لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد
للإمام العلامة موفق الدين
عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا كتابٌ مختصرٌ في لفظه، كبيرٌ في معناه، وضع فيه الإمام ابن قدامة إضاءات، وإشارات مجملة في بعض قضايا الاعتقاد: بيَّن فيه ما يجب على المؤمن اعتقاده من صفات الربِّ سبحانه، فقال في أول كتابه:
"إن الله سبحانه موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم، وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل".
ثم ذكر رحمه الله كلاماً مجملاً للأئمة في إثبات الصفات، مثل: الإمام أحمد، والشافعي، ومالك، ثم قال: "وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم، كلهم متفقون على الإقرار والإمرار، والإثبات، لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله. وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم، والاهتداء بمنارهم".
ثم شرع رحمه الله في سرد عبارات مأثورة عن السَّلف من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين الآمرة بالاتباع وعدم الابتداع، لا سيما في باب الاعتقاد؛ لأنه المنهج الأقوم الذي يشتمل على السلامة من الزيغ، والنجاة من الهلاك، فذكر آثاراً، عن عبد الله بن مسعود، وأبي عمر الأوزاعي، وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن عبد الرحمن الأدرمي.
ثم عقد فصلاً في بيان صفات الباري عز وجل الواردة في الكتاب والسنة، والتي فيها إثبات صفة الوجه، واليدين، والنفس، والمجيء والإتيان، والرضى، والمحبة، والغضب، والسخط، والكره، والنزول، والعجب، والضحك، وغيرها.
وتحدث بعدها عن صفة الكلام الثابتة لله عز وجل، وبيَّن أن القرآن كلام الله تعالى، لفظاً ومعنى، تكلم به بحرفٍ وصوت، وأنه: "نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود".
ثم جاء بعدها بأحاديث الرؤية، وأن الله عز وجل فعالٌ لما يُريد، وأتبع ذلك بالإيمان بالقدر، وأن الإيمان قولٌ وعمل، يزيد وينقص.
ومن ثمَّ الإيمان بالمغيبات، ومنها: أشراط الساعة من نزول عيسى بن مريم، وخروج الدجال، والدابة، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، والإيمان بأمور الآخرة وأحوال القيامة: من سؤال القبر، ونعيمه وعذابه، والبعث، والحشر، والنفخ في الصور، والميزان، والجنة، والنار، وعقيدة ختم النبوة، واعتقاد فضل الصحابة، وأن فضلهم على ترتيب الخلافة، ومن ثم العشرة المبشرين بالجنة، وغيرهم ممن شهد له النبيُّ بالجنة.
ثُمَّ عقد فصلاً في عدم تكفير أهل القبلة بالذنوب؛ فقال: "ولا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا من جزم له الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء. ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه عن الإسلام بعمل، ونرى الحج والجهاد ماضيان، مع طاعة كل إمام، براً كان أو فاجرا، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة".
وبعد ذلك تحدث عن أمهات المؤمنين والترضي عنهن، وأنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، وختم بوجوب هجران أهل البدع، وجواز اتباع أي واحدٍ من مذاهب الأئمة الفقهاء الأربعة من غير إلزام.
ألفاظ مشكلة وردت في كتاب "لمعة الاعتقاد":
وردت في كتاب "اللمعة" بعض الألفاظ المشكلة التي حيَّرت بعض العلماء والشُّراح والنُّظار؛ لأنهم لم يعرفوا طريقة ابن قدامة في كتبه؛ فعدَّها البعض دليلاً على أن ابن قدامة من المُفوِّضة، وهذا خطأ كبير، وإنما كانت تعبيرات ابن قدامة مجملة، ومشابهة لبعض ألفاظ السلف، وليست من باب التفويض، ولذا نراه يقول في كتابه "ذم التأويل":
"وَمذهب السّلف رَحْمَة الله عَلَيْهِم الْإِيمَان بِصِفَات الله تَعَالَى وأسمائه الَّتِي وصف بهَا نَفسه فِي آيَاته وتنزيله أَو على لِسَان رَسُوله من غير زِيَادَة عَلَيْهَا وَلَا نقص مِنْهَا وَلَا تجَاوز لَهَا وَلَا تَفْسِير وَلَا تَأْوِيل لَهَا بِمَا يُخَالف ظَاهرهَا، بل أمروها كَمَا جَاءَت وردوا علمهَا إِلَى قَائِلهَا وَمَعْنَاهَا إِلَى الْمُتَكَلّم بهَا… وَعَلمُوا أَن الْمُتَكَلّم بهَا صَادِق لَا شكّ فِي صدقه فصدقوه وَلم يعلمُوا حَقِيقَة مَعْنَاهَا فَسَكَتُوا عَمَّا لم يعلموه".
أما طريقة ابن قدامة التي قررها في كتبه؛ فهي كما يلي:
أولاً: طريقته في النفي:
- إذا قال ننفي المعنى: فإنما يقصد التكييف.
- وإذا قال: ننفي التفسير: فإنما يقصد التأويل.
- وإذا قال: ننفي التأويل: فإنما يعني الكيفية، أو نفي صرف المعاني عن ظاهرها.
ثانياً: طريقته في الإثبات:
- إذا أثبت اللفظ: فهو يثبت المعنى المتبادر منه ضرورةً، وإن لم يُصرح بذلك، وقد يُصرح.
وقد تضمنت كتبه إثبات معاني الصفات المتبادرة من الألفاظ، ومن شواهد ذلك، قوله في "ذم التأويل"، مُبيناً مذاهب السلف في صفات الله عز وجل: "بل أمروها كما جاءت، وردُّوا علمها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلم بها… وعلموا أن لمتكلم بها صادق لا شك في صدقه؛ فصدقوه، لم يعلموا حقيقة معناها"؛ فالمعنى المفوض هنا هو العلم بالكيفية والكُنه. أما المعنى المتبادر إلى الذهن -الذي يُنكره لمفوضة -فهو مُثبتٌ له.
وقال أيضاً في "ذم التأويل": "والتأويل صرف اللفظ عن ظاهره، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ بدليل أنه المتبادر إلى الأفهام منها"، وهو يثبت هذه الألفاظ بظاهرها.
وقد فصَّلتُ ذلك عند حديثي عن كتاب "ذم التأويل" لابن قدامة، وبينت جميع العبارات المشكلة في كتبه.
ومن العبارات المشكلة في اللُّمعة"؛ قوله: "متكلمٌ بكلامٍ قديم".
وهذه العبارة تُشبه عبارات المتكلمين القائلين بالكلام النفسي، إلا أنه رحمه الله لا يقول بالكلام النفسي، وإنما أثبت أن كلام الله تعالى كان بحرفٍ وصوت، وأثبت ذلك في كتابه "تحريم النظر في كتب أهل الكلام"؛ فقال: "وقد جاء ذكر الصوت مُصرحاً به في الأخبار الواردة".
ومعنى كلامه أنه سبحانه مُتصفٌ بصفة الكلام، وأن الكلام باعتبار النوع قديم، وباعتبار الآحاد فهو حادث، وبالجملة فهذا مأخذٌ لفظي لا عبرة فيه، وهو مُوهمٌ أيضاً؛ لأن بعض من يقرأ ذلك من الأشاعرة سيظنُّه وافقهم في معنى الصفة، وليس كذلك.
ومن العبارات المشكلة في اللُّمعة"؛ قوله: "فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً".
وقد انتقد بعض الناس قوله (وكسباً)، وظنَّ أن في الشيخ ابن قدامة شُبهةٌ أشعرية، وذلك لذكر الكسب؛ لأن الأشارعة يقولون: ليس للعبد فعلٌ على الحقيقة، وإنما هو كسب، ويُسمى فاعلاً مجازاً، ولا شك أن تفسير الأشاعرة للكسب هو تفسيرٌ جبري؛ والحق أن أفعال العباد من تحصيلهم وفعلهم، فالإنسان له فعلٌ على الحقيقة، وله قدرة على الفعل قبل الفعل، بخلاف الأشاعرة الذين يقولون أنه ليس له قدرة عليها قبل الفعل، وإنما توجد مع الفعل فقط.
وهذا أيضاً يُعد مأخذاً لفظياً لا حقيقياً، وهو قد جمع بين الفعل والكسب، ولا تعارض في هذا الموضع، وقد ذكر قبلها قوله سبحانه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}.
وجملة القول:
أن ما ورد عن السلف رحمهم الله تعالى في (نفي المعنى) لا يخلو من حالتين:
الأولى: أن يكون نفي المعاني المبتدعة المحرفة التي يُسميها أصحابها "تأويلاً"، وهو الذي فهمه بعض شُراح "اللُّمعة" من هذا النفي.
الثانية: أن يكون المراد نفي التكييف، وهو الذي قصد إليه ابن قدامة، والمراد من كتبه.
وأما ما ورد عن السلف من نفي التفسير؛ فيُحمل على أحد أمرين:
الأول: التحريف المعنوي بالتفاسير المبتدعة التي ادعاها الجهمية والمعطلة؛ وذلك بصرف اللفظ عن ظاهره، وهو مُراد ابن قدامة في كتبه، وهو مراد محمد بن الحسن الشيباني، وأحمد، وغيرهما.
الثاني: التكييف الذي يُحوال أهل التمثيل إثباته؛ كقول أبي عُبيد في "الصفات للدارقطني": "إذا قيل: كيف يضع الرب قدمه على النار، وكيف ضحك؟ قلنا: لا يُفسر هذا، ولا سمعنا أحداً يُفسره"، وروى الدارقطني في "الصفات" عن سفيان بن عُيينة، قال: "كل ما وصف الله به نفسه في القرآن؛ فقراءته تفسيره لا كيفٌ ولا مثلٌ"..
وما ورد عن السلف من (السكوت) ليس هو السكوت المطلق الذي يدعيه أهل التجهيل:
بل هو سكوتٌ مُقيَّدٌ بأمرين:
الأول: أنه سكوتٌ بعد تصديق النص، والإفتاء بما دل عليه، كما دل عليه قول أبو عُبيد: "نصدق بها ونسكت"، وقول محمد بن الحسن: "ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم اسكتوا".
الثاني: أنه سكوتٌ عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسانٍ من مقالات أهل البدع وتفسيراتهم الضالة والمنحرفة، كما دل عليه قول أبي عُبيد: "ما أدركنا أحداً يُفسر منها شيئاً"، وقول الإمام مالك: "أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان".
وما ورد عن السلف من (التفويض) فإن إطلاقهم له في أحد أمرين:
الأول: تفويض عام، وهو تفويض كيفية الباري جل وعلا، وردِّ علم كنهها وماهيتها إليه سبحانه وتعالى، ولهذا اشتدَّ نكيرهم على من سأل عن الكيفية، أو حكاها نفياً أو إثباتاً، كما جاء في أثر مالك وسؤال الرجل عن الاستواء، وهذا النوع هو الذي عناه الإمام أحمد، والموفق وغيرهما، لأن الكلام في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات، فكما لا نعقل الذات، كذلك لا نعقل الصفات.
الثاني: تفويض خاص في نصوص مُعينة اشتبهت اشتباهاً خاصاً على شخصٍ مُعين، فالواجب عليه تفويض معنى ذلك النص إلى الله تعالى حتى يتبين له؛ فهذا النوع مُقيَّدٌ:
1-بنصٍّ مُعين، وليس عاماً في جملة النصوص.
2-بشخصٍ مُعين، وليس حكماً عاماً على الأمة.
3-بزمنٍ مُعين؛ فمتى استبان له المعنى لزمه اعتقاده.
ويمكن أن نجعل قول ابن قدامة في أول كتابه "اللُّمعة" من هذا الباب: "وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله اتباعا لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (آل عمران:7)"، ولكن سبق لنا أن قلنا: أن إثبات الألفاظ مُتضمنٌ لإثات معناها ودلالاتها، والاشتباه هنا قد يكون في تعيين المعنى المراد لا في إثبات أصل المعنى؛ فتنبه.
وقد ألمح الشيخ العثيمين في "شرح اللمعة" (ص 18) إلى هذا المعنى الذي قدمناه؛ فقال: إن الوضوح والإشكال في النصوص الشرعية أمرٌ نسبي، يختلف به الناس بحسب العلم والفهم، فقد يكون مشكلاً عند شخص ما، وهو واضحٌ عند شخصٍ آخر، والواجب عند الإشكال اتباع ما سبق من ترك التعرض له، والتخبط في معناه، أما من حيث واقع النصوص الشرعية فليس فيها بحمد الله ما هو مشكل لا يعرف أحدٌ من الناس معناه، فيما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم؛ لأن الله وصف القرآن بأنه نورٌ مُبين، وبيان للناس، وفرقان، وأنه أنزله تبياناً لكل شيء، وهدىً ورحمة، وهذا يقتضي أن لا يكون في النصوص ما هو مشكل بحسب الواقع، بحيث لا يُمكن أحداً من الأمة معرفة معناه".
وبذلك نتبين -بحمد الله -موافقة هذه الآثار المروية عن السلف وتناسبها وانسجامها، فالبيان مُتحقق، والمعنى معقول، والإعراض عن الأقوال المبتدعة هو أنجع وسيلةٍ لإماتتها.
ولكتاب لمعة الاعتقاد شروحٌ كثيرة ومتنوعة، نذكر منها:
-تعليق مختصر العثيمين.
-شرح اللمعة؛ لصالح الفوزان.
-الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد؛ لعبد الله الجبرين.
- تيسير لمعة الاعتقاد؛ لصالح المحمود.
- الإسعاد؛ عبد الرزاق الجزائري.
- شرح ناصر العقل.
- شرح محمد حسن عبد الغفار.
- شرح أحمد بن عمر الحازمي.
-شرح عبدالرحمن البراك
- شرح عبدالرحمن السويلم
-شرح عمر بن سعود العيد
- شرح عبدالعزيز بن محمد السعيد
- شرح عبدالمجيد العقل
-شرح خليل بن سليمان المديفر
-شرح حمد بن عبدالمحسن التويجري
- شرح سيف بن منصور الحارثي
- شرح سعد بن سعيد الحجري
- شرح خالد بن عبدالله المصلح
- شرح محمد بن أحمد الخصي
- شرح أيمن عسكر
- شرح يوسف الغفيص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق