إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبيِّ صلى الله عليه وسلم
الإمام العلامة محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ)
قدم له وعلَّق عليه وخرج أحاديثه
أبو عُبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
دار المنار -الرياض، الطبعة الأولى، 1992 م
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة
تمهيد/ هذه رسالة عظيمة من أهم الرسائل التي توضح موقف آل البيت رضوان الله عليهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اعتنى صاحبها بذكر نقولاتهم وأقوالهم الثابتة عنهم في كتبهم، والدالة على تعظيم الصحب الكرام وإجلالهم، وتوقيرهم، ومدى محبتهم لهم، وهي أقوالٌ مُستفيضةٌ عن أعلامهم المُزكَّين من شيعة زيد بن علي، والتي بلغت حدَّ التواتر، وقد نقل فيها عنهم من اثني عشر طريقاً صحيحاً: أمرهم بعدم ذكر الصحابة بسوء أو التعرض لهم بالسب والثلب.
وبيَّن الإمام الشوكاني رحمه الله أن من أحطِّ الأكاذيب وأرذلها هو ما يزعمه الروافض أن هنالك عداوة بين أهل البيت وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يُضمرون العداوة لبعضهم البعض !! ولا شك أن هذا محض افتراء وكذب، وهذه أقوال أئمة أهل البيت شاهدةٌ عليهم.
والحق أن آل البيت والصحب الكرام كانوا في قمة من الرُّقي في محبتهم وتعاضدهم وتعاونهم على البرِّ والتقوى، كما قال الله عز وجل عنهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29).
وقد كان الصحب والآل خيرة الناس بعد الأنبياء والرُّسل، وقد قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110)، وهم طليعة هذه الأمة، وأسبق الناس إلى الإيمان والخير، وأنسبهم إلى هذا الشرف والرفعة.
وقد عدَّلهم الله عز وجل في كتابه، وشملهم بالفوز والرضى والقبول، فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 100)، ولذلك فقد قرر الإمام الشوكاني في "ِشرح المُنتقى"، وغيره: أن جهالة الصَّحابيِّ لا تضر، وهي مقبولة، كما هو مذهب جماهير أهل السنة والجماعة.
وقد قال الله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر: 8 -10).
قال الإمام الشوكاني في "فتح القدير" عند هذه الآيات: "فمن لم يستغفر للصحابة، ويطلب رضوان الله عليهم، فقد خالف ما أمر الله به في هذه الآية؛ فإن وجد في قلبه غلاً لهم؛ فقد أصابه نزغٌ من الشيطان، وحلَّ به نصيبٌ وافرٌ من عصيان الله تعالى، بعداوة أوليائه وخير أمة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وانفتح له بابٌ من الخذلان، ما يفد به على نار جهنَّم إن لم يتدراك نفسه باللجوء إلى الله سبحانه والاستغاثة به، بأن ينزع من قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم، فقد انقاد للشيطان بزمام ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعَّلم من الرافضة، أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر، وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن رتبة إلى رتبة، حتى صاروا أعداء كتاب الله، وسنة رسوله، وخير أمته، وصالحي عباده، وسائر المؤمنين".
وأما الطعن في الصحابة وثلبهم، وغمزهم؛ فهو مذهب الرافضة الخبثاء؛ وقد قال الإمام الشوكاني رحمه الله في كتابه "وبل الغمام وشفاء الأوام": "والحاصل أنَّ من صار من أتباع أهل البيت مشغولاً بسبِّ الصحابة وثلبهم، والتوجُّع منهم؛ فليس هو مذهب أهل البيت، بل هو رافضيٌّ، خارجٌ عن مذهب جماعتهم، وقد ثبت إجماعهم من ثلاثة عشر طريقةً؛ كما أوضحتُ ذلك في الرسالة التي سميتها: (إرشاد الغبي في مذهب أهل البيت في أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم) أنهم لا يسبون أحداً من الصحابة، الذين هم أهل السوابق والفضائل، وقد قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة: من زعم أن أحداً من آبائي يسبُّ أحداً من الصحابة؛ فهو كذاب، أو كما قال. وقد جرت عوائد الله عز وجل فيما شاهدناه في أهل عصرنا: أنه لا يُفلح من شغل نفسه بسبِّ الصحابة والعداوة لهم في دينه ولا دنياه".
