رسالة الهدى في اتباع المُقتدى صلى الله عليه وسلم
نظم العلامة الشيخ محمد سعيد صفر المدني
رحمه الله تعالى
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ هذه رسالة فريدةٌ في بابها، عجيبةٌ في نظمها، تضمنت تفضيل شرف العلم والاقتداء على شرف النسب والتقليد، وقد رد بها العلامة محمد سعيد صفر على رسالة للسيد عبد الله المحجوب الميرغني، التي فضَّل فيها شرف النسب على شرف العلم، وقد قرظ له علماء عصره؛ كالعلامة عفيف الدين عبد الله الفطان المكي، والشيخ محمد حياة السندي المدني، والمحدث أبي الحسن السندي، وغيرهم، وسماها بـ(الهدى في اتباع المُقتدى صلى الله عليه وسلم).
ولا شك أن البلد الذي تكثر فيه مقلدة المذاهب لا بُد أن يؤول أمره إلى البدعة والدمار، والتفرُّق والتشتت، فالواجب على الفقهاء أن يجعلوا الصولة والقول الأخير للرسول صلى الله عليه وسلم.
التعريف بالمؤلف رحمه الله:
وهو العلامة الفقيه المحدث: محمد سعيد صفر بن أمين الحنفي المدني، ثم المكي، والأثري، نزيل مكة والمدرس بحرمها، ولد بمكة سنة (1114 هـ)، تفقه على جماعة من فضلاء مكة، وسمع الحديث على الشيخ محمد بن عقيلة، والشيخ تاج الدين القلعي، وطبقتهما، وبالمدينة على أبي الحسن السندي الكبير، وغيره.
وله ثبتٌ منظوم في أشياخه على حرف النون، وعدة من ذكر فيه منهم خمسة وعشرون، وله أيضاً قصيدةٌ في الشكوى على لسان أهل المدينة، تُشبه قصيدة السيد جعفر البرزنجي، وله قصيدة في الحض على السنة والعمل بها رداً على متعصبة المقلدة، سماها "رسالة الهدى".
وكان حسن التقرير لما يُمليه في دروسه، حضره السيد عبد الرحمن عيدروس في بعض دروسه وأثنى عليه، وفي آخر عمره كف بصره حزناً على فقد ولده، وفي أثناء سنة (1174 هـ) ورد مصر، ثم توجه إلى الروم عن طريق حلب، فقرأ هناك شيئاً من الحديث، وحضره علماؤها، ومنهم الشيخ السيد أحمد بن محمد الحلوى، وذكره في جملة شيخه، وأثنى عليه، ورجع إلى الحرمين، وقطن بالمدينة المنورة، وتوفي سنة (1194 هـ) ليلة الجمعة من رمضان.
دعوة الأئمة الفقهاء إلى العودة إلى الكتاب والسنة وترك التقليد:
ومن الجدير بالذكر أن الأئمة الأربعة المجتهدين أنفسهم قد دعوا إلى ما دعا إليه الشيخ محمد سعيد صفر في "منظومته"، وما يدعو إليه كل مسلمٍ حُر من تحكيم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل الخلاف، وترك آرائهم واجتهاداتهم إذا ظهر أنها تُخالف الكتاب والسنة، لأن الله سبحانه لم يفرض على الناس إلا اتباع أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبهذه المناسبة نسوق جملةً من أقوال الأئمة التي تدعو إلى الاتباع:
1-الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي (ت 150 هـ):
وهو أول الأئمة الفقهاء، وقد روي عنه أصحابه أقوالا شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها؛ قال أبو حنيفة رحمه الله: "لَا يحل لأحد أَن يَأْخُذ بقولنَا ما لم يعلم من أَيْن أخذناه"، وفي رواية: "حرامٌ على من يعرف دليلي أن يُفتي بكلامي"، وزاد في رواية: "فإننا بشرٌ نقول القول اليوم، ونرجع عنه غداً"، وقال رحمه الله: "إذا قُلتُ قولاً يُخالف كتاب الله وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي".
وقال ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار": "ونظير هذا ما نقله العلامة بيري في أول شرحه على "الأشباه" عن شرح الهداية لابن الشحنة، ونصُّه: إذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عُمِلَ بالحديث، ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيا بالعمل به، فقد صح عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقد حكى ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة".
وقال الشعراني في "الميزان" ما مختصره : "واعتقادنا واعتقاد كل منصف في الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه؛ أنه لو عاش حتى دُوِّنَت الشريعة، وبعد رحيل الحفاظ في جَمْعِها من البلاد والثغور، وظفر بها؛ لأخذ بها، وترك كل قياس كان قاسه، وكان القياس قلَّ في مذهبه، كما قل في مذهب غيره بالنسبة إليه، لكن لما كانت أدلة الشريعة مفرقة في عصره مع التابعين وتابعي التابعين في المدائن والقرى والثغور؛ كثر القياس في مذهبه بالنسبة إلى غيره من الأئمة ضرورةً؛ لعدم وجود النص في تلك المسائل التي قاس فيها؛ بخلاف غيره من الأئمة؛ فإن الحفاظ كانوا قد رحلوا في طلب الأحاديث وجمعها في عصرهم من المدائن والقرى، ودوّنوها؛ فجاوبت أحاديث الشريعة بعضها بعضاً، فهذا كان سبب كثرة القياس في مذهبه وقلته في مذاهب غيره".
ونقل الفلاني في "إيقاظ الهمم": عن الشعراني في "الميزان"، أنه قال: "فإن قلت فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي، ولم يأخذ بها فالجواب ينبغي لك أن تعمل بها؛ فإن إمامك لو ظفر بها وصحت عنده لربما كان أمرك بها؛ فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشريعة ومن فعل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه، ومن قال لا أعمل بحديث إلا أن أخذ به إمامي فاته خيرٌ كثير كما عليه كثيرٌ من المقلدين لأئمة المذاهب، وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم تنفيذاً لوصية الأئمة؛ فإن اعتقادنا فيهم أنهم لو ظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم لأخذوا بها، وعملوا بما فيها، وتركوا كل قياسٍ كانوا قاسوه، وكل قولٍ كانوا قالوه".
2- الإمام مالك بن أنس الأصبحي (ت 179 هـ)
وأما الإمام مالك بن أنس، فقد قال رحمه الله: "إِنَّمَا أَنا بشر أخطئ وَأُصِيب فانظروا فِي رَأْيِي كل مَا وَافق الْكتاب وَالسّنة فَخُذُوا بِهِ ومالم يُوَافق الْكتاب وَالسّنة فاتركوه". وقال رحمه الله: "لَيْسَ أحد من خلق الله إِلَّا يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك إِلَّا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم".
وقد جاء في "مقدمة الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، عن ابن وهبٍ، قال: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؛ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خفَّ الناس.
فقلت له: عندنا في ذلك سنة؛ فقال: وما هي؟
قلت: حدثنا الليث بن سعد، وابن لهيعة، وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن المستورد بن شداد القرشي قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه). فقال: إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع.
3- الإمام محمد بن إدريس الشَّافعيّ (ت 204 هـ)
وأما الإمام الشافعي رحمه الله، فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب، قال الإمام الشَّافعيُّ رحمه الله: "لم أسمع أحدا نسبته إِلَى الْعلم، اَوْ نسبته الْعَامَّة إِلَى علم أَو نسب نَفسه إِلَى علم يحْكى خلافًا فِي أَن فرض الله تَعَالَى اتِّبَاع أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالتَّسْلِيم لحكمه؛ فَإِن الله تَعَالَى لم يَجْعَل لأحد بعده إِلَّا اتِّبَاعه، وَأَنه لَا يلْزم قَول رجل قَالَ إِلَّا بِكِتَاب الله تَعَالَى، أَو سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن مَا سواهُمَا تبع لَهما، وَأَن فرض الله تَعَالَى علينا وعَلى من بَعدنَا وَقَبلنَا قبُول الْخَبَر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم".
وَقد قَالَ الشَّافِعِي: "مَا من أحد الا وَيذْهب عَلَيْهِ سنة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتعزب عَنهُ. وَقَالَ رحمه الله: أجمع النَّاس على أَن من استبانت لَهُ سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن لَهُ أَن يَدعهَا لقَوْل أحد".
وقَالَ أيضاً: "لَا قَول لأحد مَعَ سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم"، وقد اشْتهر عَن الشَافِعِيّ قوله: "إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي".
وقال رحمه الله: "كل مَسْأَلَة صَحَّ فِيهَا الْخَبَر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد أهل النَّقْل بِخِلَاف مَا قلت فَأَنا رَاجع عَنْهَا فِي حَياتِي وَبعد موتِي" (انظر: إيقاظ الهمم).
وقال ابن حزم في "الإحكام": "إن الفقهاء الذين قُلِّدوا مبطلون للتقليد، وإنهم نهوا أصحابهم عن تقليدهم، وكان أشدهم في ذلك الشافعي؛ فإنه رحمه الله بلغ من التأكيد في اتباع صحاح الآثار، والأخذ بما أوجبته الحجة، حيث لم يبلغ غيره، وتبرَّأ من أن يُقَلَّدَ جملة، وأعلن بذلك، نفع الله به، وأعظم أجره؛ فلقد كان سبباً إلى خير كثير".
وقال الفلاني في "إيقاظ الهمم" عن الشعراني في "الميزان" في شرح قول الإمام الشافعي (إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي)، قال: "قال ابن حزم: صح عنده، أو عند غيره من الأئمة".
وقال الإمام النووي رحمه الله في "مقدمة المجموع" ما مختصره: وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب، واشتراط التحلل من الإحرام بعذر المرض، وغيرهما مما هو معروف في كتب المذهب، وممن حُكي عنه أنه أفتى بالحديث من أصحابنا:
أبو يعقوب البُويطي، وأبو القاسم الدَّارَكي، وممن استعمله من أصحابنا المحدثين: الإمام أبو بكر البيهقي وآخرون، وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث، ومذهب الشافعي خلافه؛ عملوا بالحديث، وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث".
وقال الشيخ أبو عمرو: "فمن وجد من الشافعية حديثا يخالف مذهبه نظر: إن كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقاً، أو في ذلك الباب أو المسألة كان له الاستقلال بالعمل به. وإن لم يكمل وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه جواباً شافياً، فله العمل به، إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذراً له في ترك مذهب إمامه هنا، وهذا الذي قاله حسن متعين والله أعلم".
قال الألباني في "صفة الصلاة": "وهناك صورة أخرى لم يذكرها ابن الصلاح، وهي فيما إذا لم يجد من عمل بالحديث من الأئمة؛ فماذا يصنع؟ أجاب عن هذا تقي الدين السُّبكي في رسالة (معنى قول المطلبي إذا صحَّ الحديث): "والأولى عندي اتباع الحديث وليفرض الإنسان نفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمع ذلك منه أيسعه التأخر عن العمل به؟ لا والله وكل أحد مكلف بحسب فهمه".
وقال الشَّافعيُّ للإمام أحمد: "أنتم أعلم بالحديث والرجال مني؛ فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفياً أو بصرياً أو شامياً حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً".
وعلق على ذلك الإمام الفُلاني الذي يقول في "إيقاظ الهمم": "قال البيهقي: ولهذا كثر أخذه -يعني الشافعي -بالحديث وهو أنه جمع علم أهل الحجاز والشام واليمن والعراق وأخذ بجميع ما صح عنده من غير محاباة منه، ولا ميل إلى ما استحلاه من مذهب أهل بلده، مهما بان له الحق في غيره وممن كان قبله من اقتصر على ما عهد من مذاهب أهل بلده، ولم يجتهد في معرفة صحة ما خالفه والله يغفر لنا ولهم".
4-الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (ت 241 هـ):
وأما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة جمعا للسنة وتمسكاً بها، حتى قال أحمد رحمه الله: "لَا تقلدني وَلَا تقلد مَالِكًا وَلَا الشَّافِعِي وَلَا الْأَوْزَاعِيّ وَلَا الثَّوْريّ وَخذ من حَيْثُ أخذُوا وَقَالَ من قلَّة فقه الرجل أَن يُقَلّد دينه الرِّجَال".
وقال رحمه الله: "من ردَّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة".
وقال: "رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار"
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "مجموع رسائله": "الواجب عَلَى كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه: أن يبينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظم، قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ، ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العُلَمَاء عَلَى كل من خالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد، لا بغضًا له؛ بل هو محبوب عندهم، معظم في نفوسهم؛ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَحَبّ إليهم، وأمره فوق أمر كل مخلوق، فَإِذَا تعارض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر غيره؛ فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يقدم ويتبع".
ومما سبق نرى كمال علم الأئمة، وتقلهام، حيثُ أشاروا إلى أنهم لم يُحيطوا بالسنة كلها، وقد صرَّحوا بذلك، ونحن مأمورون بالتمسُّك بالسُّنن، وأن نجعلها من مذهبهم رضوان الله تعالى عليهم.
وفيما يلي نثبت الأبيات الشهيرة التي تتحدث عن ذمِّ التقليد المتعصب الذي لا ينبني على دليل، قال الشيخ محمد سعيد صفر المدني:
منظومة (رسالة الهدى):
1-الحمد لله العظيم الشان … من أنزل القرآن والمثاني
2-وحقق التوحيد والأحكاما … وبين الحلال والحراما
3- أَرسلَ بالهدى ودين الحقِّ … رسولَه ورحمةً للخلقِ
4-على الأنام أوجب اتباعه … فقد أطاع الله من أطاعه
5-ومن عصاه فهو عاصِ الله … مخالفٌ له بلا اشتباه
6- صلى عليه الله بالسلام… مؤيداً بالعز والإكرام
7-والآل والأصحاب والأتباع … لهم بإحسانٍ وكلُّ داعٍ
* * *
8- وبعد إن هذه الرسالة … فيها اتباعُ صاحب الرسالة
9- فقد أُمرنا باتباع هديه … في أمره وننتهي عن نهيه
10- قال: (وما آتاكم الرسولُ) … قد ضلَّ من عن هديه يميلُ
* * *
الشاهد من هذا الكتاب
85- وقول أعلام الهدى: "لا يُعمل … بقولنا بدون نص يقبلُ"
86- فيه دليل الأخذ بالحديث … وذاك في القديم والحديث
87- قـــــــــــال أبـــــو حنيفة الإمامُ: … "لا ينبغي لمن له إســــلام
88- أخذاً بأقوالي حتى تعرضا … على الكتاب والحديث المرتضى"
89- ومالك إمام دار الهجرة … قال وقد أشار نحو الحجرة:
90- "كل كلام منه ذو قبول… وكلُّ مردود سوى الرسول"
91- والشافعي قال: "إن رأيتموا … قولي مخالفاً لما رويتموا
92- من الحديث فاضربوا الجدارا … بقولي المخالف الأخبارا"
93- وأحمد قال لهم: "لا تكتبوا … ما قلته بل أصل ذلك أطلبوا"
94- فاسمع ما قالت الهداة الأربعة … واعمل بها فان فيها منفعة
95- لقمعها لكل ذي تعصب … والمنصفون يكتفون بالنبي
* * *
ومعها مقال في حكم قتال الكفار من كتاب
هداية الحيارى من اليهود والنصارى
للإمام محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية
الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فيقول محمد بن حسين نصيف: "لما طبعت مجموعة الرسائل للإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المتضمنة خمسة رسائل، الأولى: رأس الحسين رضي الله عنه، وأين هو؟ والرابعة: قاعدة في حكم قتال الكفار، استبعد بعض الناس نسبتها لشيخ الإسلام، فاقتضى الحال لنشر ما هو أصرح منها من كتاب هداية الحيارى للإمام محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تلميذ الإمام ابن تيمية، وهي من آخر صحيفة (10) إلى أول صحيفة (11)، قال رحمه الله:
"فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَجَابَ لَهُ وَلِخُلَفَائِهِ بَعْدَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، وَلَمْ يُكْرِهْ أَحَدًا قَطُّ عَلَى الدِّينِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُقَاتِلُ مَنْ يُحَارِبُهُ وَيُقَاتِلُهُ.
وَأَمَّا مَنْ سَالَمَهُ وَهَادَنَهُ: فَلَمْ يُقَاتِلْهُ، وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256)، وَهَذَا نَفْيٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدِّينِ.
وقد نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رِجَالٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ، قَدْ تَهَوَّدُوا وَتَنَصَّرُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ: أَسْلَمَ الْآبَاءُ وَأَرَادُوا إِكْرَاهَ الْأَوْلَادِ عَلَى الدِّينِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَالصَّحِيحُ: أن الْآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا فِي حَقِّ كُلِّ كَافِرٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، فَلَا يُكْرَهُونَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ، بَلْ: إِمَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي الدِّينِ، وَإِمَّا أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، كَمَا تَقُولُهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَإِنِ اسْتَثْنَى هَؤُلَاءِ بَعْضَ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ سِيرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يُكْرِهْ أَحَدًا عَلَى دِينِهِ قَطُّ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَاتَلَ مَنْ قَاتَلَهُ، وَأَمَّا مَنْ هَادَنَهُ فَلَمْ يُقَاتِلْهُ مَا دَامَ مُقِيمًا عَلَى هُدْنَتِهِ، لَمْ يَنْقُضْ عَهْدَهُ، بَلْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَفِيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ مَا اسْتَقَامُوا لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (التوبة: 7).
ولَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَالَحَ الْيَهُودَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا حَارَبُوهُ وَنَقَضُوا عَهْدَهُ وَبَدَءُوهُ بِالْقِتَالِ قَاتَلَهُمْ، فَمَنَّ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَأَجْلَى بَعْضَهُمْ، وَقَاتَلَ بَعْضَهُمْ.
وَكَذَلِكَ لَمَّا هَادَنَ قُرَيْشًا عَشْرَ سِنِينَ لَمْ يَبْدَأْهُمْ بِقِتَالٍ حَتَّى بَدَءُوا هُمْ بِقِتَالِهِ وَنَقْضِ عَهْدِهِ، فَحِينَئِذٍ غَزَاهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، وَكَانُوا هُمْ يَغْزُونَهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا قَصَدُوهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَيَوْمَ بَدْرٍ أَيْضًا هُمْ جَاءُوا لِقِتَالِهِ وَلَوِ انْصَرَفُوا عَنْهُ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُكْرِهْ أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِهِ اخْتِيَارًا وَطَوْعًا، فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ دَخَلُوا فِي دَعْوَتِهِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْيَمَنِ كَانُوا عَلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَكْثَرُهُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: (إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ -وَذَكَرَ الْحَدِيثَ).
ثُمَّ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ وَلَا رَهْبَةٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ مَذْكُورُونَ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي، لَمْ يُسْلِمُوا رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا وَلَا رَهْبَةً مِنَ السَّيْفِ، بَلْ أَسْلَمُوا فِي حَالِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ أَعْدَائِهِمْ، وَمُحَارَبَةِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ سَوْطٍ وَلَا نَوْطٍ، بَلْ تَحَمَّلُوا مُعَادَاةَ أَقْرِبَائِهِمْ وَحِرْمَانَهُمْ نَفْعَهُمْ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ مَعَ ضَعْفِ شَوْكَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقِلَّةِ ذَاتِ أَيْدِيهِمْ.
فَكَانَ أَحَدُهُمْ يُعَادِي أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَيَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، لَا لِرِئَاسَةٍ وَلَا مَالٍ، بَلْ يَنْخَلِعُ مِنَ الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ، وَيَتَحَمَّلُ أَذَى الْكُفَّارِ مِنْ ضَرْبِهِمْ وَشَتْمِهِمْ وَصُنُوفِ أَذَاهُمْ وَلَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ.