أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 16 أكتوبر 2020

مجلس في حديث جابر الذي رحل فيه مسيرة شهرٍ إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنهما -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

مجلس في حديث جابر 

الذي رحل فيه مسيرة شهرٍ إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنهما

للحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي

(777 -842 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ الرحلة في طلب الحديث من السنن المُتبعة عند العلماء والطلبة منذ صدر الإسلام وإلى يومنا هذا؛ إذ كان الصحابة رضوان الله عليهم أول من سنَّ هذه الطريقة لطلبة العلم؛ فقد رحل جابر بن عبد الله وكان بالمدينة إلى عبد الله بن أنيس وكان بالشام مسيرة شهر -ليسمع منه حديثاً واحداً في القصاص (المظالم)، ولم يكن جابرٌ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن سمعه أُنيس، فشد جابرٌ الرحال إليه، حتى جاءه بالشام بعد عناء شديد ليسمع هذا الحديث.

وهذا شاهدٌ واحد من شواهد كثيرة حفلت بها كتب التاريخ والسير، وقد ذكروا رحلة أبي أيوب الأنصاري وهو بالمدينة إلى عُقبة بن عامر وهو بمصر لسماع حديث (من ستر مسلماً)، ورحلة رجلٍ من الصحابة إلى فَضالة بن عُبيد، وتتابعت بعد ذلك الرحلات من طلاب العلم معلمين ومتعلمين، لأن الرحلة من أبرز العوامل التي تساعد على تحصيل العلم وتنويع مصادره، وقد أطنبت في الحديث عنه عند كلامي على كتاب "الرحلة في طلب الحديث" للخطيب البغدادي، وهو أول كتابٍ ألف في الرحلة.

وهذه التصانيف ردٌّ على المستشرقين الذين قالوا: إن الرحلة في طلب الحديث لم تكن إلا في بني أمية، وهذا غلطٌ ظاهر، فقد استمرت الرحلة في طلب العلم والحديث إلى وقتنا هذا.

أما هذا الكتاب فهو مجلسٌ من مجالس الإملاء التي كان يعقدها ابن ناصر الدين الدمشقي على نهج الحفاظ الأكابر، ضمنه تخريجاً لحديث جابر الذي رحل لأجله، فساقه بإسناده المتصل، ثم ذكر طرقه ورواياته، وتكلم جرحاً وتعديلاً على رواته، وأودع فيه الدرر والفوائد، ويمكننا أن نجعله على ثلاثة أقسام وخاتمة، كما يلي:

أولاً: رحلة جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنهما:

وهذا الحديث يرويه ابن ناصر الدمشقي عن شيخته الصالحة الأصيلة شمس الملوك أم محمد بنت الناصر محمد بن العماد، وهي ترويه من طريق الخطيب البغدادي، بإسناده، عن جابر بن عبد الله قال: "بلغني حديث عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً، فشددت عليه رحلاً، ثم سرت إليه شهراً حتى قدمت مصر، قال: فخرج إلي غلام أسود. فقلتُ: استأذن لي على فلان، قال: فدخل، فقال: إن أعرابياً بالباب يستأذن، قال: فاخرج إليه، فقل له: من أنت؟ قال: فقال له: أخبره أني جابر بن عبد الله، قال: فخرج إليه، فالتزم كل واحد منهما صاحبه، قال: فقال: ما جاء بك؟ قلت: حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في القصاص، وما أعلم أحداً يحفظه غيرك، فأحببت أن تذاكرنيه [فخشيتُ أن تموتَ أو أموتً قبل أن أسمعه]، فقال: نعم.


سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إذا كان يوم القيامة حشر الله تعالى عباده عراةً، غرلاً بهما، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد منهم، كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا تظالموا اليوم، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد من أهل النار قبله مظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، ولأحد من أهل الجنة قبله مظلمة، حتى اللطمة باليد"، قالوا: يا رسول الله، وكيف وإنما نأتي الله عراةً، غرلاً، بهما؟ ، قال: من الحسنات والسيئات».


 قال ابن ناصر: هذا الرجل الذي رحل إليه جابر رضي الله تعالى عنه في الحديث، هو عبد الله بن أنيس بن أسعد بن حرام أبو يحيى الجهني، ويقال: الأنصاري، لأنه حليفهم يعد في أهل المدينة، وهو عقبي وأحد الأبطال المعدودين رضي الله تعالى عنه.

وقد جاءت تسمية (عبد الله بن أنيس) مصرحةً في رواية أحمد، والتي ساقها ابن ناصر بسنده أيضاً، عن شيخه أبو محمد عبد الله بن إبراهيم السنجاري، وفيه زياداتٌ حسنة، مثل قوله: "قلنا -أي الصحابة: وما «بهما» ؟ قال: ليس معهم شيء".

ورواه ابن ناصر الدين عن شيخه أبي بكر محمد بن عبد الله السَّعدي، من طريق أبي بكر بن أبي عاصم بسنده عن جابر نحوه، وزاد فيه (يحشر الله عز وجل العباد وأومأ بيده إلى الشام). ورواه -أيضاً -عن شيخه المذكور من طريق الخطيب البغدادي بسنده عن جابر به.

ورواه عن عبد الرحمن بن محمد الفارقي من طريق أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي بسنده عن جابر به، بلفظ (حرام على نفس تدخل النار ولنفس من أهل الجنة قبلها مظلمة).


وهذا حديث حسن إن شاء الله، وقال ابن ناصر: "وهذا حديث حسن، مداره على القاسم بن عبد الواحد بن أيمن المخزومي، مولاهم، وقد وثق فيما ذكره الذهبي".


وقد تفرد به القاسم بن عبد الواحد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، وابن عقيل فيه خلافٌ طويلٌ بين أهل الفن، ولعلَّه ممن يُحسَّنُ حديثه إن شاء الله، والذي ارضتاه الإمام الذهبيُّ في "الميزان": "حديثه في مرتبة الحسن"، والقاسم بن عبد الواحد، قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": "سألتُ أبي عنه؛ فقال: يكتب حديثه"، وانفرد ابن حبان بتوثيقه في "ثقاته"، وقال الحافظ في "التقريب": "مقبول" يعني حيثُ يُتابع وإلا فلين الحديث، ولم نرَ له مُتابعاً، وقد حسَّن إسناد هذا الحديث جماعةً، وصحح الحديث ابن قدامة في "حكاية المناظرة في القرآن" (انظر: ص 36 -37).

وله طرق أخرى ضعيفة عن جابر، رواها عنه: محمد بن المنكدر، وأبو جارود العبسي، بلفظ: (إن الله تعالى يبعثكم يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً، وهو تعالى على عرشه ينادي بصوت له رفيع غير فظيع، يسمع البعيد).


ثانياً: رحلة أبي أيوب الأنصاري إلى عُقبة بن عامر:

وروى ابن ناصر الدمشقي بسند حسن، عن عمرو بن أبي سلمة، يقول: قلت للأوزاعي: "أنا ألزمك منذ أربعة أيام، ولم أسمع منك إلا ثلاثين حديثاً؛ قال: وتستقل ثلاثين حديثاً في أربعة أيام، لقد سار جابر بن عبد الله رضي الله عنهما إلى مصر، واشترى راحلة وركبها حتى سأل عقبة بن عامر، عن حديث واحد وانصرف، وأنت تستقل ثلاثين حديثا في أربعة أيام".

قال ابن ناصر: "فإن الراحل إلى عقبة بن عامر الجهني هو أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنهما.

وروى ابن ناصر ذلك مُسنداً عن شيخته أم محمد بنت الملوك، من طريق الخطيب البغدادي؛ عن عطاء بن أبي رباح، قال: خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر وهو بمصر، فسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم أتى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري وهو أمير مصر، فأخبر به فعجل فخرج إليه فعانقه، فقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه غيري، وغيرك في ستر المؤمن. قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «من ستر مؤمنا في الدنيا على خزيه، ستره الله يوم القيامة» ، فقال له أبو أيوب: صدقت.

ثالثاً: رحلة أبي عثمان النهديّ إلى أبي هريرة رضي الله عنه:

روى ابن ناصر عن شيخته الصالحة أم محمد بنت محمد شمس الملوك بسندها، عن أبي عثمان (النهدي)، قال: بلغني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، حديث أنه قال: «إن الله تعالى ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة»، فحججت ذلك العام، ولم أكن أريد الحج إلا للقائه في هذا الحديث، فأتيت أبا هريرة رضي الله عنه، فقلت: يا أبا هريرة، بلغني عنك حديث، فحججت العام، ولم أكن أريد الحج إلا لألقاك.

قال: فما هو؟ قلت: «إن الله عز وجل ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة»؛ فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: ليس هكذا، ولم يحفظ الذي حدثك، قال أبو عثمان: فظننت أن الحديث قد سقط.

قال أبو هريرة: إنما قلت: «إن الله ليعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة»، ثم قال: أو ليس في كتاب الله تعالى ذلك، قلت: كيف؟ قال: "لأن الله تعالى، يقول: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} (البقرة: 245)، والكثيرة عند الله عز وجل أكثر من ألفي ألف، وألفي ألف".

(وهذا الحديث إسناده ضعيف، وعلته: علي بن جدعان.

ختاماً: شعرٌ في مدح الرحلة في طلب الحديث:

   وروى ابن ناصر بسنده: أنشد أبو الفضل العباس بن محمد الخراساني:

        رحلت أطلب أصل العلم مجتهداً ... وزينة المرء في الدنيا الأحاديث

        لا يطلب العلم إلا بازل ذكر ... وليس يبغضه إلا المخانيث

        لا تعجبن بمال سوف تتركه ... فإنما هذه الدنيا مواريث


قلت (محمد حنونة) وهنا أزيد فائدةً في الأمور التي تُعين طالب العلم على التبحُّر والزيادة:

أولاً: تقوى الله عز وجل.

ثانياً: المتابعة للسلف الصالح: قولاً، وعملاً، واعتقاداً، ونيةُ ذلك.

ثالثاً: مشافهة العلماء والإكثار من السماع لهم، وحضور مجالسهم.

رابعاً: صقل الملكة عند أهل العلم والعلماء بالحوار والمناقشة وتصحيح الفهم.

خامساً: بذل الوقت والمال والجهد في طلب العلم وتحصيله.

سادساً: إدمان البحث والقراءة.

سابعاً: كل شيخٍ له طريقته في التعليم فينبغي إتقان تلك الطرق لفهم الشيخ.

ثامناً: لا تلتفت إلى تخذيل المخذلين، ولا حسد الحاسدين.

تاسعاً: قلل المحفوظ وكثِّر زمن المراجعة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق