أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 4 أكتوبر 2020

ذم التأويل -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

ذم التأويل

للإمام العلامة موفق الدين

عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي

(540 - 620 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ هذه رسالة في (ذم التأويل) للإمام الموفق ابن قدامة المقدسي قصد فيها إلى بيان مذهب السلف في صفات الله عز وجل، وكيف أنهم تلقوا هذه الأخبار بالقبول والإيمان والتصديق، وأثبتوا تلك الصفات لله تعالى بدون تمثيل، ولا تأويل، ولا تعطيل، وردَّ فيها على شُبه المتكلمين القائلين بتأويل هذه الصفات وصرفها عن ظاهرها، وقد ذمَّهم -رحمه الله -بأشد العبارات وأغلظها، وبيَّن بطلان قولهم بالحجة والبيان وبالأدلة من الكتاب والسُّنة وإجماع السلف.

وقرَّر ابن قدامة أن منهج السلف هو الإثبات للصفات بظاهر لفظها ومعناها، مع تفويض الكيفية، وقد أخطأ من قال إن ابن قدامة فوّض المعنى بالكلية، وهذا ظاهرٌ جداً في كتابه "تحريم النظر في الكلام"؛ حيث يقول: "إِذا سَأَلنَا سَائل عَن معنى هَذِه الْأَلْفَاظ (يعني الصفات) قُلْنَا: لَا نزيدك على ألفاظها زِيَادَة تفِيد معنىً (أي: معنى آخر غير المتبادر منها)، بل قرَاءَتهَا تَفْسِيرهَا من غير معنى بِعَيْنِه، وَلَا تَفْسِير بِنَفسِهِ، وَلَكِن قد علمنَا أَن لَهَا معنى فِي الْجُمْلَة يُعلمهُ الْمُتَكَلّم بهَا فَنحْن نؤمن بهَا بذلك الْمَعْنى".

فقوله (وَلَكِن قد علمنَا أَن لَهَا معنى فِي الْجُمْلَة يُعلمهُ الْمُتَكَلّم بهَا فَنحْن نؤمن بهَا بذلك الْمَعْنى) يقطع كل ما يُثار حول ابن قدامة رحمه الله من نسبته إلى التفويض، ذلك أنه التزم: أن قراءة آيات الصفات هو تفسيرها، بظاهر معناها المعهود عند المتكلم بها، ويؤكد ذلك أنه ساق بعدها قول الإمام مالك رحمه الله في الاستواء؛ فقال: "الاسْتوَاء غير مَجْهُول والكيف غير مَعْقُول وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة".

وأما قوله (من غير معنى بِعَيْنِه، وَلَا تَفْسِير بِنَفسِهِ)؛ أي من غير تحديد معنى بعينه، يلزم منه التمثيل أو التكييف للصفة، مثل قول المشبهة: يدٌ كيدي، أو عينٌ كعيني، أو وجهٌ كوجهي؛ ولا تفسيرٍ بنفسه: أي كطريقة المؤولة، الذين يصرفون اللفظ عن ظاهر معناه، فالمعنى الذي يُثبته هو المعنى المتبادر من الصفة دون تكييف أو تمثيل أو تشبيه؛ فكأنه نفى معانى الممثلة، ونفى تفسير المؤولة.

وهو نفس المعنى الذي نفهمه من قوله: "فإنهم -أي السلف لم يصفوا ولم يُفسروا" فليس معنى أنهم (لم يصفوا) أنهم نفوا الصفات عن الله عز وجل، وإنما معنى ذلك: أنهم لم يُحددوا كيفية تلك الصفة، ولم يبحثوا عن كنهها وحقيقتها، لأن ذلك لا يعلمه إلا الله؛ فيجب التفويض في الكيفية، (ولم يفسروا): أي لم يأتوا بمعنى يُخالف ظاهر الصفة، وهو ما يُسمى بالتأويل، وهذا ما يعنيه كل من عبَّر بهذه العبارات وأمثالها من أئمة السَّلف.

وهو معنى قوله في كتابه "تحريم النظر في كتب الكلام" في بيان طريقة السلف أنها: "الإيمان بالألفاظ والآيات والأخبار بالمعنى الذي أراده الله تعالى والسكوت عما لا نعلمه من معناها، وترك البحث عما لم يكلفنا الله البحث عنه من تأويلها ولم يطلعنا على علمه"؛ وهذا يعني أن هنالك معنىً نعلمه من الألفاظ لا بُدَّ من إثباته، وهو المعنى الذي أراده الله تعالى، وأما المعنى الذي لا نعلمه فهو العلم بالكيفية؛ فهذه التي نسكت عنها.

وذكر الإمام ابن قدامة معتمده في باب الصفات في كتابه "المناظرة في القرآن"، بعد أن أثبت لله الحرف والصوت وأن سبحانه متكلمٌ على الحقيقة بحرفٍ وصوتٍ حقيقيين: "على أن معتمدنا في صفات الله عز وجل إنما هو الاتباع نَصفُ الله تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، ولا نتعدى ذلك ولا نتجاوزه ولا نتأوله ولا نفسره، ونعلم أن ما قال الله ورسوله حق وصدق، ولا نشك فيه ولا نرتاب، ونعلم أنَّ لِما قال الله ورسوله معنىً (أي كيفٌ) هو به عالمٌ، فنؤمن به بالمعنى الذي أراده (وهو الظاهر)، ونكل علمه إليه"؛ أي العلم بكيفيته، فمنع الإمام ابن قدامة من التأويل الذي هو التكييف، ومن التفسير الذي هو صرف الفظ عن ظاهره، وبيَّن أن إيمانه بالصفات إنما هو إيمانٌ بالمعنى الذي أراده الله وهو الظاهر المعهود في كلام العرب، وأنه يكل العلم بحقيقة ذلك المعنى إلى الله، وهذا ظاهرٌ جداً لمن تأمله.

وذكر رحمه الله في كتابه "الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم" جملةً من الأدلة على أن الله تعالى يتكلم بحرفٍ وصوت، وأجاب على إيراد المبتدعة في قولهم (إن كلام الله تعالى يجب ألا يكون حروفاً لئلا يُشبه كلام الآدميين)؛ فقال: "إن الاتفاق في أصل الحقيقة: ليس بتشبيه، كما أن اتفاق البصر في إدراك المبصرات، والسمع في إدراك المسموعات، والعلم في إدراك المعلومات ليس بتشبيهٍ؛ كذلك هنا"، وهذه قاعدةٌ عامة عند أهل السُّنة في جميع الصفات من إثبات أصل الحقيقة للصفة، وأثبتها ابن قدامة بالفعل في غير صفة الكلام، وذكر صفة السمع، والبصر، والعلم، ويطرد الأمر في جميع الصفات الخبرية كذلك.

وقال في "تحريم النظر": "فإنه -أي النبيّ صلى الله عليه وسلم -كان يؤمن بالله وكلماته ولم يفسر شيئاً من ذلك ولا بين معناه" أي لم يؤول ذلك تأويلاً يصرفه عن ظاهر معناه، ولم يُبين حقيقة معناه الذي هو الكيفية، وإنما سكت عن كلا الأمرين، مع الإيمان بتلك الصفات ومعانيها الظاهرة.

وكذلك قوله في "تحريم النظر": "فإنه لا حاجة لنا إلى علم معنى ما أراد الله تعالى من صفاته جل وعز -أي كيفيتها، لأنه لا يتعلق بها تكليف سوى الإيمان بها، ويُمكن الإيمان بها من غير العلم بمعناها"؛ أي: لسنا بحاجة إلى العلم بمعنى كيفية الصفة، وهذا أمرٌ مقبولٌ عند السَّلف؛ فإن كيفية الصفة أمرٌ ميئوسٌ منه، لا سبيل إلى معرفته أو مطالعته؛ ولذلك قال: "فإن الإيمان بالجهل -أي الجهل بالكيفية صحيح".

ثم ضرب مثلاً بالأمور الغيبية الأخرى لتكون طرداً للعبارة السابقة في نفي العلم بالكيفية؛ فقال: "فإن الله تعالى أمر بالإيمان بملائكته وكتبه ورسله وما أنزل إليهم، وإن كنا لا نعرف من ذلك إلا التسمية"، أي لا نعرف إلا الأسماء ودلالاتها ومعانيها الظاهرة، ولكننا لم نعرف الشخوص والهيئات والكيفيات، وإذا جهلنا هذا في حقِّ الملائكة والرسل؛ فجلهنا لكيفية الباري سبحانه وصفاته من باب أولى.

ولا يُقال: إنه أردا بمعرفة التسمية: الأسماء الخالية عن المعنى!؛ لأن التسمية في الأصل هي إطلاق الأسماء على مسمياتها، ولا يُفيد ذلك نفي الهيئات أو المعاني أو الدلالات التي تضمنتها تلك الأسماء، فهذا أمرٌ يُحيله العقل والشرع بل هي مُكابرة وعناد كما تقدَّم، ولم نجد من العقلاء من يُعطل اسماً عن معناه الثابت له في نفسه، وإذا كانت تلك المعاني والدلالات الظاهرة ثابتة في حق بعض المخلوقات فثبوت المعاني في أسماء الرب سبحانه وصفاته أولى وأحرى.

ويؤكد الإمام ابن قدامة على قضية نفي التشبيه والتمثيل باصطلاحه الخاص على نفي المعنى: الذي يقصد به نفي العلم بالكيفية والهيئة؛ فيقول في "تحريم النظر": "وإنما يحصل التشبيه والتجسيم ممن حمل صفات الله سبحانه وتعالى على صفات المخلوقين في المعنى (وهو التمثيل)، ونحن لا نعتقد ذلك ولا ندين به ".

ولذلك يقول بعدها: "إن صفاته لا تشبه صفات المحدثين، وكل ما خطر بقلب، أو وهم فالله عز وجل بخلافه لا شبيه له ولا نظير ولا عدل ولا ظهير".

ويقول رحمه الله -في "تحريم النظر إلى كتب الكلام": "ولا خلاف بين أهل النقل سنيهم وبدعيهم: في أن مذهب السلف رضي الله عنهم -في صفات الله سبحانه وتعالى: الإقرار بها والإمرار لها، والتسليم لقائلها، وترك التعرض لتفسيرها، بذلك جاءت الأخبار عنهم مجملة ومفصلة".

وهو مثل قوله في موضعٍ آخر من "ذم التأويل": "والتوقيف (أي الشرع ) إنما ورد بأسماء الصفات دون كيفيتها وتفسيرها فيجب الإقتصار على ما ورد"؛ يقصد الاكتفاء بمجرد اللفظ المتضمن للمعنى الظاهر.

وقال ابن قدامة في بيان طريق الراسخين في العلم في كتابه "ذم التأويل": "فيلزم حينئذ أن يكون الراسخون مخالفين للزائغين في ترك اتباع المتشابه مفوضين إلى الله تعالى بقولهم {آمنا به كل من عند ربنا} تاركين لابتغاء تأويله"، ثم قال: "إن  قولهم {آمنا به كل من عند ربنا} كلام يشعر بالتفويض والتسليم لما لم يعلموه؛ لعلمهم بأنه من عند ربهم؛ كما أن المحكم المعلوم معناه من عنده" فأثبت علمهم بالمعنى وتفويضهم وتسليمهم بالكيفية.

ومثل ذلك ما ورد من كلام ابن قدامة في "الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم": "وأما قولهم -يعني المتكلمين -إنكم فسرتم هذه الصفة (صفة الكلام). قلنا: إنما لا يجوز تفسير (أي تأويل) المتشابه الذي سكت السلف عن تفسيره (بيان حقيقته)، وليس كذلك الكلام، فإنه من المعلوم بين الخلق، لا شبهة فيه، وقد فسَّره الكتاب والسُّنة"، وهنا نجد أن ابن قدامة رحمه الله -يجعل صفة الكلام من جملة الصفات التي لم يسكت السَّلف عن بيان حقيقتها، وعلَّل ذلك بأن هذا البيان والكشف ورد دليله في الكتاب والسنة: من كونه بصوت، وأنه مسموع، وأنه بحروف وكلمات، وقد سمعه موسى عليه السلام، وسمعه نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فانتفى كونه من المتشابه المطلق؛ بل هو من المُحكم بحقيقته ومعناه، خلافاً للصفات الأخرى التي قد تشتبه حقيقتها على السامع، ولا سبيل له إلى العلم بكيفيتها؛ فتكون من المتشابه المطلق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل، وإنما سكت السلف عن بيان حقيقتها؛ لأن ذلك يدخل في الكيفية، ولا يعلم أحدٌ كيفية الباري سبحانه، ولا كيفية صفاته، ولم يرد دليلٌ ببيانها.

    وبهذا نفهم أن سكوت السلف كان على أمرٍ زائدٍ على مجرد المعنى المعهود في لغة العرب، بينما الكلام المسموع والمنطوق بحروفه وألفاظه أمر معلومٌ ضرورةً عند الكافة، بحيث لا يجهل حقيقته أحد، ولذلك فسرها بما يكشف حقيقتها لا مجرد المعنى الظاهر، لأن المعنى الظاهر معلومٌ من دون كشف ولا تفسير (تكييف).

    وأما السكوت عند ابن قدامة -فهو كما قلنا هو سكوتٌ سلفيٌّ محض ينطوي على إثبات المعاني للصفات في الجملة، ولذا نراه يقول بعد ذلك: "إنما نحن فسرناه بحمله على حقيقته: تفسيراً جاء به الكتاب والسنة وهم -أي المبتدعة -فسروه بما لم يرد به كتابٌ ولا سنة، ولا يُوافق الحقيقة، ولا يجوز نسبته إلى الله تعالى"، فذكر أن التفسير هو حملها على الحقيقة المعهودة، وبذلك نفهم تفريق ابن قدامة بين إثبات المعنى للصفة في الجملة الذي هو طريقته العامة في المتشابه، وبين إثباته للمعنى الخاص الذي لا يتطرق إليه شبهة تمثيل ولا تكييف.

ولم يكن السلف يسألون عن المعنى الظاهر؛ لأنهم يعلمونه من مجرد اللفظ؛ وقد جاء ذلك في كتابه "تحريم النظر في كتب الكلام"؛ حيث يقول: "وَأما إيمَاننَا بِالْآيَاتِ وأخبار الصِّفَات؛ فَإِنَّمَا هُوَ إِيمَان بِمُجَرَّد الْأَلْفَاظ (أي: بمعانيها الظاهرة) والَّتِي لَا شكّ فِي صِحَّتهَا، وَلَا ريب فِي صدقهَا، وقائلها أعلم بمعناها (حقيقتها وكيفيتها)، فَآمَنا بهَا على الْمَعْنى الَّذِي أَرَادَ رَبنَا تبَارك وَتَعَالَى (وهو المعنى الظاهر المتبادر)؛ فجمعنا بَين الْإِيمَان الْوَاجِب وَنفي التَّشْبِيه الْمحرم".

وهنا قضيَّة تُثار حول قول الإمام أحمد الذي نقله ابن قدامة في "لمعة الاعتقاد" عد ذكر أحاديث الصفات، وهو قوله: "نؤمن بها، ونصدق بها بلا كيف، ولا معنى، ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق"، وقد ذكر الإمام ابن قدامة نفس العبارة عنه في "تحريم النظر في علم الكلام، ولكنه قال فيها: "بلا كيف ولا معنى إلا على ما وصف به نفسه تبارك وتعالى وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير"، وكذلك قال قبلها: "بلا حدِّ ولا غاية"، وهذا يؤكد تقريرنا أن نفي الكيف هو نفي للعلم بالكيفية، ونفي المعنى إنما هو نفي التمثيل؛ ولذلك أتمَّ الإمام أحمد عبارته، بقوله: "ولا نعلم كيف ذاك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن"، وذهب بعض العلماء إلى تفسير قوله (ولا معنى) أي لا نتأولها بصرف معناها الظاهر إلى معنىً آخر ليس هو مراد الله ورسوله.

وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله عن أبي القاسم اللالكائي قوله: "مذهب السلف رحمة الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها؛ لأن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية؛ فكذلك إثبات الصفات وعلى هذا مضى السلف كلهم".

ويبدو أن ابن قدامة قد تعرَّض لحملة تشويهٍ وتشنيع من نظرائه المتكلمين الذين يؤلون الصفات -ويرون ذلك عيباً له، وكان هذا أحد الدوافع المهمة لتأليف هذا الكتاب؛ ولذا نراه يردُّ عليهم في "روضة الناظر"؛ فيقول: "ونحن وإِن عيبت علينا الْأَلْفَاظ الَّتِي آمنا بهَا فَمَا عيب إِلَّا قَائِلهَا، وَلَا كفرُوا إِلَّا بالمتكلم بهَا، وَهُوَ الَّذِي يجازيهم على كفرهم وإلحادهم".

 وكان المتكلمون من متعصبة الأشاعرة يُحاولون إلزام ابن قدامة بقضايا هو لا يؤمن بها أصلاً، من أمور الفلسفة والكلام التي لم ينطق بها شرع، ولا نزل بها وحي، من قضايا الجوهر والعرض والجسم والأجزاء والأبعاض؛ فكان رحمه الله إذا قالوا له يلزمك من إثبات هذه الصفة التجسيم، سكت عن ذلك؛ يقول ابن قدامة: "وَإِن عيب علينا السُّكُوت فَلَيْسَ السُّكُوت بقول، وَلَا ينْسب إِلَى سَاكِت قَول"؛ فهذا السكوت لم يكن التزاماً بما دعوه إليه، أو موافقةً لبعض المتكلمين الذين اتجهوا نحو تفويض المعاني.

ويزيد هذا المعنى وضوحاً وقوَّةً ما قاله في كتابه "تحريم النظر في علم الكلام": "وإن قالوا قد اعتقدتم التشبية منها فقد كذبوا علينا ونسبوا إلينا ما قد علم الله تعالى براءتنا منه، ثم ليس لهم اطلاع على قلوبنا، وإنما يعبر عما في القلب اللسان وألسنتا تصرح بنفي التشبيه والتمثيل والتجسيم فليس لهم أن يتحكموا علينا بأن ينسبوا إلينا ما لم يظهر منا ولم يصدر عنا، والإثم على الكاذب دون المكذوب كما أن حد القذف على القاذف لا على المقذوف".

وهذا السُّكوت يُشبه طريقة السلف في أن هذه الألفاظ المُجملة تحتملُ معنىً صحيحاً وآخر فاسداً؛ فاختار طريقة السكوت عنها؛ لأنها لم يرد بها كتابٌ ولا سُنة.

 ومن ثمَّ يقول بعدها: "وَإِن قَالُوا قد اعتقدتم التشبيه مِنْهَا فقد كذبُوا علينا، ونسبوا إِلَيْنَا مَا قد علم الله تَعَالَى براءتنا مِنْهُ"؛ وهذا يؤكد قضية إيمانه بالصفات لفظاً ومعنىً على طريقة السلف، كما سيذكر ذلك لاحقاً.

فالسكوت الذي قصد إليه ابن قدامة رحمه الله -هو ما كان في مقابل ذلك التأويل الباطل الذين حاولوا إلزامه به؛ ما يعني أنه يُثبت الصفة على ظاهرها، ولا يتأولها، ولذا يقول في "ذم التأويل": "ولأن الساكت عن التأويل لم يقل على الله إلا الحق، والمتأول يحتمل أنه قال على الله غير الحق ووصفه بما لم يصف به نفسه وسلب صفته التي وصف بها نفسه وهذا محرم فيتعين السكوت ويتعين تحريم التأويل".

ومن الأمور التي جادل عنها المتكلمون هو قضية قولهم: إن اللفظ يحتمل عدة معاني فلم تحملون هذه الألفاظ على ظاهر معناها دون سائر المعاني الأخرى التي يحتملها اللفظ؛ فردَّ عليهم ابن قدامة في كتابه "ذم التأويل": "ومن وجه آخر وهو أن اللفظ إذا احتمل معاني فحمله على علم منها من غير واحد بتعيينه تخرص وقول على الله تعالى بغير علم… ولأن تعيين أحد المحتملات إذا لم يكن توقيف، يحتاج إلى حصر المحتملات كلها، ولا يحصل ذلك إلا بمعرفة جميع ما يستعمل اللفظ فيه حقيقة أو مجازاً ثم تبطل جميعها إلا واحداً"؛ وهذا يعني أن الإمام ابن قدامة يُبطل جميع تلك المعاني المتأولة، ويجعل معنىً واحداً هو المُراد والمقصود، وهو ظاهر المعنى؛ إذ هو مُراد المتكلم من كلامه.

ويُبين رحمه الله أن طريقة المتكلمين -بعد إيرادهم جميع تلك المعاني المحتملة لذلك اللفظ إنما هي: نفي بعضها وإثبات بعضها، وذلك بطريق العقل! فما سمحت به أهواؤهم وأوهامهم أجازوه، وما خالفها ردُّوه، وهذا تحكُّمٌ في آيات الله وصفاته بغير وجه حق، ومن غير دليل ولا برهان، ويقول ابن قدامة في هذا المعنى في كتابه "ذم التأويل": "ثم معرفة نفي المحتملات يقف على ورود التوقيف به فإن صفات الله تعالى لا تثبت ولا تنفى إلا بالتوقيف وإذا تعذر هذا بطل تعيين مجمل منها على وجه الصحة ووجب الإيمان بها بالمعنى الذي أراده، المتكلم بها كما روي عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه إنه قال آمنت بما جاء عن الله على مراد الله وآمنت بما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وهذا الكلام من الإمام الشافعي رحمه الله كما قلنا في (القاعدة الثالث من قواعد الأسماء والصفات): يؤدي نفس الموقف المنهجي العام الذي سبق تقريره لأئمة السلف والفقهاء، من أن مراده سبحانه من كلامه هو ما يتبادر إلى الذهن من المعنى؛ إذ هو سبحانه أعلم بمن يُخاطب، ومحال أن يخاطب الله عباده بما لا يعقلونه، وقد أخبر الله عز وجل عن ذلك، فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2).

ومن الأمور التي تؤيد صحة ما ذهبنا إليه من أن الإمام ابن قدامة كان يُثبت الصفات على ظاهرها بمعانيها المعهودة، هو جوابه عن اعتراضٍ أحد المتكلمين، وذلك لما: "قيل له: فقد تأولتم آيات وأخباراً؛ فقلتم في قوله تعالى {وهو معكم أين ما كنتم} أي بالعلم ونحو هذا من الآيات والأخبار فيلزمكم ما لزمنا؟! -أجاب رحمه الله - قلنا: نحن لم نتأول شيئاً، وحمل هذه اللفظات على هذه المعاني ليس بتأويل؛ لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ بدليل أنه المتبادر إلى الأفهام منها".

فكأنه جعل ذلك التفسير الصحيح لهذه الآيات هو المعنى المتبادر منها، وهذا يؤيد طريقته في إثبات الصفات بألفاظها ومعانيها الظاهرة، بدليل إنكار المتأولين عليه ما اعتقدوه تأويلاً لبعض الحروف.

وكانت قراءة ابن قدامة لنصوص السلف من هذا الباب: من الإجراء والإمرار وعدم التعرض للكيفية قراءة موفقة تماماً، ولذلك نقرأ في كتابه "لمعة الاعتقاد" عند حديثه عن صفة الكلام الثابتة لله عز وجل، قوله: "ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يدري ما هو ولا يعقل"، ودخول أخبار الصفات فيما يعقل معناه أولي.

وإذا أردنا أن نفهم المعنى الذي كان ينفيه ابن قدامة في كلامه سواءٌ في كتابه "الاعتقاد" أو "ذم التأويل" أو "تحريم النظر في كتب الكلام" أو "روضة الناظر"؛ فلننظر إلى قوله في "ذم التأويل"؛ حيث يقول أثناء نفيه التأويل عن السَّلف: "ومن المعنى: أن صفات الله تعالى وأسماءه لا تدرك بالعقل؛ لأن العقل إنما يعلم صفة ما رآه أو رأى نظيره والله تعالى لا تدركه الأبصار"؛ فعُلم بذلك أن مقصوده بنفي المعنى هو نفي التمثيل والتشبيه، كما سبق.

وعلى هذا فلا يُشكل لدينا قول الإمام أحمد الذي أورده في اللُّمعة، عنه أنه قال: (لا كيفٌ ولا معنى)، أي: لا نُكيِّفه بكيفية مُعينة، ولا نثبت معنىً يلزم منه التمثيل للصفة؛ لأن صفات الله غيب، والغيب لا نعلمه إلا من جهة الوحي والشرع، وقيل: إن النفي للمعنى هنا: هو نفي للتأويل، والأقرب أنه نفيٌ للتمثيل -كما ذكرنا، والله أعلم.

وهو أيضاً ما يُقرره الإمام أحمد فيما نقله عنه ابن قدامة في كتابه "إثبات صفة العلو" حيث يقول: "ربنا على العرش بلا حدٍّ ولا صفةٍ"، أي بلا حدٍّ نُمثله به، ولا صفة نُكيُّفه بها، وقال الإمام أحمد فيما يُقرره أيضاً: "الله عز وجل فوق السماء السابعة على عرشه بائنٌ من خلقه، وقدرته وعلمه في كل مكان".

وعندما نقرأ في "صفة العلو" لابن قدامة عن الإمام أحمد، وقد سئل: "ما معنى قول الله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} ؟ فقال: هو على عرشه كما أخبر عز وجل، فقال: يا أبا عبد الله، ليس هذا معناه، إنما معناه: استولى، قال: اسكت، ما أنت وهذا لا يقال استولى على الشيء، أو يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى"، والشاهد من هذه الجملة أن الإمام أحمد يرى أن للاستواء معنىً معلوم، وقد فسَّره بقوله (هو على عرشه) فحمله على ظاهر المعنى، وكذلك سائر الصفات لها معنىً في اللغة نعرفها، ولكن لا نعقل كيفيته، وهو ما قصد إليه ابن قدامة عند نفيه للمعنى الذي يُفيد التمثيل.

ويذكر ابن قدامة  في ختام كتابه "العلو" عن ابن عبد البر قوله: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة"، وفي حملها على الحقيقة إثبات لها بمعانيها الظاهرة؛ لأن حقيقة الصفة تثبت بإثبات معناها، وإن كنا لا نعلم حقيقة ذلك المعنى من حيث الكيفية.

ومع كل ما قررناه؛ فقد كانت عبارات ابن قدامة في هذا الباب أكثرها مُجملة، تُشبه عبارات المفوضة في بعض حروفها لا في مقاصدها ومراميها، لأنه رحمه الله لم يكن مُفوضاً، وهذه هي القضية التي أريد التأكيد عليها.

فالحكم على الإمام ابن قدامة بمثل هذه الأحرف والعبارات المجملة دون الرجوع إلى أقواله في سائر كتبه هي محاكمة غير عادلة، ونتائجها بالطبع لن تكون منصفة ولا حقيقية، ونحن مطالبون بالتحري والاستقصاء لبيان صحة عقيدة الرجل، أما القطع ببعض العبارات الموهمة أو المبتورة على عقيدته، وجعله من المفوضة رأساً، فهذا تجنِي عليه وعلى عقيدته الصافية.

 وأكثر ما يلاحظ عليه أنه رحمه الله -لم يُحكم عبارته بالشكل المطلوب عند بيانه لعقيدة السلف، وبعبارةٍ أخرى: لم يُحسن اختيار التعابير الملائمة التي تضبط طريقة السلف في باب الصفات، بحيث ينفي عنها كل شبهةٍ أو تأويل، وأكثر هذه العبارات اشتباهاً، هو ما قاله في "لمعة الاعتقاد":  "وما أشكل من ذلك -يعني الصفات -وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله".

وقد يتبادر إلى الذهن من ظاهر هذه العبارة أن الإمام ابن قدامة يُفوِّض المعنى، وهذا غير صحيح؛ لأن الصواب أن نردُّ مشتبه كلامه رحمه الله إلى مُحكمه، وعندما نفعل ذلك؛ سنجد أنه أثبت تلك الألفاظ -أعني الصفات -بمعانيها الظاهرة والمعهودة في لغة العرب؛ ولذا نجده يقول في كتابه "ذم التأويل": "وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه حقيقةً كان أو مجازاً"؛ وإذا كان يُثبت ظاهر اللفظ؛ فهو يُثبت ما يسبق إلى الفهم منه على الحقيقة.

فإثبات الألفاظ عند متضمن لإثبات معانيها المُرادة؛ بخلاف طريقة المتكلمين الذين توهموا أن إثبات اللفظ المجرد هو نفي لما تضمنه من المعنى، على أن ابن قدامة كما قدَّمنا أراد بترك التعرض للمعنى: هو عدم التمثيل والتشبيه، ولذا قال بعدها: "ونرد علمه إلى قائله" أي علم حقيقة الصفة وكنهها، وهذا ظاهرٌ بحمد الله لمن تأمله.

ومن المحال في العقل والشرع إثبات ألفاظٍ خاليةٍ عن المعانى؛ وأما كون المعنى حقيقةً أو مجازاً فمرجعه إلى ما يسبق إليه الفهم؛ قال: "فعُلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه فلم يكن تأويلاً".

ولو قلنا إن ابن قدامة أراد بترك التعرض للمعنى -في العبارة السابقة - المعاني الذهنية؛ فليس مقصوده نفي المعنى المتبادر أو الظاهر من اللفظة، كلا! وإنما هو ترك التعرض لتأويل تلك اللفظة -إن صحَّ التعبير -إلى معنى آخر غير مُراد بالنسبة للمتكلم وهو الله سبحانه وتعالى، وإنما مُراد المتكلم هو نفس كلامه، بمعناه ولفظه، فصرفه من غير برهان ولا حُجَّة تكذيبٌ للكلام، وتقوُّلٌ على المتكلم به بغير علمٍ.

ونعود لنقول: إن طريقة ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف، هي طريقةٌ صحيحة لا غبار عليها؛ فيقول مثلاً في ذم التأويل: "وَمذهب السّلف رَحْمَة الله عَلَيْهِم الْإِيمَان بِصِفَات الله تَعَالَى وأسمائه الَّتِي وصف بهَا نَفسه فِي آيَاته وتنزيله أَو على لِسَان رَسُوله من غير زِيَادَة عَلَيْهَا وَلَا نقص مِنْهَا وَلَا تجَاوز لَهَا وَلَا تَفْسِير وَلَا تَأْوِيل لَهَا بِمَا يُخَالف ظَاهرهَا"؛ فهو يُثبت معنىً موافقاً لظاهر اللفظ، ويمنع تأويلها بما يُخالف ظاهرها، وهذه هي طريقة السلف في إثبات الصفات.

فالسلف رحمهم الله يؤمنون بالصفات، ويثبتون ألفاظها وظاهر معانيها المعهودة في لغة العرب، ولكن يقولون: (لا كيفٌ، ولا معنى) أي: لا نؤولها إلى معنى آخر غير المعنى الظاهر المتبادر منها؛ لأنه المُراد عند الإطلاق، وأما الباحث (محمد) فيختار أن قوله (ولا معنى) أي مما لا تمثيل، وكلا المعنيين صحيح.

ويُبين الإمام ابن قدامة أن تأويل الكلام وصرفه عن ظاهره يُوقع المؤول في أمرين: 

الأول: أنه وصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه.

والثاني: أنه سلب عن الله تعالى ما وصف به نفسه.

ويُعبر عن ذلك بقوله في كتابه "ذم التأويل": " ومن وجه آخر هو أن اللفظة إذا احتملت معاني فحملها على أحدها من غير تعيين احتمل أن يحمل على غير مراد الله تعالى منها؛ فيصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ويسلب عنه صفة وصف الله بها قدسه".

ويشرح لنا الإمام ابن قدامة هذا المعنى في كتابه "تحريم النظر في كتب أهل الكلام"؛ فيقول: "إن المتأول: يجمع بين وصف الله تعالى بصفة ما وصف بها نفسه ولا أضافها إليها، وبين نفي صفة أضافها الله تعالى إليه؛ فإذا قال معنى استوى (استولى) فقد وصف الله تعالى بالاستيلاء والله تعالى لم يصف بذلك نفسه، ونفى صفة الاستواء مع ذكر الله تبارك وتعالى لها في القرآن في سبعة مواضع؛ أفما كان الله سبحانه وتعالى قادراً على أن يقول استولى حتى جاء المتكلف المتأول فتطرف وتحكم على الله سبحانه وعلى رسوله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً".

ويؤكد هذا المعنى الذي ذهبنا إليه أنه ذكر جهماً الذي هو رأس المُعطلة، وأردفه بذكر المؤولة في نفس هذا الموضع؛ فيقول مُشنعاً عمَّن هذا حاله: "فيرغبُ عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلفه الصالح، وركوبه طريق جهنم وأصحابه من الزنادقة الضلال،  ولأن التأويل ليس بواجب بالإجماع لأنه لو كان واجبا لكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد أخلوا بالواجب وأجمعوا على الباطل"؛ فيُفهم منه أن المراد بالكلام السابق هو تأويل الصفات على معاني أخرى غير ظاهرها.

ولابن قدامة طريقة مُميزة في عرض العقيدة؛ حيث إنه لا بُدَّ من ثبوت الصفة حتى نثبتها لله عز وجل، فيقول في "ذم التأويل": "فمن كان من أهل المعرفة بذلك وجب عليه اتباع الصحيح واطراح ما سواه ومن كان عاميا ففرضه تقليد العلماء وسؤالهم، وإن أشكل عليه علمُ ذلك -أي إثباتاً أو نفياً لعدم معرفته بصحة الحديث أو ضعفه-ولم يجد من يسأله فليقف، وليقل آمنت بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يثبت به شيئاً ... ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم ما حدثكم به أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم… ويكفي الإنسان الإيمان بما عرف منها" أي الإيمان بما وصله منها من الأخبار.

ويبدو أن طريقة ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف كانت متأثِّرةً ببعض عبارات وألفاظ المتكلمين، والتي كان استعمالها شائعاً في تلك الفترة؛ لا سيما وأنه تمرَّس ببعض كتب أهل الكلام كالمستصفى للغزالي، الذي استفاد منه في كتابه "روضة الناظر"، ولذلك استشكل كثيرٌ من العلماء بعض عباراته في "اللمعة"، و"ذم التأويل"، وغيرها، على أن المعاني التي أراد صرف القارئ إليها صحيحة، نذكر من ذلك: قضية تعبيره بالسكوت في بعض المواضع، وهذا السكوت إنما هو على إلزامات المتكلمين الذين ابتدعوا قضايا الجوهر والعرض والجسم والحد مما يدخل في حيز تكييف الصفات، وكذلك قضية ترك التعرض لمعناه، وبيَّنا أن المراد به ترك التعرض للكيفية أو التمثيل، وبالمعنى الآخر: ترك التعرض لتأويلها بما يُخالف ظاهرها، وكذلك قوله في "لمعة الاعتقاد": "متكلمٌ بكلام قديم"، وسيأتي الجواب عليها عند مناقشة كتابه "اللمعة".

وقد أجاد رحمه الله وأفاد في الرد على المتأولين للصفات، من الأشاعرة والماتريدية، الذي كان هو مقصوده من هذا الكتاب، وكان شديداً عليهم بالحق والبيان والحجة والبرهان، وهذا ما يعنينا من هذا الكتاب القيِّم المبارك.

  • والتأويل في اللغة يُراد به ثلاث معانٍ، وهي:

1-التفسير؛ وهو البيان والإيضاح.

2-حقيقة الشيء وعاقبته وما يؤول إليه الشيء.

3-صرف اللفظ عن ظاهر معناه (وهو المعنى المبتدع حيث لا قرينة).

يقول الإمام ابن القيِّم رحمه الله في "الصواعق المرسلة": "فالتأويل في كتاب الله سبحانه وتعالى المراد به حقيقة المعنى الذي يؤول اللفظ إليه، وهي الحقيقة الموجودة في الخارج؛ فإن الكلام نوعان: خبر، وطلب. 

فتأويل الخبر هو الحقيقة، وتأويل الوعد والوعيد هو نفس الموعود والمتوعد به. (وتأويل ما أخبر الله به من صفاته وأفعاله) نفس ما هو عليه سبحانه، وما هو موصوف به من الصفات العلى. 

(وتأويل الأمر) هو نفس فعل المأمور به فهذا التأويل في كلام الله ورسوله، وأما التأويل في اصطلاح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث فمرادهم به معنى التفسير والبيان. 

ومنه قول ابن جرير وغيره: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا، يريد تفسيره، ومنه قول الإمام أحمد في كتابه في الرد على الجهمية فيما تأولته من القرآن على غير تأويله فأبطل تلك التأويلات التي ذكروها، وهي تفسيرها المراد بها وهو تأويلها عنده؛ فهذا التأويل يرجع إلى فهم المعنى وتحصيله في الذهن والأول يعود إلى وقوع حقيقته في الخارج".

وإذا كانت هذه المعاني للتأويل صحيحة، وواردة؛ فما هو المعنى المذموم للتأويل، وهل له أصلٌ في الشرع ؟

والجواب: أن التأويل المذموم: هو صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه، وما يُخالف ظاهره، وهذا هو تأويل المتكلمين، من جهمية، وأشاعرة، ومعتزلة، وغيرهم.

وهذا هوو الشائع في عرف المتأخرين من الأصوليين، ولهذا يقولون: "التأويل على خلاف الأصل والتأويل يحتاج إلى دليل، وهذا التأويل هو الذي صنف في تسويغه وإبطاله من الجانبين؛ فصنف جماعة في تأويل آيات الصفات وأخبارها كأبي بكر بن فورك، وابن مهدي الطبري وغيرهما.

 وعارضهم آخرون فصنفوا في إبطال تلك التأويلات كالقاضي أبي يعلى والشيخ موفق الدين بن قدامة وهو الذي حكى عن غير واحد إجماع السلف على عدم القول به" أي بالتأويل.

ثُمَّ قال ابن القيِّم: "فالتأويل الصحيح هو القسمان الأولان وهما: 

(حقيقة المعنى وما يؤول إليه في الخارج) أو (تفسيره وبيان معناه)، وهذا التأويل يعم المحكم والمتشابه والأمر والخبر".

بينما التأويل الباطل الذي ارتضاه المتكلمون من صرف اللفظ عن حقيقة معناه؛ هو تأويلٌ مُبتدع، لا أساس له من اللغة ولا من الشرع، بل هو اصطلاح خاص، اصطلحوا عليه بناءً على شُبهٍ عقلية واهية، جعلوها أساساً ومبرراً لهذا الاتجاه الخطير في الاعتقاد.

والغرض من هذا التأويل هو نفي الصفات، ويكفي لبطلانه أنه يتضمن تكذيب الله ورسول فيما أخبرا به من الصفات، ولذلك اهتم السلف بتفنيد شبه هؤلاء القوم، ورد ادعاءاتهم الباطلة بطرق شرعية لا غبار عليها، وكانوا يُحذرون م الخوص معهم في الكلام، ولو لمجرد الرد عليهم.

وقد بيَّن الإمام ابن قدامة عن مقصده من تأليف هذه الرسالة، وأوضح أن التابع يكون مع متبوعه يوم القيامة، وأن على الإنسان أن يختار متبوعه بعد أن يعلم أنه سيكون ملازماً له؛ فقال: " فَإِنِّي أَحْبَبْت أَن أذكر مَذْهَب السّلف وَمن اتبعهم بِإِحْسَان رَحْمَة الله عَلَيْهِم فِي أَسمَاء الله تَعَالَى وَصِفَاته ليسلك سبيلهم من أحب الإقتداء بهم والكون مَعَهم فِي الدَّار الْآخِرَة؛ إِذ كَانَ كل تَابع فِي الدُّنْيَا مَعَ متبوعه فِي الْآخِرَة ".

ثُمَّ يٌقرر منهجه الذي استند إليه في ذم التأويل وتحريمه بناءً على أن السَّلف الصالح لم يؤلوا هذه الصِّفات، ولو أوَّلوا لنُقل ذلك عنهم؛ فقال رحمه الله: "ولأن السلف رحمة الله عليهم لا يخلوا إما أن يكونوا علموا تأويل هذه الصفات أو لم يعلموه فإن لم يعلموه فكيف علمناه نحن وإن علموه فوسعهم إن يسكتوا عنه وجب أن يسعنا ما وسعهم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم من جملة سلفنا الذين سكتوا عن تفسير الآيات والأخبار التي الصفات وهو حجة الله على خلق الله أجمعين يجب عليهم اتباعه ويحرم عليهم خلافه".

ويقول رحمه الله في موضعٍ آخر، مؤكداً على قضية تحريم التأويل وصرف اللفظ عن ظاهر معناه، أو تفسيره بمعنى آخر غير الظاهر منه: "وقد تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات وأخبر بالأخبار وبلغها أصحابه وأمرهم بتبليغها، ولم يفسرها، ولا أخبر بتأويلها، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة بالإجماع؛ فلو كان لها تأويل لزمه بيانه، ولم يجز له تأخيره.

ومن الإجماع؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ترك التأويل بما ذكرناه عنهم وكذلك أهل كل عصر بعدهم ولم ينقل التأويل إلا عن مبتدع أو منسوب إلى بدعة.

ومن بعدهم من الأئمة قد صرحوا بالنهي عن التفسير والتأويل وأمروا بإمرار هذه الأخبار كما جاءت".

ويعود مرةً أخرى لتقرير منهجه في تحريم التأويل، وذمه، بعبارة أشدُّ وأغلظ، مُبيناً أن هذا النهج لا يُعرف عن سلف هذه الأمة، وأن الذين يبتغون الفتنة في الدين بتفسير المتشابه وصرف آيات الله عن غير ظاهرها إنما هم المتكلمون؛ فيقول: "ولأن تأويل هذه الصفات لا يخلوا إما أن يكون علمه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وعلماء أصحابه أو لم يعلموه فإن لم يعلموه فكيف يجوز أن يعلمه غيرهم؟ وهل يجوز أن يكون قد خبأ عنهم علما وخبأ للمتكلمين لفضل عندهم ؟!

وإن كانوا قد علموه ووسعهم السكوت عنه وسعنا ما وسعهم، ولا وسَّع الله على من لم يسعه ما وسعهم؛ ولأن هذا التأويل لا يخلوا من أن يكون داخلاً في عقد الدين بحيث لا يكمل إلا به، أو ليس بداخل.

فمن ادعى أنه داخلٌ في عقد الدين لا يكمل إلا به؛ فيقال له: هل كان الله تعالى صادقا في قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} قبل التأويل أو أنت الصادق في أنه كان ناقصاً حتى أكملته أنت ؟!!

 ولأنه إن كان داخلاً في عقد الدين ولم يقبله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه وجب أن يكونوا قد أخلوا ودينهم ناقص، ودين هذا المتأول كامل، ولا يقول هذا مسلم. 

ولأنه إن كان داخلاً في عقد الدين ولم يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته، فقد خانهم وكتم عنهم دينهم، ولم يقبل أمر ربه في قوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}، وقوله {فاصدع بما تؤمر}".

ثُمَّ يُطلق رحمه الله صرخة تحذيرٍ من صحبة أهل البدع والزيغ، داعياً إلى اتباع طريق السلف الصالح، الذين وقفوا على حدود الوحي ولم يتجاوزوه إلى ما يُخالفه، لأن النجاة في التمسُّك والاتباع، ومجانبة الجنوح والابتداع؛ فقال: "وَجَاء فِي الْخَبَر أَن الله يمثل لكل قوم مَا كَانُوا يعْبدُونَ فِي الدُّنْيَا من حجر أَو شجر أَو شمس أَو قمر أَو غير ذَلِك ثمَّ يَقُول أَلَيْسَ عدلا مني أَن أولي كل إِنْسَان مَا يَتَوَلَّاهُ فِي الدُّنْيَا، ثمَّ يَقُول لتتبع كل أمة مَا كَانَت تعبد فِي الدُّنْيَا فيتبعونهم حَتَّى يهوونهم فِي النَّار، فَكَذَلِك كل من اتبع إِمَامًا فِي الدُّنْيَا فِي سنة أَو بِدعَة أَو خير أَو شَرّ كَانَ مَعَه فِي الْآخِرَة فَمن أحب الْكَوْن مَعَ السّلف فِي الْآخِرَة وَأَن يكون موعودأ بِمَا وعدوا بِهِ من الجنات والرضوان فليتبعهم بِإِحْسَان وَمن اتبع غير سبيلهم دخل فِي عُمُوم قَوْله تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى} (النِّسَاء 115)".

وقد بيَّن رحمه الله في بداية كتابه خطته التي يسير عليها في هذا الكتاب؛ فقال على سبيل الإجمال: "وَجعلت هَذَا الْكتاب على ثَلَاثَة أَبْوَاب: 

الْبَاب الأول فِي بَيَان مَذْهَب السَّلف وسلوك سبيلهم.

وَالثَّانِي: فِي الْحَث على اتباعهم وَلُزُوم أَثَرهم.

وَالثَّالِث: فِي بَيَان صَوَاب مَا صَار إليه السَّلف وَأَن الْحق فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ" وبين ذلك بالأدلة الجليلة، والحجج المرضية، من الكتاب والسنة والإجماع.

وقد حاول ابن قدامة أن يُبين منهج السَّلف في الصفات مُستعيناً بنقولات مجملة عن السلف؛ ونهيهم عن الخوض في المتشابه، فذكر قصة صُبيغ مع عمر بن الخطاب، وكلام الإمام الشافعي، وكلام مالك في الاستواء، وغيرهم من الأئمة والعلماء أصحاب الكتب والمصنفات الآمرة بالإمرار والإقرار، وعدم التعرض للكيفية. 

إلى هنا، والحمد لله رب العالمين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق