الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام
تأليف:
ناصر بن حمد الفهد
تمهيد/ يعتبر الإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت 730 هـ) أول من تكلم في مقاصد الشريعة الأسلامية كعلمٍ مستقل، وذلك في كتابه (الموافقات)، وأول من قعّد علم أصول معرفة البدع في كتابه (الاعتصام)، ولما كان الإمام الشاطبي رحمه الله من أشدِّ الناس محاربةً للبدع العملية، اشتهر بين الناس أنه (سلفيُّ الاعتقاد)؛ حتى بين طلبة العلم أنفسهم، والحقيقة التي تظهر لكل من يقرأ هذين الكتابين ستبين للقارئ أنه أشعريُّ المعتقد في باب الصفات والقدر والإيمان وغيرها، ولم تكن أشعريته حجاباً عن موافقة الحق في بعض المسائل والقضايا العملية، وهذا يُحسب له، لا سيما في إنكاره البدع وشدته في ذلك؛ وإن كان مرجعه في الجملة في أبواب الاعتقاد هي كتب الأشاعرة.
وقد تأثر الشاطبيُّ رحمه الله بعلم الكلام تأثراً ظاهراً، بل إنه كما يتضح في كثيرٍ من كلامه أنه يُعظم علم الكلام، ويخوض في مسائله الجزئية، ويُقرر قضاياه الكلية، ومثله الإمام أبو بكر الطرطوشي صاحب كتاب (الحوادث والبدع)؛ فقد وافق الأشاعرة في أصولهم الاعتقادية العامة، وكذلك أبي شامة الدمشقي صاحب كتاب (الباعث على إنكار البدع والحوادث)، وكلهم شدَّد النكير في البدع العملية، مع كونهم أشاعرة في المعتقد؛ فرحم الله الجميع؛ وغفر لهم.
ولم تكن أشعرية الشاطبي مانعاً من قبول كلامه في باب البدع العملية، ولا يغض ذلك من قيمة الرجل العلمية؛ فهو قامة كبيرة في هذه الأمة، وكذلك سائر العلماء رضوان الله عليهم ممن وقع في بدع الأشعرية، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في "درء التعارض" كلمة جميلة نسوقها لهؤلاء الكبار الذين لهم علمٌ وفضلٌ، وثناء جميل؛ فيقول: "ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم، لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها. وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات، {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر: 10).
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (البقرة: 286)".
والغرض المقصود من هذا الكتاب: هو تقييد مخالفات الإمام الشاطبي لمعتقد أهل السنة والجماعة من كتابيه (الاعتصام) ت/ الهلالي، و(الموافقات) ت/ مشهور آل حسن، وجعل ذلك في ثلاثة أبواب، وتحت كل باب فصول.
وطريقة المؤلف في ذلك: ذكر أقوال الإمام الشاطبي كلها، ثم ذكر موطن الخطأ فيها، وردها، مستدلاً بالنصوص الشرعية، وكلام علماء أهل السنة في ذلك، لا سيما ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى.
وإليك بيان هذه الأبواب والفصول كما يلي:
الباب الأول: مخالفاته في التوحيد (وفيه فصلان):
الفصل الأول: مخالفاته في توحيد الربوبية.
وفيه أن الشاطبيّ رحمه الله تبع الأشاعرة في إثبات الصانع وإثبات حدوث العالم بطريقة (الأعراض)، وهي طريقة مبتدعة، اختراعها الجهمية والمعتزلة، ورتبوا على هذه الطريقة معرفة: المُرسل، وقدمه، وحدوث العالم، ومعرفة الرسول، وهي مبنيَّةٌ على أربع مقدمات:
المقدمة الأولى: إثبات الأعراض (الحوادث).
المقدمة الثانية: إثبات حدوث هذه الأعراض.
المقدمة الثالثة: بيان امتناع خلو الأجسام عن هذه الأعراض.
المقدمة الرابعة: بيان أن ما لا يخلو عن هذه الأعراض فهو حادث، وأن كل حادث لا بُد له من مُحدث.
وهذه الطريقة في إثبات وجود الله فاسدةٌ: عقلاً، ومحرمةٌ شرعاً، وقد ذمها السلف والأئمة، وحرمها الأشعريُّ، وذكر أنه لا يحتجُّ بها إلا أهل البدع المنحرفين.
وفساد هذه الطريقة من وجوه:
1-أن هذه الطريقة ليس عليها مُستند شرعي: لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا جاءت عن السلف، بل هي متلقاة من الفلاسفة والجهمية.
2-أن حدوث هذه الأعراض لا يحتاج إلى دليل، لأننا نرى بأعيننا حدوث هذه الأشياء وزوالها، فهي معلومةٌ بالحس والضرورة، فلا نحتاج إلى إثبات شيء من ذلك.
3-أنهم جعلوا إثبات العالم وإثبات الصانع غير ممكن إلا باتباع هذه الطريقة السقيمة، وقد ملأ المتكلمون كتبهم بمحاولة إثبات وجود الله بهذا الدليل الذي زعموا أنه الوحيد! وبالإمكان إثبات الصانع بطرقٍ كثيرةٍ أخرى؛ كالاستدلال بحدوث هذه المخلوقات على مُحدثها؛ ويعلم كل عاقلٍ بالضرورة أن كل حادثٍ لا بُدَّ له من مُحدث.
4-أن مسألة إثبات وجود الله سبحانه لا يُنازع فيها إلا شواذ الناس، لأن معرفته سبحانه فطرية لا تحتاج إلى دليل، ولهذا كانت بعثة الرسل إنما هي لتوحيد العبادة لما استقرّ في نفوس الناس من معرفة الله عز وجل.
5-أنهم التزموا لأجل هذا الدليل (دليل الأعراض) لوازم فاسدة من جنس ما التزمه الجهم بن صفوان من نفي الصفات عن الباري سبحانه وتعالى.
والتزم الجهم لأجله بالقول بفناء الجنة والنار، والتزم أبو الهُذيل العلاف بالقول بفناء حركات أهل الجنة والنار، والتزم المعتزلة لأجله بنفي الصفات لأنها أعراض، والتزم الكلابية ومن تبعهم من الأشاعرة والماتريدية بنفي الصفات الفعلية عن الله سبحانه: كالكلام، والنزول، والمجيء، لأنها حوادث بزعمهم، والتزم جميعهم مع الكرامية بتعطيل الله سبحانه عن الفعل في الأزل؛ لامتناع حوادث لا أول لها، وقالوا: لو كان الله قادراً على الفعل في الأزل، للزم منه قدم العالم، وغيرها من اللوازم التي أفسدوا بها الدين، ونشروا لأجلها البدع.
6-أن هذا الدليل يدلُّ على نقيض مقصودهم؛ فذكروا في المقدمة الرابعة أن كل حادثٍ لا بُد له من سبب، ثم إنهم عطلوا الباري سبحانه عن الفعل في الأزل لامتناع حوادث لا أول لها، وقالوا بحدوث هذا العالم من غير تجدد سببٍ حادث، لأنهم ينفون أن تقوم الصفات الفعلية بذات الله سبحانه؛ لأنهم يزعمون أنها حوادث؛ فأجازوا الحدوث بلا سبب، وهذا ينقض أصلهم.
ولهذا استطال عليهم الفلاسفة، وألزموهم بالقول بقدم العالم؛ لأن الفلاسفة قالوا: يمتنع حدوث الحوادث بلا سببٍ حادث، ويمتنع تقدير ذاتٍ مُعطلة عن الفعل، ثم فُعلت من غير حدوث سبب، ولم يستطع المتكلمون أن يُجيبوا على هذا الإيراد الخطير لفساد أصلهم.
والصحيح: هو التفريق بين عين الحوادث، وجنس الحوادث؛ فإن كل حادثٍ مُعين له أولٌ مسبوقٌ بعدم كما هو مُشاهد، أما جنس الحوادث فإنها لا أول لها، لأن الله سبحانه لم يزل فعالاً غير مُعطلٍ عن الفعل كما يزعم المبتدعة من المتكلمين، وهذا لا يدلُّ على قدم شيء من الحوادث بعينه كما تزعم الفلاسفة، بل يدل على تجدد الحوادث حادثاً بعد حادث.
الفصل الثاني: مخالفاته في توحيد الأسماء والصفات.
جمع الإمام الشاطبي رحمه الله بين طريقتي المفوضة (الذي هو الإيمان بالنصوص مع الجهل بمعانيها) والمؤولة (الذي هو صرف النصوص عن معانيها الظاهرة إلى أخرى ليست مراداً للمتكلم بها)، تبعاً للمتكلمين في الصفات، ومُتبعاً في ذلك الألفاظ المجملة عن السلف.
ويُقسم الشاطبيُّ نصوص الصفات إلى (متشابه حقيقي، وهو كل ما أوهم ظاهره التشبيه، ومتشابه إضفي بالنسبة للبعض دون الآخرين)، كان كثيراً ما يُهوِّنُ الخلاف بين الطريقتين وجعله من باب الاختلاف في الفروع.
وبعد أن ذكر المؤلف عشرة نصوص تؤيد دعواه؛ قال: والكلام على هذه النصوص من ثلاثة وجوه:
1-أن مذهب السلف هو تفويض الكيفية مع إثبات المعاني الظاهرة؛ فيفهمون آيات الصفات وأحاديثها، ويدركون معاناه؛ فيعلمون معنى الاستواء، والنزول، والفوقية، والوجه، والعين، والقدم، ونحوها، ويُفرقون بينها، فيعلمون أن معنى الوجه غير العين، والعين غير القدم، وهكذا، فيثبتون المعنى مع تفويض الكيفية؛ وهم لم يقولوا عند روايتها أو قراءتها: إن ظاهرها غير مُراد، بل أقرُّوا بها، وآمنوا بها، وفهموا معناها الإجمالي مع تفويض الكيفية.
2-أن هذا المذهب التفويضي يلزم منه تجهيل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه تكلم بكلامٍ لا يُفهم معناه، وهو قدحٌ في كتاب الله تعالى؛ إذ كيف يُخاطب الله عباده بأمرٍ غير مفهوم، مع أمره لهم بتدبره وتعقُّل معانيه، كذلك فيه تجهيلٌ للسلف الذين تلقوا هذه الأخبار وآمنوا بها، وصدقوا بما جاء فيها، ثم يُقال فيهم: إنهم كانوا يقرأون ما لا يفهمون، وأنهم لا يعرفون حقائق الأسماء والصفات أو معانيها التي خاطبهم الله بها -كما تقول المفوضة.
3-أن "المفوضة" تناقضوا حيث قالوا: نؤمن بها على ظواهرها، وتأويلها يُخالف الظاهر منها، ثُم قالوا: إن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله؛ فكيف تثبتون لها تأويلاً غير معلوم، مع جعلكم ظاهرها مُراداً للمتكلم به!!.
وقد أورد الإمام الشاطبيُّ في كتابه "الاعتصام" (2/ 785) قصةً باطلةً نقلها عن أبي بكر بن العربي التي ذكرها في كتابه "العواصم"، وقد كان ابن العربي أشعرياً جلداً، قال: أخبرني جماعة من أهل السنة بمدينة السلام: أنه ورد بها الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوران القشيري الصوفي من نيسابور؛ فعقد مجلساً للذكر، وحضر فيه كافة الخلق، وقرأ القارئ: {الرحمن على العرش استوى} قال لي أخصهم: من أنت - يعني الحنابلة - يقومون في أثناء المجلس ويقولون قاعد! قاعد! بأرفع صوت وأبعده مدى، وثار إليهم أهل السنة -يعني بهم الأشاعرة -من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة، وتثاور الفئتان وغلبت العامة، فأحجروهم إلى مدرسة النظامية وحصروهم فيها ورموهم بالنشاب، فمات منهم قوم ..."، ويُطالب هنا بتصحيح هذه القصة؛ فإنه نقله عن أشاعرة مجهولين، وابن العربي له نقولات من هذا الجنس تحتاج إلى تصحيح.
ومثل ذلك من الكذب والبُهت ما يُقال فيما نقله الشاطبيُّ –أيضاً -في "العواصم" أن أبا يعلى الحنبلي كان يقول إذا ذكر الله تعالى وصفاته: ألزموني ما شئتم إلا اللحية والعورة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (درء التعارض: 5/ 238): "وهذا كذبٌ عليه عن مجهولٍ لم يذكره أبو بكرٍ وهو من الكذب عليه".
والفتنة قد حصلت فعلاً في بغداد بين القشيري وأتباعه من الأشعرية وبين أتباع أبي يعلى من الحنابلة، ولكن الحق كامن مع الحنابلة في الجملة، قال شيخ الإسلام: "وأكثر الحق فيها -أي في هذه الفتنة -كان مع الفرائية -يعني أتباع أبي يعلى بن الفراء -مع نوعٍ من الباطل، وكان مع القشيرية فيها نوعٌ من الحق مع كثيرٍ من الباطل".
وذكر المؤلف أن الإمام الشاطبي رحمه الله- كان يُفوض بعض الصفات، ويؤول بعضها الآخر؛ مثل صفة (العلو) ونف الجهة عن الله سبحانه، التي أنكرها متأخرو الأشاعرة، بعد أن غلب عليهم التجهُّم والاعتزال ونفي صفات الباري سبحانه، وإلا فالأشعريُّ نفسه كان يثبت صفة العلو (كما في الإبانة: 69، والمقالات: 290، ورسالة الثغر: 71)، والباقلاني شيخ الأشاعرة كان يُثبتها أيضاً (كما في الإنصاف: 22)، وابن كلاب الذي اقتفى الأشعري، ومتقدمو الأشاعرة كانوا يثبتونها أيضاً (كما في درء التعارض: 6/ 193 -194)، وأتبعه بكلام أهل السُّنة الذين يُثبتون صفة العلو عن الله عز وجل.
وكذلك كان الإمام الشاطبي يتأول بعض الصفات الفعلية والخبرية، وردَّ عليه المؤلف حفظه الله -كلامه في ذلك بتفصيلٍ حسن، ومن الصفات الفعلية التي تأولها: (الاستهزاء، والمكر، والكيد، والحب والبغض، والدنو، والحكمة، والنزول، والنور، ومن الصفات الخبرية التي تأولها: الوجه، واليد، والرجل، والعين)، ونحوها.
ومما يُنكر على الإمام الشاطبي -أيضاً -تهوينه الخلاف: بين ما ظنَّه طريقة السلف (التفويض) وبين ما يميل إليه من طريقة الخلف التي جُلُّها التأويل والتعطيل، وجعل ذلك من مسائل الفروع، وهذا من جهله رحمه الله بمذهب السلف في الصفات.
الباب الثاني: مخالفاته في الإيمان والقدر (وفيه فصلان):
الفصل الأول: مخالفاته في الإيمان، وله فيه نصٌّ واحد.
وقد جعل الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، وهو قول الأشاعرة ومن وافقهم، وهو مقاربٌ لمذهب الجهمية في قولهم الإيمان هو المعرفة، ولا فرق بينهما سوى في التعبير اللفظي، وهو أيضاً قول ابن الرواندي، والمريسي، وغيرهم من الزنادقة، والتزم الأشاعرة لأجل ذلك بلوازم باطلةٌ قطعاً من دين الإسلام، وقد فصَّل المؤلف حفظه الله على هذه القضية تفصيلاً كبيراً.
الفصل الثاني: مخالفاته في القدر:
ومذهب الإمام الشاطبي في باب القدر هو مذهبٌ جبريٌّ، كما هو الحال في الأشاعرة، وذهب أيضاً إلى نفي التحسين والتقبيح العقليين مطلقاً، وهو قولٌ مُبتدعٌ في الإسلام، وهو مُنافٍ للحكمة وتعليل الأفعال، وأهل السنة وسطٌ في هذا الباب، في أن الحسن والقبح يُمكن إدراكه بالعقل بعد مجيء الشرع به، ومُحدثٌ أيضاً، ومخالتفه في مسألة الأسباب والمسببات، فذهب إلى أن السبب هو ما يحصل المسبب عنده لا به.
وذهب إلى أن الآثار لا تحدث بمجرد توافر الأسباب، وهو قول الجهمية، وتبعهم في ذلك الأشاعرة، وذهب إلى أن اعتقاد تأثير السبب في المسبب: شرك، وهذا بناءً على القاعدة الجبرية عندهم أنه لا فاعل إلا الله، وهذا قول الأشاعرة، وهو غلط من وجوهٍ كثيرة، فالله سبحانه هو خالق السبب وخالق المسبب، ولا يلزم من اعتقاد تأثير السبب أن يكون ذلك شركاً، لأن السبب لا يخلق التأثير.
وذهب الشاطبي رحمه الله إلى القول بنفي التولد، وهو نفي وجود مسبب -يتولد من سبب مباشرة العبد له؛ وذلك مثل: تولد الشبع عن الأكل، والري عن الشرب، وزهوق النفس عن القتل، وهو كعادته يميل في ذلك إلى مذهب الأشاعرة الجبري، فهذه الأمور هي من فعل الله سبحانه لا كسب للعبد المتسبب فيها، ولا قدرة له عليها.
والحق في هذه المسألة: أن هذه الأمور المتولدة تحصل بمباشرة العبد للفعل كلأكل، والشرب، وبما خلق الله في الطعام، والشراب من قوى تؤثر في حصول الري والشبع، فالله عز وجل خلق الأثر المتولد عن هذين السببين، وهو سبحانه خالق السببين جميعاً.
وذكر أيضاً عبارات الإمام الشاطبي في اسقاط الأسباب بالنظر إلى التدبير، وتفسير نفي الظلم تفسيراً أشعرياً؛ بأنه كُل ما يُقدره الذهن من الممكنات، مع سلب الحكمة في ذلك،
الباب الثالث: مخالفاته الأخرى (وفيه فصلان):
الفصل الأول: تأثره بعلم الكلام في أربعة مباحث:
أولاً: النبوات:
حيث ذهب إلى أنها لا تثبت إلا بطريق الخوارق، وأنها لا تُعرف إلا من هذا الطريق، وهي ليست عند الأشاعرة اصطفاء بناءً على حكمة أو كون المحل صالحاً للنبوة والرسالة، بل هي صفة إضافية راجعة إلى خطاب الشارع فقط، ولذلك فهم يجوزون على الله إرسال أي أحد، دون النظر إلى الحكمة أو كون المحل مُهيئاً أو صالحاً، وأجازوا أن تكون كل خارقة مؤيدة لدعوى النبيِّ؛ وهذا قصور في تعريف المعجزة، والصحيح أنه لا بُد من اقتران ذلك بدعوى النبوة.
ثانياً: الميزان:
حيث أجاز الإمام الشاطبي تأويله إلى معنى آخر غير حسي، وهذا خلاف مذهب أهل السنة والجماعة، وخلاف مذهب متقدمي الأشاعرة.
ثالثاً: أخبار الآحاد:
حيث أفاد أنها أدلة لفظية، تُفيد الظن ولا تُفيد العلم حتى لو احتفت بها القرائن ولا يُمكن أن تُفيد القطع إلا بأن تسلم من قوادح عشرة وضعها المتكلمون منها المعارض العقلي، وهذا تبعاً لطريقة متأخري الأشاعرة.
رابعاً: تعظيم علم الكلام:
وقد ذكر الإمام الشاطبي قصةً عن الإمام أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، أنه ناظر أحد الشيعة الإسماعيلية ! ثم اتجه لتدريس علم الكلام وهو لا يتقنه، وهذه القصة يُحتاج إلى إثبات صحتها، وذكر المؤلف -حفظه الله -علامتين لوضعها وكونها مكذوبة (انظر: ص 156 -162)، والظاهر أن واضعها هو أحد علماء الكلام.
الفصل الثاني: تأثره بتصوف الغزالي (وفيه ثلاثة مباحث):
1- تقريره فكرة أن العمل رغبة في الجنة وخوفاً من النار هو عمل الأجراء، وهذا غلط كبير، بيَّه المؤلف في موضعه.
2-شطحات التصوف، التي تستند إلى الأحاديث المكذوبة، ويُلاحظ في هذا المبحث بعض السياقات المتوائمة مع طقوس الصوفية في تذليل المريدين لشيوخ الضلال بغير وجه حق.
3-التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله: وهذا الكلام مُقتبسٌ من الفلاسفة وأصحاب الأهواء، وقد قرره الغزاليُّ وغيره، ويلزم منه لوازم باطلة.
الفصل الثالث: إنكاره للمهدي:
وكان الإمام الشاطبي يعتقد أن عيسى عليه السلام هو المهدي بناءً على حديث معلول ضعيف (ولا المهدي إلا عيسى بن مريم)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق