أرشيف المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 7 أكتوبر 2020

إثبات صفة العلو -لابن قدامة /

إثبــــات صفـــة العــــلو

للإمام أبي محمد

عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي

(541 -620 هـ)

تحقيق الدكتور أحمد بن عطيَّة الغامدي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا جزءٌ شريف في بيان أعظم صفة من صفات الله عز وجل، والتي تضافرت الأدلة على إثباتها، وهي الحقيقة المغروزة في طباع الخلق أجمعين، والضرورة التي لا ينفك عنها عاقل، ولا ينكرها إلا مبتدعٌ غالٍ، أو جاهلٌ مفتونٌ بتقليده، وقد أصبحت من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، ألا وهي (صفة العلو) لله تبارك وتعالى.

وقد عني ابن قدامة رحمه الله بذكر جملةٍ من الأخبار الصحيحة الصريحة التي جاءت عن الله تعالى في كتابه، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في سُنته؛ لإثبات صفة علو الله عز وجل على خلقه حسَّاً ومعنىً، على الحقيقة، وأردف ذلك بالأقوال المأثورة عن سلف الأمة، وكلها تنطق بأن الله تعالى في السماء، فوق عرشه، بائنٌ من خلقه.

وكان تأليف هذا الكتاب له دواعيه الزمانية والمكانية؛ وهي التي جعلت ابن قدامة يشرع في تصنيفه، ذلك أنه نبتت نابتة من فرق أهل الكلام؛ التي اختارت طريق الفلسفة، وسلكت مناهج عقلية سقيمة، بعيدة كل البعد عن منهج الإسلام الصحيح، وهي مناهج هزيلة تعجز عن إقناع أصحابها، فضلاً عن قدرتها على إقناع الآخرين؛ لأنها مجرد جدل عقيم في أقدس شيء وأعظمه، وهو ذات الرب تبارك وتعالى، ولم يُحصل المتكلمون من ذلك كبير فائدة، بل كلامهم مُفترق غاية الافتراق، ومتابينٌ غاية التباين والاختلاف، وهذا من أبرز سيئات المنهج العقلي المجرد، الذي لا يستند إلى الشرع، ولا يسنده الدليل.

قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء 82).

واختلاف هذه المناهج وعدم قدرتها على تمثيل رأيٍ واحدٍ دليلٌ على خطئها، ولا شك أن نتيجة هذا المنهج الخاطئ ستكون من جنسه "خاطئة"، لأن الخطأ لا يمكن أن يولد صواباً، ومن ثمَّ يتوارث أصحابها الحيرة والشك والتردد.

ومن أمعن النظر في مناهج المتكلمين يجدها تُثير من الشُّبه، ما تعجز معه عن الإقناع؛ لأنها تُمثل منهاجاً شيطانياً رديئاً، يؤدي إلى الفُرقة والاختلاف، ورغم وضوح الأدلة وصراحتها بذلك فقد أنكر المبتدعة علو الله تعالى بذاته، وحكموا بعقولهم الضعيفة على نصوص الوحي، فقالوا: لو كان الله تعالى كذلك -أي في جهة العلو بذاته- لأشبه المخلوقات!!!، لأن ذلك يعني أن يكون الله في مكان، والمكان يقتضي التحيز والتجسيم، وهذه من خصائص المخلوقين، لأن ما أحاطت به الأمكنة واحتوته فهو مخلوق مجسم. 

إلا أن هذا لا يلزم أهل الحق في شيء؛ لأن الله تعالى {ليس كمثله شيء}، وهو سبحانه لا يقاس بشيء من خلقه، ولا يدرك بقياس، ولا يقاس بالناس كما يفعل المعطلة من أهل الكلام، فالله سبحانه في السماء على العرش كما أخبر عن نفسه، وكما أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم، والعلو مما تقتضيه الضرورة والفطرة، وبدائه العقول، إلا أن ذلك لا يعني أنه سبحانه يحلُّ في مخلوقاته، لأن الجهة التي أثبتناها لله تعالى إنما هي جهة عدمية لا وجودية، بمعنى أنه سبحانه عالٍ فوق خلقه ولا يحلُّ في شيء من خلقه؛ فالجهة إنما هي ثابتة لله تعالى بهذا المعنى.

وإننا لنعجب من أولئك المبتدعة الذين يلغون عقولهم، ويروجون لمذهبهم، ويصرون على صحته، وأنه لا حق سواه، مع مخالفته للوحي المعصوم؛ فالله تعالى يقول عن نفسه إنه في السماء، وإنه فوق. ويخبر عنه رسوله بذلك فيما لا يحصى كثرة من الآيات والأحاديث، والفطرة والعقل شاهدان على ذلك. وهم يقولون موجود، ولكنه ليس في مكان. أو أنه في كل مكان، فهل هذا إلا تعطيل لنصوص الوحي، وإلغاء للعقل، ومكابرة الفطرة؟! ولذلك كانت فلسفتهم وبالاً عليهم، حتى وقعوا في الحيرة والشك، وكانت نهاية أمرهم الإفلاس، والاعتراف بالتخبط وعدم الاهتداء.

وصفة العلو من أهم وأخطر الصفات التي أخضعها المتكلمون لمنهجهم السقيم في التفكير والإثبات، وتكلموا فيها على طريقتهم المبتدعة في النفي والإثبات، ومن اطلع على تأويلاتهم وجدهم لم يستفيدوا منها إلا تعطيل حقائق النصوص والانحراف بها عن دلالتها، إذ وجهوها إلى معان أخرى لا تستقيم لهم، ولزمهم فيها نظير ما فروا من أجله، فوقعوا في حبائل شراكهم التي نصبوها، فأصابهم داء التناقض والاضطراب.

ومع أن أدلة إثبات هذه الصفة في غاية الصراحة والوضوح، وعلى كثرتها وتنوعها، وتواتر معناها، إلا أن المتكلمين وقفوا في وجه هذه الأدلة، وتناولوها بالتأويل والتحريف والتعطيل؛ ففضلوا منهج التعطيل على منهج الإثبات، ولم يكتفوا بذلك حتى اتهموا السلف بالتجسيم لإثباتهم لها، ولم تكن لقناة عقولهم اهتداءٌ ولا بصيرة.

ولأهمية هذه الصفة (أي علو الله تبارك وتعالى على خلقه)؛ فقد تناولها الكثير من العلماء بالتقرير والإثبات والشرح، وحتى المتكلمون يحومون حولها في كتبهم، وقد أفردها الكثير -من علماء السَّلف بالتأليف، كما فعل الإمام ابن قدامة، ومن أهم هذه المؤلفات:

1-العلو؛ للإمام الذهبي، واختصره الألباني.

2-اجتماع الجيوش الإسلامية؛ لابن قيم الجوزية.

3-العرش؛ لأبي بكر بن أبي شيبة.

4-الرسالة العرشية؛ لابن تيمية.

5-رسالة في أن الله على العرش؛ للذهبي.

وقد طُبع هذا الكتاب أيضاً بتحقيق دار الصحابة للتراث بطنطا في العام 1993م، وقد اعتمدت على نسخة الغامدي التي بين أيدينا، وهي طبعة مرقمة وجيدة، وأقل حجماً من طبعة الغامدي، وطريقته في تخريج الأحاديث والتعليقات أسهل؛ ولذا فإني أنصح به أكثر كتاب "الغامدي".

  • عقيدة الإيمان بعلو الله تعالى:

أجمع السلف على الإيمان والإقرار بأن الله تعالى عالٍ على خلقه، مُستوٍ على عرشه، بائنٌ منهم بالكيفية التي يعلمها سبحانه، وعلى ما يليق بجلاله وعظمته، وأن له سبحانه العلو المطلق من كل وجه: حساً ومعنىً وقدراً وقهراً.

وقد رتب المؤلف رحمه الله هذا الكتاب على طريقة التدرج في عرض الأدلة، ولكنه لم يُضع لها عناوين مُعينة، وإنما هي من وضع المُحقق، وقد جاءت هذه العناوين مع ترتيب الكتاب اتفاقاً:

  • الأول: ذكر الأحاديث الصريحة في أن الله تعالى في السماء.

  • الثاني: ذكر الأخبار الواردة بأن الله تعالى فوق عرشه.

  • الثالث: ذكر أخبار دالة على ذلك في الجملة.

  • الرابع: ذكر أخبار واردة في هذا عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام.

  • الخامس: أقوال الصحابة رضي الله عنهم.

  • السادس: أقوال التابعين رحمهم الله.

  • السابع: أقوال الأئمة رضي الله عنهم.

  • الثمرة المترتبة على معرفة علو الله تعالى على خلقه:

وبذكر هذه الأخبار يزداد المؤمن إيماناً بربه سبحانه، ويوقن أن له رباً يرى مكانه، ويسمع كلامه، وأنه بعلوه الحسِّي قهر عباده، وأنه يأخذ للمظلوم حقه، ويتوجه إليه المسلم بالدعاء والرجاء والمسألة، ويتعلق بالقلب به محبةً وتعظيماً وتنزيهاً، وكذلك يستفيق كل من وقع أسيراً لأوهام العقل ونزغات الفلسفة إلى واحة الإيمان ورحاب الشرع، حيث المعرفة الحقيقية بالله عز وجل.

وابتدأ ابن قدامة كتابه بذكر الأحاديث المُصرحة بأن الله تعالى في السماء؛ وافتتح ذلك بذكر الحديث المسلسل بالأولية من طريق سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).

وثنَّى بالحديث الذي تُنكره الجهمية، وهو حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي رواه مسلمٌ وغيره، وفيه قصة الجارية التي سألها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟) فقالت: في السماء.

ومنه حديث: أبي هريرة، وأبي الدرداء، وعمران بن حُصين، وحديث عبد الله بن مسعود مرفوعاً: (ارحم من في الارض يرحمك من في السماء).

 وحديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء)، وحديث أبي هريرة مرفوعاً في حكاية قبض الملائكة لروح العبد المؤمن، وفيه (فتعرج حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل)، وغيره من الأحاديث.

وشرع بعد ذلك بذكر الأخبار الواردة بأنه تعالى فوق عرشه، وافتتح ذلك بذكر الحديث المسلسل بوضع اليد على الكتف، عن علي بن أبي طالب مرفوعاً، ثم حديث الأوعال عن العباس بن عبد المطلب، وحديث جُبير بن مطعم: (إنه لا يستشفع بالله على أحد)، وحديث أبي هريرة: (إن الله كتب كتاباً عنده فوق العرش)، وحديث ابن عباس في أن الله (يذكر عبده من فوق سبع سماوات)، وحديث معاذ لما حكم في بني قريظة (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة).

وذكر بعد ذلك أحاديث دالةٌ على علو الله في الجملة، وذكر منها حديث الإسراء الذي يرويه مالك بن صعصعة مرفوعاً وهو صحيح، وحديث جابر في رؤية الله في الجنة، وفيه حديث النعمان بن بشير، وحديث سجود الشمس تحت العرش عند ربها كما في حديث أبي ذرٍّ مرفوعاً، وحديث أبي هريرة في عروج الملائكة إلى الله في صلاتي الفجر والعصر.

وذكر بعد ذلك الأحاديث الواردة عن الأنبياء المتقدمين والتي جملتها من الإسرائيليات؛ وفيها دعاء إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار، وقصته مع الرجل الأهلب -كثير الشعر -الذي طوله ثمانية عشر ذراعاً وهو قصةٌ عجيبة حقاً، ودعوة داود عليه السلام: يا ساكن السماء،  ودعاء يونس، وقول زُليخة ليوسف عليه السلام، وغيرها من القصص العجيبة والمؤثرة.

ثم ذكر أقوال الصحابة رضوان الله عليهم، ومنهم: ابن مسعود، وعلي، وابن عباس، وعائشة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وأنس بن مالك، وعدي بن عميرة العبدي وقصته مع اليهودي ابن شهلا الذي قرأ في التوراة هذه صفة النبي وأصحابه (ويزعمون أن إلههم في السماء)، والعبد الأسود (أسلم الراعي) الذي سأل أصحابه (من هذا؟ فقالوا له: رسول الله؛ فقال: الذي في السماء؟ فقالوا: نعم)، وجواب من سئل منهم عن الله؛ فقال: (في السماء).

وذكر شعر حسان، والعباس بن مرداس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشعر عبد الله بن رواحة لامرأته، وشعر أمية بن الصلت، وقصة عمر بن الخطاب مع خولة بنت ثعلبة.

وأردف ذلك بذكر أقوال التابعين والأئمة التي أثبتوا فيها صفة العلو لله تعالى، مثل مسروق، وعكرمة، والحسن، ومالك بن دينار، والضحاك بن مزاحم، وسفيان الثوري، وربيعة الرأي، وسليمان التيمي، والإمام مالك، وأحمد، وبشر بن الحارث، وغيرهم..

ولا يخلو الكتاب من الأحاديث المناكير والموضوعات، ولكن فيه الصحيح والحسن، والضعيف الذي يتقوَّى.

وختم ابن قدامة كتابه بقوله: "فقد وضح الحق في هذه المسألة بحمد الله، من الحجج القاطعة، من الآيات الباهرة، والأخبار المتواترة، وإجماع الصحابة حتى قال الإمامان أبو زرعة، وأبو حاتم: هذا ما أدركنا عليه العلماء في جميع الأمصار، حجازاً، وعراقاً، وشاماً، ويمنا، ولم يخالف في ذلك غير مبتدع غال، أو مفتون ضال". 

قال: "وأول من خالف في ذلك فيما علمنا الجهم بن صفوان، ثم إن الجهمية مضطرون إلى موافقة أهل الإسلام على رفع أيديهم في الدعاء، وانتظار الفرج من السماء (فهم وإن تمردوا على الفطرة، إلا أنهم يعودون إليها رغم أنوفهم، ومثلهم في ذلك مثل المشركين الذين لا يذكرون الله إلا في حال الكرب)، وليس لهم في بدعتهم هذه حجة من كتاب ولا سنة، ولا قول صحابي، ولا إمام مرضي، إلا اتباع الهوى، ومخالفة سنة المصطفى وأئمة الهدى".



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق