أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 25 أغسطس 2022

الأحاديث المكذوبة والواهية في كتاب الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي المكي علي رضا بن عبد الله بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

الأحاديث المكذوبة والواهية في كتاب الفتاوى الحديثية

لابن حجر الهيتمي المكي

علي رضا بن عبد الله

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا البحث النفيس في بيان الأحاديث المكذوبة والواهية التي ذكرها ابن حجر الهيتمي في كتابه "الفتاوى الحديثية"، للباحث علي رضا بن عبد الله، وقد أتى فيه على عدد من الأمثلة لتلك الأحاديث، وناقش فيها ابن حجر مناقشة حديثية، وهذا البحث منشور في مجلة الحكمة العدد (١٥)، الصفحات من (٢٢٥ إلى ٢٥١).

ويأتي هذا البحث ضمن سلسلة مقالات كتبها الباحث في جريدة "المدينة"، بعنوان (لا تكذب عليه متعمداً)، تناول فيها عدداً من الكتب والأبحاث والمقالات التي أساء أصحابها في هذا الجانب، وهو التساهل في جانب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذكر الأحاديث الواهية والموضوعة والضعيفة في مقالاتهم وأبحاثهم وتآليفهم.

أما سبب اختيار "الفتاوى الحديثية" لابن حجر المكي، فهو شهرة هذا الكتاب، وعناية الطلبة به، وعزو كثير من الباحثين إليه، مع الغفلة عن هذا الأمر ألا وهو إيراده لمثل تلك الأحاديث الموضوعة في كتابه.

وقد ذكر الباحث في بحثه ثلاثة وثلاثين (٣٣) حديثاً واهياً أو موضوعاً، ذكرها الهيتمي في "الفتاوي الحديثية"، وناقشها نقاشاً علمياً حديثياً، وبين فيها أن الهيتمي سكت عن هذه الأحاديث الباطلة موهماً صحتها، مع ملاحظة تكرار هذا السكوت، وتقريره بعض ما اشتملت عليه هذه الأحاديث، وتساهله الشديد مع هذه المكذوبات والخرافات، وجعلها أصلاً يعترض بها على بعض ما أورده كبار المحدثين عليها، وقد رصصتُ هذا البحث كاملاً هنا، ووضعتُ مقدمة وجيزة عن الأحاديث الموضوعة، انتخبتها من "نزهة النظر" للحافظ ابن حجر، وأما الأحاديث، فأورد أطرافها، لتُعلم، وليسهل الرجوع إليها، وهي:

١-«ليس أحد يدخل الجنة إلا أجرد أمرد إلا موسى بن عمران .. »

٢-«إنا الله لطَّفَ الملكين الحـافظين حتى أجلسهما على الناجذين .. »

٣-«امسح برأس اليتيم هكذا إلى مقدم رأسه  .. »

٤-«أول ما خلق الله نور نهك يا جابر...» 

٥-«إن لله تعالى في الجنة نهراً، يدخله جبريل، فينفض قطراً..»

٦-«قصة هاروت وماروت مع الزهرة»

٧-«لن يراه خلقٌ -يعني جبريل- إلأ عمي إلا أن يكون نبياً..»

٨-«لا تنزلوهن العُزَف ولا تعلموهن الكتابة»! 

٩-«فضل قراءة آل عمران يوم الجمعة»! 

١٠-«لا تقولوا قوس قزح، فإن قزح شيطان..»

١١-«من قال يوم الجمعة ثمانين مرة: اللهم صلي على محمد ..»

١٢-«ألا من صلى عليه -في كتاب لم تزل الملائكة تصلي عليه..»

١٣-«من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود»

١٤-أذيبوا طعامكم بذكر الله والصلاة ..»

١٥- «حمل العصا علامة المؤمن وسنة الأنبياء»

١٦-«ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته..»

١٧-«دخلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده سفرجلة..»

١٨-«بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ رأينا برداً ويداً..»

١٩-«لولاك لما خلقت الأفلاك»

٢٠-«إن الله يتجلى للخلائق عامة- وفي رواية للناس- ويتجلى لأبي بكر..»

٢١-«أن هامة بن إبليس جاء للنبي صلى الله عليه وسلم.. »

٢٢-«من حفظ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة»

٢٣-«أنا مدينة العلم وعلي بابها»

٢٤-«مسح الله عنك يا أبا أيوب ما تكره»

٢٥-«إذا أردت أن أردك إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك..»

٢٦-«إن لله عز وجل في الخلق ثلاثمائة قلوبهم على قلب آدم عليه السلام..»

٢٧-«من صلى عليَّ عند قبري سمعته..»

٢٨-«من عطس أو تجشأ، فقال: الحمد لله ..»

٢٩-«من أعرض عـن صاحب بدعة بغضاً له في الله، ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً،

٣٠-«اللهم لا تُطع تاجرنا ولا مسافرنا..»

٣١-«من عمل بما يعلم؛ ورثه الله علم ما لم يعلم»

٣٢-«أن جعفر بن أبـي طالب رضي الله عنه رقص بن يدي النبي..»

٣٣- أربع روايات عن علي وابن عباس، يزعم فيها حياة الخضر!

أولاً: مقدمة حول الحديث الموضوع

١-تعريفه

أ- لغة : هو اسم مفعول، من "وضع الشيء" أي "حطه" وألصقه.

ب- واصطلاحاً: هو الكذب، المختلق، المصنوع، المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

٢ــ رتبته:

هو شر الأحاديث الضعيفة، وأقبحها، وبعض العلماء يعده قسماً مستقلاً، وليس نوعا من أنواع الأحاديث الضعيفة.

٣- حكم روايته:

أجمع العلماء على أنه لا تحل روايته لأحد علم حاله في أي معنى كان إلا مع بيان وضعه، لحديث مسلم: (من حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين).

يقول الحافظ ابن حجر في (نزهته): "واتفقوا على تحريم رواية الموضوع، إلا مقروناً ببيانه، قوله صلى الله عليه وسلم: (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)، أخرجه مسلم"

وقال الحافظ ابن حجر كذلك في موضع آخر: "وكل ذلك حرام بإجماع من يُعتد به، إلا أن بعض الكرامية وبعض المتصوفة، نُقل عنهم إباحة الوضع في الترغيب والترهيب، وهو خطأ من فاعله، نشأ عن جهل، لأن الترغيب والترهيب من جملة الأحكام الشرعية، واتفقوا على أنت تعمد الكذب على النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الكبائر".

٤-طرق معرفة الحديث الموضوع:

تطرق الحافظ ابن حجر في "نزهته" لهذه المسألة بشكل جيد ومختصر، حيث يقول: "لكن، لأهل العلم بالحديث ملَكَةٌ قويّةٌ يُمَيِّزون بها ذلك، وإنما يَقوم بذلك منهم مَن يكون اطِّلاعه تاماً، وذِهْنه ثاقباً، وفهْمه قوياً، ومعرفته بالقرائن الدالة على ذلك متمكِّنة.

أ- وقد يُعْرَف الوضع بإقرار واضعِهِ، قال ابن دقيق العيد : ((لكن لا يُقْطَع بذلك، لاحتمال أن يكونَ كَذَب في ذلك الإقرار)))، انتهى. 

ب-ومنها: ما يؤخذ مِن حال المروي، كأنْ يكون مناقضاً لنصِّ القرآن، أو السنة المتواترة، أو الإجماع القطعي، أو صريحِ العقل، حيث لا يَقْبلُ شيءٌ مِن ذلك التأويلَ.

ج-ثم المروي: تارةً يخترعه الواضع. وتارةً يأخذ كلام غيره: كبعضِ السلف الصالح، أو قدماء الحكماء، أو الإسرائيليات. أو يأخذ حديثاً ضعيفَ الإسنادِ فيركِّبَ له إسناداً صحيحاً لِيَرُوْجَ.

٥-دوافع الوضع:

ذكر ابن حجر في "النزهة" هذه المسألة باختصار شديد لمناسبة المقام، وهذا من محاسن كتابه، ومن هذه الأسباب والدوافع لوضع الحديث:

أ - إما عدمُ الدين كالزنادقة.  ب - أو غلبةُ الجهل كبعض المتعبِّدين.

ج- أو فَرْط العصبية، كبعض المقلِّدين. د - أو اتِّباع هوى بعضِ الرؤساءِ.

هـ - أو الإغرابُ لقصْدِ الاشتهارِ.

٦-وتفصيل هذه الدوافع فيما يلي:

أ-التقرب إلى الله تعالى: وذلك بوضع أحاديث ترغب الناس في الخيرات، وأحاديث تخوفهم من فعل المنكرات، وهؤلاء الوضاعون قوم ينتسبون إلى الزهد والصلاح، وهم شر الوضاعين؛ لأن الناس قبلت موضوعاتهم ثقة بهم.

ب ـ الانتصار للمذهب: لاسيما مذاهب الفرق السياسية، وذلك بعد ظهور الفتنة، وظهور الفرق السياسية، كالخوارج، والشيعة، فقد وضعت كل فرقة من الأحاديث ما يؤيد مذهبهم.

ج ـ الطعن في الإسلام: وهؤلاء الوضاعون قوم من الزنادقة لم يستطيعوا أن يكيدوا للإسلام جهارا، فعمدوا إلى هذا الطريق الخبيث، فوضعوا جملة من الأحاديث بقصد تشويه الإسلام والطعن فيه، ومن هؤلاء: محمد بن سعيد الشامي، المصلوب في الزندقة، فقد روى عن حميد، عن أنس، مرفوعا: "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، إلا أن يشاء الله" ، ولقد بين جهابذة الحديث أمر هذه الأحاديث، ولله الحمد والمنة.

د- التزلف إلى الحكام: أي تقرب بعض ضعفاء الإيمان إلى بعض الحكام بوضع أحاديث تناسب ما عليه الحكام من الانحراف، مثل قصة غياث بن إبراهيم النخعي الكوفي مع أمير المؤمنين المهدي، حين دخل عليه وهو يلعب بالحمام، فساق بسنده على الت ِّو إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا سبق إلا في خف أو حافر، أو جناح" فزاد كلمة "أو جناح" لأجل المهدي، فعرف المهدي ذلك، فأمر بذبح الحمام، وقال: أنا حملته على ذلك. وطرد هذا الوضاع المتزلف، وعامله بعكس قصده.

هـ-التكسب وطلب الرزق: كبعض القصاص الذين يتكسبون بالتحدث إلى الناس، فيوردون بعض القصص المسلية والعجيبة، حتى يستمع إليهم الناس ويعطوهم، كأبي سعيد المدائني.

و-قصد الشهرة: وذلك بإيراد الأحاديث الغريبة التي لا توجد عند أحد من شيوخ الحديث، فيقلبون سند الحديث ليستغرب، فيرغب في سماعه منهم، كابن أبي دحية وحماد النصيبي. 

٧-ومن أفضل الكتب في هذا الموضوع المهم:

أ ـ الوضع في الحديث لعمر حسن فلاته، رسالة دكتوراه في جامعة الأزهر.

بــ تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة: لابن عراق الكناني، وهو كتاب حافل مهذب مفيد.

ثانياً: نصُّ البحث كاملاً

١- فقد ذكر في ص (٩) حديناً موضوعاً، لفظه: «ليس أحد يدخل الجنة إلا أجرد أمرد إلا موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام؛ فإن لحيته تبلغ سرته... » وهذا من وضع جماعة من الكذابين هم: وهب بن حفص الحراني، ونوح بن أبي مريم، ومجاشع بن عمرو. 

ولهذا رواه ابن الجوزي في «الموضوعات (٣/ ٢٥٧) وأقره الألباني في «السلسلة الضعيفة» (٤ ٧٠)، ووافقتهما في تحقيقي لكتاب (صفة الجنة) (ص ٢٦١).

٢- وذكر في (ص ٣٥) حديثاً مكذوباً، لا شك في وضعه، ولفظه: «إنا الله لطَّفَ الملكين الحـافظين حتى أجلسهما على الناجذين، وجعل لسانه قلمهما، وريقه مدادهما»! وهذا من وضع أحد سراق الحديث، وهو نعيم ابن موزع العنبري، وقد اتهم برواية أحاديث موضوعة، وانظر: «لسان الميزان» (٢٢٢/٦-٢٢٣).  

والحديث من مرويات (تاريخ أصبهان) (١/٢) لأبي نعيم. وفي الإسناد علل أخرى ليس هذا مقام توضيحها.  

٣- في (ص ٥٩) ذكر حديثاً موضوعاً جزم بوضعه الحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر العسقلاني وهو: «امسح برأس اليتيم هكذا إلى مقدم رأسه، ومن له أب هكذا إلى مؤخر رأسه»!  

وهكذا اللفظ الآخر: «الصبي الذي له أب يمسح رأسه إلى خلف، واليتيم رأسه إلى قدام» وهو موضوع مكذوب كسابقه. انظر: «ميزان الاعتدال» (٥٧٢/٣)، و«لسان الميزان» (١٩٢/٥-١٩٣) و(سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة) (١٠٧٢ ). 

٤- وفي (ص٥٩) يورد الحديث المكذوب الذي لا أصل له في شيء من كتب السنة المعتمدة، وهو حديث: «أول ما خلق الله نور نهك يا جابر...» الحديث، وقد بينت في حلقةٍ منفردةٍ كونه مكذوباً لا أصل له، كما جزم المحققون من العلماء والأئمة. 

وليس هذا غريياً على مؤلف كتاب (الفتاوى الحديثية) هذا؛ فإنه صوفي يدعو إلى عقيدة وحدة الوجود صراحة كما بينت ذلك في مقالة لي بعنوان: (مكانة ابن حجر الهيتمي لدى المحققين من العلماء) والذي نشره ملحق التراث بعناية الدكتور الفاضل محمد يعقوب تركستاني حفظه الله تعالى.

٥- ثم ذكر في (ص٦٠) حديثاً موضوعاً، وجزم بنسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: «إن لله تعالى في الجنة نهراً، يدخله جبريل، فينفض قطراً، فيخلق الله من كل قطرة تقطر منه ملكاً».

وهذا من موضوعات كتاب «العظمة» لأبي الشيخ برقم (٣١٧) (٧٣٥/٢)، والذي اختلقه هو زياد بن المنذر، فإنه قد كذبه يحى بن معين. وانظر كذلك «موضوعات ابن الجوزي» (١ /١٤٦-١٤٧)، و(السلسلة الضعيفة) (١٤٩٥).

٦ - ثم ذكر في (ص ٦١) «قصة هاروت وماروت مع الزهرة»، وجزم بصحتها، وهي من أبطل الباطل، وقد نبه على ذلك العلماء المحققون. وانظر (السلسلة الضعيفة) (٩١٢، ٩١٣).  

٧- وذكر في (ص ٩٤) حديثاً منكراً بشهادة الحافظ الذهبي، ولفظه: «لن يراه خلقٌ -يعني جبريل- إلأ عمي إلا أن يكون نبياً، ولكن يكون ذلك آخر عمرك».  

وانظر (المستدرك) (٥٣٦/٣-٥٣٧).  

٨- وزعم في (ص ٨٥) صحة حديث: «لا تنزلوهن العُزَف ولا تعلموهن الكتابة»! وهو حديث مكذوب، كما بينته في إحدى الحلقات السابقة، وخلاصته أن فيه رجلا وضاعاً كذاباً، وهذا جزم بوضعه الذهبي، وابن الجوزي، والألباني، وانظر (الضعيفة) (٢٠١٧).

٩- وفي (ص ١٣٢) يذكر الحديث الموضوع في فضل قراءة آل عمران يوم الجمعة! وقد سبق لي التنيه إلى كونه مكذوباً في الكلام على كتاب «أمير المؤمنين» للحجار الذي شحنه بالمكذوبات أيضاً.  

١٠- وفي (ص ١٤١) يذكر حديث: «لا تقولوا قوس قزح، فإن قزح شيطان، ولكن قولوا قوس الله عز وجل، فهو أمان لأهل الأرض»! وهذا مكذبٌ أيضاً، وإن استدل به النووي في «الأذكار» لأن الحديث فيه هالك، فاحسن أحواله أن يكون ضعيفاً جداً، فكيف وقد اتهمه ابن حبان بأنه يروي عن الألباني ما لا يشبه حديثهم، حتى يسق إلى القلب أنه المتعمد لها، وهذا الهالك يدعى زكريا بن حكيم «الميزان» (٧٢/٢). 

وروى هذا الحديث ابن الجوزي في «الموضوعات» (١٤٤/١)، وأقره المحدث الألباني في (السلسلة الضعيفة) (٨٧٢) وذكر حفظه الله -أن قاعدة: «يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمـال» غير صحيحة، وضرب لذلك مثالاً بهذا الحديث الموضوع الذي جعله النووي ضمن هذه القاعدة، وكذا ضرب مثلاً آخر بحديث «أقامها الله وأدامها» فإنهم استحوا العمل به مع كونه ضعيفاً عندهم، إلا أنه لا يندرج تحت أصل عام، بل هو تشريع جديـد يحتاج إلى دليل مستقل صحيح، وهيهات! 

وراجع لمزيد من الفائدة «تمام المنة في التعليق على فقه السنة» (ص ٣٤- ٣٨) للمحدث الألباني.  

ونتابع بيان الأحاديث المكذوبة في كتاب: «الفتاوى الحديثية» لابن حجر الهيتمي المكي، مع عدم القصد لاستقصائها جميعاً، إذ يحتاج ذلك إلى صفحات كثيرة جداً، فكيف إذا ما أردنا تتبع الضعيف والواهي؟! لا شك عندي أنه سيجتمع من ذلـك كم هائل من الأحاديث التي سوَّد بها الهيتمي كتابه المذكور، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جُله.

١١- فقد ذكر في (ص ١٥٦) حديثاَ ضعيفاَ جداَ، مع نكارة متنه ولفظه: «من قال يوم الجمعة ثمانين مرة: اللهم صلي على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، غفر الله له ذنوب ثمانين سنة»! 

وهذا فيه حجاج بن منان، وهو متروك، والحديث جزم بنكارته الحافظ ابن حجر العسقلاني في «لسان الميزان» (٢١٥/٢)، وفيه ضعفاء آخرون، وقد جزم بضعفه الشديد الألباني في (ضعيف الجامع) (٣٥٩٤).

١٢ - وذكر في (ص ١٩٠) أنه ورد «ألا من صلى عليه -صلى الله عليه وسلم في كتاب لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام اسمه الشريف في ذلك الكتاب»! 

وهو حديث موضوع، كما جزم ابن الجوزي فرواه في «الموضوعات» (٢٢٨/١)، وذكر أنه من وضع أبي داود النخعي، وهو وضاع بإجماع العلماء.  

كما ذكر أن في الرواية الأخرى يزيد بن عياض، وهو كذاب يضع الحديث أيضاً.  

وقد روي من حديث أبي هريرة، وفيه متهم بالكذب هو بشر بن عبيد الدارسي. «مجمع الزوائد» (١٣٩/١- ١٣٧). وجزم الذهبي بأنه موضوع «الميزان» (٦٠/١). 

وذكر ابن كثير له طريقا اخرى في «التفسير» (٦/ ٤٦٧) من حديث ابن عباس، وفي إسناده نهشل بن سعيد، وهو كذاب «الميزان» (٤ /٢٧٥).  

وفيه أيضاً: كادح بن رحمة، وهو كذاب أيضاً «الميزان» (٩٩/٣).  

١٣- وقد جزم في (ص ١٦٢) أيضاً بورود حديـث: «من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود»! مع كونه موضوعا مكذبواً شهد بذلك الأئمة كابن معين، وغيره.  

انظر «الموضوعات» (١٥٧/٢)، و(السلسلة الضعيفة) (١٠٤).  

١٤- وفي (ص ١٦٤) يذكر حديثاً موضوعاً أيضاً، ولفظه: «أذيبوا طعامكم بذكر الله والصلاة، ولا تناموا عليه تغفل قلوبكم»! وهذا فيه أبو الخليل بزيغ، وهو كما قال ابن حبان يأتي عن الثقات بأشياء موضوعات، كأنه المتعمد لها. 

وقال الحاكم: يروي أحاديث موضوعة «لسان الميزان» ( ٢/ ١٦- ١٧).

وهذا روى هذا الحديث ان الجوزي في «الموضوعات» (٣/ ٦٩) فأحسن، وأقره المحدث الألباني في (السلسلة الضعيفة) (٩١٥).

١٥ - وفي (ص ١٦٩) يذكر الحديث الموضوع: «حمل العصا علامة المؤمن وسنة الأنبياء». وهذا من وضع يحيى بن هاشم الغساني. «الميزان» (١٢/٤). ولهذا جزم الألباني بكونه موضوعاً. (السلسة الضعيفة) (٥٣٥).

١٦- فقد ذكر في (ص ١٦٩) حديث: «ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه، حتى يصيب منهما جميعاً، فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة، ولا تكونوا كلاً على الناس»! وسكت عن بيان درجته - كعادته- موهماً صحتها والواقع أنه حديث باطل كما جزم بذلك أبو حاتم الرازي في «علل الحديث» (٢/ ١٢٤-١٢٥) آفته يزيد بن زياد البصري، فإنه ضعف جداً، لا تحل الرواية عنه. وقد جزم الألباني بأنه حديث موضوع. (ضعيف الجامع الصغير) (٤٨٨٦).  

١٧- وفي (ص ١٧٠) ذكر حديثاً في فضل السفرجل ولفظه: «دخلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده سفرجلة، فرمى بها إلي وقال: دونكها أبا محمدا فإنها تجم الفؤاد»، وفي لفظ: «فإنها تشد القلب وتطيب النفس وتذهب بطخاء البدن»!

وسكت عن بيان درجته، مع كونه حدينا ضعيفاً جداً، بل قال الذهبيُّ: بأنه باطل. «الميزان» (١/ ٥١٠). وقد كنت- بحمد الله- خرجته وبينت علته بالتفصيل في تحقيقي للجزء المفقود من «تهذيب الآثار» برقم (٦٦٦، ٦٧٦).

١٨- رفي (ص ١٨١) يورد حديثاً لا شك في وضعه، وهو من رواية أنس رضي الله عنه، «بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ رأينا برداً ويداً، فقلنا: يا رسول الله ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال: قد رأيتموه؟ قلنا: نعم. قال: ذلـك عيسى ابن مريم سلم علي»!

وهذا الحديث في إسناده أبو عقال هلال بن زيد، وهو منكر الحديث ليس بثقة، بل قال ابن حبان: روى عن أنس أشياء موضوعة. «الميزان» (٤/ ٣١٣ -٣١٤).  

والحديث من مرويات ابن عدي في «الكامل» (٧/ ٢٥٧٨). وقد رواه ابن عـدي أيضاً (٥/ ١٩٨١) وفيه أبو عقال أيضاً. وهذا أورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (١ /٢٩٠-٢٩١).  

والعجب من الهيتمي: كيف يستدل بهذه الرواية المكذوبة لإثبات أنه صلى الله عليه وسلم -قد اجتمع- ولمرات عديدة- بعيسى عليه الصلاة والسلام!!  

١٩- فقد ذكر في (ص ١٨٩) الحديث الذي يتغنى به كثر من أهل الباطل، وهو: «لولاك لما خلقت الأفلاك» وفي لفظ: «قال الله: يا محمد! وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت أرضي ولا سمائي، ولا رفعت هذه الخضراء، ولا بسطت هذه الغبراء»! 

وله لفظ آخر: «قال آدم يا ربي أسالك بحق محمد -صلى الله عليه وسلم -لما غفرت لي؟ فقال الله تعالى: يا آدم! وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرايت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. قال الله: يا آدم إنه لأحب الخلق إلي، وإذ سألتني بحق محمد فقد غفرت لك، ولولا محمد ما غفرت لك»!!  

كما ذكر لفظا آخر: «أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى! آمن بمحمد، ومُر من أدركه من أمتك أنة يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب، فكتبت عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن»!!  

ثم قال الهيتمي: "ومثل هذا لا يقال بالرأي، فإذا أصحَّ عن مثل ابن عباس يكون له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما قرره أئمة الأصول والحديث والفقه! وحينئذٍ فما في الأول- يعني اللفظ الذي قبل هذا- من ضعفٍ، لو سُلّم لقائله ! يكون مجبوراً بهذا، لأن هذا وحده كافٍ في الحجية... "!! 

وأقول: قد قطع العلماء المحققون بكون هذه الأحاديث مكذوبة كلها، وبينوا عللها واحدة واحدة. كما هو في المراجع التالية: «الأحاديث الموضوعة» للصنعاني (ص٧)، و«الموضوعات» (١/ ٢٨٨- ٢٨٩) لابن الجوزي، و«اللآلي المصنوعة» (١/ ٢٧٢) للسيوطي، و«الفوائد المجموعة» للشوكاني (ص ٣٢٩)، و«ميزان الاعتدال» (٢/ ٥٠٤) وقال: "الخبر باطل"، و«تلخيص المستدرك» للذهبي أيضاً (٢/ ٢١٥) وقال: "بل موضوع". وانظر «لسان الميزان» للعسقلاني (٣/ ٤١٩)، فقد أقر الذهبيّ على كونه خبراً باطلاً. 

وكذا جزم بكونه موضوعا علامة الشام ومُحدث العصر الألباني في (السلسلة الموضوعة) (٢٨٢،٢٥).  

٢٠- ثم ذكر في (ص ٢١٩) أن حديث: «إن الله يتجلى للخلائق عامة- وفي رواية للناس- ويتجلى لأبي بكر رضي الله عنه، خاصة» صحيح!!  

وهذه من طامات هذا الكتاب؛ فإنا الحديث موضوع بلا شك: أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (١/ ٣٠٤، ٣٠٥، ٣٠٦، ٣٠٧، ٣٠٨) ثم ذكر أنه حديث موضوع، وأقره الشوكاني فأورده في «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» (ص ٠ ٣٣)، وكذا أورده ابن عراق في «تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة» (1/ ٣٧١- ٣٧٢)، وأقر الحافظ العراقي ابن الجوزي على كونه موضوعا في «تخريج إحياء علوم الدين» (٣٠٥/٤).

ولهذا أوردته في المستدرك الذي عملته على «الموضوعات في الإحياء» (ص ١٢٤). وكذا أورده المقدسي في «تذكرة الموضوعات» (ص ٣١).  

وقد حاول السيوطي في «اللآلئ المصنوعة» (٢٨٨/١) أن يعقب ابن الجوزي برواية أخرجها ابن بطة من طريق فيها عبد الله بن واقد أبو قتادة، ونقل أن الإمام أحمد، قال فيه: ما به بأساً!  

قلت: هو متروك، ذهب حديثه. ولهذا ضعفه البخاري جدا بقوله: سكتوا عنه «الميزان» (٢/ ٥١٧) وهذا لخص الحافظ العسقلاني أقوال الأئمة فيه في «التقريب» (٣٧١١)، فقال: «متروك، وكان أحمد يثني عليه، وقال: لعله كبر واختلط، وكان يدلس». 

في الإسناد تدليس ابن جريج أيضاً.  

وعلى كل حال فالمتن تتضح عليه علامات الوضع، ولهذا أصاب ابن الجوزي بذكره في «الموضوعات» كيف وقد وافقه على ذلك الحافظ العراقي، وغيره!  

أما تعليق الغماري على (تنزيه الشريعة) بقوله في الهامش: «ابن بطة يأتي بطامات كبار...» فهو كلام صادر عن تعصب مقيت من رجل رافضي يطعن في أهل السنة، فابن بطة من كبار الأئمة المنافحين عن العقيدة، وهو صدوق في نفسه، وإنما تكلموا في اتقانه، كما قال الحافظ الذهبي في «العلو للعلي الغفار» (ص ١٧٠)، وقال في «الميزان» (١٥/٣): (إمام لكنه ذو أوهام). ثم ختم الترجمة بقوله: «ومع قلة إتقان ابن بطة في الرواية، فكان إماماً في السنة، إماماً في الفقه، صاحب أحوال وإجابة دعوة رضي الله عنه».  

٢١- ثم ذكر ابن حجر الهيتمي في كتابه: «الفتاوى الحديثية» (ص ٢٣٤) حديثاً لا شك في كذبه ووضعه، لكنه لتساهله الشديد في ذكر المكذوبات والخرافات قال: «ورد من طرق كثيرة تبلغ بها درجة الحسن كما قال بعض المحققين!!: «أن هامة بن إبليس جاء للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه حضر قتل هابيل بن آدم، وأنه اجتمع بنوح فمن بعدهم، وآمن بهم، ثم طلب من النبى صلى الله عليه وسلم بعد أن آمن به وبلغه السلام من عيسى عليه الصلاة والسلام، فأردَّ عليه السلام، أن يعلمه شيئاً من القرآن، فعلمه الواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت، وقل هو الله أحد، والمعوذتين»!!  

وهذا الحديث- أخي المسلم!- مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٢٠٧/١-٢٠٩) ثم قال: «هذا حديث موضوع لا يشك فيه. فأما طريق ابن عمر فالحمل فيه على إسحاق بن بشر كذلك قال العقيلي، وقد اتفقوا على أنه كان كذابا يضع الحديث.  

وأما طريق أنس فالحمل فيه على محمد بن عبد الله الأنصاري، قال ابن حبان: يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم، لا يجوز الاحتجاج به. قال العقيلي: محمد ابن عبد الله عن مالك بن دينار منكر الحديث. قـال: وكلا هذين الإسنادين غير ثابت، ولا يرجع منهما إلى صحة، وليس للحديث أصل».  

وقد أورد هذا الحديث أيضاً الشوكاني في «الفوائد المجموعة» (ص ٤٩٨) على أنه حديث موضوع.  

وأشار الذهبي في «ميزان الإعتدال» (١٨٢/١-١٨٨) لذلك، ووافقه الحافظ العسقلاني في «لسانه» (٤٩٧/١-٤٩٩). وقد أورد الذهبيُّ أيضاً هذا الحديث في «ترتيب موضوعات ابن الجوزي» برقم (١٠٧، ١٠٨) وأقره على الوضع، وصرح بأنه باطل في الميزان» (٣/ ٥٩٩).

 وقد حاول السيوطي أن يخفف الحكم على الحديث من الوضع إلى الضعف فلم يصنع شيئاً، لأن علامات الوضع ظاهرة جداً على الحديث. انظر: «النكت البديعات على الموضوعات» (٢٦٨)، و«اللآليء المصنوعة» ( ١٧٥/١-١٧٧).  

ولهذا أورده ابن القيم في «المنار المنيف» (ص ٧٩) وقال بأنه من الأحاديث التي تقوم الشواهد على بطلانه. وذكره محمد بن خليل القاوقجي في «اللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع» (ص ٢١٣) وقال: (باطل موضوع، كما قال ابن قيم الجوزية).  

٢٢- كما سئل ابن حجر الهيتمي المكي في (الفتاوى الحديثية) (ص ٢٤٢) عن معنى حديث: «من حفظ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة»؟ 

فأجاب: بأن «من حفظه وعلم أحكامه من خاصه وعامه، ومجمله، وناسخه ومنسوخه ولحنه وفحواه ومعناه والاستنباط منه، فقد أوتي علم النبوة، وقليل ما هم، وهذا هو المراد بخبر: من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا انه لا يوحى إليه، ومن حفظ بعضه أوتي بقدره». ثم قال: «حقق الله لنا حفظ كله بالمعنى المذكور بمنه وكرمه آمين»!  

ونقول للهيتمي ولمن استدل بالحديث: كيف وهو حديث مكذوب مفترى على رسول الله ا؟ فقد رواه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٢٥٢/١- ٢٥٣) ولفظه: «من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة، ومن قرأ ثلثيه فقد أعطي ثلثي النبوة، ومن قرأ القرآن فكأنما أعطي النبوة كلها». وذكر أن فيه بشر بن نمير، قال عنه أحمد: ترك الناس حديثه، وقال مرة: يحيى ابن العلاء كذاب يضع الحديث، وبشر بن نمير أسوا حالاً منه. وقال يحى بن سعيد: كان ركنا من أركان الكذب. 

وقد روي من حديث صحابي آخر: أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٤٤٩/١٢) وفيه كذاب مشهور هو القاسم بن إبراهيم الملطي. «الميزان» (٣/ ٣٩٧).  

وقد جزم الحافظ الذهبي في ترجمة هذا الأخير بأن الحديث باطل وضلال فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء بذبه عن العقيدة والسنة.  

أما محاولة السيوطي تقويته في «اللآليء المصنوعة» (١/ ٢٤٣-٢٤٤)، وفي «النكت البديعات» (٣٧)، فهي محاولة فاشلة؛ لأن الشاهد الذي ذكره، أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٢٥٩٢) وفيه قام بـن نجيح، قال فيه البخاري: فيه نظر- وهذه عبارة خاصة بالبخاري تعني الجرح الشديد- وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث. وقال ابن حبان: روى أشياء موضوعة عن القات كأنه المتعمد لها. ووثقه يحيى وليس ذلك مقبولاً، لأن الجرح مفسر ها هنا فهو المقدم على التعديل كما قرره علماء الحديث.

ثم هو من مرسلات الحسن البصري أيضاً. وقد قال الحافظ «تقريب التهذيب» (٧١٣) عن بشر بن غير هذا: «متروك متهم».  

وقد روي بلفظ: «من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه» رواه البيهقي في «الشعب» (٢٥٩١) عن الحاكم في (المستدرك) (١/ ٥٥٢)، وهو في «الأسماء والصفات للبيهقي» (٤٠٣/١) لكنه لا يصح أيضاً، فيه رجل بمجهول لا يوثقه سوى ابن حبان، وآخر فيه ضعف، والصواب أنه موقوف على عبد الله بن عمرو بن العاص من قوله كما رواه البيهقي في «الشعب» برقم (٢٥٩٠) ورجاله ثقات. وراجع لمزيد من البيان: (فضائل القرآن) لابن كثير بتحقيق أبي إسحاق الحويني.  

وعندما يعترض على كبار المحدثين من يعتمد على الروايات المكذوبة والواهية والضعيفة، فلا شك أن اعتراضه سيكون غير دقيق، بل هو إلى الخطأ قريب.

٢٣- وهذا ما فعله ابن حجر الهيتمي صاحب (الفتاوى الحديثية) (ص ٢٢٩) باعتراضه على البخاري في حكمه على حديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» بأنه ليس له وجه يصح! وكذا باعراضه على الترمذي بقوله عنه: منكر، واعتراضه على ابن معين بقوله: كذب! وباعتراضه على ابن الجوزي في ذكره له في «الموضوعات» (٠/١ ٣٥- ٣ ٣٥)، وباعتراضه على الذهبي في موافقته لابن الجوزي على كونه موضوعاً كما في «ترتيب الموضوعات» (ص ١٠٣-١٠٤)، وكما في (تلخيص المستدرك) (١٢٩/٣). فقد ادعى ابن حجر الهيتمي أنه حديث حسن!! 

بل قال الحاكم: صحيح! فهل يسلم له في دعواه هذه؟  

والجواب الذي لا شك فه: أن دعواه هله مردودة، لأنه يشترط في الحديث الحسن الذي يرتقي مجموع طرقه وشواهده، ألا تكون شديدة الضعف أو فيها كذاب، كما يشترط ألا تكون رواية الرجل المتهم ببدعة كالتشيع والرفض- وإن كان ثقةً- ألا تكون مؤيدة لبدعته، خاصة إذا كان معروفا بالتدليس.

ومع ذلك، فإنه لا يؤمن والحالة هذه أن يكون دلسه عن كذاب أو واهٍ جداً كما بين ذلك بالتفصيل والاستقصاء العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني في تحقيقه النفيس كتاب: (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) للشوكاني (ص٣٤٩-٣٥٣) وذكر انه كان يميل -أولاً- إلى تقوية الخبر، ثم لما تدير طرقه التي يُزعم أنها تحسن الحديث وجد أن الحديث لا يثبت فعلاً، ثم ذكر تلك الدراسة التي قام بها بالتفصيل في ثلاثة مقامات محققة تحقيقاً جيداً، فجزاه الله خـيراً وغفر له وأكرم مثوبته. وقد حكم محدث العصر الألباني على الحديث بأنه موضوع. (ضعف الجامع) (١٣٢٢).

وقد جزم بكونه حدينا موضوعاً من إطلاق الزنادقة الجهلة، كشيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية) (٤ /١٣٨-١٤٠) وكان من ضمن جوابه: «والكذبُ يُعرف من نفس متنه، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم -إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلا باب واحد، ولم يُبلغ عنه العلم إلا واحد، فسد أمر الإسلام». وانظر (مختصر منهاج السنة) (٧٩٩/٢-٨٠٠) للشيخ الغنيمان.  

٢٤- وقد بوب ابن السني في كتابه: عمل اليوم والليلة (ص١٣٩) فقال: (باب ما يقال لمن أماط عنه الأذى). ثم روى بإسناده حديث أبي أيوب الأنصاري أنه تناول من لحية رسول الله -صلى الله عليه وسلم -الأذى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مسح الله عنك يا أبا أيوب ما تكره» حديث رقم (٢٨١).  

وقد استدل ابن حجر الهيتمي بهذا الحديث في كتابه (الفتاوى الحديثية) (ص ٢٦٩)، وأخذ يُجيب عن استشكال سائل حول قوله «مسح» أهو بالحاء المعجمة «مسخ» أم بالحاء المهملة «مسح»؟  

ونقول له: الحديث ضعيف جداً، بل لعله موضوع الإسناد؛ فإن فيه عثمان ابن فائد، وهو الذي روى حديث: (كلام أهل الجنة بالعربية، وكلام أهل السماء بالعربية، وكلام أهل الموقف بالعربية). وهو حديث موضوع آفته عثمان هذا كما جزم الحافظ الذهبي في «الميزان» (١/٣ ٥). 

ثم قال بعد ذكر حديثين موضوعين آخرين لعثمان هذا (٥٢/٣): «المتهم بوضع هذه الأحاديث عثمان، وقلَّ ما يكون عند البخاري رجل فيه نظر إلا وهو متهم». يعني عثمان بن فائد هذا. 

ثم ذكر الهيتمي رواية أخرى للحديث- عند ابن السني أيضاً برقم (٢٨٢)، ولفظها: «لا يكن بك السوء يا أبا أيوب، لا يكن بك السوء». وهذا في إسناده أبو هلال الراسبي، واسمه: محمد بن سليم، وهو صدوق فيه لين كما في «التقريب» (٥٩٦٠). وفيه عنعنة قتادة، وهو مشهور بالتدليس، كما أن الإسناد صورته تـدل على أنه مرسل؛ فالحديث ضعيف يقيناً.

أما الأثر الذي رواه ابن السني بعد ذلك برقم (٢٨٣) من طريق عبد الله ابن بكر الباهلي، قال: أخذ عمر -رضي الله عنه -عن لحية رجل أو رأسه شيئاً،ـ فقال الرجل: صرف الله عنك السوء، فقال عمر: صرف الله عنا السوء منذ أسلمنا، ولكن إذا أُخذ عنك شيء، فقل: أخذت يداك خيراً». فهذا الأثر منقطع، بل معضل بين عبد الله بـن بكر الباهلي، وبين عمر رضي الله عنه، وكأن ذلك خفي على المحدث الألباني فقال في «تخريج الكلم الطيب» رقم (٢٤٠): «الحديث موقوف، جيد الإسناد». وفيه من لم أقف له على ترجمته فيما بين يدي من كتب الرجال.  

والعجب من النووي- رحمه الله- كيف سكت عن بيان حال هذه الروايات في «الأذكار» (ص ٢٦٢) وحديث أبي أيوب رواه الطبراني في «الكبير» (٤٠٤٨، ٣٨٩٠) يإسنادين في الأول يحيى بن العلاء، وهو وضاع، ومع هذا صححه الحاكم في «المستدرك» (٤٦٢/٣)، ووافقه الذهبي !! والإسناد الآخر مظلم فيه نائل بن نجيح، وأحاديثه مظلمة كما قال ابن عدي «الميزان» (٢٤٤/٤).  

وقد صحَّ حديث حنين الجذع الذي احتضنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت، عـن جماعة من الصحابة بطرق متعددة تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن، وفرسان هذا الميدان كما قال الحافظ ابن كثير في «شمائل الرسول» (ص ٢٣٩ -٢٥١) ثم سرد تلك الروايات كلها رحمه الله تعالى.

٢٥- لكن هناك رواية ذكرها ابن حجر الهيتمي في (الفتاوى الحديثية) (ص ٢٧٢-٢٧٣) أخرجها الدارمي في (مسنده) (١ /٢٣) رقم (٢٢)، وقد جزم الهيتمي بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال في ذلك الحديث: «إذا أردت أن أردك إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك، وتكمل خلقتك، ويُجدد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك في الجنة، فيأكل أولياء الله من غـرسك؟ ثم أصغى له النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يسمع ما يقول فقال: بل تغرسي في الجنة، فيأكل مني أولياء الله، واكون في مكان لا أبلى فيه، فسمعه من يليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعلت. ثم قال: اختار دار البقاء على دار الفناء»!  

وهذا الحديث ضعيف جداً، بل هو موضوع بهذا الإسناد، فمداره على محمد بن حميد الرازي، وصاح بن حيان القرشي، وكلاهما مزوك، بل الأول متهم بالكذب. «الميزان (٢/ ٢٩٢، ٣/ ٥٣٠).

ثم إن قوله في آخر الحديث: (اختار دار البقاء..) ليس هو كذلك في «الدارمي» بل لفظه هناك: «اختار أن أغرسه في الجنة»!  

٢٥- وذكر الهيتمي في (ص ٢٧٧) الحديث الصحيح: «حُبب إليَّ من دنياكم ثلاث: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة»- انظر «صحيح الجامع» (٣١٢٤) - لكنه عزا زيادة في الحديث لم أجد ها أصلا عند أحد وهي: «أصبر عن الطعام والشراب، ولا أصبر عنهن»! وهذا عزاه ابن القيم رحه الله في «زاد المعاد» (٠/٤ ٢٥) لـ«زهد أحمد»، ولم أقف عليها بعد البحث الشديد في المطبوع من «الزهد»، وكذا لم أر محقق «الزاد» قد أشار في الحاشية لمكانه فيه. 

ثم وقفت على كلام الزبيدي في «إتحاف السادة المتقين» (٣١٢/٥) أن السيوطي تعقب الزركشي بقوله: إنه مر على كتاب «الزهد» مرارا فلم يجده فيه، لكن في «الزوائد» لابنه عبد الله- في «الإتحاف»: «أحمد وهو خطا أو سبق قلم- عن أنس مرفوعاً: «قرة عيني في الصلاة، وحبب إلي النساء والطيب، الجائع يشبع، والظمآن يروى، وأنا لا أشبع من حب الصلاة والنساء» فلعله أراد هذا الطريق.

 وأقول: زيادة «الجائع يشيع..» لا أراها تصح، ولذا أوردها الديلمي في «الفردوس» (٢٩٢٢) دون سند، ويكفي في تضعفها أن الثقات رووا الحديث عن أنس رضي الله عنه -دونها، والله أعلم. 

 ٢٦- ومن هذه الموضوعات أو المكذوبات التي راجت على مؤلف كتاب: «الفتاوى الحديثية» (ص ٢٧٩) حديث لفظه: «إن لله عز وجل في الخلق ثلاثمائة قلوبهم على قلب آدم عليه السلام، ولله تعالى في الخلق أربعون قلوبهم على قلب موسى عليه السلام، ولله تعالى في الخلق سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم عليه السلام، ولله تعالى في الخلق خمسة قلوبهم على قلب جبريل عليه السلام، ولله تعالى في الخلق واحد قلبه على قلب إسرافيل عليه السلام، إذا مات الواحد أبدل الله مكانه من الثلاثة، وإذا مات من الثلاثة أبدل الله مكانه من الخمسة، وإذا مات من الخمسة أبدل الله تعالى مكانه من السبعة وإذا مات من السبعة أبدل الله مكانه من الأربعين، وإذا مات من الأربعين أبدل الله مكانه من الثلاثمائة، وإذا مات من الثلاثمائة أبدل الله مكانه مـن العامة، فبهم يُحيي ويُميت ويمطر وينبت، ويدفع البلاء»!!  

هذا الحديث عزاه صاحب «الفتاوى الحديثية» للديلمي، وسكت موهما صحته!

والحق أنه حديث مكذوب، ولا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث في الأبدال أو الأوتاد أو الأقطاب، بل كل ما روي في ذلك عنه عليه الصلاة والسلام فموضوع أو شديد الضعف.  

ولا ينفك من اختلاق رجليـن في إسناده هما: عبد الرحيم بن يحى الأدمي، أو عثمان بن عمارة، ولهذا قال الذهبي في ترجمة عبد الرحيم من «الميزان» (٩٠٨/٢): «اتهمه به أو عثمان». وقال في ترجمة عثمان عـن الحديث: «كذب» لم قال: «فقاتل الله من وضع هذا الإفك». «الميزان» (٣/ ٥٠)، وأقره الحافظ العسقلاني. «لسان الميزان» (١٧٤/٤- ١٧٥).

والحديث رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (٨/١-٩)، والديلمي في «الفردوس» (٧٠٣) دون سند- وجزم الألباني بوضعه. (الضعيفة» (١٤٧٩)، ثم قال حفظه الله: «نقلت آكثر أسانيد الأحاديث المقدمة من رسالة السيوطي «الحبر الـدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال». وقد حشاها بالأحاديث الضعيفة، والآثار الواهية، وبعضها أشد ضعفاً من بعض كما يدلك هذا التخريج- يعي في (السلسلة الضعيفة) برقم (٩٣٦، ١٣٩٢، ١٤٧٤٠، ١٤٧٥٠، ١٤٧٨، ١٤٧٧٠، ١٤٧٩)- ومن عجيب أمره أنه لم يذكر فها ولا حديثاً واحداً في القطب المزعوم، ويسميه تبعاً للصوفية بالغوث أيضاً، وكذلك لم يذكر في الأوتاد والنجباء أي حديث مرفوع، وإنما هي كلها أسماء مخترعة عند الصوفية، لا تعرف عندهم، اللهم إلا اسم البدل فهو مشهور عندهم كما تقدم. والله أعلم».  

٢٧- ومن هؤلاء صاحب (الفتاوى الحديثية) (ص ٢٧٩) فقـد أخذ يجيب عن معنى الحديث لسائل، يحتج به كثير من الخرافيين: «من صلى عليَّ عند قبري سمعته، ومن صلى عليَّ بعيداً عن قبري بُلِّغتُه». 

 ولا أدري كيف خفي عليه أنه حديث موضوع!  

فقد رواه ابن الجوزي في «الموضوعات» (١ /٣٠٣) من طريق العقيلي في «الضعفاء» (٤/؟١٣-١٣٧) ثم قال: «لا يصح، محمد بن مروان هو السدي الصغير، كذاب، قال العقيلي: لا أصل هذا الحديث».  

وكذا جزم بوضعه شيخ الإسلام ابن تيمية في «الفتاوى» (٢٤١/٢٧)، ثم قال: حديث موضوع إنما يرويه محمد بن مروان السدي، عن الأعمش، وهو كذاب بالاتفاق، وهذا الحديث موضوع على الأعمش بإجماعهم».  

وقد حاول السيوطي كعادته تخفيف الحكم على الحديث بالوضع، فكان أن أورد ما أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في «الثواب» -«اللآلي» (٢٨٣/١)- كمتابعة للسدى الكذاب، من طريق مظلمة الإسناد، فلم يصنع شيئاً، ولعله لذلك قال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في «الصارم المنكي في الرد علـى السبكي» (ص ١٩٠): «وقد روى بعضهم هذا الحديث من رواية أبي معاوية عن الأعمش، وهو خطأ فاحش، وإنما هو محمد بن مروان تفرد به، وهو متروك الحديث، متهم بالكذب».  

وقد حكم الألباني على الحديث في (ضعيف الجامع الصغير) (٥٩٧٠) بالوضع.  

ولعل ما يؤكد بطلان هذا الحديث ما رواه البزار في «مسنده» زوائد- (٣١٩٣، ٣١٦٢)، والحارث ابن أبي أسامة في «مسند» زوائده - (١٠٩٣)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (٤١٦/٢/٣)، وغيرهم - كما في «القول البديع» للسخاوي (ص ١١٢)- إسناد لا بأس به في الشواهد والمتابعات، وله شاهد من حديث أبي بكر الصديق كه أخرجه الديلمي في «مسنده»- كما في (الصحيحة) (١٥٣٠)- وإسناده فيه ضعف كما قال السخاوي أيضا (ص ١٥٥)، وقد حسن الحديث الألباني بالشاهد من رواية عمار بن ياسر التي أخرجها البزار وغيره، وبغيره من الشواهد التي في معناه.  

وكذا ثبت في «سنن أبي داود» (٢٠٤١)، و«مسند أحمد» (٢٢٧/٢)، وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعاً: « ما من أحد يسلم علي، إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» وقال العراقي: سنده جيد. «تخريج إحياء علوم الدين» (١ /٣١٨). 

فهذان الحديثان، وغيرهما ما هو في نفس المعنى يدلان دلالة واضحة على أنه عليه الصلاة والسلام إنما يُلبّغه الملك الصلاة والسلام عليه، لا أنه يسمعه بنفسه عليه الصلاة والسلام، فلاحظ هذا أخي المسلم ولا تغتر بكلام الخرافيين. جعلنا الله هداة مهتدين، والحمد لله رب العالمين.  

٢٨- ثم ذكر صاحب (الفتاوى الحديثية) في (ص ٢٧٩) حديثاً في فضل الحمد عند العطاس لفظه: «من عطس أو تجشأ، فقال: الحمد لله على كل حـال من الأحوال، دفع عنه بها سبعون داء أهونها الجذام»! ثم اكتفى بقوله: رواه الخطيب في ترجمة الحسن بن جعفر الواعظ، وسكت موهما صحته للسائل! والواقع أنه حديث موضوع رواه الخطيب في (تاريخ بغداد) (٢٨/٨)، وابن الجوزي في «الموضوعات» (٣/ ٧٥، ٧٩)، وابن عدي في «الكامل في ضعفاء الرجال» (٩/ ٢٢٥٩) بإسناد فيه محمد بن كثير الفهري، وهو قد روى بواطيل، والبلاء فيها منه كما قال ابن عدي، ووافقه الذهبي، ثم رواه بإسناده في (الميزان) (٢٠/٤). 

وقد حاول السيوطي- كعادته- أن يلطف احكم على الحديث، فلم يصنع شيئاً؛ لأن لوائح الوضع ظاهرة على الحديث، والشاهد الذي ذكره لا يسمن ولا يغني من جوع، لأن إسناده مظلم، كما أن الأثر الذي ذكره عن علـي -رضي الله عنه -لا يصح بل هو  شديد الضعف فيه حبة بن جوين، وقد كذبه ابن الجوزي، وقال: حبة لا يساوي حبة! وقال غيره: ليس بثقة. وانظر: «الميزان» (٠/١ ٤٥)، و«اللآلي» (٢/ ٢٨٤)، و«الموضوعات» (٢/١ ٣٤). وجزم المحقق المعلمي بأن الحديث موضوع بعد دراسة جيدة لجميع ما أورده السيوطي في الباب من روايات. (الفوائد المجموعة) (ص ٢٢٢-٢٢٤).  

٢٩- وسئل الهيتمى أيضاً في (ص٢٧٩) عن حديث: «من أعرض عـن صاحب بدعة بغضاً له في الله، ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً، ومن انتهر صاحب بدعة أمنه الله يوم الفزع الأكبر، ومن أهان صاحب بدعة رفعه الله في الجنة مائة درجة، ومن سلم على صاحب بدعة أو لقيه بالبشر أو استقبله بما يسره فقد استخف بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم».

وقد عزاه للخطيب في «تاريخه» موهماً السائل صحته بسكوته عن بيان درجة الحديث.والحق أنه حديث تفرد به الحسين بن خالد أهو الخبير، كذا قاله الحطـب في (تاريخ بغداد) ( ١٠/ ٢٩٤)،  ومن هذا الطريق رواه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٢٧٠/١) وعصَّب الجناية بعبد العزيز بن أبي رواد مع أنه صدوق، وكان الأولى تعصيب الجناية بأبي الجنيد ذاك؛ فإنه ليس بقة كما قال ابن معين: (لسان الميزان) (٢/ ٣٢٢)، ومن هذا الوجه الواهي رواه أبو نعيم في (الحلية) (٨/ ١٩٩ -٢٠٠). 

وقد حاول السيوطي في «اللآلي» (٢٥١/١-٢٥٢) تخفيف الحكم علـى الحديث، فذكر متابعة مظلمة الإسناد بل فيها متهم بالكذب هو أبو حازم عبد الغفار ابن احسن. «لسان الميزان» (٤/٤). كما ذكر متابعة أخرى فيها وضاع مشهور هو أبو الفضل قاضي نيسابور، واسمه: أحمد بن عصمة. (لسان الميزان) (١/ ٣٢٧ -٣٢٩)، و«تنزيه الشريعة» (٣١٤١١).  

وقد روي الحديث بلفظ: «من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام» وهذا ضعيف كما فصل في ذلك ادث الألباني في (السلسلة الضعيفة) (١٨٩٢). 

٣٠-ويزعم الهيتمي في كتابه (الفتاوى الحديثية) (ص٧٩) أن حديث «اللهم لا تُطع تاجرنا ولا مسافرنا، فإن تاجرنا يحب الغلاء، ومسافرنا يكره المطر» ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكوته عن ييان درجته مع كونه حديثاً موضوعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 وهذا رواه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٢/ ٤١) ثم ذكر أنه موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففيه يحى بن عبيد الله هو ابن موهب، قال عنه محيى بن معـين: ليس بشيء ولا يكتب جديده. وقال أحمد: أحاديثه منكرة، لا يعرف هو ولا أبوه. 

وقال ابن حبان: يروي ما لا اصل له. وقد فات ابن الجوزي أن فيه من هو أشد ضعفاً من يحيى بـن عبيد الله ذاك، ألا وهو أبو عصمة نوح بن أبي مريم المعروف بنوح الجامع،.والذي جمع كل شيء إلا الصدق، فإنه كذاب وضع أحاديث فضائل القرآن الطويل كما جزم الحاكم «الميزان» (٤/ ٢٧٩).

 والحديث رواه- أيضاً- احطب في «تاريخ بغداد» (٢٥٩/٤-٢٥٧)، وأورده الشوكاني في (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) (ص ١٤٣).

 وحاول السيوطي أن يخفف كعادته الحكم على الحديث بشاهد فيه كذاب فلم يصنع شيئاً، وبشاهد آخر موقوف لم يذكر سنده اصلاً «اللآليء المصنوعة» ( ٢/ ٩٤٥). 

٣١- وفي (ص ٢٨٥) يذكر حديثاً موضوعاً على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لفظه: «من عمل بما يعلم؛ ورثه الله علم ما لم يعلم». 

وهذا مكذوب بشهادة الإمام أبي نعيم الحافظ؛ فإنه رواه في «حلية الأولياء» (١٠/ ١٤ -١٥) من طريق جماعة مجاهيل أحدهم- بلا شك- وضعه، وهذا قال عقبه أبو نعيم: «ذكر أحمد بن حنبل هذا الكلام عن بعض التابعين عن عيسى ابن مريم عليه السلام، فوهم بعض الرواة أنه ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع هذا الإسناد عليه، لسهولته وقربه، وهذا الحديث لا يحتمل بهذا الإسناد عن أحمد بن حنبل». 

وإنه لمن العجيب أن يكتفي الحافظ العراقي- بعد هذا- بقوله في «تخريج الإحياء» (٧٧/١) رقم (١): «أبو نعيم في الحلية من حديث أنس وضعفه»!

والصواب: أنه جزم بوضعه لا ضعف فقط، وعلى هذا فالصواب أن الحديث من  «موضوعات إحياء علوم الدين» ولم استدركه في «الإخبار بما فات من أحاديث الاعتبار» فلا ينقل إليه من وقف على كلامي هذا ها هنا، ولله في ذلك الحكمة البالغة.

وقد تبع الشوكاني الحافظ العراقي في حكمه الآنف في (الفوائد المجموعة) (ص٢٨٩) فاكتفى بتضعيفه فقط! والصواب أن الحديث مكذوب كما رأيت من الكلام السابق، والحمد لله رب العالمين. 

٣٢- ومن العبث الصوفي الذي اشتهر به بعض المعظمين لابن عربي وغيره من ملاحدة الصوفية ما ذكره صاحب: (الفتاوى الحديثية) (ص ٢٩٨) عندما شئل عـن رقص الصوفية وتواجدهم وهل له أصل؟ فأجاب بقوله: نعم له أصل!! فقد روي في الحديث: «أن جعفر بن أبـي طالب رضي الله عنه رقص بن يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: أشبهت خلقي وخلقي». 

وهذا الحديث بزيادة الرقص المزعوم فيه منكر لا يصح، فقد رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (٢٢٩/١٠)، وفي: «الآداب» له أيضاً (٩٢١)، وأحمد في (المسند) (١٠٨/١)، والبزار في (المسند) (٢٢٠/٣) رقم (٢٩٠٩)- زوائده- ولفظ البيهقي: (أتينا النبي صلى الله عليه وسلم - وأنا المتكلم علي رضي الله عنه وهو راوي الحديث- وجعفر وزيد، فقال لزيد: أنت أخونا ومولانا، فحجل، وقال لجعفر: اشبهت خلقي وخلقي، فحجل وراء حجل زيي، وقال لي: أنت منى وأنا منك، فحجلت وراء حجل جعفر».

وقال البيهقي- شارحاً الحديث-: (والحجل: أن يرفع رجلاً ويقفز على الأخرى من الفرح، فإذا فعله إنسان فرحاً بما آتاه الله تعالى من معرفة أو سائر نعمه فلا بأس به، وما كان فيه تثن وتكسر حتى يباين أخلاق الذكور فهو مكروه لما فيه من التشبه بالنساء). «الآداب» (ص ٤٢٢).  

وقد تردد البيهقي في صحة الحديث فقال في «السنن الكبرى» (٢٢٩/١٠): «هانيء بن هانيء ليس بالمعروف جدا. وفي هذا- إن صح- دلالة على جواز الحجل، وهو أن يرفع رجلاً ويقفز على الأخرى من الفرح، فالرقص الـذي يكون على مثاله يكون مثله في الجواز، والله اعلم».  

والصواب: أن الحديث فيه أيضاً عنعنة أبي إسحاق السبيعي، وهو مشهور بالتدليس، ثم هو كان قد اخلط، فإذا أضيفت هذه العلة القادحة لما سبق من كون هانيء بن هانيء هنا مستوراً كما قال الحافظ ابن حجر، تبين يقيناً ضعف الإسناد، فإذا أضيف إلى العلتين السابقتين كون المتن فيه زيادة منكرة لمخالفتها لرواية البخاري في (صحيحه) (٢٩٦٩٩) والتي فيها: «أشبهت خلقي وخلقي» الصحيحة، ولكن لا يوجد فيها قضية الحجل أو الرقص، فحقيق بها أن تكون منكرة لا يجوز الاعتماد عليها، ولهذا ضعفت هذه الزيادة في تحثيقي «لمسند علي» (٧/ ٢٩٢٤).

والخلاصة أن الرقص الصوفي إنما هو نوع من العبث الصوفي، وليس هو من ديـن الله تعالى في شيء، فاحذر -أخي المسلم- من مخالفة نهج الصحابة والتابعين، جعلنا الله وإياك من الهداة المهتدين آمين.  

٣٣- وزعم الهيتمي في (الفتاوى الحديثية) (ص ٣٠٧) في رده على ابن الجوزي قوله إنكار حياة الخضر عليه السلام أنه قد تناقض، فروى بإسناده المتصل أربع روايات تدل على حياته:

منها عن علي كرم الله وجهه: «أنه رآه ملصقاً بأستار الكعبة»! 

ومنها عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: ولا أعلمه إلا مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يلتقي الخضر وإلياس في كل عام في الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه»!.

ومنها عن علي كرم الله وجهه: «أنه يجتمع مع إسرافيل وجبريل وميكائيل بعرفات والحجيج بها»!  انتهى.

وهنا نقف على مدى غلط الهيتمي في دعواه على ابن الجوزي! فالروايات الأربع  التي ذكر أن ابن الجوزي رواها بإسناده المتصل إنما هي روايات مكذوبة موضوعة، رواها ابن الجوزي بإسناده المتصل في «الموضوعات» (١/ ١٩٥ -١٩٨)، ثم قال: «هذه الأحاديث باطل». وذكر بعد ذلك عللها بالتفصيل، وأنها تدور علـى كذابين ومجاهيل.

ثم قال: «وقد أغري خلق كثير من المهوسين بأن الخضر حيٌّ إلى اليوم، ورووا أنه التقى بعلي بن أبي طالب، وبعمر بن عبد العزيز، وأن خلقاً كثيراً من الصاحين رأوه، وصنف بعض من صحح الحديث، ولم يعرفا علله كتابا جمع به ذلك، ولم يسأل ما نقل، وانتشر الأمر إلى أن جماعة من المتصنعين بالزهد يقولون: رأيناه وكلمناه، فواعجيا أَلَهُم فيه علامة يعرفونه بها؟ وهل يجوز لعاقل أن يلقى شخصاً، فيقول له الشخص: أنا الخضر، فيصدقه».  

وقد بين ابن القيم رحه الله في المنار المنيف» (ص ٦٧ -٧٦) أن الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته، كلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد، ثم ذكر شيئاً من هذه الأحاديث، ثم قال: سئل إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر وأنه باق؟ فقال: من أحال على غائب لم يُنتصف منه، وما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان.  

وسئل البخاري عن الخضر وإلياس، هل هما أحياء؟ فقال: كيف يكون هذا؟ وقد كال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لا يبقى على رأس مئة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد).

وسئل عن ذلك كثير غيرهما من الأئمة فقالوا: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الأنبياء: ٣٤). ثم ذكر ابن القيم النقول المستفيضة عن جماعة من الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية، وعلي بن موسى الرضا، وأبو الحسين بن المنادي، وغيرهم، وذكر من المعقول عشرة أوجه فراجعها فإنها مفيدة جـداً في تأييد موت الخضر عليه الصلاة والسلام وعلى نبينا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.



الثلاثاء، 23 أغسطس 2022

القول الأشبه في حديث (من عرف نفسه عرف ربه) للإمام جلال الدين السيوطي بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

                                                 القول الأشبه في حديث (من عرف نفسه عرف ربه)

للإمام جلال الدين السيوطي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ ليس بالأوامر وحدها يتغير الإنسان، وإنما أساس التغيير يأتي من داخله، وذلك عندما تتغير معارفه ومُثله ومعتقداته، عندها يضيء عقله، ويستيقظ وجدانه، وتُشحذ إرادته، وهذا هو الذي يجدد له الثقة في ربه، ويجبر الهنات التي تقع من نفسه، فمن عرف نفسه لم يغتر بثناء الناس عليه، ومن عرف ربه لم يضره ذم الناس له.

وهذا الكتاب هو عبارة عن فتوى عن حديث اشتهر على الألسنة، وهو (من عرف نفسه عرف ربه)، وبيان ضعفه، وإزالة الإشكال عن معناه، وتقع هذه الفتوى في الجزء الثاني من كتاب (الحاوي للفتاوي) للجلال السيوطي، من الصفحة (٢٨٨ إلى ٢٩٠).

وقد قسم السيوطي الكلام على هذا الحديث إلى مقالين:

المقال الأول: بيان أن هذا الحديث ليس بصحيح.

المقال الثاني: في معناه.

وقد تطرقت في هذا المقال إلى أمور ستة، وهي:

١-بيان وضع هذا الحديث وأنه لا أصل له، وذلك من كلام العلماء، مع زيادة بعض المتأخرين عن السيوطي.


٢-بيان معنى هذه الكلمة من كلام العلماء، واخترتُ كلام ابن تيمية وابن القيم -ولم يذكرهما السيوطي في رسالته -وختمت بكلام السيوطي.

٣- إجمال المعاني الواردة في هذه العبارة (٤ -أقوال).

٤-بيان طرق التعرف إلى الله تبارك وتعالى (ذكرت ٧ منها).

٥-بيان مذاهب الفرق الكلامية في معنى هذه الكلمة (٥ -فرق) وكان المذهب الخامس هو مذهب أهل السنة.

٦-جواب مجمل عن نقل السيوطي أن الله في كل مكان -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ويتكون من جزأين (إثبات علو الله على خلقه)، والثاني (بيان حقيقة قولهم ننزه الله عن المكان).

أولاً: بيان ضعف هذا الحديث من كلام العلماء الأفذاذ:

ذكر السيوطي في كتابه، عن النووي في "فتاويه"، قال: إنه ليس بثابت، وعن ابن تيمية، قال: موضوع، وعن الزركشي: أنه من كلام يحيى بن معاذ الرازي، وإليك مزيد بيان:

١- قال الإمام النووي (ت ٦٧٦ هـ) في "فتاويه" (ص ٢٤٨): ليس هو بثابت؛ ولو ثبت كان معناه من عرف نفسه بالضعف والافتقار إِلى الله تعالى، والعبودية له، عرف ربه بالقوة، والقهر، والربوبية، والكمال المطلق، والصفات العليا. 

ومن عرف ربه بذلك كَلَّ لسانُه عن بلوغ حقيقة شكره، والثناءِ عليه كما ثبت في "صحيح مسلم" وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "سبحانَك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك". انتهى.

٢-ويقول ابن تيمية (ت ٧٢٨ هـ) في "مجموع الفتاوى" (١٦/ ٣٤٩): وبعض الناس يروي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا هو في شيء من كتب الحديث ولا يعرف له إسناد. 

ولكن يروى في بعض الكتب المتقدمة إن صح "يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك". وهذا الكلام سواء كان معناه صحيحا أو فاسدا لا يمكن الاحتجاج بلفظه فإنه لم يثبت عن قائل معصوم. لكن إن فسر بمعنى صحيح عرف صحة ذلك المعنى سواء دل عليه هذا اللفظ أو لم يدل.

٣-ويقول العلامة ابن قيم الجوزية (ت ٧٥١ هـ) في مدارج السالكين (١/ ٤٢٦): وليس هذا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو أثر إسرائيلي بغير هذا اللفظ أيضاً "يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك".

٤-ويقول العلامة ابن حجر الهيثمي (ت ٩٧٤ هـ) في "الفتاوى الحديثية" (ص ٢٢٦): لا أصل له، وإنما يُحكى من كلام يحيى بن معاذ الرازي الصوفي.

ومعناه: من عرف نفسه بالعجز والافتقار والتقصير والذلة والانكسار، عرف ربه بصفات الجلال والجمال على ما ينبغي لهما، فأدام مراقبته حتى يفتح له "باب" مشاهدته، فيكون من أخصائه الذين أفرغ عليهم سجال معرفته وألبسهم صوافيَ خِلافته.

٥- وقال السيوطي (ت ٩١١ هـ) في تدريب الراوي (٢/ ٦٢٦): «من عرف نفسه فقد عرف ربه» باطل لا أصل له.

٦- وقال ملا علي قاري (ت ١٠١٤ هـ) في الأسرار المرفوعة (٣٣٧): قيل لا أصل له أو بأصله موضوع.

٧- وقال الزرقاني (ت ١١٢٢)، في مختصر المقاصد (١٠٥٢): ليس بحديث.

ثانياً: توضيح معنى هذه القولة من كلام الشيوخ:

وقد ذكر السيوطي بيان الشيوخ لمعنى هذه المقولة، فنقل عن الإمام النووي -وقد تقدم، وابن عطاء الله في "لطائف المنن"، وأبو طالب المكي في "قوت القلوب"،  والشيخ عز الدين -لعله ابن عبد السلام -، والقونوي -تلميذ ابن عربي، وقد أعرضنا عن تلك الشروحات، وذكرنا شرح الشيخين ابن تيمية وابن القيم والسيوطي، لأن فيها تفصيلاً ولجودة معانيهم وصحتها:

١- يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى -في مجموع الفتاوى" (٩/ ٢٩٥ -٢٩٨):

ويقال إنه "من عرف نفسه عرف ربه" من جهة الاعتبار ومن جهة المقابلة ومن جهة الامتناع.

- فأما "الاعتبار" فإنه يعلم الإنسان أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير فإنه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليه، لم يمكن أن يفهم ما غاب عنه ..لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة فقد قال ابن عباس رضي الله عنه: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء".. فالإنسان يعتبر بما عرفه ما لم يعرفه. ولولا ذلك لانسدت عليه طرق المعارف للأمور الغائبة.

- وأما من جهة "المقابلة"؛ فيقال: من عرف نفسه بالعبودية عرف ربه بالربوبية، ومن عرف نفسه بالفقر عرف ربه بالغنى، ومن عرف نفسه بالعجز عرف ربه بالقدرة، ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالعلم، ومن عرف نفسه بالذل عرف ربه بالعز، وهكذا أمثال ذلك؛ لأن العبد ليس له من نفسه إلا العدم وصفات النقص كلها ترجع إلى العدم، وأما الرب تعالى فله صفات الكمال وهي من لوازم ذاته يمتنع انفكاكه عن صفات الكمال أزلاً وأبداً، ويمتنع عدمها لأنه واجب الوجود أزلاً وأبداً..

-وأما من جهة "العجز والامتناع"؛ فإنه يُقال: إذا كانت نفس الإنسان التي هي أقرب الأشياء إليه بل هي هويته وهو لا يعرف كيفيتها ولا يحيط علما بحقيقتها فالخالق جل جلاله أولى أن لا يعلم العبد كيفيته ولا يحيط علما بحقيقته، ولهذا قال أفضل الخلق وأعلمهم بربه صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). انتهى كلامه ملخصاً.

٢- وبمثله قال ابن قيم الجوزية في المدارج (١/ ٤٢٧)، إلى أن قال: 

والمقصود: أن هذا المشهد يعرف العبد أنه عاجز ضعيف، فتزول عنه رعونات الدعاوي، والإضافات إلى نفسه، ويعلم أنه ليس له من الأمر شيء، إن هو إلا محض القهر والعجز والضعف.

٣-وقال الإمام السيوطي في كتابه هذا:

وقد يُراد أن صفات نفسك على الضد من صفات ربك، فمن عرف نفسه بالفناء عرف ربه بالبقاء، ومن عرف نفسه بالجفاء والخطأ عرف ربه بالوفاء والعطاء، ومن عرف نفسه كما هي عرف ربه كما هو، واعلم أنه لا سبيل لك إلى معرفة إياك كما إياك..

ثالثاً: إجمال المعاني الواردة في هذه العبارة:

١-أن المراد عامل الله سبحانه بما تُحب أن تُعامل به، وذلك بالصبر على أوامره وأقضيته وأقداره.

٢-أن من عرف نفسه بالنقص والتقصير، عرف ربه بالكمال والغنى.

٣-أن من عرف نفسه أولاً، فحاله حال السالكين، ومن عرف ربه أولاً فحاله حال المجذوبين.

٤-أن المرء إذا كان عاجزاً عن إدراك نفسه، فهو عن إدراك ربه أعجز.

رابعاً: طرق التعرف إلى الله تبارك وتعالى:

١-(بالتدبير) ذلك باعتقاد أنه سبحانه مدبر أمر العالم، ومحركه، والمتصرف فيه وحده.

٢-(بالتوحيد)، وذلك باعتقاد أنه لا شريك له في ملكه وخلقه وتدبيره.

٣-(بالإرادة والمشيئة) وذلك باعتقاد أن الله سبحانه مُريدٌ لما يكون في كونه، فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإرادته ومشيئته.

٤-(بعلمه وقربه)، وذلك باعتقاد أن الله تعالى عالمٌ بجميع المخلوقات، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه قريب من عباده، لا يحول بينه وبينهم شيء.

٥-(بقيوميته) وذلك باعتقاد أنه سبحانه واجب الوجود، وأنه قائم بنفسه، وجميع الخلق مفتقرون إليه.

٦-(بتقديسه) وذلك باعتقاد أنه سبحانه منزه عن التمثيل والتكييف، فلا تدرك كنهه العقول.

٧-(بأسمائه وصفاته) وذلك باعتقاد صفاته، وأنها صفات كمال، وأنه سبحانه منزه عن كل نقص.

خامساً: مذاهب الفرق الكلامية في معنى هذه المقولة:

اختلفت الفرق فِي وَجه الْمعرفَة في قولهم (من عرف نفسه عرف ربه):

١-فَقَالَت الثنوية لما عُرف إشتمال نَفس الإنسان على الْخَيْر وَالشَّر عرف أَن لكل جِهَة مِنْهُ رَبًّا؟!! وهذا القول لا شك في بطلانه وكونه من الكفر العظيم.

٢-وقالت الْيَهُود بل: إن الرب فيه جزء خير وجزء شر!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

٣-وَقَالَت المشبهة هُوَ جسم؛ إِذْ فِي الشَّاهِد تكون معرفَة النَّفس للجسم.

٤-وقالت الجهمية: من عرف نَفسه بإثبات الصفات الحادثة عرف ربه بتنزيهه عنها، ونفيها عنه، وهذا هو عين التعطيل.

٥-وقال أهل السنة: من عرف نفسه بإثبات الصفات في الجملة، وإدراك معناها، فقد عرف ربه بإثبات صفات كماله، مع اختلاف حقائق الصفات.

سادساً: الجواب على نقل السيوطي (أنه سبحانه في كل مكان):

يقول السيوطي، نقلاً عن الشيخ عز الدين: (وكذلك الحق سبحانه وتعالى موجود في كل مكان ما خلا منه مكان وتنزه عن المكان والزمان)، وهذه المقولة باطلة، والجواب عليها من جزأين:

الجزء الأول: (وهو بيان أن الله تعالى فوق سماواته عالٍ على عرشه):

نقول: الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وأجمع عليه الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام ‏أن الله تعالى استوى على عرشه، وعرشه فوق سمواته، بائن من خلقه وأن معنى قوله تعالى: ‏‏{هو معهم أينما كانوا } (المجادلة:٧) أي بعلمه. 

والقول بأن الله تعالى بذاته معنا في كل مكان كفر صريح، قال الإمام ابن ‏خزيمة رحمه الله: (من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن ‏يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى به أهل القبلة ولا ‏أهل الذمة).

وقال الباقلاني: ( ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه، ‏والحشوش، والمواضع التي يرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق ‏منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يُرغب إليه إلى نحو ‏الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة ‏قائله).‏

وقد أورد الإمام أحمد رحمه الله في رده على الزنادقة والجهمية حجة عقلية لا سبيل إلى ‏ردها، وحاصلها أن المخالف يقر بأن الله تعالى كان ولا مكان، ثم خلق المكان، فلا يخلو ‏من أن يقول: ‏

١- خلق المكان في نفسه، فيكون حينئذ في كل مكان، وهذا كفر، لأنه يعني أنه أدخل الجن ‏والوحش والقذر في نفسه.‏

٢- أو أن يقول: خلقه خارجاً عنه ثم دخل فيه، فصار في كل مكان، وهذا كفر، لأنه ‏يعني أنه دخل في كل مكان قذر وخبيث، وفي نفوس الإنس والشياطين.

‏٣- أو أن يقول: خلقه خارجاً عنه ولم يدخل فيه، بل علا عليه سبحانه وتعالى، فهو فوق ‏جميع مخلوقاته من أرض وسماء وكرسي وعرش وغير ذلك ، وهذا هو الحق الذي دلت عليه النصوص.‏

الجزء الثاني: (هل يصح إطلاق نفي الزمان والمكان عن الله تعالى)؟

والجوب: أن إطلاق القول بأن الله تعالى منزه عن المكان والزمان إطلاق لا يصح لأمرين:

الأول: أنه إطلاق لم ترد به سنة ، ولا هو معروف في كلام السلف.

الثاني: أنه إطلاق يوهم معنى فاسد، وغالب من يقرر ذلك الكلام، ويستعمله يريد به: نفي علو الله تعالى على خلقه ، واستوائه على عرشه، فوق سمائه.

ولا شك أن نفي علو الله وفوقيته على خلقه: اعتقاد باطل، وهو من أعظم ما خالف فيه الجهمية، ورد عليهم السلف تلك الضلالة، وقرروا أن اعتقاد ذلك: كفر برب العالمين، مناقض لما تواترت به النصوص الشرعية، وإجماع السلف، ومناقض لما هو من ضرورة العقل، ومقتضى الفطرة السليمة..

ثانياً: مع غلبة إطلاق هذه العبارة في المعنى الباطل، فلا مانع من سؤال قائلها عن مراده، لنبين له ما في مراده من المعنى الشرعي الصحيح، أو المقصد البدعي المردود، مع التنبيه على المنع من مثل هذه الإطلاقات الموهمة في حق الله تعالى.

فإذا قال القائل "ننزه الله عن المكان" قلنا له: ماذا تعني بذلك ؟ فإن قال : أعني به أن الله تعالى لا يحيط به شيء من مخلوقاته، قلنا له: هذا معنى صحيح نوافقك عليه؛ إذ كيف يحيط بالله الأول والآخر، والظاهر والباطن: شيء من مخلوقاته؛ بل الرب تعالى أعظم وأكبر من كل مخلوق، قد وسع كرسيه السموات والأرض.

 فقد روى البخاري (٤٨١٢)، ومسلم (٢٧٨٧)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ ؟) .

وإن قال: أعلم ذلك، ولكني أعني بالمكان ما وراء العالم من العلو، فهو ينفي علو الله تعالى على خلقه، قيل له: فهذا معنى فاسد باطل، مناقض لصريح العقل، وصحيح النقل.





الجواب الذي انضبط عن (لا تكن حُلواً فتُسترط) للحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السَّخاوي الشافعي (٨٣١ -٩٠٢ هـ) بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

الجواب الذي انضبط عن (لا تكن حُلواً فتُسترط)

للحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السَّخاوي الشافعي

(٨٣١ -٩٠٢ هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذه رسالة نافعة في الحث على الاعتدال والإنصاف، وذم الغلو والإجحاف،  للإمام الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي -رحمه الله تعالى -وقد وضعها جواباً على سؤال ورد إليه حول صحة حديث: (لا تكن حُلواً فتُسترط =أي فيُهضم حقك -ولا مُراً فتُعقِي) أي فتلفظ وتُطرح، ونسبه السخاوي إلى ابن قتيبة في "أدب الكتاب".

فبيَّن رحمه الله أن هذه العبارة إنما هي من الأمثال التي اشتهرت على ألسنة الناس، وليس من الأحاديث التي تُنسب إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الجملة لم يجدها في كتاب ابن قُتيبة (=والصواب كما بيّن المُحققان: أن هذه العبارة موجودة فيه ص ١٦٩، لكن لم يرد فيه نسبتها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كما زعم السائل).

ثم بين معنى هذا المثل، وفحواه، وأن الاستراط هو الابتلاع والهضم، والإعقاء هو اشتداد المرارة، والمعنى: لا تتجاوز الحد في المرارة فتُرمى، ولا في الحلاوة فتُبتلع، أي: كُن متوسطاً في الحالين، ذلك أن التوسط في الأمور هو المحمود، وليس المراد بالتوسط النفاق والمراوغة، لأن العلاقات التي يشوبها اللون الرمادي هي علاقات مغشوشة مذمومة، لا سيما تلك التي يمتزج فيها القليل من الصراحة مع الكثير من المجاملة.

ثم ذكر ما يدل على صحة معنى هذا المثل من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، والحكم النافعة، ومقولات السلف، الدالة على ذم الشطط والغلو، ومدح التوسط والاعتدال، وبيان ذلك فيما يلي:

١-من كتاب الله تعالى:

قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} (البقرة: ٦٨). 

وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:٦٧). 

وقوله جل شأنه: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (الإسراء: ١١٠). 

وقوله جل وعلا: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (الإسراء: ٢٩).

٢-من الحديث النبوي الشريف:

جاء في الحديث الصحيح، عن أبي أمامة مرفوعاً: (بُعثتُ بالحنيفيةِ السمحةِ).

وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة مرفوعاً: (والقصدَ القصدَ تبلُغوا).

 وفي الحديث الذي رواه مسلم، عن جابر بن سمرة، قال: (كُنْتُ أُصَلِّي مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا).

وصحَّ عن بُريدة الأسلمي مرفوعاً: (عليكمْ هَدْيًا قاصدًا، فإنَّه منْ يُشادَّ هذا الدينَ يغلبُهُ). وفي الصحيح، عن أبي موسى مرفوعاً: (إنَّ من إجلالِ اللهِ إكرامَ ذي الشَّيبةِ المسلِمِ، و حامِلُ القُرآنِ، غيرُ الغالي فيهِ، و لا الجافي عَنهُ، و إكرامُ ذي السُّلطانِ المُقسِطِ).

وفي حديث عامر بن الطُفيل، أنه سئل عن صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: (كانَ أبيضَ مليحًا مُقْصِدًا).

وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعاً: (إياكم والغلوَّ في الدينِ فإنما أهلَك مَن كان قبلَكم الغلوُّ في الدينِ)

٣-من الأقوال المأثورة:

-قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يكن حُبّك كلفاً، ولا بُغضك تلفاً.

-وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: إن دين الله بين الغالي والجافي، وخير الناس هذا النمط الأوسط، يلحق بهم التالي، ويرجع إليهم الغالي.

- وصح عن ابنِ مسعودٍ، قوله: اقتصادٌ في سُنَّةٍ خيرٌ من اجتهادٍ في بدعة.

وقال معاذ بن جبل: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. 

وقال أكثم بن صيفي: الانقباض عن الناس مكسبة العداوة، وإفراط الأُنس مكسبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط.

وقال مُطرِّف بن الشِّخير: الحسنة بين السيئتين.

وقال وهب بن منبه: (خير الأمور أوساطها)، وروي حديثاً لكنه ضعيف.

وقيل: الاقتصاد نصف العيش.

وقيل: لا تكن رطباً فتُعصر، ولا يابساً فتُكسر.

وقال بعض الحكماء: لا تكن في الإخاء مكثراً، ثم تكون فيه مُدبراً، فيُعرف سرفك في الإكثار، وجفاؤك في الإدبار.

٤-من الشعر العربي.

قول الشاعر:

لا تكن سُكَّراً فتأكُلك الناسُ .. دع، ولا حنظلاً تُذاق فتُرمى

وقال ابن عُيينة المهلبي:

عليك بأوساط الأمور فإنها .. نجاةٌ، ولا تركب ذلولاً ولا ضعباً

وقيل: 

حُبُّ التناهي غلط .. خيرُ الأمور الوسط