قضاء صلاة العيد لمن فاتته مع الجماعة
دراسة فقهية حديثية
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
غزة -فلسطين
اتفق الفقهاء على استحباب صلاة العيد جماعةً في المُصلى، وأن وقتها: ما بين ارتفاع الشمس قدر رمح إلى أول الزوال، واختلف الفقهاء في جواز قضاء صلاة العيد بعد فوات وقتها، ولذلك صورتين:
الصورة الأولى: أن يصليها الناس في وقتها، وتفوت بعض الأفراد:
أ- فعند الحنفية في قول أنه لا يقضيها مطلقاً.
ب- وعند جمهور الشافعية والحنابلة والمالكية والحنفية في رواية: أنه يقضيها استحباباً، على هيئتها المعروفة، وبنفس العدد من التكبيرات (وهو الصحيح).
وقالت الشافعية والحنابلة: له أن يُصليها في جماعة أيضاً، بينما يمنع من ذلك المالكية، وبه قال قتادة، ومعمر، وأبي ثور، والأوزاعي.
وفي روايةٍ عند الحنابلة أنه يقضيها أربعاً، وهو قول الثوري، وفي روايةٍ ثالثة عند الحنابلة أنه مُخيَّرٌ بين الثنتين والأربع، وهو قول الأوزاعي.
واستدلَّ القائلون بأنه يقضيها أربع ركعات:
1- بما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، والطبرانيُّ في "الكبير"، عن عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: (من فاته العيد فليصل أربعاً).
وهذا الأثر ضعيفٌ عن ابن مسعود، وقال الألبانيُّ في "الإرواء": منقطع، وضعفه الإمام ابن المنذر في "الأوسط"، وقال: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد ركعتين، فكل من صلى صلاة العيد صلاها كما سنها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تجوز الزيادة في عدد الصلاة لمن فاته العيد بغير حجة، ولا أحسب خبر ابن مسعود يثبت"، ولذلك فالأظهر هو ما ذهب إليه الجمهور من المالكية والشافعية، وأنه يقضي صلاة العيد على نحو ما فاتته تلك الصلاة بدون زيادة فيها.
ولكن هذا الأثر صحَّح إسناده القسطلاني في "إرشاد الساري"، وابن حجر في "الفتح"، وقال الحافظ عن أثر ابن مسعود: "أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح"، وهذا الأثر لم نجده عند سعيد بن منصور في المطبوع الذي بين أيدينا، ولكن إن صحَّ ما قاله ابن حجر رحمه الله، وكان هذا الأثر له طريقٌ صحيح، لم يطلع عليه ابن المنذر ولا غيره من المتقدمين، فحينئذٍ يكون استدلال الحنابلة بهذا الحديث ظاهرٌ، ولكنه مع ذلك لا يسلم من المناقشة.
2-واستدلوا بما رواه البيهقيُّ في الكبرى" وابن حزم في "المحلى" عن على رضي الله عنه، أنه قال: (إني أمرت رجلاً أن يصلي بضعفة الناس، أمرته أن يصلي أربعاً).
وهذه الرواية صحح إسنادها ابن حزم، وقال في "المحلى": إن ضعفوا هذه الرواية، قيل لهم : هي أقوى من التي تعلقتم بها عنه أو مثلها. وفيها عاصم بن على بن عاصم، قال ابن حجر: "صدوقٌ ربما يهم"، وقال الذهبيُّ: "ثقة مكثر، لكن ضعفه ابن معين، و أورد له ابن عدى أحاديث منكرة".
وروى ابن أبي شيبة في "المصنف"، والبيهقيُّ في "الكبرى"، عن علي أنه "أمر رجلاً أن يصلي بضعفة الناس يوم العيد في المسجد ركعتين"، ورجاله ثقات، وعليه فقد ثبت ما يُعارض المتقدم عنه، ولذا قال الشَّافعيُّ في "معرفة السنن" عن هذا الحديث والذي قبله: وهذان حديثان مختلفان.
وقال البيهقيُّ: "ويحتمل أن يكون أراد ركعتين تحية المسجد ثم ركعتي العيد مفصولتين عنهما"، ولذا ساق بعده في "الكبرى" بإسناده عن علي بن أبي طالب: "صلوا يوم العيد في المسجد أربع ركعات: ركعتان للسنة، وركعتان للخروج"، وإسنااد ضعيف، ضعف البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة"، فيه حنش بن المعتمر.
وفيه أيضاً: "ليث بن سليم"، قال ابن حجر في "التقريب": "صدوق اختلط جداً ولم يتميز حديثه فترك"، وقال الذهبيُّ: "فيه ضعف يسير من سوء حفظه ، بعضهم احتج به"، وهذا الحديث ضعيف. و
3- واستدلوا من النظر؛ فقالوا: إن صلاة العيد تُشبه صلاة الجمعة؛ لأن من فاتته صلاة الجمعة صلاها أربعاً قضاءً في الوقت، فكان قضاؤها أربعا، كقضاء الجمعة، وهذا منطقيٌّ من حيث أن صلاة العيد تُشبه صلاة الجمعة،فصلاة العيد والجمعة ركعتان، وكلاهما فيه خطبة؛ فلما اشتبهتا في نواحٍ متعددة، كأنه قيس عليها.
ولكن إن كان هذا هو مناط الحكم (أي بالقياس) فهذا فيه نظرٌ ظاهرٌ جداً؛ لأن من فاتته صلاة الجمعة يرجع إلى فرض الظهر (أربع ركعات)، بخلاف العيد فإنه ليس يرجع إلى شيءٍ آخر، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُبين ذلك، وإنما يقضي ذلك على النحو الذي فاته، وهو ما قاله الحافظ ابن حجر في "الفتح".
واستدلَّ القائلون بأن من فاتته صلاة العيد مع الإمام؛ يُصليها على هيئتها مع أهل بيته في جماعة، بأدلةٍ منها:
1-ما رواه ابن أبى شيبة في "مصنفه"، والبيهقيُّ في "الكبرى"، من طريق هُشيم، عن عبد الله بن أبي بكر بن أنس، عن جده أنس بن مالك: "أنه كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام بالبصرة، جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبى عتبة مولاه فيصلى بهم ركعتين، يكبر فيهما".
قال الألباني في "الإرواء": ضعيف. وفيه هشيم بن بشير، قال الحافظ في "التقريب": ثقة ثبت كثير التدليس و الإرسال الخفى، وقال الذهبيُّ: إمام ثقة، مدلس، وقد عنعنه. وقال العيني في "نخب الأفكار": طريقه صحيح.
2-أنَّها قضاءُ صلاةٍ؛ والأصل في قضاء الصلوات أن يؤتى بها على هيئتها المعتادة، ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا بدليل، وأما القياس على صلاة الجُمعة فلا يصحُّ دليلاً، لأن القياس في العبادات ممنوع، وقد ثبت عن عليِّ بن أبي طالب أنه أمر أن تُصلى ركعتين، وهذه هو الراجح، والله أعلم.
3-واستدلوا بما رواه البخاري ومسلم، عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يقول: (إذا أُقيمتِ الصلاةُ فلا تأتوها تَسعَونَ، وأتُوها تَمشُونَ وعليكم السَّكينةُ؛ فما أدركتُم فصلُّوا، وما فاتَكم فأتمُّوا)؛ فكما جاز لمن فاتته ركعةٌ من صلاة العيد أن يشفعها بركعةٍ أخرى يُتمم بها صلاته، فكذلك يُشرع له إنشاء صلاة العيد ابتداءً إذا لم يدرك شيئاً منها.
الصورة الثانية: أن لا يصليها الناس في وقتها من أول يومٍ؛ لعدم علمهم بدخول وقت العيد:
أ- فذهب المالكية والظاهرية إلى عدم القضاء مُطلقاً، وهو قولٌ عند الشافعية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن العثيمين..
ب- وذهب الحنفية وأظهر القولين عند الشافعية والمشهور عند الحنابلة إلى أن لهم تأخيرها إلى اليوم الثاني، ويُصليها الإمام بالناس جماعة (وهو الراجح، والمسألة محتملة).
استدلَّ المانعون من القضاء لمن فاته وقت صلاة العيد، بأدلةٍ منها:
1-النظر؛ فقالوا: إنها صلاة مؤقتة إلى قبل الزوال، فإذا فات وقتها لم يصح فعلها، وذلك مثل صلاة كسوف الشمس وخسوف القمر.
واستدل القائلون باستحباب القضاء من اليوم الثاني، بأدلَّةٍ منها:
1- بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائيُّ ،وابن ماجه عن أبي عمير بن أنسٍ عن عمومةٍ له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن ركبًا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون أنهم رأَوُا الهلال بالأمس، فأمَرهم أن يُفطروا وإذا أصبحوا أن يَغدوا إلى مُصلاَّهم).
ويُقال: إن اسم أبي عُمير: عبد الله، هو أكبر أولاد أنس بن مالك، وهو من صغار التابعين، روى عن جماعةٍ من الصحابة، وعمّر بعد أبيه زمناً طويلاً، وروى عن أبي عُمير كُلاً من: جعفر بن أبي وحشية، وأبو بشر، وروى شعبة الحديث من طريقهما، ورواه هُشيم من طريق أبي بشر.
وهذا الحديث صححه: ابن المنذر في "الأوسط"، وابن السكن، وابن حزم في "المحلى"، والبيهقي في "الكبرى"، والخطابي في "معالم السنن"، والدارقطني في "سننه"، وابن حجر في "بلوغ المرام، والتلخيص"، والنووي في "المجموع".
وقال ابن المنذر: والقول بهذا الحديث واجب، ومثله الخطابيّ، قال: والمصير إليه واجب.
وقال ابن حزم: "وهذا سند صحيح، وأبو عُمير مقطوع على أنه لا يخفى عليه من أعمامه من صحت صحبته ممن لم تصح صحبته، وإنما هذا يكون علة ممن يمكن أن يخفى عليه هذا، والصحابة كلهم عدول رضي الله عنهم، قال: وهذا قول أبو حنيفة والشافعي".
2- ما رواه البخاري ومسلم، عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال نبيُّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (مَن نسِي صلاةً، أو نامَ عنها، فكفَّارتها أن يُصلِّيَها إذا ذكَرها).
قالوا: ويُقاس السهو والخطأ على النسيان والنوم؛ لحديث: "رُفِعَ عن أمتي الخطأُ والنسيانَُ وما اسْتُكْرِهوا عليه"، وعليه فلهم قضاء هذه الصلاة من اليوم التالي، وهذه المسألة لا يُمكن تصورها إلا في عيد الأضحى؛ لأن الوقت لا يزال باقياً.
وأختم بهاذين القولين عن الإمام الشَّافعيِّ رحمه الله تعالى:
قال الشَّافعيُّ في "الأم" إذا دخل وقت الزوال ولم يُصلِّ الناسُ العيد: "لم يكن عليهم أن يصلوا يومهم بعد الزوال، ولا الغد لأنه عمل في، وقت فإذا جاوز ذلك الوقت لم يعمل في غيره".
قال: "ولو ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس من الغد إلى عيدهم قلنا به".
قلتُ (محمد): وقد ثبت ذلك من حديث أبي عُمير بن أنس.
وقال رحمه الله: "وقلنا أيضاً فإن لم يخرج بهم من الغد خرج بهم من بعد الغد، وقلنا: يصلي في يومه بعد الزوال إذا جاز أن يزول فيه، ثم يصلي جاز في هذه الأحوال كلها، ولكنه لا يثبت عندنا".
مصادر البحث:
فقه السنة؛ سيد سابق.
الدرر السنية.
موسوعة الفقه الإسلامي.
الموسوعة الفقهية الكويتية.
الشرح الكبير على المقنع؛ لابن قدامة.
الشرح الممتع على زاد المستقنع
نهاية المطلب في دراية المذهب.
- روضة الطالبين.
- أسنى المطالب، والإقناع، ومغني المحتاج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق