مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات
تأليف: د. أحمد بن عبد الرحمن بن عثمان القاضي
اعتنى به:
أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ إن العلم بالله عز وجل، وبمقتضى أسمائه وصفاته هو أساس الدين الصافي، ودعوة المرسلين الخالصة، وهو أفضل ما تدركه العقول، وتنطوي عليه القلوب، وهو أول ما يُسأل عنه العبد في قبره؟ فيُقال له: (من ربُّك؟) المتضمنة لمعاني الألوهية والربوبية؛ فمن كان يعرف الله بأسمائه وصفاته نجا، ومن جهل به سبحانه فإنه يرد النار، كما قال تعالى:
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف 179).
وقد تميَّز الجيل الأول من سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان بالوقوف عند القرآن والحديث: قولاً وعملاً واعتقاداً، فكانوا يُعظمون النصوص أيما تعظيم، وكان ذلك سبباً في هدايتهم، وقد ألهمهم الله الطمأنينة إلى إثبات الصفات الخالي من التمثيل، وفق دلالات اللغة ومعانيها المعروفة، والتنزيه السالم من التعطيل بسبب اللوازم التي افتراها الجهمية، فسلموا من: لمَ وكيف؟، وقالوا: آمنا به كل من عند ربنا.
بل كان السَّلف رضوان الله عليهم ينفرون من كل قول مُحدث، ويقتصرون على الرواية، لا يرون فيها لبساً ولا غموضاً، ويجدون فيها الغُنية والكفاية عما سواها، ولا يخلطون مصنفاتهم الحديثية بأقوالهم أو أقوال غيرهم إلا لماماً، إذ كانوا أبر الناس قلوباً، وأصدقهم ألسنة، وأقلهم تكلفاً.
وحين ابتليت الأمة بالتفرق، وتكدر النبع الصافي بالدلاء الملوثة، وخاض الناس في الكلام المذموم، وصاروا يسألون عن المتشابه، صدر عن أئمة السلف ما يجلي الغبش، ويستنقذ الغريق، ويزيل اللبس، فأطلقوا عبارات توضيحية، ومصنفات في مقارعة أهل الكلام، ونقض شبههم، وشمل ذلك جميع أبواب الدين، والإيمان.
وكان -ولا غرو -نصيبُ باب الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وافراً، وتراثهم فيه ظاهراً، مما كان له الأثر الحميد في نفوس معاصريهم خاصة، والأمة بعدهم عامة في بيان الفهم السلفي للنصوص، وتأصيل منهج الاستدلال لديهم.
ومع تقادم العهد، واختلاف الزمان، وانقطاع السند بين السلف والخلف، وغلبة الجهل والهوى، وانحراف منهج التلقي لدى بعض الطوائف الناشئة في الأمة، وتوجهها نحو المصادر الفلسفية والكلامية الدخيلة، آل الأمر إلى قيادات علمية بينها وبين فقه السلف حجاب، وعلى أعينها غشاوة، وفي آذانها وقر، وعلى قلوبها أكنة، لأنها لم تتنفس في مرابع السلف فتستنشق عبيره، ولم تمتص رحيق النصوص فتستخرج منها شراباً مختلفاً ألوانه فيه شفاء للناس.
ووقف هؤلاء المتكلمين بأقيستهم العقلية مبهوتين أما عبارات السلف-كما وقفوا من قبل أمام نصوص الوحيين متحيرين -فتارةً ينكرون، وتارةً يُحرفون، وثالثةً يفهمون الأمور على غير وجهها.
ومن أخطر هذه المواجهات والانحرافات هو فهمهم الخاطئ لطريقة السلف في أسماء الله وصفاته، حيث توهموا -وتوارثوا هذا الوهم إلى زماننا هذا -وزعموا أن طريقتهم التفويض القائم على الجهل بمعاني أسماء الله تعالى وصفاته؛ وصنع هؤلاء المتكلمة "المفوضة" تلازماً بين العلم بالمعنى والعلم بالكيفية، وهو تلازم ليس بلازم، وهو منقوضٌ من أصله؛ وفرق بين المُخبر به وبين المُخبَر عنه، فمعرفة الخبر هي معرفة معنى الصفة، ومعرفة المخبر هي معرفة الكيفية والكنه، وهذه الأخيرة لا يمكن معرفتها.
ولبس عليهم الشيطان في هذه الشبهة بمأثور السلف، فأراد السلف شيئاً وأرادوا هم شيئاً آخر، أراد بها السلف تعظيم النصوص وإثباتها، وأراد المفوضة عكس ذلك، من تعطيل النصوص وصرفها عن حقائقها، جهلاً منهم بملابسات إطلاقاتها، وغايات معانيها، سيما وأن هذه الطوائف من شعبة المتكلمين متطفلون على بضاعة السلف.
وساعدهم في ذلك تركيب بعض العبارات، وجرس الألفاظ على التدسس ببعض المعاني الباطلة؛ فجعلوها عمدةً لهم في النفي، ومفزعهم في المضائق، ولم يعرفوا أن عند السلف عبارات كاشفة وألفاظٌ قاطعة بددت أحلامهم، فمحى الله بها آية الليل، وجعل لهم آية النهار مبصرة.
وكان أسوأ ما أنتجته البدع الكلامية: بدعة التفويض، والتي تأتي على نصوص الصفات؛ فتصبها في قوالب جامدة، تمنعها من العقول والأفهام، وتكسوها بعباءة الجهل والعماية والإلغاز؛ فسدَّ "المفوضة" باب العلم بالله وصفاته وآياته، ودعوة الناس إلى قطع النظر عن التدبر في معاني أسماء الله وصفاته، وحسبانها ألفاظاً جوفاء لا معنى لها، وقد سمى دعاة التجهيل مذهبهم المنحرف باسم مُلطَّف؛ وهو (التفويض).
وزاد الأمر خطورةً أن نسبوا ذلك إلى السلف الصالح كذباً وزوراً، وظلماً وعدواناً، ليظهروا للناس أن مذهب التأويل هو الأحكم والأعلم، وقد أطلقوا مقالتهم الظالمة: (طريقة السلف أسلم، طريقة الخلف أعلم وأحكم)، وهذا بهتانٌ عظيمٌ على السلف، بل إن طريقة السلف هي الأعلم والأحكم والأسلم، الذين عرفوا الصفات بمعانيها الظاهرة، وفوضوا الكيفية إلى الله عز وجل.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "درء التعارض" بعد حكاية مذهب هؤلاء المفوضة: (فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم مُتبعون للسُّنة والسلف من شرِّ أقوال أهل البدع والإلحاد).
وقد تبين أن ما تعلق به "المفوضة" من العبارات المأثورة عن السلف هو في حقيقته ريحٌ في الإثبات، وأنه حُجَّةٌ عليهم لا لهم، وهكذا كلُّ من استدلَّ بنصٍّ صحيحٍ ليتوصل به إلى باطل، فإن ذلك النص ينعكس عليه ويناقض مقصده.
وقد عصم الله أقوال السلف وآثارهم من أن تكون حجة لمبطل؛ فأما المبطلون الذين في قلوبهم زيغ؛ فقد نبأنا الله من أخبارهم، وأنهم يتبعون ما تشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
وقد ورد عن السلف عباراتٌ كثيرةٌ متنوعة صحيحة وصريحة في الإثبات، وتلتقي كلها في إثبات معاني الصفات، بما يقطع الشك باليقين، ويمحق الوهم بالعلم، وتدحض الشبهة، زخرت بها كتب "الآثار"، و"تراجم الرجال"، و"المصنفات في الأصول والسنة" على وجه الخصوص؛ فيجد الباحث نفسه أمام كمٍّ هائل من هذه الآثار يتحيَّرُ القارئ لكثرتها ما يأخذ منها وما يدع، وأيها أبين في الدلالة على المراد طلباً للاختصار، وكتفاءً بالبعض عن الكل في الإشارة إلى المقصود.
وأصل هذا الكتاب هو رسالة ماجستير، نشرتها دار العاصمة بالرياض، ثم أشار عليه بعض الأفاضل باختصارها في هذا الكتاب، تيسيراً على القارئ؛ فجاءت في نحو الثلث من الكتاب الأصل، فجزاه الله عنا كل خير.
واكتفي هنا بذكر طريقة السلف في إثبات الصفات (كما ذكره المؤلف حفظه الله تعالى):
أولاً: الإثبات المجمل:
حيث قام السلف بوضع قواعد كلية ومجملة في باب الأسماء والصفات، وجعلوها أصولاً وضوابط تندرج تحتها جزئيات المسائل، وترد إليها؛ ونختار منها النصوص التالية:
1-الإمام أبو حنيفة النعمان (ت 150 هـ):
قال رحمه الله في "الفقه الأكبر": "والله تعالى واحدٌ لا من طريق العدد، ولكن من طريق انه لا شريك له {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد}، لا يشبه شيئاً من الأشياء من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته الذاتية والفعلية"، وقال: "وصفاته في الأزل غير محدثة ولا مخلوقة، ومن قال إنها مخلوقة أو محدثة او وقف او شك فيهما فهو كافر بالله تعالى". وقال: "وصفاته كلها بخلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا ويرى لا كرؤيتنا".
وقال في "الفقه الأكبر -بشرح القاري": "وله يدٌ ووجهٌ ونفسٌ؛ فيما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس؛ فهو له صفاتٌ بلا كيف".
2-عبد العزيز بن عبد الله الماجشون (ت 164 هـ):
ونقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جواباً، وقد سئل عما جحدت به الجهمية؛ وفيه: "اعرف - رحمك الله - غناكَ عن تكلُّف صفةٍ ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها؛ إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف؟"، وهل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزدجر به عن شيء من معصيته؟
فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد {استهوته الشياطين في الأرض حيران} فصار يستدل - بزعمه - على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه، بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا؛ فعمي عن البين بالخفي فجحد ما سمى الرب من نفسه لصمت الرب عما لم يسم منها".
ثم ذكر الرؤية والقدم، والضحك، وغيرهما من الصفات؛ ثم قال: "فوالله ما دلهم على عظم ما وصفه من نفسه وما تحيط به قبضته: إلا صغر نظيرها منهم عندهم إن ذلك الذي ألقي في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه ولم نتكلف منه صفة ما سواه - لا هذا ولا هذا - لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف".
وتأمل قوله: "فوالله ما دلهم على عظم ما وصفه من نفسه وما تحيط به قبضته: إلا صغر نظيرها منهم عندهم … " تدرك اعتقاد السلف لإثبات المعنى المشترك المعهود في الأذهان مع نفي التمثيل بين الخالق والمخلوق.
3- أبو يوسف القاضي -صاحب أبي حنيفة (ت 182 هـ):
يقول أبو يوسف إبراهيم بن يعقوب رحمه الله فيما نقله عنه قوام السنة في "" بإسناد متصل عنه: "يُعرف الله بآياته وبخلقه، ويُوصف بصفاته، ويُسمى بأسمائه، كما وصف في كتابه، وبما أدى إلى الخلق رسولُه".
4-وتلميذه محمد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ):
يقول رحمه الله فيما رواه عنه اللالكائي في "شرح أصول السنة"، ونقله عنه ابن تيمية في "شرح التسعينية"، ما نصه: "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تغيير ولا وصف ولا تشبيه؛ فمن فسر اليوم شيئاً من ذلك، فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ لأنه قد وصفه بصفة لا شيء".
5- محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ):
ذكر ابن قدامة في "ذم التأويل"، عن يونس بن عبد الأعلى سمعت أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي يقول -وقد سئل عن صفات الله تعالى وما يؤمن به -فقال: "لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم لا يسع أحدا من خلق الله تعالى قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها؛ فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله تعالى فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالرؤية، ولا بالفكر".
6-الحسن بن علي البربهاري (ت 329 هـ)
قال في كتابه "شرح السنة": "واعلم - رحمك الله - أن الكلام في الرب محدث، وهو بدعة وضلالة، ولا يتكلم في الرب إلا بما وصف به نفسه في القرآن، وما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وهو - جل ثناؤه- واحد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ربنا أول بلا متى، وآخر بلا منتهى، يعلم السر وأخفى، وهو على عرشه استوى، وعلمه بكل مكان، ولا يخلو من علمه مكان. ولا يقول في صفات الرب: كيف؟ ولم؟ إلا شاك في الله. والقرآن كلام الله وتنزيله ونوره، ليس بمخلوق؛ لأن القرآن من الله، وما كان من الله فليس بمخلوق، وهكذا قال مالك بن أنس وأحمد بن حنبل والفقهاء قبلهما".
7- أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي (ت 371 هـ):
قال في كتابه "اعتقاد أئمة الحديث": "اعلموا رحمنا الله وإياكم أن مذهب أهل الحديث: أهل السنة والجماعة، الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقبول ما نطق به كتاب الله تعالى، وصحت به الرواية عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -إلى أن قال-: ويعتقدون أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى وموصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خلق آدم بيده، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، بلا اعتقاد كيف، وأنه عز وجل استوى على العرش، بلا كيف، فإن الله تعالى انتهى من ذلك إلى أنه استوى على العرش ولم يذكر كيف كان استواؤه".
8- محمد بن إسحاق بن منده الأصبهاني (ت 395 هـ):
.نقل عنه قوم السُّنة الأصبهاني في كتابه "الحجة في بيان المحجة" قوله: "إن الأخبار في صفات الله عز وجل جاءت متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - موافقة لكتاب الله عز وجل، فنقلها الخلف عن السلف قرنا بعد قرن من لدن الصحابة والتابعين إلى عصرنا هذا، على سبيل إثبات الصفات لله والمعرفة والإيمان به، والتسليم لما أخبر الله به في تنزيله، وبينه الرسول عن كتابه مع اجتناب التأويل والجحود وترك التمثيل والتكييف… ومن زعم أنها مُحدثة لم تكن ثم كانت على أي معنى تأوله دخل في حكم التشبيه بالصفات التي هي محدثة في المخلوق زائلة بفنائه غير باقية وذلك أن الله عز وجل امتدح نفسه بصفاته تعالى، ودعا عباده إلى مدحه بذلك… فبين مراد الله تعالى فيما أخبر عن نفسه، وبين أن نفسه قديم غير فان، وأن ذاته لا يوصف إلا بما وصف، ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المجاوز وصفهما يوجب المماثلة، والتمثيل والتشبيه لا يكون إلا بالتحقيق، ولا يكون باتفاق الأسماء، وإنما وافق اسم النفس اسم نفس الإنسان الذي سماه الله نفسا منفوسة، وكذلك سائر الأسماء التي سمى بها خلقه، إنما هي مستعارة لخلقه منحها عباده للمعرفة؛ فمن الصفات التي وصف بها نفسه ومنح خلقه الكلام، فالله تعالى يتكلم كلاماً أزليا غير معلم ولا منقطع، فبه يخلق الأشياء، وبكلامه دل على صفاته التي لا يستدركها مخلوق، ولا يبلغها وصف واصف، والعبد متكلم بكلام محدث معلم مختلف، فإن بفنائه ووصف وجهه، فقال: {كل شيء هالك إلا وجهه}؛ فأخبر عن فناء وجوه المخلوقين وبقاء وجهه، ووصف نفسه بالسمع والبصر؛ فقال: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}".
فتأمل حسن تقريره رحمه الله لمذهب السلف، وأنه الإثبات الذي بين التعطيل والتمثيل، وتأمل تأكيده على بيان النبيِّ صلى الله عليه وسلم مُراد ربه، فيما أظهر من لعباده من صفاته، وضربه المثل الواضح لهذا البيان، ثم إشارته إل سبب الاتفاق في الأسماء مع التباين في الحقيقة بقوله: "منحها عباده للمعرفة"، وقوله بعدها: "ومنحها عباده للمعرفة عند الوجود فيهم والنُّكرَةِ عند غيرهم" مما يوضح حقيقة الإثبات التي يرمي إليها السلف، وهي إثبات المعنى المعهود في الذهن على ما يليق بالرب تعالى، وهذا ينفي مذهب أهل التجهيل" المفوضة.
10- أبو منصور، معمر بن أحمد الأصبهاني (ت 418 هـ):
وقد نقل وصيته قوام السُّنة الأصبهاني بطولها في كتابه "الحجة"، وذكر في آخرها طبقات التابعين وأتباعهم من السلف الصالح، وذكر المصنفين في السنة، ثم قال: "فاجتمع هؤلاء كلهم على إثبات هذا الفصل من السنة، وهجران أهل البدعة والضلالة والإنكار على أصحاب الكلام والقياس والجدال، وأن السنة: هي إتباع الأثر والحديث، والسلامة والتسليم، والإيمان بصفات الله عز وجل من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، ولا تأويل فجميع ما ورد من الأحاديث في الصفات: مثل أن الله عز وجل خلق آدم على صورته، ويد الله على رأس المؤذنين، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، وأن الله عز وجل يضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، وسائر أحاديث الصفات… ثم قال-: كل ذلك بلا كيف ولا تأويل نؤمن بها إيمان أهل السلامة والتسليم لأهل السنة والسلامة واسعة بحمد لله ومنه، وطلب السلامة في معرفة صفات الله عز وجل أوجب وأولى، وأقمن وأحرى، فإنه {ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير} فليس كمثله شيء ينفي كل تشبيه وتمثيل، وهو السميع البصير، ينفي كل تعطيل وتأويل، فهذا مذهب أهل السنة والجماعة والأثر، فمن فارق مذهبهم فارق السنة، ومن اقتدى بهم وافق السنة".
9-الإمام ابن أبي زمنين المالكي (ت 399 هـ):
وقال الإمام محمد بن أبي زمنين في كتابه أصول السنة": "واعلم أن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله يرون الجهل بما لم يخبر به تبارك وتعالى عن نفسه علما، والعجز عما لم يدع إيماناً، وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه، وعلى لسان نبيه"، وذكر طائفة من نصوص الصفات، ثم قال: "ومثل هذا في القرآن كثير فهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض، كما أخبر عن نفسه، وله وجه ونفس وغير ذلك كما وصف به نفسه، يرى، ويسمع، ويتكلم".
11-أبو عثمان، إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (ت 449 هـ):
قال في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث": "أصحاب الحديث، حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم، يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له جل جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه، فيقولون: إنه خلق آدم بيده، ولا يحرفون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين، أو القوتين، تحريف المعتزلة الجهمية، أهلكهم الله، ولا يكيفونهما بكيف أو تشبيههما بأيدي المخلوقين، تشبيه المشبهة، خذلهم الله، وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتكييف، ومن عليهم بالتعريف والتفهيم، حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واتبعوا قول الله عز وجل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين والوجه والعلم والقوة والقدرة، والعزة والعظمة والإرادة، والمشيئة والقول والكلام، والرضا والسخط والحياة، واليقظة والفرح والضحك وغيرها من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى، وقاله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه، ولا تكييف له ولا تشبيه، ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب، وتضعه عليه بتأويل منكر، ويجرونه على الظاهر، ويكلون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله، كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولونه في قوله تعالى: {والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا. وما يذكر إلا أولو الألباب}".
وقد تضمن هذا السياق بياناً وافياً شافياً لمعتقد أهل الحق المبني على الإثبات، السالم من عوارض التمثيل، والتعطيل، وتأمل قوله: ""؛ فإنه شجىً في حلوق المجهلة؛ حيث يتضمن إثبات المعنى الذي دلت عليه اللغة، وإجراء على ظاهره مع اعتقاد التنزيه، ووكل كيفيته وما يؤول إليه في الواقع والحقيقة إلى الله تعالى.
12-أبو بكر، أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (ت 463 هـ):
روى عنه الموفق المقدسي في كتابه "ذم التأويل" قوله: "أما الكلام في الصفات؛ فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف رضي الله عنهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها.
والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف؛ فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.
فإذا قلنا لله تعالى يد وسمع وبصر فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله تعالى لنفسه، ولا نقول إن معنى اليد القدرة ولا أن معنى السمع والبصر العلم ولا نقول إنها الجوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات الفعل، ونقول إنما ورد إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشورى 11) وقوله عز وجل {ولم يكن له كفوا أحد} (الإخلاص 4)".
13-أبو عمر، يوسف بن عبد البر النمري (ت 463 هـ):
قال في كتابه "التمهيد": " أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة.
وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج؛ فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أثبتها نافون للمعبود؛ والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله".
وأما الحنابلة؛ فنصوصهم وتقريراتهم في ذلك أشهر من أن تُذكر، بدءاً من الإمام أحمد، ثم كبار الأصحاب من بعده، وبهم اشتهر مذهب الإثبات، وإليهم نُسب عند كثيرٍ من المؤرخين، خاصَّةً من خصومهم، وخصوم طريقة الإثبات (وانظر لذلك: مسائل الإمام أحمد -رواية الكوسج، وعنه الآجري في الشريعة، والرسائل والمسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة، وشرح السنة للبربهاري، والإبانة لابن بطة، وعقيدة الحافظ عبد الغني).
ثانياً: الإثبات المفصل:
وقد جاءت عبارات كثيرةٌ عن السلف بإثبات معاني لصفات مُعينة، لا سيما صفات: الكلام، والرؤية، والعلو، والاستواء، والنزول لله تعالى، خاصة بسبب تحريفات الجهمية لمعانيها الصحيحة أكثر من غيرها، والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، حيث لا يفرقون بين المتماثلات، كما لا يُسوون بين المختلفات، ومن أمثلة ما ورد عن السلف في ذلك:
1-صفة الاستواء:
روى الإمام اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" بسنده عن الإمام مالك (ت 179 هـ) حينما: "سئل عن الاستواء؛ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنده بدعة".
وروى أيضاً بسنده عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن رحمه الله (ت 142 هـ)؛ وقد سئل عن الاستواء؛ فقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق".
وقوله (الاستواء غير مجهول) يعني: هو معلوم لدينا؛ لأنه يعني العلو والارتفاع (والكيف غير معقول)، لا نستطيع أن نعقله؛ لأن العقل لا يدرك إلا ما أحاط به، أما شيء غيبي فلا يدخل في مقدور العقل ولا في حدوده؛ فكيف يعقله؟ أو كيف يكيفه ذلك العقل؟ قال: (ومن الله الرسالة) أي: الأمر بإثبات ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله، و(على الرسول البلاغ) وقد بلغ، و(علينا التصديق)، أي: الإيمان بما فرض الله عز وجل علينا.
وروى اللالكائي عن ابن الأعرابي (ت 231 هـ)، أنه سئل عن آية الاستواء فقال: "هو على عرشه كما أخبر عز وجل؛ فقيل له: يا أبا عبد الله ليس هذا معناه، إنما معناه استولى، قال: اسكت ما أنت وهذا؟ لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد؛ فإذا غلب أحدهما قيل استولى".
وروى البيهقيُّ في كتابه "الأسماء والصفات"، بسنده -عن الأوزاعي (ت 157 هـ)؛ قال: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا".
ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" عن عقيدةٍ لأبي نُعيم الأصبهاني (ت 430 هـ) صاحب "الحلية"، قال في أولها: "طريقتنا طريقة المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ قال: فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله يقولون بها؛ ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه: لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه".
وروى أبو عثمان الصابوني في "عقيدة السلف أصحاب الحديث" بسنده عن عبد الله بن المبارك رحمه الله (ت 181 هـ) قال: "نعرف ربنا فوق سبع سموات على العرش استوى بائناً منه خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية إنه ها هنا. وأشار إلى الأرض"
والآثار في هذا كثيرةٌ جداً، والمقصود التمثيل لا الحصر والاستيعاب.
2- صفة النزول:
قال اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة": قال حنبل بن إسحاق: "سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا» ، فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها ولا نرد شيئاً منها إذا كانت أسانيد صحاح، ولا نرد على رسول الله قوله، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق؛ حتى قلت لأبي عبد الله: ينزل الله إلى سماء الدنيا قال: قلت: نزوله بعلمه بماذا؟ فقال لي: اسكت عن هذا، مالك ولهذا أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد، إنما جاءت به الآثار وبما جاء به الكتاب قال الله عز وجل: {فلا تضربوا لله الأمثال} (النحل: 74) ينزل كيف يشاء بعلمه وقدرته وعظمته، أحاط بكل شيء علماً، لا يبلغ قدره واصف ولا ينأى عنه هرب هارب"
ففي هذه الحكاية تحقيق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان به، والتصديق به على وجه الإثبات.
وروى أبو عثمان الصابوني في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث" بسنده عن محمد بن سلام؛ قال: "سألت عبدالله بن المبارك عن نزول ليلة النصف من شعبان، فقال عبدالله: يا ضعيف ليلة النصف! ينزل في كل ليلة، فقال الرجل يا أبا عبدالله! كيف ينزل؟ أليس يخلو ذلك المكان منه؟ فقال عبدالله: ينزل كيف يشاء".
وفي رواية أخرى لهذه الحكاية أن عبدالله ابن المبارك قال للرجل: "إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصغ له".
وقال الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت 311 هـ) في كتابه "التوحيد": "باب ذكر أخبار ثابتة السند صحيحة القوام رواها علماء الحجاز والعراق عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليلة، نشهد شهادة مقر بلسانه، مصدق بقلبه، مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب من غير أن نصف الكيفية، لأن نبينا المصطفى لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى سماء الدنيا، أعلمنا أنه ينزل والله جل وعلا لم يترك، ولا نبيه عليه السلام بيان ما بالمسلمين الحاجة إليه، من أمر دينهم.
فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية النزول وفي هذه الأخبار ما بان وثبت وصح: أن الله جل وعلا فوق سماء الدنيا، الذي أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه ينزل إليه، إذ محال في لغة العرب أن يقول: نزل من أسفل إلى أعلى، ومفهوم في الخطاب أن النزول من أعلى إلى أسفل".
وهكذا فهم السلف الصالح خطاب الشارع، واستيقنوه، وفهموه، وجزموا به بهذه الثقة والوضوح في البيان؛ لا يُجمجمون فيه، ولا يُراوغون كما تفعل المبتدعة؛ فقد فهم السلف النصوص على مقتضى لغة العرب، لأن النصوص نزلت بها، ولا يوجب لهم ذلك لوازم وهمية، وإشكالات فاسدة؛ كالتي ألقاها شياطين الجن والإنس في القلوب المريضة.
وقال أبو الحسن الأشعري (ت 260 هـ) في كتابه "الإبانة عن أصول الديانة": "ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل عن النزول إلى سماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: (هل من سائل، هل من مستغفر)، وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قاله أهل الزيغ والتضليل".
3-صفة الكلام:
روى اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، عن الإمام أحمد بن حنبل، وقد سأله حنبل: "يكلم الله عبده يوم القيامة؟ قال: نعم، فمن يقضي بين الخلق إلا الله، يكلمه الله عز وجل، ويسأله الله عز وجل متكلم لم يزل بما شاء ويحكم، وليس لله عدل ولا مثل تبارك وتعالى كيف شاء وأنى شاء".
وروى البيهقيُّ بسنده -عن محمد بن إسحاق بن راهويه القاضي بمرو (ت 238 هـ)؛ قال: "سئل أبي وأنا أسمع عن القرآن، وما حدث فيه من القول بالمخلوق، فقال: القرآن كلام الله وعلمه ووحيه ليس بمخلوق، ولقد ذكر سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة فذكر معنى هذه الحكاية -وزاد: فإنه منه خرج وإليه يعود.
قال أبي: وقد أدرك عمرو بن دينار أجلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البدريين والمهاجرين والأنصار، مثل: جابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، وأجلة التابعين رحمة الله عليهم، وعلى هذا مضى صدر هذه الأمة لم يختلفوا في ذلك".
وحسبك بهذا الإجماع الذي انتظم أجلة الصحابة والتابعين، وحكاه هذا التابعي الجليل عمرو بن دينار رحمه الله -دليلاً على إثبات هذه الصفة على حقيقتها اللائقة بالله تعالى، وأنهم أبعد الناس عن القول بالتجهيل أو التهوك في التحريف.
4-صفة الوجه:
قال ابن خزيمة رحمه الله بعد أن ساق الآيات القرآنية المتضمنة ذكر وجه الباري عز وجل: "فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن، والعراق والشام ومصر، مذهبنا: أنا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عز ربنا عن أن يشبه المخلوقين…" وساق أدلة كثيرة على إثبات صفة الوجه لله تبارك وتعالى.
وقال الإمام ابن خزيمة عند حديثه عن "صفة الضحك" وإثباتها لله عز وجل: "باب ذكر إثبات ضحك ربنا عز وجل بلا صفة تصف ضحكه، جل ثناؤه، لا ولا يشبه ضحكه بضحك المخلوقين، وضحكهم كذلك، بل نؤمن بأنه يضحك، كما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم ونسكت عن صفة ضحكه جل وعلا، إذ الله عز وجل استأثر بصفة ضحكه، لم يطلعنا على ذلك، فنحن قائلون بما قال النبي صلى الله عليه وسلم مصدقون بذلك، بقلوبنا منصتون عما لم يبين لنا، مما استأثر الله بعلمه".
ونختم ما ذكره الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين" بقوله: "هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة، وجملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار: بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئاً، وأن الله سبحانه إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولداً وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور. وأن الله سبحانه على عرشه كما قال: {الرحمن على العرش استوى} وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خلقت بيدي}، وكما قال: {بل يداه مبسوطتان}، وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تجري بأعيننا}، وأن له وجهاً كما قال: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}... إلى أن قال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل وبه نستعين وعليه نتوكل وإليه المصير".
ثالثاً: الرد على المخالفين:
ولم يكتف السلف بالإثبات حتى نابذوا غيرهم من فرق المبتدعة، وبينوا زيف قولهم، وأغلظوا عليهم، ومن ذلك نماذج واضحة عنهم، منها:
1-في صفة الرؤية:
روى اللالكائي بسنده في كتابه "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، عن الأوزاعي؛ قال: "إني لأرجو أن يحجب الله عز وجل جهماً وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعده أولياءه حين يقول: {وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة} فجحد جهم وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعد أولياءه".
وروى الدارقطني في كتابه "الصفات" عن وكيع رحمه الله؛ وقد حدث بحديثٍ في الرؤية أو غيره؛ فقال: "من رأيتموه ينكر هذه الأحاديث فاحسبوه من الجهمية".
وروى الدارقطني، عن عباد بن العوام؛ قال: "قدم علينا شريك بن عبد الله، فقلنا: إن عندنا قوما من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث: «إن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا»، «وإن أهل الجنة يرون ربهم»، فحدثني شريك بنحو من عشرة أحاديث في هذا وقال: أما نحن فأخذنا ديننا عن أبناء التابعين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم عمن أخذوا".
وعند اللالكائي في "كتابه" بلفظ: "إنما جاءنا بهذه الأحاديث من جاءنا بالسنن في الصلاة والزكاة والحج، وإنما عرفنا الله بهذه الأحاديث".
وروى الدارقطني في "الصفات" عن أبي رئاب عقبة بن قبيصة بن عقبة قال: "أتينا أبا نعيم يوماً، فنزل إلينا من الدرجة التي في داره، فجلس في وسطنا كأنه مغضب فقال ابتداء: حدثنا سفيان بن سعيد بن مسروق، عن حمزة الثوري، وحدثنا زهير بن معاوية بن خديج بن رحيل الجعفي، وحدثنا حسن بن صالح بن حي، وحدثنا شريك بن عبد الله النخعي، هؤلاء أبناء المهاجرين، يحدثون أن الله عز وجل يرى في الآخرة، حتى جاءنا ابن يهودي صباغ فزعم أن الله لا يرى» يعني بشرا المريسي!!".
2-في صفة النزول:
روى اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" عن عبد الله بن طاهر، قيل لإسحاق بن راهويه ما هذه الأحاديث التي يحدث بها: "أن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا، والله يصعد وينزل؟ قال: فقال له إسحاق: تقول إن الله يقدر على أن ينزل ويصعد ولا يتحرك؟ قال: نعم، قال: فلم تنكر؟".
وفي رواية لأبي عثمان الصابوني أنه قال: "أعز الله الأمير: لا يُقال لأمر الرب كيف؟ إنما ينزل بلا كيف".
وساقها أبو عثمان في كتابه "اعتقاد السلف أصحاب الحديث" بمعنى مختلفٍ؛ عن أحمد بن سعيد بن إبراهيم بن عبدالله الرباطي يقول: "حضرت مجلس الأمير عبدالله بن طاهر ذات يوم وحضر إسحاق ابن إبراهيم يعني ابن راهويه، فسئل عن حديث النزول: أصحيح هو؟ قال: "نعم" فقال له بعض قواد عبدالله يا أبا يعقوب أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: "نعم" قال: "كيف ينزل؟" فقال له إسحاق: "أثبته فوق حتى أصف لك النزول، فقال الرجل: "أثبته فوق" فقال: إسحاق: قال الله عز وجل: (وجاء ربك والملك صفا صفا) فقال الأمير عبدالله: "يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة" فقال إسحاق: أعز الله الأمير، ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟".
وثبت عن الفضيل بن عياض (ت 187 هـ)، ويحيى بن معين (ت 233 هـ): "إذا قال لك الجهميُّ: أنا كفرتُ برب ينزل؛ فقل: أناأؤمن بربٍّ يفعل ما يشاء".
3-في صفة العلو والاستواء:
نقل ابن تيمية في "المجموع" عن كتاب "الفقه الأكبر" لأبي حنيفة -من رواية أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قوله: "عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض: فقد كفر لأن الله يقول: {الرحمن على العرش استوى} وعرشه فوق سبع سموات؛ قلت فإن قال: إنه على العرش استوى ولكنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل".
وعلق على ذلك ابن تيمية؛ فقال: "ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه: أنه كفر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؛ فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول ليس في السماء؛ أو ليس في السماء ولا في الأرض؟".
وإذا كان أبو حنيفة كفَّر الواقف، وقاس عليه شيخ الإسلام الجاحد قياساً أولوياً، فكيف يكون المجهّل الذي يزعم أن النص لا يُفيد سامعه علماً أصلاً؟!!
وذكر عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه "السنة" بإسناده، عن يزيد بن هارون، وقيل، له: "من الجهمية؟ فقال: من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي"
وهذا القول ظاهرٌ جداً، في أن إثبات صفة العلو مما فطر عليه الناس، خلاف الذين انحرفت فطرهم، واعتلت أمزجتهم بلوثات الجهمية المعطلة.
4-في الرد على منكري الصفات عامة
ذكر الإمام أبو يعلى الفراء في كتابه "إبطال التأويلات" جملة آثار أخرجها إليه أبو القاسم القشيري من مقالة السلف في أخبار الصفات:
"بإسناده عن مطرف بن عبد الله، يقول: سمعت مالك بن أنس، يقول: إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وولاة الأمر بعده سنناً، وسن الأخذ بها اتباعاً لكتاب الله، واستكمالاً لطاعة الله، وقوة على دين الله سبحانه، ليس لأحد من الخلق تفسيرها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً".
و"بإسناده عن عبد الرحمن بن عمر، قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي، وذكر عنده الجهمية ينفون أحاديث الصفات اليد والرجل، ويقولون: الله أعظم من أن يوصف بشيء! قال عبد الرحمن بن مهدي: قد هلك قوم من هذا الوجه يعني: من وجه التعظيم، قالوا: الله أعظم من أن ينزل كتاباً أو يرسل رسولاً، ثم قرأ: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء}، ثم قال: فهل هلكت المجوس إلا من جهة التعظيم، قالوا: الله أعظم من أن نعبده، ولكن نعبد من هو أقرب إلينا فعبدوا الشمس وسجدوا لها، فأنزل الله: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} هذا الكلام أو نحوه".
"وبإسناده عن حماد بن سلمة، قال: من رأيتموه ينكر هذه الأحاديث فاتهموه على الدين".
"وبإسناده عن أبي معمر الهذلي: من زعم أن الله تعالى لا يتكلم ولا يبصر ولا يسمع ولا يعجب ولا يضحك ولا يغضب، وذكر أحاديث الصفات فهو كافر بالله، ومن رأيتموه على بئر واقف فألقوه فيها".
"وبإسناده عن يزيد بن هارون: من كذب بأحاديث الصفات فهو بريء من الله والله منه بريء".
ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أبي عبد الله محمد بن خفيف (ت 371 هـ) من كتابه "اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات" كلاماً طويلاً، يقول فيه: "فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة موافقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم متداولة في الأقوال ومحفوظة في الصدر ولا ينكر خلف عن السلف ولا ينكر عليهم أحد من نظرائهم نقلتها الخاصة والعامة مدونة في كتبهم إلى أن حدث في آخر الأمة من قلل الله عددهم ممن حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم ومكالمتهم وأمرنا أن لا نعود مرضاهم ولا نشيع جنائزهم فقصد هؤلاء إلى هذه الروايات فضربوها بالتشبيه وعمدوا إلى الأخبار فعملوا في دفعها إلى أحكام المقاييس وكفر المتقدمين وأنكروا على الصحابة والتابعين؛ وردوا على الأئمة الراشدين فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل".
وبالجملة فإن كتب "السنة" و"الأصول" طافحةٌ بالمنقول عن السلف في النكير على المخالفين لطريقتهم السنية النبوية في الإثبات مع التنزيه، وعامة هذه الآثار منصبةٌ على نفاة الصفات من الجهمية وفروعهم من الكلابية الأشعرية والماتريدية.
رابعاً: تحقيق الإثبات:
وقد ورد عن السلف في تحقيق الإثبات وتأكيده نصوصٌ كثيرة، إما قولية أو فعلية تؤكد إرادتهم حقيقة المعنى، نذكر منها:
ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، عن أبيه بسنده، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "في قوله عز وجل {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} قال: قال: «هكذا، يعني أخرج طرف الخنصر» قال أبي: أرناه معاذ (شيخ الإمام أحمد) فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد؟ قال: فضرب صدره ضربة شديدة، وقال: من أنت يا حميد وما أنت يا حميد؟ حدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، تقول أنت ما تريد إليه؟ حدثني أبي قال: حدثني من سمع معاذاً يقول: وددت أنه حبسه شهرين يعني لحميد".
وفي رواية لابن خزيمة، قال: "قال معاذ: بأصبعه هكذا، وأشار بالخنصر من الظفر يمسكه بالإبهام قال: فقال حميد لثابت: يا أبا محمد، دع هذا، ما تريد إلى هذا؟ قال: فضرب ثابت منكب حميد، وقال: ومن أنت يا حميد؟، وما أنت يا حميد، حدثني به أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت: دع هذا".
وفي رواية لابن جرير في تفسيره "جامع البيان": "فقال حميد لثابت: تقول هذا؟ قال: فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد، وقال: يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله أنس وأنا أكتمه".
وقال الإمام الحافظ ابن منده في "إبطال التأويلات": "وهذا الحديث مشهورٌ، وقد روي من طرق عن أنس بن مالك".
وهنا ترى أن السلف لم يروا غضاضةً من التحديث بهذه الأحاديث، وكيف أنهم أقاموا الحجة الدامغة أمام من يعترض على روايتها؛ ويعزروه بالقول والفعل، ويقول معاذ مستنكراً: (يقول رسول الله، ويقول أنس، وأنا أكتمه؟) أمام ن يقول له (مالك ولهذا، أو دع هذا؟) !.
وروى أبو داود، وابن خزيمة -بإسنادٍ صحيح، عن أبي هريرة، قال في قوله تعالى: "{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله كان سميعاً بصيراً} قال: رأيت رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه. قال أبو هريرة: رأيت رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، يقرؤها ويضع إصبعيه".
"قال ابن يونس: قال المقرئ: يعني (إن الله سميع بصير) يعني: أن لله سمعاً وبصراً، وقال أبو داود: وهذا ردٌّ على الجهمية".
وروى ابن جرير الطبري في "جامع البيان"، عن عبد الله بن عمرو، يقول: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيديه» وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، وجعل يقبضهما ويبسطهما، قال: ثم يقول: أنا الرحمن أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون" وتمايل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه وعن شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟"
فكان ذلك يجري من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُفيد تحقيق الصفة المذكورة، دون أن يوجب لأصحابه -وحاشاهم رضي الله عنهم -شبهة التمثيل، وعلى هذا جرى سلف الأمة من الصحابة والتابعين، يتسلسل الحديث عنهم قولاً وفعلاً؛ فيكون ذلك زيادةً في تحقيق الإثبات، ومنعاً للإلحاد في أسماء الله وصفاته.
وروى ابن ماجه في سننه بإسناد صحيح، عن أنس بن مالك، قال: "كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أن يقولَ: اللَّهمَّ ثبِّتْ قلبي على دينِكَ، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ تخافُ علينا وقد آمنّا بِكَ وصدَّقناكَ بما جئتَ بِهِ، فقالَ: إنَّ القُلوبَ بينَ إصبعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ عزَّ وجلَّ يقلِّبُها"، وفي روايةٍ عند ابن خزيمة: "وأشار بأصبعه".
وروى مسلمٌ عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قاتَلَ أحَدُكُمْ أخاهُ، فَلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ، فإنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ على صُورَتِهِ".
ورواه عبد الله بن الإمام أحمد في "السنة"؛ قال: حدثني أبي، سمعتُ الحميدي، وحدثنا سفيان بهذا الحديث، يقول: هذا الحق، وهذا الحق، ويتكلم به، وابن عُيينة ساكت، قال أبي: ما يُنكر قوله، كأنه أعجبه".
فها هم سلف هذه الأمة يُحققون دلالة النصوص لفظاً ومعنىً، مع تنزيهه تعالى عن مماثلة المخلوقين، ويتكلمون بذلك، ويُقرون من يتكلم به، لا يعرفون غير الإثبات، فأين الزاعمون أن السلف كانوا مجرد حملة أسفار يروون ولا يفقهون! وينقلون ولا يعقلون!.
خامساً: الرواية والتبويب والتصنيف في الصفات:
ومن أقوى الأدلة على فهم السلف لنصوص الصفات فهماً يقتضي الإثبات والإقرار بما دلت عليه من المعاني: أن عمدوا إلى رواية أحاديث الصفات فتعاهدوها بالنقل والرواية، وبوبها في أبواب خاصة في كتب السنن والمجامع والصحاح، ثم أفردوها بالتصنيف، وترجموا لها التراجم الدالة على إرادة الإثبات، ومما يدل على عنايتهم بروايتها:
ما نقله أبو يعلي بن الفراء، عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد الختلي رحمه الله في كتابه "العظمة" بإسناده عن أبي عمرو البصري، قال: "كان أول من خرج هذه الأحاديث أحاديث الرؤية، وجمعها من البصريين حماد بن سلمة، فقال له بعض إخوانه: يا أبا سلمة، لقد سبقت إخوانك بجمع هذه الأحاديث في الوصف، قال: سمعت حماد بن سلمة، يقول: إنه والله ما دعتني نفسي إلى إخراج ذلك إلا أني رأيت العلم يخرج رأيت العلم يخرج رأيت العلم يخرج، يقولها ثلاثاً وهو ينفض كفه، فأحببت إحياءه وبثه في العامة لئلا يطمع في خروجه أهل الأهواء".
فهذا الإمام حماد بن سلمة رحمه الله يُبين أن سبب جمعه وتخريجه لأحاديث الرؤية أمران:
أحدهما: وجوب إخراج العلم وعدم كتمانه.
والثاني: قطع الطريق على أهل الأهواء أن يُحرفوا النصوص تحريفاً لفظياً أو معنوياً؛ فيُضلوا الناس بذلك.
فلأجل هذين الأمرين بارد وسابق رحمه الله إلى إخراج مروياته.
وعمد بعض السلف الذين صنفوا في الصحاح والسنن فبوبوا أبواباً، وعقدوا كتباً في مصنفاتهم الجامعة خاصة بأحاديث الصفات، فلا يكاد يخلوا كتابٌ من كتب السنة من هذه الكتب والأبواب، ونضرب مثلاً بصحيح البخاري/ فقد ختم كتابه العظيم "كتاب التوحيد"، وضمنه أبوباً منها:
باب قول الله تبارك وتعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} (الإسراء: 110).
باب قول الله تعالى: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (الذاريات: 58)
باب قول الله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} (الجن: 26).
باب قول الله تعالى: {السلام المؤمن} (الحشر: 23).
باب ما يذكر في الذات والنعوت وأسامي الله عز وجل.
كما عمد طائفةٌ من السلف إلى تصنيف كتب متخصصة في الصفات، لا يخلطونها بغيرها من أحاديث الآداب والأحكام، يسمونها "كتب السنة"، وبعضهم يُصنف ابتداءً في النكير على الجهمية، ونقض شبههم، ومن ذلك:
1- كتاب (الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن، وتأولوه غير تأويله) للإمام أحمد بن حنبل.
2-كتاب (التوحيد وإثبات صفات الرب) لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة.
وصنف غيرهما في الصفات كتباً معروفةً ومشهورة كثيرة.
وكذلك نذكر هنا:
- لوازم مذهب التفويض وأدلة بطلانه:
أولاً: اللوازم الباطلة التي تلزم مذهب التفويض:
من القضايا العقلية المقررة أن فساد اللازم دليلٌ على فساد الملزوم، وأن الفرع تابعٌ للأصل، ولما كان مذهب التفويض فاسداً في أصله ومبناه، ترتبت عليه نتائج فاسدة بالإجماع، وتجعل الخصم أمام طريقين لا ثالث لهما، وهما: إما الالتزام الفاسد محافظةً على الملزوم؛ فيقع القائل به في الكفر أو الشناعة البالغة، وإما رفض ذلك الملزوم والبراءة منه، وهذه الطريقة من أحسن طرق المناظرة وأقواها، وقد كان السلف يعتمدون عليها، ويستعملونها في إبطال حجج الخصوم.
والقول بالتفويض في باب صفات الله يستلزم عدة لوازم باطلة، منها:
أولاً: القدح في حكمة الرب عز وجل:
حيثُ أنزل كلاماً لا يتمكن المخاطبون به من فهمه، ومعرفة معناه، ومراد المتكلم به؛ فأيُّ فائدةٍ لهم فيه؟! والحكمة: وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، وليس من الحكمة أن يوجه المرء كلاماً: خبراً كان أو طلباً لمن لا يفهم مراده، فضلاً عن أن يكون الفهم ممتنعٌ عليه أصلاً، ولا سبيل إليه، بل ذلك سفهٌ وعبثٌ يُنزه الله عنه، وهؤلاء المفوضة قالوا: قد خاطب الله العباد بمعاني لا يفهمونها، وحظهم منها التعبد بتلاوة ألفاظها فقط.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى": "وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك. فلقبوها: (هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه). و(ما تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم) فجوز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية (آية آل عمران)، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه. والغالب على كلا الطائفتين الخطأ أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قيل فيه: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني} وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.
ومن المتأخرين من وضع المسألة بلقب شنيع فقال: (لا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئا خلافا للحشوية). وهذا لم يقله مسلم إن الله يتكلم بما لا معنى له. وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم معناه؟ وبين نفي المعنى عند المتكلم ونفي الفهم عند المخاطب بون عظيم".
والحق أن انتفاء الفهم من المخاطبين بالنص مُنافٍ لمراد الله وحكمته بإرسال الرسل؛ فقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم 4)، وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام 38)،ثم إن ثمرة التلاوة لآيات الله هي التفكر والتدبر، وقد ذمَّ الله من يقرأ ولم يتعقل الخطاب؛ لأنه لم يُحقق العلم بالكتاب، وكان حظه "الظن"؛ فكيف بمن لا يعلم الكتاب أصلاً {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون}!!
ثانياً: الوقوع في التعطيل المحض:
وذلك أن من يثبت ألفاظ الصفات دون ما دلت عليه من المعاني يكون مُعطلاً لتلك الصفات التي أثبتها الله لنفسه، ولا فرق حينئذٍ بينه وبين المعتزلة الذين يجعلون أسماء الله تعالى أعلاماً لا أوصافاً، حيث يزعمون أن تلك الأسماء بمنزلة الألفاظ المترادفة، فاشتركوا في نفي المعنى الظاهر، وانفرد المفوضة بإثبات معانٍ مجهولة لتلك الأسماء والصفات، بينما لا يعتقد المعتزلة وجود معانٍ لها قائمة أصلاً في ذات الرب، ولكن من حيث الأثر على المتعبدين لله لا فرق بين الطريقتين؛ لأن كلا الطريقتين قطع لطريق تمجيد الرب وتعظيمه، وحرمانٌ للعبد من هذه المعاني الشريفة، والعبادات القلبية المتعلقة بها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى": "فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية وأفضل، وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول؛ فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا".
وقال: "ولأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه… وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر".
ثالثاً: الطعن في القرآن:
وقد وصف الله عز وجل كتابه الكريم بجملة أوصافٍ منها:
الفرقان؛ قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان 1).
البرهان والنور؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (النساء 174).
الهدى والشفاء والرحمة والموعظة؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس 57).
وأنه مُبين؛ قال تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (المائدة 15).
وأنه مُفصَّل؛ قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت 3).
وأنه بيان؛ قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران 138).
وأنه مُبيَّن، قال تعالى: { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة 19).
والشاهد مما سبق أن هذه الأسماء والأوصاف الثابتة للقرآن الكريم تقتضي اقتضاءً تاماً أنه في أعلى المقامات من الوضوح والبيان، وتدفع دعوى اللبس والجهل بمعانيه، فمن زعم أن في القرآن ما لا سبيل إلى فهمه، فقد طعن في القرآن طعناً بليغاً، وشكك في مقاصده ووفائه بحاجة الأمة إليه، لا سيما في هذا الباب العظيم، وهو (باب العلم بالله).
فهذا القرآن فرقان: يُفرق بين العلم والجهل، وبرهان تقوم به الحجة على من خالفه، وهو نورٌ يكشف عن معانيه الظاهرة، ومقاصده العالية، وهو هُدىً وشفاء في بيانه، ورحمة وموعظة، وهو مُبِينٌ، ومُبيِّنٌ، وتبيانٌ، وبيان، في غاية الوضوح والظهور، والحاصل أن مذهب المفوضة في أسماء الله وصفاته هو مذهب حيرةٍ وضلال، لأن العقل والشرع يُحيلان الأوصاف التي لا تُعقل معانيها.
رابعاً: غلق باب التدبر لكتاب الله تعالى:
وقد أمر الله سبحانه بتدبر كتابه مطلقاً دون استثناء؛ فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص 29).
وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} (المؤمنون 68)، وقال جل وعلا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد 24)، وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء 82).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مُعلقاً على الآية الأخيرة: "ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله، وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفة ما لم يُتَدبر لما تدبر".
أما من سلك مسلك المفوضة؛ فإنه يُغلق على نفسه باب التدبر، ويُعارض الأمر الصريح في القرآن بالكف عن التدبر في أهم وأولى وأوجب ما ينبغي أن يُتدبر فيه، وكل ذلك بلا دليل على التخصيص بل بمخالفة الدليل.
خامساً: مصادمة النصوص الدالة على الإثبات، واعتقاد أن ظوهر هذه الأدلة تدلُّ على ما لا يليق به سبحانه!
فالمفوض شارك غيره من المعطلة بالاعتقاد بأن ظواهر تلك النصوص تدلُّ على التمثيل، وعدَّه الصاوي في "حاشيته على الجلالين" أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر!! وقال السنوسي على أم "البراهين": "التمسك بأصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة هو أصل الضلالة" عياذاً بالله تعالى،
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا: أنه لم يبين الحق، ولا أوضحه، مع أمره لنا أن نعتقده، وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه، بل دل ظاهره علي الكفر والباطل، وأراد منا أن نفهم منه شيئاً، أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه، وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد".
سادساً: تجهيل النبيِّ صلى الله عليه وسلم والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين:
وهذا لازم مذهب التفويض، ومقتضى قولهم الباطل، وقد الله عز وجل بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم مُبيناً للناس، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44). وقال أيضاً: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل: 64).
ومن لازم كونه صلى الله عليه وسلم لا يعلم معاني نصوص الصفات أن يكون أصحابه رضوان الله عليهم والأمة من بعدهم لا علم لهم في هذا الباب الشريف، الذي هو أصل الدين وزبدة الرسالة الإلهية، وحسبك بهذا الأمر دليلاً على فساد الملزوم؛ وكيف تُطبق الأمة على الجهل بمعاني أسماء الله وصفاته.
وكيف يُجوِّزُ هؤلاء المفوضة أن يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم جاهلاً بمعاني صفات الله، أو لا يعقل خطاب الله في أهم مسائل الدين، وهو أعقل الناس لباً، وأعلمهم بالله، مع إخباره عن الله بهذه المعاني الشريفة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه، لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه، وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة، والنصوص المثبتة للأمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة، والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة.
ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء، إذ كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنه جعله هدىً وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته، أو عن كونه خالقاً لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمر ونهي، ووعد وتوعد، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر، لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين
وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة لا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به؛ فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء، لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون: فضلاً عن أن يبينوا مرادهم؛ فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد".
سابعاً: مخالفة طريقة السابقين الأولين، وسبيل المؤمنين من سلف هذه الأمة:
فكيف استساغ هؤلاء المفوضة (أهل التجهيل) أن يجعلوا الأجيال المتعاقبة من هذه الأمة وفضلائها من المحدثين والفقهاء والعلماء العدول جهلةً بمعاني النصوص، يروون أحاديث الصفات، ويقرأون آيها، بلا وعيٍ ولا إدراك، وماذا يصنعون بأثر عبد الله بن مسعود، الذي يقول فيه: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن".
وق أدوا هذا العلم إلى من بعدهم من التابعين، كما تحملوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال مسروق رحمه الله: "كان عبد الله يقرأ علينا السورة، ثُم يُحدثنا فيها، ويُفسرها عامة النهار".
***********
ثانياً: أدلة بطلان التفويض سمعاً وعقلاً:
أولاً: الأدلة السمعية:
قوله سبحانه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)؛ فقد تكفل الله بحفظ هذا القرآن بلفظه فلا تصل إليه أيدي المُحرفين، وبمعناه فلا تطاله أيدي المؤولين والمُعطلين، وكلما همَّ أحدٌ من المعطلة أو نفاة الصفات أن يستدلَّ بآية من الآيات على بدعته ظلماً وعدواناً، وتمويهاً وتلبيساً، لاحت له آيةٌ أخرى تنقض مطلوبه، وتردُّ الحق إلى نصابه، بل إن الراسخين في العلم يستخرجون مما استدلَّ به المبتدع دليلاً عليه.
وكذلك الحال في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد حفظها الله لفظاً ومعنىً بما قيض الله لها من أهل العلم والفقه والرواية في كل جيل، فيميزون بين الصحيح والضعيف، ويوجهون دلالتها؛ فتسير الأدلة جنباً إلى جنب، لا تعارض بينها ولا اختلاف؛ لأنها خرجت من مشكاة واحدة.
أولاً: النصوص الآمرة بالتعقل والفهم لهذا الكتاب:
وقد سبقت أدلة سمعية كثيرة تدلُّ على أن القرآن جاء واضحاً؛ وأنه هُدىً للناس، وبيانٌ لهم، وأنه نزل بلسانٍ عربيٍّ مُبين، وأنه مُنزَّلٌ للتعقُّل والفهم، وهذا يقتضي العلم بمعانيه، قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف 2)، وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} (الرعد 37)، وقال جل شأنه: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (طه 113)، وقال جل وعلا: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف 3)، وكذلك نزل مُفصَّل الآيات ليحصل العلم بمعانية؛ قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت 3).
فجعل الله سبحانه اللغة العربية وعاءً لمعاني كلامه، يعقله أهل هذا اللسان جرياً على ما هو معهودٌ في لغتهم وتخاطبهم، وأساليبهم وتراكيبهم المختلفة.
وهذا الوصف ردٌّ بليغ على دعاة التفويض الذين جعلوا بعض كلام الله تعالى المنزل باللسان العربي المُبين، بمنزلة الألفاظ الأعجمية والحروف المبهمة التي لا يُعرف منها إلا الصورة والصوت والرسم فقط، وأما ما تضمنته من معانٍ شريفة وأوصافٍ جليلة فلا حظَّ لهم فيها.
ولما كان عدم فهم الخطاب حجة للمخاطب؛ قطع الله هذه الحجة على المخالفين؛ فقال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (فصلت 44)، وكأن هؤلاء المفوضة يردُّون هذه الآية ويقولون: بلى قد جعلت بعض هذا القرآن بمنزلة الكلام الأعجمي، ولم تُفصل آياته.
وقال سبخانه: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}(الشعراء 198 -199) فبين سبحانه أن اختلاف اللسان سببٌ لعدم الإيمان، فكيف بمن يستدي ذلك ويزعم أن الكلام الموجه إليه بصريح لغته وفصيحها غير مفهوم، ولا يورث الإيمان المفصل.
ثانياً: النصوص الدالة على تيسير القرآن:
قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر 17، 22، 32، 44)، ومن سهولة هذا القرآن وضوح معانيه التي يحصل بها التذكر والاتعاظ، وأما هؤلاء المفوضة فيزعمون أن معاني بعض الكتاب عسيرة، لأنه لا يُدرك معناها أصلاً، ولا سبيل إلى فهمها؛ فعسَّروا على أنفسهم وعلى الناس.
وقال ابن القيم في "الصواعق المرسلة": "وأخبر أنه يسره للذكر وتيسيره للذكر يتضمن أنواعا من التيسير: إحداها: تيسير ألفاظه للحفظ. الثاني: تيسير معانيه للفهم. الثالث: تيسير أوامره ونواهيه للإمتثال؛ ومعلوم أنه لو كان بألفاظ لا يفهمها المخاطب لم يكن ميسرا له بل كان معسرا عليه فهكذا إذا أريد من المخاطب أن يفهم من ألفاظه ما لا يدل عليه من المعاني أو يدل على خلافه فهذا من أشد التعسير وهو مناف للتيسير".
وقد يسر الله ألفاظه ليتيسر فهم معانيه لكافة فئات الأمة؛ فقد روى الترمذيُّ وغيره بإسنادٍ صحيح، عن أُبي بن كعب، قال: "لَقِيَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جبريلَ فقال يا جبرئيلُ، إنِّي بُعِثْتُ إلى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ، مِنْهُمُ العَجُوزُ، والشَّيْخُ الكَبيرُ، والغُلامُ، والجارِيَةُ، والرجلُ الذي لمْ يَقْرَأْ كتابًا قطُّ، قال: يا محمدُ إِنَّ القرآنَ أُنْزِلَ على سبعَةِ أَحْرُفٍ".
ثالثاً: النصوص الآمرة بتدبره:
وقد أمر الله عز وجل عباده بتدبر القرآن في آيٍ كثيرة، وأثنى على المشتغلين بذلك بأنهم (أولوا الألباب) فقال سبحانه؛ {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص 29)؛ قال ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى": "فإذا كان قد حض الكفار والمنافقين على تدبره: علم أن معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها فكيف لا يكون ذلك ممكنا للمؤمنين؛ وهذا يبين أن معانيه كانت معروفة بينة لهم".
وقد طبق ذلك الصحابة فعلياً؛ فكانوا يحفظون العشر آيات ويتعلمون ما فيها من العلم والعمل.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى": "إن العادة المطردة التي جبل الله عليها بني آدم توجب اعتناءهم بالقرآن - المنزل عليهم - لفظاً ومعنى؛ بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد فإنه قد علم أنه من قرأ كتابا في الطب أو الحساب أو النحو أو الفقه أو غير ذلك؛ فإنه لا بد أن يكون راغبا في فهمه وتصور معانيه؛ فكيف بمن قرءوا كتاب الله تعالى المنزل إليهم الذي به هداهم الله وبه عرفهم الحق والباطل والخير والشر والهدى والضلال والرشاد والغي. فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات؛ بل إذا سمع المتعلم من العالم حديثا فإنه يرغب في فهمه؛ فكيف بمن يسمعون كلام الله من المبلغ عنه؛ بل ومن المعلوم أن رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تحصل المقصود إذا اللفظ إنما يراد للمعنى".
وبهذا يتبين أن طريقة أهل التفويض مخالفة لما أمر الله به من التدبر لكتابه، ومخالفةٌ لمنهج السلف الصالح في فهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
***********
رابعاً: النصوص الدالة على ذم من لا يفهم وكان حظه مجرد السماع:
وهذا هو حال المفوضة مع نصوص الصفات؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى": "الوجه الرابع أنه ذم من لا يفهمه فقال تعالى: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستوراً، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} (الإسراء 45 -46)، وقال تعالى: {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً} (النساء 78)؛ فلو كان المؤمنون لا يفقهونه أيضاً لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى به".
وقال رحمه الله: "الوجه الخامس أنه ذم من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه فقال تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} (البقرة 171)، وقال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} (الفرقان 44)، وقال تعالى: {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم} (محمد 16) وأمثال ذلك.
وهؤلاء المنافقون سمعوا صوت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفهموا، وقالوا: ماذا قال آنفا؟ أي الساعة وهذا كلام من لم يفقه قوله فقال تعالى: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم}؛ فمن جعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان غير عالمين بمعاني القرآن جعلهم بمنزلة الكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى عليه".
خامساً: تواتر النصوص على إثبات جنس الصفات عموماً، وعلى إثبات صفات مُعينةٍ خصوصاً.
وهذا التواتر يؤكد حملها على حقيقتها التي لا تحتمل غيرها، ومثال ذلك صفة العلو، والتي يُعنى بها علو ذات الله تعالى على خلقه، وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن بعض أصحاب الشافعي الأكابر أن في القرآن وحده -دون السنة -ألف دليل على إثبات العلو والفوقية لله تعالى على عباده، وإن ثبت ذلك في صفةٍ مُعينة؛ فإن المراد بها الحقيقة، وغيرها من الصفات مثله؛ لأن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
خامساً: الأدلة العقلية على إبطال القول بالتفويض:
وهذا النقض للتفويض من وجوه:
الوجه الأول: استحالة كونه صلى الله عليه وسلم ترك تعليم أمته أسماء الله وصفاته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوي": "فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وأنزل معه الكتاب بالحق؛ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة.
وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته - محال مع هذا وغيره: أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسا مشتبها ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا وما يجوز عليه وما يمتنع عليه. فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً.
ومن المحال أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة وقال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)، وقال فيما صح عنه أيضا: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم)، وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما. وقال عمر بن الخطاب: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فذكر بدء الخلق؛ حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه) رواه البخاري.
ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين -وإن دقت -أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين الذي معرفته غاية المعارف وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب. بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام".
وإلى هذا الحد ثبت امتناع كونه صلى الله عليه وسلم ترك تعليم أمته أسماء الله وصفاته؛ فكيف لم يقع هذا العلم للأمة كما تزعم المفوضة ؟!! وقد نقل إلينا الصحابة رضوان الله عليهم هذا العلم، ولم يُقصِّروا في أدائه.
وعن ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ثم إذا كان قد وقع ذلك منه (البيان)؛ فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصَّروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه.
ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة -القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم -كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك:
1-إما عدم العلم والقول.
2- وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق.
وكلاهما ممتنع.
أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه؛ أعني بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته.
وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر؛ وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي - الذي هو من أقوى المقتضيات - أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق وأشدهم إعراضاً عن الله وأعظمهم إكباباً على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله تعالى؛ فكيف يقع في أولئك؟
وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه: فهذا لا يعتقده مسلمٌ ولا عاقل عرف حال القوم.
ثم الكلام في هذا الباب عنهم: أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى وأضعافها يعرف ذلك من طلبه وتتبعه.
ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف؛ بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها: من أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم".
كذلك فإن هؤلاء الصحابة كما جاء في "الحموية":
"ليسوا قائلين بالباطل؛ لأن القول بالبطال يقع مع أحد سببين:
1-الجهل بالحق.
2-إرادة ضلال الخلق.
وكلاهما ممتنع في حق الصحابة رضي الله عنهم.
أما امتناع الجهل فقد تقدّم بيانه.
وأما امتناع إرادة ضلال الخلق: فلأن إرادة ضلال الخلق قصد سيئ، لا يمكن أن يصدر من الصحابة الذين عرفوا بتمام النصح للأمة، ومحبة الخير لها.
فلم يبق لهم إلا أن يكونوا قائلين بالحق".
ويشهد لذلك الواقع التاريخي؛ يقول ابن تيمية في "مجموع الفتاوى: "إن الصحابة رضي الله عنهم فسروا للتابعين القرآن؛ كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقف عند كل آية منه وأسأله عنها. ولهذا قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به
وكان ابن مسعود يقول: لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته، وكل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقل عنه من التفسير ما لا يحصيه إلا الله. والنقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها".
الوجه الثاني: امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة:
فلو كانت ظواهر النصوص غير مُرادة؛ لوجب أن يُعقب كل نصٍّ من النصوص ما تؤمن به هذه الفتنة، ويُتقى به هذا المحذور، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ وحيث أن هذه النصوص أطلقت ولم يعقبها ما يمنع فهمها على ظاهرها عُلم بطلان دعوى المفوضة.
يقول أبو الحسن الأشعري في "رسالته إلى أهل الثغر": "ومعلوم عند سائر العقلاء أن ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليه من واجهه من أمته من اعتقاد حدثهم ومعرفة المحدث لهم وتوحيده ومعرفة أسمائه الحسنى وما هو عليه من صفات نفسه وصفات فعله، وتصديقه فيما بلغهم من رسالته مما لا يصح أن يؤخر عنهم البيان فيه؛ لأنه عليه السلام لم يجعل لهم فيما كلفهم من ذلك من مهلة، ولا أمرهم بفعله في الزمن المتراخي عنه، وإنما أمرهم بفعل ذلك على الفور، وإذا كان ذلك من قبل أنه لو أخر ذلك عنهم لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إلى فعله، وألزمهم ما لا طريق لهم إلى الطاعة فيه، وهذا غير جائز عليه لما يقتضيه ذلك من بطلان أمره وسقوط طاعته.
وهذا المعنى لم تجد عن أحد من صحابته خلافاً في شيء مما وقف عليه السلام جماعتهم عليه، ولا شك في شيء منه، ولا نقل عنهم كلام في شيء من ذلك، ولا زيادة على ما نبههم عليه من الحجج… فما دعاهم إليه عليه السلام من معرفة حدثهم، والمعرفة بمحدثهم، ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا وعدله وحكمته، فقد بين لهم وجوه الأدلة في جميعه، حتى ثلجت صدورهم به، وامتنعوا عن استئناف الأدلة فيه، وبلغوا جميع ما وقفوا عليه من ذلك، واتفقوا عليه إلى من بعدهم".
ولم يقل الرسول ولا أحدٌ من سلف هذه الأمة يوماً من الدهر: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، وكيف يجوز على الله ورسوله والسلف أنهم يتكلمون دائماً بما هو نصٌّ أو ظاهرٌ في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يتكلمون به، ولا يدلون عليه؟!
الوجه الثالث: تناقض مذهب المفوضة:
إن أقوى الأدلة على فساد مقالة المفوضة هو تناقضها، ومعارضة أولها لآخرها، كما أن "الإطراد"، و"التناسب" من أقوى القرائن على صحة مقالة السلف؛ ولهذا قال الله تعالى عن كتابه الحكيم: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء 82).
ووجه تناقض المفوضة من بابين:
الباب الأول: أن نصوص الصفات تجرى على ظاهرها، وتأويلها عن ظاهرها باطل.
الباب الثاني: أن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "التدمرية": "وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقاً، ويحتجون بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} قد يظنون أنَّا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد، أو بما لا معنى له، أو بما لا يُفهم منه شيء، وهذا مع أنه باطل فهو متناقض؛ لأنّا إذا لم نفهم منه شيئاً لم يجز أن نقول: له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه لإمكان أن يكون له معنى صحيح، وذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا، فإنه لا ظاهر له على قولهم، فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر فلا يكون تأويلاً، ولا يجوز نفي دلالته على معان لا نعرفها على هذا التقدير، فإنَّ تلك المعاني التي دلّت عليها قد لا نكون عارفين بها، ولأنّا إذا لم نفهم اللفظ ومدلوله المراد فلأن لا نعرف المعاني التي لم يدل عليها اللفظ أولى؛ لأن إشعار اللفظ بما يُراد به أقوى من إشعاره بما لا يُراد به".
وقال في "الفتاوى": "ثم كثير من هؤلاء يقولون: تجري على ظاهرها فظاهرها مراد مع قولهم: إن لها تأويلاً بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله. وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى السنة: من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم".
وقال ابن القيم في "الصواعق المرسلة": "ويروون (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا) ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أريد به ولازم قولهم إن الرسول كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، ثم تناقضوا أقبح تناقض؛ فقالوا تجري على ظواهرها وتأويلها مما يخالف الظواهر باطل ومع ذلك فلها تأويل لا يعمله إلا الله؛ فكيف يثبتون لها تأويلا ويقولون تجر على ظواهرها ويقولون الظاهر منها غير مراد والرب منفرد بعلم تأويلها وهل في التناقض أقبح من هذا".
وقال ابن القيم: "ثم هم متناقضون أفحش تناقض؛ فإنهم يقولون تجري على ظاهرها وتأويلها باطل ثم يقولون لها تأويل لا يعلمه إلا الله وقول هؤلاء أيضاً باطل".
الوجه الرابع: تفريق العقل بين إثبات المعنى والكيفية:
وقد جعل هؤلاء المفوضة تلازماً بين العلم بالمعنى والعلم بالكيفية، فجعلوا الأول من جنس الثاني، والحق أنه لا تلازم؛ فالعقل يُميز بوضوح بين المعاني المجردة، وبين الصورة الحسية؛ فالتكييف تضمن تقييد المعنى بصورة مُعينة، وهيئةٍ معهودة، أو غير معهودة، لكن المعنى المجرد لا يستلزم تصوُّر كيفية مُعينة، والخلط بين الأمرين هو الذي أنتج فرقتي الضلال: أهل التمثيل، وأهل التعطيل، فأهل التمثيل حملوا المعاني التي وردت بها النصوص على ما عهدوه من الصور الحسية الموجود نظيرها في المخلوقات، وأما أهل التعطيل ففروا من ذلك بنفي الصفات، وسلب الباري صفات الكمال اللائقة به سبحانه، ونبتتت فرقةٌ أخرى صرفت ظواهر النصوص إلى معانٍ أخرى غير مراد المتكلم.
ومفترق الطرق في هذه القضية الخطيرة يعود إلى "القدر المشترك" في مدلول الصفات بين الخالق والمخلوق؛ قال ابن تيمية في "التدمرية": "ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس يتناقض في هذا المقام، فتارة يظن أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل، فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات، حذرًا من ملزومات التشبيه؛ وتارة يتفطن أنه لا بد من إثبات هذا على كل تقدير، فيجيب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة.".
ولذا لا بُدَّ من تحرير القول في "القدر المشترك" الذي يقع بين الموجدين: الخالق والمخلوقين؛ يقول ابن تيمية: "والقدر المشترك مطلق كليّ لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدَث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه.
فكل موجودَين لا بد بينهما من مثل هذا، ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود، ولهذا لما اطَّلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطِّلة، وكان جهم ينكر أن يسمّى الله شيئًا، وربما قالت الجهمية: هو شيء لا كالأشياء، فإذا نفى القدر المشترك مطلقًا لزم التعطيل التام.
ثم إن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معيَّنًا مقيَّدًا، وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا، لا أن الموجودات في الخارج يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميّز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله".
ويبسط ابن القيم هذا المعنى في كتابه "الصواعق المرسلة"؛ فيقول: "بل نقول له ذات حقيقة ليست كالذوات، وله صفات حقيقة لا مجازاً ليست كصفات المخلوقين، وكذلك قولنا في وجهه تبارك وتعالى ويديه وسمعه وبصره وكلامه واستوائه ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك الصفات وحقائقها، كما لم يمنع ذلك من أثبت لله شيئاً من صفات الكمال من فهم معنى الصفة وتحقيقها.
فإن من أثبت له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقة وفهم معناهما فهكذا سائر صفاته المقدسة يجب أن تجري هذا المجرى.
وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها فإن الله سبحانه لم يكلف عباده بذلك ولا أراده منهم ولم يجعل لهم إليه سبيلاً بل كثير من مخلوقاته أو أكثرها لم يجعل لهم سبيلاً إلى معرفة كنهه وكيفيته.
وهذه أرواحهم التي هي أدنى إليهم من كل دان قد حجب عنهم معرفة كنهها وكيفيتها وجعل لهم السبيل إلى معرفتها والتمييز بينها وبين أرواح البهائم.
وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان وشاهدته عقولهم ولم يعرفوا كيفيته وكنهه؛ فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهاراً من خمر وأنهاراً من عسل وأنهاراً من لبن، ولكن لا يعرفون كنه ذلك ومادته وكيفيته؛ إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلا ما اعتصر من الأعناب والعسل إلا ما قذفت به النحل في بيوتها واللبن إلا ما خرج من الضروع والحرير إلا ما خرج من فم دود القز وقد فهموا معاني ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثلاً لما في الدنيا؛ كما قال ابن عباس ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء.
ولم يمنعهم عدم النظير في الدنيا من فهم ما أخبروا به من ذلك فهكذا الأسماء والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها في الدنيا ومثالها من فهم حقائقها ومعانيها، بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها.
وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته سبحانه لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن: أحدها قوله {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (النحل 60)".
***********
ثالثاً: الآثار السيئة على القول بالتفويض:
إن خطورة القول بالتفويض يكمن في أمرين:
أحدهما: تعطيل النصوص المتعلقة بصفات الله تعالى.
الثاني: نسبتها إلى السلف.
ومن الطبيعي أن يترتب على هذين الأمرين آثارٌ عملية سيئة في الأمة، والتي كان محل رصدها هو التاريخ والواقع، وليس الجدل الكلامي، ومن ذلك:
أولاً: انحسار مذهب السلف وغلبة مذهب الخلف:
وذلك بعد القرون الثلاثة المفضلة، وهذا الانحسار لمذهب السلف بإزاء المذاهب الدخيلة والمنحرفة التي تمتد في رقعة العالم الإسلامي، وساعد في ذلك عوامل التصوير الباطل لمذهب السلف، والتشويه المتعمد له، وترجمة الثقافات اليونانية، والاشتغال بعلوم الكلام والفلسفة، والتُّهم التي أُلقيت إلى السلف من أنهم حشوية ونابتة، بالإضافة إلى الطرق الجذابة التي عُرضت بها مذاهب الخلف، والحماس له، لا سيما في المعاني التي ابتكروها لتحل بدل المعاني الظاهرة للنصوص، والتشنيع على عقيدة السلف الحقيقية، فآل الأمر للمسلم إمام أن يُرجح مذهب الخلف ويعتذر للسلف بمعاذير الباردة التي هي إلى الطعن والتنقص أقرب منها إلى الاعتذار.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "درء التعارض": "غاية ما ينتهي إليه هؤلاء المعارضون لكلام الله ورسوله بآرائهم، من المشهورين بالإسلام، هو التأويل أو التفويض، فأما الذي ينتهون إلي أن يقولوا الأنبياء أوهموا وخيلوا ما لا حقيقة له في نفس الأمر، فهؤلاء معروفون عند المسلمين بالإلحاد والزندقة".
وأدت هذه "الخدعة الكبرى" إلى انحسار مذهب السلف فعلاً، وانتشار مذهب الخلف في الأوساط العلمية في بلاد المسلمين، وتقريره في جوامعهم، ومعاهدهم، و تبني الحكومات السنية له، باعتباره (أعلم وأحكم)!! مع الإبقاء على الخيار الضعف مطروحاً لمن غلبه الوازع الديني، فرجح جانب السلامة؛ ليُصارع إلزامات المتكلمين وحججهم بالسكوت وتفويض المعاني.
وفي ضوء هذه الموازنة المكشوفة بين "التفويض"، و"التأويل" حملت الأيام في طياتها الإيحاء برجحان مذهب الخلف على مذهب السلف-وهو ليس مذهباً لهم، ومن ثمَّ قُرر ذلك في الكتب، وتبجحوا به أمام العامة والخاصة.
وهذه كانت ألعوبةً من ألاعيب المتكلمين حيث شوهوا اعتقاد السلف بقضية (التفويض) المكذوبة، والعرض غير المتكافئ بين المنهجين؛ حيث أن المتكلمين هم الذين "تجردوا"، و"داقعوا"، و"قاوموا" الشُّبه و"حموا" جانب العقيدة، بينما مذهب السلف كما يزعمون هو سلبيٌّ محض، مُنغلق على نفسه، لأن أصحابه "سكتوا ولم يُقاموا" تلك الشُّبه، ومن ثمَّ فإن النتيجة حُسمت لصالح الخلف عند أكثر المتأخرين؛ حيث عرفوا أن لهذه الألفاظ دلالات ومعانٍ، ولكنها عنده مصروفة ذاهبة.
ثانياً: الاستهانة بالنصوص الشرعية وعدم تعظيمها:
وقد كان السلف يقبلون الأخبار ويُعظمونها، ويقفون عند حدود الله فيها، فيدعون كل قول إلى قول الله وقول رسوله، ويُبالغون في النكير على من ردَّ النص أو استنكره، أو اعترض عليه، أو قابله بقياس أو رأي أو شبهة، وقد كان لهذه الخاصية أعظم الأثر في عصمتهم من الزيغ والافتتان، {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} (آل عمران: 101).
ولما نشأت المذاهب الدخيلة في رحم هذه الأمة، وتكلم الناس في الله بغير علم، وكثرت الأهواء والشبه، هان الأمر على من في قلبه مرض، وسهل عليه ارتياد الحمى، والوقوع فيه متاح، وكلٌ أخذ يجتهد برأيه، ويُدلي بدلوه، فالحمى مُباح، والمكان شاغر، فأقدم كل مقتحم غير موفق على الخوض فيما لا يُحسن وما ليس له أهلاً، وشمل ذلك أصول الدين وفروعه؛ وتطاول الأصاغر على مسائل الاعتقاد؛ فمن قائلٍ أنها لا تُفيد العلم، ومن رادٍّ مُكذِّبٍ بها لمعارضتها عقله، ومنقابلٍ للفظها مُحرِّفٌ لمعناها. وكان ذلك بوابة الباطنية والملاحدة من الفرق الشيعية الغالية والصوفية الموغلة؛ فأخذت تنخر في عظام الأمة وكيانها الأول.
ثالثاً: عدم وضوح المنهج العقدي لدى بعض الحركات الإسلامية:
وتفتقر الكثير من الحركات الإسلامية المنهج العقدي الواضح، الذي تنطلق من خلاله لبناء موقفها الراشد من الأحداث والمسارات والفرق والطوائف وحتى الدول، ولكننا نجد عبارات فضفاضة وواسعة، مع عدم اهتمام تلك الحركات بالبناء العقدي الرصين الذي يحمي الجيل والشباب من تلك الدعوات الهدامة والمنحرفة، والتي توشك أن تجرف الجيل بأكمله إلى مستنقع التناحر والضياع، ونتيجةً لهذا التمييع لم يعد هناك حداً فاصلاً بين الطائفة الناجية المنصورة وغيرها..
إن الدعوة الإسلامية مدعوةٌ ضرورةً إلى اطراح أسلوب "التجهيل" الذي وضع نواته المفوضة، والأخذ بأسباب البناء العلمي الإيماني الواضح، والمبني على النصوص الصحيحة.
إن أسلوب "التجميع" و"تكثير السواد" المستلزم للغض عن الانحرافات العقدية، والتوسع في "استيعاب الاتجاهات" و"العذر"، و"الاعتذار" في مسائل الخلاف دون تمييز، لا يُمكن أن يُنشئ أمةً تعي دورها، وتُمارس مهمتها التي استحقت بها الخيرية، لأن فاقد الشيء لا يُعطيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق