رفع الملام عن الأئمة الأعلام
شيخ الإسلام ابن تيمية (ت ٧٢٨هـ)
تمهيد/ لقد امتنَّ الله عز وجل على هذه الأمة بعلماء أجلاء، وسادةٍ نُبلاء، حفظوا الكتاب، وتعلَّموا السُّنة، وتفقَّهوا في دين الله، وبذلوا أعمارهم رخيصةً في سبيل طلب العلم وتعليمه، وأنفقوا في سبيله نفائس أوقاتهم، وزهرة شبابهم، وسطروا صفحاتٍ ناصعة من بذل العلم والخير للناس، وخدموا هذه الشريعة ودرسوها واستنبطوا منها الأحكام، فكانوا كالنجوم المُضيئة، والشموس المُنيرة، والعافية للناس من كل فتنة، ونحن نُجلهم، وندين الله بحبهم، ونعدهم أئمة الدين، وقدوة المسلمين، والسلف الصالح لمن بعدهم.
وقد أدوا -رحمهم الله تعالى -أمانة العلم، ونصحوا الأمة لما فيه الخير والرشد، وقاموا بما أوجبه الله عليهم من النُّصح وبيان الحق، كاملاً غير منقوص، وكانوا مثالاً يُحتذى به في الورع والتقوى والعلم والعمل والإيمان والإخلاص، وهم إمام دار الهجرة: مالك بن أنس، وفقيه أهل الكوفة وعالمها الإمام أبي حنيفة، وناصر السنة والحديث مُحمد بن إدريس الشَّافعيِّ، والإمام الصابر أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنهم أجميعن.
وأجمع المسلمون على الثناء على هؤلاء الشرفاء، والترضي عن هؤلاء النبلاء، الذين أظهروا للناس ما في الدين من أحكام، ونحن نقتفي آثارهم الحميدة في اتباع الكتاب والسنة، والاحتكام إليها حين التنازع، وتقديمها على كل قول، وعدم التعصب للرجال، ثم إننا نعتقد أن هؤلاء الفضلاء قد خدموا الدين خدمةً عظيمة، ونحن مدينون لهم في حفظ كثيرٍ من أحكام الإسلام، وفهمها، فجزاهم الله عنا خير الجزاء.
وأما من ينتقصهم ويطعن فيهم ويعيبهم ويذمهم ولا يعرف لهم قدرهم وعلمهم ومكانتهم؛ فإنه لا يُمكن أن يكون سلفياً أو مُتبعاً للسلف بحالٍ من الأحوال، لأن السلفية هي اتباع طريق السلف الصالح، وتعظيم الأئمة المجتهدين، وهؤلاء الأعلام في طليعة هؤلاء سلفنا الصالح، ومن خيارهم، ونحن أولى الناس بتقديرهم وحبهم والدفاع عنهم.
ومع علمنا أن كثيراً من خصوم الدعوة السلفية قد افتروا على هذه الدعوة المباركة، ونقلوا للناس عنها خلاف الحق، وقالوا عنها إنها تبغض الأئمة، وتطعن فيهم، وتُسفه آراءهم، كما فعل البوطي في "اللامذهبية" وغيره في كتاب "الاجتهاد والمجتهدون"، واتخذوا من بعض المخالفات لبعض الأئمة في بعض المسائل الفقهية ذريعةً للكذب والافتراء على هذه الدعوة.
ونحن نعلنها أن كل ما يُنقل عن السلفيين من ذلك فهو كذبٌ واختلاق، وليس له نصيبٌ من الصحة أبداً، وهو خلاف اعتقادنا في هؤلاء الأئمة الأعلام، بل ونحن بريئون منه تماماً، ولا يحسبنَّ أحدٌ أننا نقول هذ خوفاً من أحد، أو مجاملةً لأحد، فنحن ولله الحمد لا نخاف إلا الله سبحانه وتعالى، وليس من شيمتنا الخوف والتملق وإرضاء الناس، فالحق عندنا أغلى من كل أحد، وقد علمنا الإسلام الجراءة في قول الحق، والصراحة في إبداء الرأي، ونحن نتحدى كل من يدعي عليما خلاف ما ذُكر أن يأتي بشبه دليلٍ على ذلك وهيهات.
وقد وضع شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الرسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) في بيان أن الأئمة المجتهدين قد يقعون في بعض المخالفات للنصوص؛ لأسباب كثيرة، مبناها على الاجتهاد الذي لا يُقصد به مناهضة الشرع أو مخالفته، وما من إمام يجتهد إلا ويخطئ ويُصيب.
وهذا الخطأ الوارد عن المتقدمين ورد أكثر منه عند المتأخرين، ورحمة الله على شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي يقول في "مجموع الفتاوى": "ومن اجتهد في طلب الحق فعجز عنه فلا يعاقب، وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له. وكثيرٌ من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة؛ إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم. وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وفي الصحيح أن الله قال: (قد فعلت)".
وقال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين": "ولا بُدَّ من معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم للَّه ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها لا يُوجب اطِّراح أقوالهم جملة وتنقّصهم والوقيعة فيهم.
فهذان طرفان جائران عن القصد، وقَصْدُ السبيل بينهما، فلا نُؤثّم ولا نَعْصم، ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في عليّ ولا مسلكهم في الشيخين، بل نسلك بهم مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة، فإنهم لا يؤثّمونهم ولا يعصمونهم، ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يهدرونها.
فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكًا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة؟ ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح اللَّه صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين:
* جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم.
* أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث اللَّه بها رسوله.
ومن له علم بالشرع والواقع؛ يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قَدَم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهَفْوة والزَّلَّة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده؛ فلا يجوز أن يُتَبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين".
ومثل ذلك ما قاله الإمام الشاطبيُّ رحمه الله في "الموافقات": "وهذا كله وما أشبهه دليل على طلب الحذر من زلة العالم… وهو وإن كان على غير قصد ولا تعمد وصاحبه معذور ومأجور، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم، وقد قال الغزالي: "إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرة وهي في نفسها صغيرة… فهذه ذنوب يتبع العالم عليها، فيموت العالم ويبقى شره مستطيراً في العالم آماد متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه". وهكذا الحكم مستمر في زلته في الفتيا من باب أولى، فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة أو بعض المقاصد العامة في خصوص مسألته، فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعاً يُتقلد، وقولاً يعتبر في مسائل الخلاف، فربما رجع عنه وتبين له الحق فيفوته تدارك ما سار في البلاد عنه ويضل عنه تلافيه، فمن هنا قالوا: زلة العالم مضروب بها الطبل".
ثم قال الإمام الشاطبيُّ رحمه الله: "إذا ثبت هذا، فلا بد من النظر في أمور تنبني على هذا الأصل: منها: أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليداً له وذلك؛ لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عدت زلة، وإلا فلو كانت معتداً بها؛ لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً، فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين".
ولذلك كان واجباً على كل من كان لديه أهليةٌ للبحث والنظر ألا يأخذ قولاً إلا بعد معرفة دليله، وعليه أن لا كون إمعةً يُقلد هذا وذاك دون نظر أو دليل، وقد روي عن عبد الله بن مسعود: "اغد عالماً أو متعلماً، ولا تغد بين ذلك"، ولهذا حمل بعض السلفيين على التقليد والمقلدين الذين يستطيعون النظر والبحث وتعقُّل الأدلة، ثُم يتركون ذلك، وصرحوا بذمه وتحريمه، لأن ذلك يؤدي بصاحبه إلى الإعراض عن الكتاب والسنة في سبيل التمسك بالآراء والتقليد على غير بصيرة وهدى، حتى دعا ذلك أبا الحسن الكرخي رئيس الحنفية بالعراق، وأستاذ الكبراء منهم إلى أن يقول: "كلُّ آيةٍ تُخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة، أو منسوخة، وكل حديثٍ كذلك فهو مؤول أو منسوخ" /تاريخ التشريع، للخضري، ص 332/.
ونقل هذه الكلمة المنكرة والشنيعة صاحب كتاب "الاجتهاد والمجتهدون (ص 82) عن كتاب "تنقيح الحامدية"، وأقرها، كما نقل عن كتاب "الكشف الكبير": "أنه لا يجوز أن يُقال عن حديثٍ يُخالف مذهب أبي حنيفة: أنه لم يبلغه؟!!"، وهذه النهاية في التعصُّب؛ وكأنهم رأوا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله معصومٌ لا يمكن أن يفوته شيءٌ من الشريعة، ولا يُمكن أن يُخطئ في شيء، وهذا من الغلو المذموم.
فليت شعري ماذا تكون النتيجة إذ قال مقلدوا كل مذهب مثل ذلك، ونحن نعرف أنهم اختلفوا في كثيرٍ من المسائل؛ فإذا كانت اجتهادات كل واحدٍ منهم صواباً؛ فإن معنى ذلك أن دين الله متناقض، ومعنى ذلك أن الحق متعدد مع أن الله عز وجل بيَّن أن الاختلاف من صفة كلام البشر، وهو سبحانه منزهٌ عن ذلك، فقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (النساء: 82)، وقال بصريح العبارة: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (يونس: 32).
وقد عقد حافظ المغرب الإمام أبو عمر بن عبد البر المالكي في كتابه القيم "جامع بيان العلم" باباً لبيان أن الاختلاف خطأ وصواب، وليس صواباً كله، وذكر أمثلةً كثيرة مما خطَّاً فيه الصحابة والسلف بعضهم بعضاً، وأنكر بعضهم على بعض، وتباحثوا في بعض الاجتهادات، ورجع بعضهم عن رأيه؛ فقال: "هذا (أي التخطئة والرد) كثيرٌ في كتب العلماء وكذلك اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم من المخالفين وما رد فيه بعضهم على بعض لا يكاد أن يحيط به كتاب، فضلاً أن يجمع في باب، وفيما ذكرنا منه دليلٌ على ما عنه سكتنا وفي رجوع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض ورد بعضهم على بعض دليلٌ واضح على أن اختلافهم عندهم خطأ وصواب، ولولا ذلك كان يقول كل واحد منهم: جائز ما قلت أنت، وجائز ما قلت أنا، وكلانا نجمٌ يُهتدى به، فلا علينا شيء من اختلافنا.
قال أبو عمر: والصواب مما اختلف فيه وتدافع وجه واحد ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خطأ السلف بعضهم بعضا في اجتهادهم وقضاياهم، وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشيء ضده صوابا كله.
ولقد أحسن القائل
إثبات ضدين معا في حال ... أقبح ما يأتي من المحال".
وذكر الإمام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" عن الإمامين مالك، والليث بن سعد، أنهما قالا في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رداً على من زعم أن في الاختلاف رحمة وسعة للأمة؛ فقالا: ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب. و "سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتراه من ذلك في سعة؟ فقال: لا والله حتى يصيب الحق وما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صواباً جميعاً ؟ وما الحق والصواب إلا واحد".
ونقل ابن عبد البر، عن المزني (صاحب الشافعي)، قال: "يقال لمن جوز الاختلاف وزعم أن العالمين إذا اجتهدا في الحادثة؛ فقال أحدهما: حلال وقال الآخر حرام فقد أدى كل واحد منهما جهده وما كلف، وهو في اجتهاده مصيب الحق، أبأصل قلت هذا أم بقياس؟
فإن قال: بأصل، قيل له: كيف يكون أصلا والكتاب أصل ينفي الخلاف، وإن قال بقياس؛ قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف، ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف؟ هذا ما لا يجوزه عاقل فضلاً عن عالم.
ويقال له: أليس إذا ثبت حديثان مختلفان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى واحد؛ فأحله أحدهما وحرّمه الآخر وفي كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على إثبات أحدهما ونفي الآخر؟
أليس يثبت الذي يثبته الدليل ويبطل الآخر ويبطل الحكم به، فإن خفي الدليل على أحدهما وأشكل الأمر فيهما وجب الوقوف ؟
فإذا قال: نعم ولا بد من نعم، وإلا خالف جماعة العلماء، قيل له: فلم لا تصنع هذا برأي العالمين المختلفين؟ فتثبت منهما ما أثبته الدليل وتبطل ما أبطله الدليل؟".
فمما سبق كله تعلم خطأ تلك القولة الشنيعة التي قالها الكرخي، ورده مقلدوه أصحاب كتاب "الاجتهاد والمجتهدون" وهذه القولة التي بلغت الغاية في التعصب والجمود والضلال؛ إذ جعلت المذهب هو الأصل والكتاب والسنة هما الفرع؛ فيُعرضان على المذهب فما وافقه قُبل، وما خالفه منهما رُدَّ بأي حجة، وحمل على النسخ والتأويل، أو الترجيح ليتخلص منه، ولا يُهم بعد ذلك إن كان هناك دليلٌ على النسخ أو التأويل أو الترجيح أم لا. ولكن الذي يُهم أن يُثبت المذهب ولا يُرد بحالٍ من الأحوال، ولا بأس أبداً أن يُردّ الكتاب والسنة لأجل ذلك، وهذا يُبين لك بوضوح خطر التعصُّب المذهبي وضلال المتعصبين لها، ألا ترى أن تلك المقولة تؤدي إلى معاداة الكتاب والسنة، وردهما.
والغرض المقصود من هذه الرسالة هو التماس الأعذار للعلماء والفضلاء من هذه الأمة بما ورد عنهم من الأخطاء، وعلى رأسهم الأئمة الأربعة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية حوالى عشرة أعذار للأئمة الأربعة فيما ورد عنهم من مخالفةٍ صريحة لصحيح السُّنة، وجماعها في ثلاثة أمور:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال شيئاً يُخالف قوله الذي اختاره لمذهبه.
والثاني: اعتقاده أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أراد تلك المسألة بما قاله من التأويل والتفسير للنص.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحديث منسوخ لا يُعمل به.
وقد فصل رحمه الله هذه الأعذار وضرب الأمثلة عليها بما يكفي ويشفي، وننتقل للحديث أكثر عن هذه الرسالة، فنقول:
أهمية الرسالة:
1- بيان ما يجب على كل مسلم من موالاة المسلمين، وخاصة العلماء، وعلى رأسهم أصحاب المذاهب المتبوعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، واحمد.
2- وأنه لا يسوغ لمسلم أن يتعصب لإنسان مهما علا قدره، ومهما كانت الدواعي والأسباب، فلا يبالغ في مدحه واطرائه، ولا حتى في الاغارة عليه، والانتقاص من قدره.
3- بيان أن جميع الأئمة الاربعة متفقون على وجوب اتباع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سلم من المعارضة، وأنه لا يجوز تقديم قول أحدهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- ويجب أن نعتقد أنهم إذا خالفوا الحديث الصحيح، فإن مخالفتهم له قد يكون لسبب واضح جلي، أو لعلة غامضة خفية، لا عن هوى أو شهوة مخالفة.
4- وأنه لو ترتب على مخالفتهم تحليل حرام، او تحريم حلال، عن اجتهاد منهم، انهم لا يعاقبون على ذلك، ولا يدخلون في الوعيد من اللعنة، والغضب، والعذاب؛ لأنهم متأولون تأويلا سائغا في الجملة، بل إنهم مأجورون على اجتهادهم، مغفور لهم خطؤهم.
وقد اطال ابن تيمية النفس في الحديث عن مسألة الوعيد يثبت فيها أن "لُحُوقَ الْوَعِيدِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تحقق شُرط: (عدم العذر بالفعل)ٍ؛ وانتفاء المَوَانِع (من اجتهاد، او تأويل، او تقليد)".
5- ونحن لَا نَعْتَقِدُ فِي الأئمة المتبوعين الْعِصْمَةَ، بَلْ نُجَوِّزُ عَلَيْهِمْ الذُّنُوبُ، وَنَرْجُو لَهُمْ -مَعَ ذَلِكَ- أَعْلَى الدَّرَجَاتِ؛ لِمَا اخْتَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ،وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّة، ومع ذلك فَلَيْسُوا بِأَعْلَى دَرَجَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
6- بيان أن الأولى بالمسلم أن يأخذ القول مشفوعاً بالدليل، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأنه لا عذر لمقلد في ترك النص إن تبين أنه الحق، وأن مذهبه مذهب مفتيه، وأن من أدرك شيئا من العلم فعليه العمل به.
● بيان اعذار الأئمة في تركهم الأخذ والعمل ببعض النصوص:
١) عدم بلوغهم الحديث، او عدم معرفته به؛ لقصور العقل عن الإحاطة بكل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وقد وقع ذلك للصحابة وهم اقرب الناس من رسول الله ﷺ فكيف بمن جاء بعدهم ؟!.
يقول ابن تيمية: "فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ قَدْ بَلَغَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، أَوْ إمَامًا مُعَيَّنًا؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا قَبِيحًا".
وقال: "وَلَا يَقُولَن قَائِلٌ: إن الْأَحَادِيثَ قَدْ دُوِّنَتْ وَجُمِعَتْ؛ فَخَفَاؤُهَا وَالْحَالُ هَذِهِ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّوَاوِينَ الْمَشْهُورَةَ فِي السُّنَنِ إنَّمَا جُمِعَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ"(ص ١٧).
٢) اعتقادهم عدم ثبوت الحديث عن النبي ﷺ، وذلك "إمَّا لِأَنَّ رجلاً من مِنْ رِجَالِ الْإِسْنَادِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ، أَوْ مُتَّهَمٌ، أَوْ سَيِّئُ الْحِفْظِ. وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مُسْنَدًا بَلْ مُنْقَطِعًا؛ أَوْ لَمْ يَضْبُطْ لَفْظَ الْحَدِيث، مع أن الحديث قد يكون ثابتاً وصحيحاً عند غيره؛ لأنه جاء من وجه آخر" (ص ٢٠).
٣) اعتقادهم ضعف الحديث باجتهاد معين؛ كالاختلاف في جرح الرواة وتعديلهم، وفي كون الراوي الثقة يخالف روايته، فلا يعمل بها، وكانوا يعدون ذلك سببا قادحا في الرواية، ومثل أن يرد الحجازي رواية الشامي والعراقي إن لم يكن لها أصل يوافقه؛ لاعتقادهم ان الحجازي ضبط السنة (ص ٢١).
٤) اختلافهم في شروط قبول خبر الواحد؛ فاشترط بعضهم أن يكون له أصل في الكتاب او السنة الصحيحة، واشترط بعضهم أن يكون الراوي فقيهاً، واشترط فريق أن تكون الرواية مشهورة، مما تعم بها البلوى. (ص ٢٢).
٥) أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُ لَكِنْ نَسِيَهُ؛ وذهل عنه؛ فتركه.
٦) عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ؛ تَارَةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ غَرِيبًا عِنْدَهُ، مِثْلَ لَفْظِ "الْمُزَابَنَةِ"، وَ"الْمُخَابَرَةِ"، وَ"الْمُلَامَسَةِ"، وَتَارَةً لِكَوْنِ "الدَّلَالَةِ مِنْ النَّصِّ خَفِيَّةً".
٧) اعْتِقَادُهُ أَن مِنْ الْأُصُولِ مَا يَرُدُّ دلالَةَ الحديث، سَوَاءٌ كَانَ ذلك فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صَوَابًا أَوْ خَطَأً، مِثْل:َ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، أَوْ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، أَوْ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ لَا عُمُومَ لَهُ.. الخ.
٨) اعْتِقَادُهُ أَنَّ دلَالَةَ الحديث قَدْ عَارَضَهَا مَا يدَلَّ عَلَى أَنَّ ذلك الحكم لَيْسْ مُرَاداً، مِثْلَ:مُعَارَضَةِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِمَا يَنْفِي الْوُجُوبَ، أَوْ الْحَقِيقَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَجَازِ... إلَى أَنْوَاعِ أخرى الْمُعَارَضَاتِ.
٩) اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ؛ أَوْ نَسْخِهِ؛ أَوْ تَأْوِيلهِِ، بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارَضًا بِالِاتِّفَاقِ مِثْلَ آيَةٍ، أَوْ حَدِيثٍ آخَرَ، أَوْ مِثْلَ إجْمَاعٍ.
١٠) اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ، بما لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَارِضًا رَاجِحًا: كَمُعَارَضَةِ الْكُوفِيِّينَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فيقدمون ظَاهِرَ الْقُرْآنِ عَلَى نَصِّ الْحَدِيث؛ فيردونهِ.
● خلاصة مذهب ابن تيمية في موانع لحوق الوعيد:
يقول ابن تيمية: "وَمَوَانِعُ لُحُوقِ الْوَعِيدِ مُتَعَدِّدَةٌ: مِنْهَا: التَّوْبَةُ. وَمِنْهَا: الِاسْتِغْفَارُ. وَمِنْهَا: الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ لِلسَّيِّئَاتِ. وَمِنْهَا: بَلَاءُ الدُّنْيَا وَمَصَائِبُهَا. وَمِنْهَا: شَفَاعَةُ شَفِيعٍ مُطَاعٍ. وَمِنْهَا: رَحْمَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ.
فَإِذَا عُدِمَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا، وَلَنْ تُعْدَمَ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ عَتَا وَتَمَرَّدَ وَشَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ عَلَى أَهْلِه، فَهُنَالِكَ يَلْحَقُ الْوَعِيدُ بِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْوَعِيدِ: بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ سَبَبٌ فِي هَذَا الْعَذَابِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ وَقُبْحُهُ. (رفع الملام، ص ٤٣)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق