتركه.

٦) عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ؛ تَارَةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ غَرِيبًا عِنْدَهُ، مِثْلَ لَفْظِ "الْمُزَابَنَةِ"، وَ"الْمُخَابَرَةِ"، وَ"الْمُلَامَسَةِ"، وَتَارَةً لِكَوْنِ "الدَّلَالَةِ مِنْ النَّصِّ خَفِيَّةً".

٧) اعْتِقَادُهُ أَن مِنْ الْأُصُولِ مَا يَرُدُّ دلالَةَ الحديث، سَوَاءٌ كَانَ ذلك فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صَوَابًا أَوْ خَطَأً، مِثْل:َ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، أَوْ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، أَوْ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ لَا عُمُومَ لَهُ.. الخ.

٨) اعْتِقَادُهُ أَنَّ دلَالَةَ الحديث قَدْ عَارَضَهَا مَا يدَلَّ عَلَى أَنَّ ذلك الحكم لَيْسْ مُرَاداً، مِثْلَ:مُعَارَضَةِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِمَا يَنْفِي الْوُجُوبَ، أَوْ الْحَقِيقَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَجَازِ... إلَى أَنْوَاعِ أخرى الْمُعَارَضَاتِ.

٩) اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ؛ أَوْ نَسْخِهِ؛ أَوْ تَأْوِيلهِِ، بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارَضًا بِالِاتِّفَاقِ مِثْلَ آيَةٍ، أَوْ حَدِيثٍ آخَرَ، أَوْ مِثْلَ إجْمَاعٍ. 

١٠)  اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ، بما لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَارِضًا رَاجِحًا: كَمُعَارَضَةِ الْكُوفِيِّينَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فيقدمون ظَاهِرَ الْقُرْآنِ عَلَى نَصِّ الْحَدِيث؛ فيردونهِ.

● خلاصة مذهب ابن تيمية في موانع لحوق الوعيد:
يقول ابن تيمية: "وَمَوَانِعُ لُحُوقِ الْوَعِيدِ مُتَعَدِّدَةٌ: مِنْهَا: التَّوْبَةُ. وَمِنْهَا: الِاسْتِغْفَارُ. وَمِنْهَا: الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ لِلسَّيِّئَاتِ. وَمِنْهَا: بَلَاءُ الدُّنْيَا وَمَصَائِبُهَا. وَمِنْهَا: شَفَاعَةُ شَفِيعٍ مُطَاعٍ. وَمِنْهَا: رَحْمَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ

فَإِذَا عُدِمَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا، وَلَنْ تُعْدَمَ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ عَتَا وَتَمَرَّدَ وَشَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ عَلَى أَهْلِه، فَهُنَالِكَ يَلْحَقُ الْوَعِيدُ بِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْوَعِيدِ: بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ سَبَبٌ فِي هَذَا الْعَذَابِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ وَقُبْحُهُ. (رفع الملام، ص ٤٣)