قصَّة هذا الكتاب وما لقيه الإمام الشوكاني من شيعة اليمن:
ولما وضع الإمام الشوكاني هذه الرسالة ثارت عصبيَّة الروافض في بلاد اليمن، وقد وصف الإمام الشوكاني ذلك بنفسه؛ في كتابه "البدر الطالع"؛ فقال: "وَلما ألفت الرسَالَة التي سميتها (إرشاد الغبي إِلَى مَذْهَب أهل الْبَيْت في صحب النبي) ونقلت إجماعهم من ثَلَاث عشرَة طَريقَة على عدم ذكر الصَّحَابَة بسبٍ، أو ما يُقَارِبه وَقعت هَذِه الرسَالَة بأيدي جمَاعَة من الرافضة الَّذين بِصَنْعَاء الْمُخَالفين لمذاهب أهل الْبَيْت؛ فجالوا وصالوا وتعصبوا وتحزبوا، وَأَجَابُوا بأجوبة لَيْسَ فِيهَا إِلَّا مَحْض السباب والمشاتمة، وَكَتَبُوا أبحاثاً نقلوها من كتب الإمامية والجارودية، وَكَثُرت الْأَجْوِبَة حَتَّى جَاوَزت الْعشْرين، وأكثرها لَا يُعرف صَاحبه واشتغل النَّاس بذلك أَيَّامًا، وَزَاد الشَّرّ وعظمت الْفِتْنَة؛ فَلم يبْق صَغِير وَلَا كَبِير وَلَا إمام وَلَا مَأْمُوم الا وَعِنْده من ذَلِك شيء، وَأَعَانَهُمْ على ذَلِك جمَاعَة مِمَّن لَهُ صولة ودولة، ثمَّ إن تِلْكَ الرسَالَة انتشرت فِي الأقطار اليمنية، وَحصل الِاخْتِلَاف في شَأْنهَا، وتعصب أهل الْعلم لَهَا وَعَلَيْهَا؛ حَتَّى وَقعت الْمُرَاجَعَة والمجاوبة وَالْمُكَاتبَة في شَأْنهَا في الْجِهَات التهامية، وكل من عِنْده أدنى معرفَة يعلم أَنى لم أذكر فِيهَا إلا مُجَرّد الذبِّ عَن أَعْرَاض الصَّحَابَة الَّذين هم خير الْقُرُون مُقْتَصراً على نُصُوص الْأَئِمَّة من أهل الْبَيْت ليَكُون ذَلِك أوقع في نفوس من يكذب عَلَيْهِم وينسب الى مذاهبهم ما هم مِنْهُ بُرَآء".
ويذكر الإمام الشوكاني رحمه الله الموقف المتخاذل والمُهين الذي وقفه بعض علماء أهل السنة ببلده، وكيف أنهم تنكروا له في موقفٍ كان يجب عليهم نُصرته فيه، لأنه يذُبُّ عن أعراض الصَّحابة، وكلُّ ذلك بسبب تسلُّط العامَّة عليهم، وما يُكنُّه بعض جهلة المُتفقهة من الحقد الأعمى والحسد للإمام؛ فيقول:
"وَلَكِن كَانَ أهل الْعلم يخَافُونَ على أنفسهم، ويحمون أعراضهم، فيسكتون عَن الْعَامَّة، وَكَثِيرًا مِنْهُم كَانَ يصوبهم مداراة لَهُم وَهَذِه الدسيسة هي الْمُوجبَة لاضطهاد عُلَمَاء الْيمن، وتسلط الْعَامَّة عَلَيْهِم، وخمول ذكرهم، وَسُقُوط مَرَاتِبهمْ؛ لأَنهم يكتمون الْحق، فإذا تكلم بِهِ وَاحِد مِنْهُم، وثارت عَلَيْهِ الْعَامَّة صانعوهم وداهنوهم وأوهموهم أنهم على الصَّوَاب؛ فيتجرأون بِهَذِهِ الذريعة على وضع مقادير الْعلمَاء، وهضم شَأْنهمْ، وَلَو تكلمُوا بِالصَّوَابِ أَو نصروا من يتَكَلَّم بِهِ، أَو عرفُوا الْعَامَّة إذا سألوهم الْحق، وزجروهم عَن الِاشْتِغَال بِمَا لَيْسَ من شَأْنهمْ؛ لكانوا يداً وَاحِدَة على الْحق، وَلم يسْتَطع الْعَامَّة وَمن يلْتَحق بهم من جهلة المتفقهة إثارة شيء من الْفِتَن؛ فَإنَّا لله وَإِنَّا إليه رَاجِعُون".
ويكشف لنا الإمام الشوكاني ما حصل من بعض أقرانه وشيوخه ممن كان يحسبهم على خيرٍ وسُنَّة، فإذا هم يُمالئون أهل البدع في الطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيقول:
"وَكَانَ تأليفي لتِلْك الرسلة فِي سنة (1208 هـ)، وَمن جملَة من اشْتغل بهَا فُقَهَاء ذمار، وَقَامُوا وقعدوا، وكانوا يسْأَلُون صَاحب التَّرْجَمَة (يعني: السَّيِّد الْحُسَيْن بن يحيى بن إبراهيم الديلمي الذمّاري) عَن ذَلِك، ويتهمونه بالموافقة لما في الرسَالَة؛ لما يعلمونه من الْمَوَدَّة الَّتِي بيني وَبَينه؛ فسلك مَسْلَك غَيره مِمَّن تقدمت الإشارة إليهم من أهل الْعلم، بل زَاد على ذَلِك فحرَّر جَوَاباً طَويلاً على تِلْكَ الرسَالَة، موهماً لَهُم أَنه قد أنكر بعض مَا فِيهَا؛ فَلَمَّا بلغني أَنه أجَاب ازْدَادَ تعجُّبي؛ لعلمي أَنه لَا يجهل مثل ذَلِك، وَلَا يخفى عَلَيْهِ الصَّوَاب؛ فَلَمَّا وقفت على الْجَواب وَهُوَ في كراريس رَأَيْته لم يبعد عَن الْحق، وَلكنه قد أثار فتْنَةً بجوابه؛ لظن الْعَامَّة وَمن شابههم أَن مثل هَذَا الْعَالم الَّذِي هُوَ ليس من المجيبين: لَا يُجيب إلا وَمَا فعلته مُخَالف للصَّوَاب؛ فأجبت عَلَيْهِ بِجَوَاب مُخْتَصرٍ تناقله المشتغلون بذلك، وَفِيه بعض التخشين، ثمَّ إنه عافاه الله اعتذر إليّ مَرَّات، وَلم اشْتغل بِجَوَاب على غَيره؛ لأَنهم لَيْسُوا بَاهل لذَلِك وفي الجوابات مَالا يقدر على تحريره إلا عَالم، وَلَكنهُمْ لم يسموا أنفسهم؛ فَلم اشْتغل بِجَوَاب من لَا أعرفهُ.
إلا أَنه وَقع في هَذِه الْحَادِثَة من بعض شيوخي مَا يقْضى مِنْهُ الْعجب، وَهُوَ أَنه بلغني أَنه من جملَة المجيبين؛ فَلم اصدق لعلمي أَنه مِمَّن يعرف الْحق، وَلَا يخفى عَلَيْهِ الصَّوَاب، وَله معرفَة بعلوم الْكتاب وَالسّنة، فَبعد أَيَّام وقفت على جَوَابه بِخَطِّهِ فَرَأَيْتُ مَالا يُظَنُّ بِمثلِهِ من المجازفة في الْكَلَام، والاستناد إلى نقُولٍ نقلهَا من كتب رافضة الإمامية والجارودية، وقررها ورجحها، وَأَنا أعلم أَنه يعلم أَنَّهَا بَاطِلَة، بل يعلم أَنَّهَا مَحْض الْكَذِب، وليته اقْتصر على هَذَا، وَلكنه جَاءَ بعبارات شنيعة وتحامل عليّ تحاملاً فظيعاً.
وَالسَّبَب أَنه أصلحه الله نظر بعض وزارء الدولة وَقد قَامَ في هَذِه الْحَادِثَة وَقعد، وأبرق وأرعد، فخدم حَضرته بِتِلْكَ الرسَالَة الَّتِي جنا بها على أَعْرَاض الصَّحَابَة فضلاً عَن غَيرهم فَمَا ظفر بطائل".
ولم يقف تشنيع أهل الباطل وردودهم على الإمام الشوكاني إلى حدِّ الإجابة على رسالته هذه، حتى رموه بالنَّصب!! وعداوة أهل البيت، مما جعله يؤلف كتاباً فيه مناقب كل من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيهم، وسماه (درُّ السحابة في مناقب القرابة والصحابة)، وكان ذلك لمجابهة تيارين خاطئين: تيار النواصب الذي يكره أهل البيت رضوان الله عليهم، وتيار الرووافض الذي يسبُّ أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فسلك رحمه الله سلوك المصلح المُرشد لهؤلاء وهؤلاء، وهو سبيل الإنصاف والعدل؛ مُستدلاً على فضائل القرابة والصحابة بالأحاديث التي عني بتحقيقها أيما عناية.
ولا عجب أن ترى ذلك الموقف المتخاذل والمُثبِّط من أقرب الناس، وممن عرف بالاشتغال بالعلم من أهل السُّنة، فإن الابتلاء هو سُنَّة الله في خلقه، وقد قال الله عز وجل: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 42)، والعالم المُنصف في غُربةٍ، لا يزال يُكابد الشدائد، ويُجاهد واحداً بعد واحد، و {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (الروم: 4)، و {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10).
وابتدأ الإمام الشوكاني رحمه الله كتابه هذا: بحمد الله والثناء عليه لما هداه من الترضي والترحُّم على أول هذه الأمَّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه براعةٌ منه في الاستهلال، ومن ثمَّ ذكر آيةً تؤيد ذلك، وثناه بحديث (لا تسبُّوا أصحابي)، وأردفه بنقل إجماع آل البيت على تعظيم الصحابة، وختم بنصيحةٍ توجَّه بها إلى أولئك الشيعة الذين يسبُّون الصحابة بغير وجه حق أنه إذا لم يسعهم الترضِّي عنهم، والاستغفار لهم، فليسعهم السكون كما سكت غيرهم.
ثُمَّ شنع رحمه الله على من يثلب أكابر الصحابة من الإمامية وغيرهم ممن يقول إن هذا مذهب أهل البيت! وما هو بمذهبهم ولا اعتقادهم، وذكر إجماع أهل البيت على تحريم سبِّ الصحابة، وسرده من اثنتي عشر طريقاً؛ ونذكرها على سبيل الإجمال:
1-عن الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني الزيدي (ت 421 هـ) من أبناء زيد بن الحسن العلوي؛ وقد روى عن جميع آبائه تحريم سب صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، حكى عنه ذلك صاحب (حواشي الفصول).
2-الإمام المنصور عبد الله بن حمزة بن سليمان الزيدي (ت 614 هـ)، ذكرها في المسائل التُّهامية تحريم سب الصحابة، وقال: "وهذا ما يقضي به علم آبائنا إلى عليٍّ عليه السلام"، وقال: "من تبرأ من الصحابة فقد تبرأ من محمد".
3-المؤيد بالله يحيى بن حمزة بن علي الحسيني العلوي الطالبي (ت 745 هـ) من أكابر أئمة الزيدية، قال في كتابه "تصفية القلوب": "تنبيه: اعلم أن القول في الصحابة على فريقين:
الفريق الأول: مصرحون بالترحم عليهم ولترضية عنهم، وهذا هو المشهور عن أمير المؤمنين، وعن زيد بن علي، وجعفر الصادق، والناصر للحق، والمؤيد بالله؛ فهؤلاء مصرحون بالترضية والترحم والمولاة، وهذا المختار عندنا… وهذا الذي نرتضيه مذهباً، ونُحبُّ أن نلقى الله به، ونحن عليه.
الفريق الثاني: متوقفون عن الترضية والترحم، وعن القول بالتكفير والتفسيق، وهذا دلَّ عليه كلام الهادي، والقاسم وأولادهما، وإليه أشار كلام المنصور بالله؛ فهؤلاء يحكمون بالخطأ، ويقطعون به، ويتوقفون في حكمه.
فأما القول بالتكفير والتفسيق في حقِّ الصحابة، فلم يؤثر عن أحدٍ من أكابر البيت، وأفاضلهم، كما حكيناه وقررناه، وهو مردودٌ على ناقله".
ومثل هذا الكلام قاله الإمام يحيى بن حمزة في كتابه "الوازعة للمعتدين عن سب أصحاب المرسلين"، واختار أنه يترضى عن الصحابة، ويواليهم، ويترحم عليهم، ويستصحب أصل الإيمان فيهم (انظر: ص 56 -57).
4-الإمام يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد (ت 1099 هـ)، قال في كتابه "الإيضاح": "واعلم أن القائلين بالترضية من أهل البيت هم أمير المؤمنين، والحسن، والحسين، وزين العابدين علي بن الحسين، والباقر، والصادق، وعبد الله بن الحسن، ومحمد بن الحسن، ومحمد بن عبد الله النفس الزكية، وإدريس بن عبد الله، وزيد بن علي، وكافَّة القدماء من أهل البيت، ومن المتأخرين سادة الجيش: المؤيد بالله، وصنوه أبو طالب، والناصر الحسن بن علي الأطروش، والإمام الموفق بالله، وولده السيد المرشد بالله، والإمام يحيى بن حمزة. ومن المتأخرين باليمن: الإمام المهدي أحمد بن يحيى، والسيد محمد بن إبراهيم، وصنوه الهادي، والإمام أحمد بن الحسين، والإمام عز الدين بن الحسن، والإمام شرف الدين، وغيرهم. وسائر الأئمة يتوقف: كالهادي، والقاسم، مع أن في رواية الهادي: الترضية، والمنصور بن عبد الله بن حمزة، له قولان: التوقف كما في (الشافي)، والترضية كما في (الجوابات التِّهامية)، وكثيرٌ منهم لا حاجة لنا إلى تعداد أعيانهم، لأنه يكفي القول الجملي، بأن أئمة أهل البيت كافَّةً بين متوقفٍ ومُترضٍّ، لا يرى أحدٌ منهم السبَّ للصحابة أصلاً، يعرف ذلك من عرف".
ويقول أيضاً في كتابه (الإيضاح): "وإذا تقرر ما ذكرنا، وعرفنا أقوال أئمة العلم الهداة، عُلم من ذلك بالضرورة، التي لا تنتفي بشكٍّ ولا شُبهةٍ: إجماع أئمة الزيدية على تحرين سبِّ الصحابة؛ لتواتر ذلك عنهم، والعلم به، فما خالف ما عُلم ذرورةً لا يُعمل به…".
5-الإمام السيد الهادي بن إبراهيم الوزير الذماري الزيدي (ت 822 هـ) في كتابه المعروف بـ(تلقيح الألباب)؛ وصرح فيه: "بأن مذهب أئمة الزيدية القول بالتخطئة لمن تقدَّم أمير المؤمنين، وهؤلاء فرقتان: فرقةٌ تتوقف، وفرقةٌ تقول: إن خطأهم مغفرةٌ في جنب مناقبهم وأعمالهم وجهادهم وصلاحهم"، ثم قال: "وهذا القول الثان هو الذي نراه؛ إذ هم وجوه الإسلام، وبدور الظلام".
ويقول أيضاً:
ورضِّ عنهم كما رضَّى أبو حسنٍ … أو قف عن السبِّ ما كنتَ ذا حذرِ
6-إدريس بن علي بن عبد الله بن الحسن بن حمزة، أبو موسى عماد الدين الزيدي (ت 714 هـ) في كتابه المعروف بـ(كنز الأخيار).
7-حكاها الفقيه الزيدي: محمد بن الحسن الديلميُّ (ت 711 هـ) من كتاب "اعتقاد آل محمد"، وقد نشره محمد زاهد الكوثري عن مطبعة السعادة، سنة 1950 م، وهو من أصول كتب الزيدية، وفيه أن مذهب آل البيت الترضِّي عن الصَّحب أو التوقُّف فيهم.
8-حكاها المؤرخ اليماني: حُميد بن أحمد المحلي، أبو عبد الله الزيدي، حسام الدين (ت 652 هـ) في كتابه "عقيدة أهل البيت".
9-حكاها السيد صارم الدين إبراهيم بن محمد الحبوري الحسني (ت 1011 هـ) في "المسائل التي اتفق عليها الزيدية".
10-حكاها الكنِّي في كتابه "كشف الغلطات".
11-حكاها الإمام شرف الدين بن شمس الدين بن الإمام المهدي (ت 943 هـ) في مقدمة كتابه "الأثمار"، وهو من أئمة الزيدية.
12-حكاها القاضي عبد الله اليماني (الصَّعدي) الدوراي، الفقيه الزيدي، في كتابه "السير" من آخر كتاب (الديباج).
ثم ختم الشوكاني بقوله: "فهذه طرقٌ متضمِّنةٌ لإجماع أهل البيت من أئمة الزيدية، ومن غيرهم، كما في بعض الطرق، والناقل لهذا الإجماع، ممن أسلفنا ذكره من أكابر أئمتهم"، وذكر عن أهم كتب الزيدية التي تذمُّ م نيسبُّ الصحابة، وتُفسقهم، ولا تصحُّ الصلاة خلفه، وتجعل مستحل ذلك كافر، لا سيما الشيخين أبو بكر وعمر، وبيَّن رحمه الله حرمة لعن المسلمين أحياءً وأمواتاً، وذكر الأحاديث الدالة على ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق