أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 10 سبتمبر 2020

قاعدة القول في صفات الله تعالى كالقول في الذات - إعداد: علاء إبراهيم عبد الرحيم

قاعدة القول في صفات الله تعالى كالقول في الذات

دراسة وتحليل

إعداد: علاء إبراهيم عبد الرحيم

باحث بمركز سلف للبحوث والدراسات


الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد؛ فإن من أجلِّ ما ينبغي على المؤمن معرفتُه والوقوفُ عليه هو معرفةُ الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، وقد ذكر علماء أهل السنة والجماعة جملةً من القواعد التي تضبط القولَ في صفات الباري سبحانه، وتعصم المؤمنَ من الانحراف والزلل، وتحفظه من الزيغ والضلال، ومن جملة هذه القواعد وأشهرها قاعدة: “القول في الصفات كالقول في الذات”، وهي قاعدة قد اتفق عليها أهل السنة والجماعة قاطبةً، ولأهميتها جعلها شيخ الإسلام ابن تيمية الأصلَ الثاني([1]) من الأصلين اللذين بنى عليهما كتابه التدمرية، حيث يقول فيه: “وهذا يتبين بالأصل الثاني – وهو أن يقال: القول في الصفات كالقول في الذات”([2]).

وفيما يلي ذكر جملة من أقوال العلماء في تقرير هذه القاعدة؛ لبيان شهرتها عندهم.

أقوال العلماء في تقرير القاعدة:

أجمع أهل السنة والجماعة قاطبةً على القول بهذه القاعدة، ووافقهم على القول بها جمعٌ من علماء أهل الإسلام عامّةً، تارة تصريحًا مع اختلاف ألفاظهم، وتارة تلميحًا وإشارة، وفيما يلي جملة من هذه الأقوال مرتبةً على سني وفاة أصحابها:

1- قول الإمام أبي الحسن عبد العزيز الكناني المكي (ت 240 هـ):

قال الإمام عبد العزيز الكناني في كتابه (الحيدة): “فقلت له [أي: لبشر المريسي]: قال الله عز وجل. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} [آل عمران: 185]، أفتقول: إن نفس رب العالمين داخلة في هذه النفوس التي تذوق الموت؟! فصاح المأمون بأعلى صوته -وكان جهير الصوت- معاذَ الله، معاذَ الله، معاذَ الله، فقلت: إذًا -ورفعت صوتي- معاذَ الله معاذ الله أن يكون كلام الله داخلًا في الأشياء المخلوقة، كما أن نفسه ليست بداخلة في الأنفاس الميتة، وكلامه خارج عن الأشياء المخلوقة، كما أن نفسه خارجة عن الأنفس الميتة“([3]).

2- قول الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ):

قال الإمام أحمد: “إنما التشبيه أن يقول: يد كيد أو وجه كوجه. فأما إثبات يد ليست كالأيدي، ووجه ليس كالوجوه، فهو كإثبات ذات ليست كالذوات، وحياة ليست كغيرها من الحياة، وسمع وبصر ليس كالأسماع والأبصار”([4]).

3- قول الإمام أبي سليمان الخطابي (ت 388 هـ):

قال الخطابي في رسالته المشهورة (الغنية عن الكلام وأهله)([5]): “فأما ما سألت عنه من الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة، فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين، فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي والمقصر عنه.

والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلومًا أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.

فإذا قلنا: يد وسمع وبصر وما أشبهها، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه؛ ولسنا نقول: إن معنى اليد: القوة أو النعمة، ولا معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات”. هذا كله كلام الخطابي([6]).

4- قول الإمام أبي نصر السِّجزي (ت 444 هـ):

قال أبو نصر السِّجزي: “واتفق المنتمون إلى السّنة بأجمعهم على أنه [يعني القرآن الكريم] غير مخلوق، وأنّ القائل بخلقه كافر، فأكثرهم قال: إنه كافر كفرًا ينقل عن الملة، ومنهم من قال: هو كافر بقول غير الحق في هذه المسألة. والصحيح الأوّل؛ لأن من قال: إنه مخلوق؛ صار منكرًا لصفة من صفات ذات الله عز وجل، ومنكر الصفة كمنكر الذات، فكفره كفر جحود لا غير”([7]).

وقال أيضًا: “الفصل الثامن: في بيان أن الذي يزعمون بشاعته من قولنا في الصفات ليس على ما زعموه، ومع ذلك فلازم لهم في إثبات الذات مثل ما يلزمون أصحابنا في الصفات“([8]).

5- قول شيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني (ت 449 هـ):

قال الشيخ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني في كتابه (عقيدة السلف وأصحاب الحديث): “فلما صحَّ خبر النزول عن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرَّ به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعتقدوا تشبيهًا له بنزول خلقه، ولم يبحثوا عن كيفيته؛ إذ لا سبيل إليها بحال، وعلموا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الله سبحانه لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق، تعالى الله عما يقول المشبهة والمعطلة علوًّا كبيرًا، ولعنهم لعنًا كثيرًا”([9]).

6- قول أبي يعلى الحنبلي (ت 457 هـ):

قال ابن أبي يعلى في كتابه (طبقات الحنابلة): “اعتقد الوالد السعيد [يعني: أبا يعلى محمد بن الحسين] ومن قبله ممن سبقه من الأئمة: أن إثبات صفات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد لها، حقيقة في علمه، لم يُطْلع الباري سبحانه على كنْه معرفتها أحدًا من إنس ولا جان، واعتقدوا: أن الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات ويحتذي حذوه ومثاله، وكما جاء”([10]).

7- قول الخطيب البغدادي (ت 463 هـ):

أسند الحافظ الذهبي([11]) عن الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي قوله: “أما الكلام في الصفات، فأما ما روي منها في السنن الصحاح، فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيف والتشبيه عنها.

والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله، وإذا كان معلومًا أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته، فإنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.

فإذا قلنا: يد وسمع وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله لنفسه، ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة، ولا نقول: إن معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح وأدوات الفعل، ونقول: إنما وجب إثباتها؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]([12]).

8- قول الإمام محيي السنة البغوي (ت 516 هـ):

قال الإمام أبو محمد البغوي الشافعي في كتابه (شرح السنة) -بعد ذكره جملةً من صفات الله تعالى-: “فهذه ونظائرها صفات لله عز وجل، ورد بها السمع، يجب الإيمان بها، وإمرارها على ظاهرها، معرضًا فيها عن التأويل، مجتنبًا عن التشبيه، معتقدًا أن الباري سبحانه وتعالى لا يشبه شيءٌ من صفاته صفاتِ الخلق، كما لا تشبه ذاتُه ذواتِ الخلق، قال الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]، وعلى هذا مضى سلف الأمة وعلماء السنة، تلقّوها جميعًا بالإيمان والقَبول، وتجنّبوا فيها عن التمثيل والتأويل، ووكلوا العلمَ فيها إلى الله عز وجل”([13]).

9- قول ابن أبي يعلى (ت 526 هـ):

قال ابن أبي يعلى في (طبقات الحنابلة): “ومما يدل على أن تسليم الحنبلية لأخبار الصفات من غير تأويل، ولا حمل على ما يقتضيه الشاهد، وأنه لا يلزمهم في ذلك التشبيه: إجماع الطوائف من بين موافق للسنة ومخالف أن الباري سبحانه ذات وشيء وموجود، ثم لم يلزمنا وإياهم إثبات جسم ولا جوهر ولا عرض، وإن كانت الذات في الشاهد لا تنفك عن هذه السمات، وهكذا لا يلزم الحنبلية ما يقتضيه العرف في الشاهد في أخبار الصفات”([14]).

10- قول الإمام قوام السنة إسماعيل بن محمد الأصبهاني (ت 535هـ):

قال أبو القاسم إسماعيل بن محمد الأصبهاني الملقب بقِوام السنة في كتابه (الحجة في بيان المحجة): “الكلام في صفات الله عز وجل ما جاء منها في كتاب الله، أو روي بالأسانيد الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمذهب السلف -رحمة الله عليهم أجمعين- إثباتُها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وذهب قوم من المثبتين إلى البحث عن التكييف.

والطريقة المحمودة هي الطريقة المتوسطة بين الأمرين؛ وهذا لأن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات، وإنما أثبتناها؛ لأن التوقيف ورد بها، وعلى هذا مضى السلف.

قال مكحول والزهري: “أمرّوا هذه الأحاديث كما جاءت”، فإن قيل: كيف يصح الإيمان بما لا نحيط علمًا بحقيقته؟ قيل: إن إيماننا صحيحٌ بحق من كلَّفَناه، وعلمُنا محيطٌ بالأمر الذي ألزمَناه، وإن لم نعرف ما تحتها حقيقة كيفيته، وقد أمرَنا بأن نؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالجنة ونعيمها، وبالنار وعذابها، ومعلوم أنا لا نحيط علمًا بكل شيء منها على التفصيل، وإنما كلفناه الإيمان بها جملة”([15]).

11- قول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ):

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “القول في الصفات كالقول في الذات؛ فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقةً لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقةً لا تماثل سائر الصفات”([16]).

12- قول الحافظ الذهبي (ت 748هـ):

قال الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء): “ومعلوم عند أهل العلم من الطوائف أن مذهب السلف إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت، من غير تأويل ولا تحريف، ولا تشبيه ولا تكييف؛ فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات المقدسة. وقد علم المسلمون أن ذات الباري موجودة حقيقةً، لا مِثلَ لها، وكذلك صفاته تعالى موجودة، لا مثل لها”([17]).

13- قول الإمام ابن القيم (ت 751هـ):

قال الإمام ابن  القيم في (الصواعق المرسلة): “فكان الباب عندهم [يعني: عند السلف] بابًا واحدًا، قد اطمأنت به قلوبهم، وسكنت إليه نفوسهم، فأنِسوا من صفات كماله ونعوت جلاله بما استوحش منه الجاهلون المعطلون، وسكنت قلوبهم إلى ما نفرَ منه الجاحدون، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات، فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، فصفاته لا تشبه الصفات، فما جاءهم من الصفات عن المعصوم تلقَّوه بالقَبول، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار؛ لعلمهم بأنه صفة من لا شبيه لذاته ولا لصفاته”([18]).

14- قول الشيخ يوسف بن محمد السرمري (ت 776هـ):

قال الشيخ في نظمه (نهج الرشاد): “….كَمَا كَالصِّفاتِ الذّاتُ صِينَتْ عَنِ الْحَزْرِ”([19]). والمعنى: أن الكلام في صفات الباري سبحانه كالكلام في ذاته سبحانه، وأنها تصان عن الحزر والتخمين والتكييف.

15- قول ملا علي القاري (1014 هـ):

قال في ردّه على القائلين بوحدة الوجود: “ثم اعلم أنه سبحانه كما أن ليس له مثل في الذات ليس له مثل في الصفات، وهذا بطريق الإجمال مستفاد من قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، أي: ذاتًا وصفة وفعلًا”([20]).

16- قول مرعي الكرمي (ت 1033هـ):

قال الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي: “فإن الصفات كالذات، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس ذوات المخلوقين، فكذلك صفاته ثابتة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات”([21]).

17- قول ابن فقيه فُصَّة (ت 1071هـ):

قال الشيخ عبد الباقي المعروف بابن فقيه فُصَّة في كتابه (العين والأثر): “وعلى كل حال مهما خطر بالبال، أو توهمه الخيال، فهو بخلاف ذي الإكرام والجلال، فيحرم تأويل ما يتعلق به تعالى، وتفسيره، كآية الاستواء وحديث النزول، وغير ذلك من آيات الصفات، إلا بصادر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعض الصحابة، وهذا مذهب السلف قاطبة، فلا نقول في التنزيه كقول المعطلة، بل نثبت ولا نحرف، ونصف ولا نكيف، والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فمذهبنا حق بين باطلين، وهدًى بين ضلالتين، وهو إثبات الأسماء والصفات، مع نفي التشبيه والأدوات”([22]).

18- قول السفاريني (ت 1188هـ):

قال السفاريني في (لوامع الأنوار البهية): “فالكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، فصفاته تعالى قديمة ثابتة كذاته تعالى، فليس لنا أن نتأول في صفات الله تعالى، ولا في ذاته، من غير ما إثبات عن صاحب الشرع وأصحابه، وأئمة التابعين المعتبرين من علماء السلف وأتباعهم، فهم العمدة دون غيرهم”([23]).

وهذه الأقوال غيض من فيض؛ إذ تتعذر الإحاطة بأقوال من أيّد القاعدة من العلماء؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – في بيان كثرة من نقل عنه تقرير هذه القاعدة ونصرها -: “وهذا الكلام الذي ذكره الخطابي([24]) قد نقل نحوًا منه من العلماء من لا يحصى عددهم: مثل أبي بكر الإسماعيلي، والإمام يحيى بن عمار السِّجزي، وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي صاحب (منازل السائرين) و(ذم الكلام)، وهو أشهر من أن يوصف، وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني، وأبي عمر بن عبد البر النمري إمام المغرب، وغيرهم”([25]).

إقرار أئمة الاشاعرة بصحة الاستدلال بالقاعدة:

ذكر بعض علماء الأشاعرة هذه القاعدةَ في كتبهم، على جهة الإقرار بصحة الاستدلال بها في باب صفات الباري سبحانه، ومن أقوالهم:

  • قال الغزالي (ت 505هـ) في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد): “ينبغي أن يعتقد أن كلامه سبحانه صفة قديمة ليس كمثلها شيء، كما أن ذاته ذات قديمة ليس كمثلها شيء“([26]).

  • وقال أبو الحسن الآمدي (ت 631هـ) في كتابه (غاية المرام): “نعم؛ لو قيل: إن كلامه [سبحانه] بحروف وأصوات، لا كحروفنا وأصواتنا، كما أن ذاته وصفاته ليست كذاتنا وصفاتنا، كما قال بعض السلف، فالحق أن ذلك غير مستبعد عقلًا…”([27]).


شرح القاعدة:

القول في الصفات كالقول في الذات، وبيانها: أن الله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله؛ فإذا كان لله ذات حقيقية لا تماثل الذوات بلا خلاف، فكذلك الصفات الثابتة له في الكتاب والسنة، هي صفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات، فالقول في الذات والصفات من باب واحد يطرد في الجميع([28]).

وقد أفادت القاعدة: أنه إذا كانت ذات لله تعالى ثابتة حقيقة، من غير أن تكون من جنس ذوات المخلوقين، فكذلك يقال في صفاته تعالى: إنها ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين.

وبها يرد على من شبه صفات الله تعالى بصفات المخلوقين: فمن قال: لا أعقل علمًا ويدًا إلا من جنس العلم واليد المعهودين. قيل له: فكيف تعقل ذاتًا من غير جنس ذوات المخلوقين؟

ومن المعلوم أن صفات كلِّ موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب سبحانه -الذي ليس كمثله شيء- إلا ما يناسب المخلوق، فقد ضل في عقله ودينه([29]).

كما أفادت القاعدة أيضًا: أن إثبات الذات لله سبحانه إذا كان إثبات وجود وإيمان، لا إثبات كيفية وتحديد، فكذلك إثبات صفات الباري سبحانه إثبات وجود وإيمان، لا إثبات كيفية وتحديد([30]).

قال بعض المحققين: صفات الرب تعالى معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد، فالمؤمن مبصر بها من وجه، أعمى من وجه، مبصر من حيث الإثباتُ والوجود، أعمى من حيث التكييفُ والتحديد([31]).

وبها يرد على الجهمية النافين للصفات: فإذا قال الجهمي: كيف استوى على العرش؟ وكيف ينزل إلى السماء الدنيا؟ وكيف يداه؟ ونحو ذلك.

يقال له -جوابًا عن شبهته-: كيف هو في نفسه؟! تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

فإذا قال لك الجهمي: لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري غير معلوم للبشر.

فيقال له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف، ولم تعلم كيفيته، وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي له([32]).

وبها يرد على من توهم المماثلة بين صفات الله تعالى وصفات خلقه: فمن توهم في كثير من الصفات أو أكثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فإنه يقع في محاذير:

  • منها: أنه مثّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.

  • ومنها: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بلا علم، فيكون معطلًا لما يستحقه الرب من صفات الكمال ونعوت الجلال، فيكون قد عطل ما أثبته الله ورسوله من الصفات الإلهية اللائقة بجلال الله وعظمته.

  • ومنها: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الجمادات أو صفات المعدومات، فيكون قد عطّل صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثلَّه بالمنقوصات والمعدومات، وعطَّل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحدًا في أسمائه وآياته([33]).


دليل القاعدة:

قد دل على هذه القاعدة الكتابُ العزيز، كما أجمع عليها علماء الأمة، وفيما يلي بيان ذلك:

أولًا: الدليل من الكتاب العزيز:

قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. يقول ابن قتيبة: “أي: ليس كهو شيء، والعرب تقيم المثل مقام النفس، فتقول: مثلي لا يقال له هذا، أي: أنا لا يقال لي هذا”([34]). ويقول الزجاج: “هذه الكاف مؤكدة، والمعنى: ليس مثله شيء، ولا يجوز أن يقال: المعنى مثل مثله شيء؛ لأن من قال هذا فقد أثبت المثل لله، تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا”([35]).

وجه الدلالة: في الآية الكريمة نفي صريح للمماثلة والمشابهة بين الله تعالى وبين مخلوقاته، فهو تعالى لا يماثله ولا يشبهه شيء من خلقه، لا في ذاته ولا في صفاته.

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: “أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأن أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفة كمال وعظمة، وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك، فليس كمثله شيء؛ لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه”([36]).

وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “فإذا كان له [تعالى] ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات”([37]).

ثانيًا: الإجماع:

يقول ابن أبي يعلى: وقد أجمع أهل القبلة: أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وكيفية، وأن إثبات الصفات للباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وكيفية، وأنها صفات لا تشبه صفات البرية، ولا تدرك حقيقة علمها بالفكر والروية([38]).

تطبيقات القاعدة:

لا تنحصر تطبيقات القاعدة في بعض الصفات دون بعض، بل تتسع تطبيقاتها لتشمل القول في جميع صفات الباري سبحانه، ومن الأمثلة على إعمالها:

  • نثبت لله تعالى صفة اليد والسمع والبصر، ولا نقول: إن معنى اليدِ: القوةُ أو النعمة، ولا معنى السمعِ والبصر: العلمُ؛ ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لأن الله ليس كمثله شيء؛ وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات([39]).

  • نثبت لله تعالى الاستواء على العرش، فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ قيل له -كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضي الله عنهما-: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة؛ لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه([40]).

  • ينزل ربنا سبحانه إلى السماء الدنيا كل ليلة نزولًا يليق بجلاله، فإذا قال السائل: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: لا أعلم كيفيته، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله؛ إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره، وتكليمه، واستوائه ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته، وإذا كنت تقر بأن له حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره وكلامه، ونزوله واستواؤه، ثابت في نفس الأمر، وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم، ونزولهم واستواؤهم([41]).

  • من الصفات الثابتة له تعالى صفة الوجه، إثبات وجود لا إثبات تكييف وتحديد، وهذا الذي نقل الخطابي وغيره أنه مذهب السلف والأئمة الأربعة، وبه قال الحنفية والحنابلة وكثير من الشافعية وغيرهم، وهو إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها؛ محتجين بأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فإذا كان إثبات الذات وجودًا لا إثبات تكييف، فكذلك إثبات الصفات، وقالوا: إنا لا نلتفت في ذلك إلى تأويل لسنا منه على ثقة ويقين؛ لاحتمال أن يكون المراد غيره؛ لأنه مأخوذ بالظن والتخمين، لا بالقطع واليقين، فلا نبني اعتقادنا عليه، ولا نرجع عن النص الثابت إليه، فإن هذا عند السلف مذموم، وناهج هذا المنهج معيب ملوم([42]).

  • العلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب، ونحو ذلك في حق العبد أعراض، والوجه واليد والعين في حقه أجسام، فإذا كان الله موصوفًا عند عامة أهل الإثبات بأن له علمًا وقدرة وكلامًا ومشيئة -وإن لم تكن أعراضًا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين- فكذلك الوجه واليد والعين صفات له تعالى ليست كصفات المخلوقين، وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح؛ فإن الصفات كالذات، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس ذوات المخلوقين، فكذلك صفاته ثابتة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات([43]).


وما أحسن ما نختتم به هذه الورقة العلمية بوصية للشيخ محمد الأمين الشنقيطي يقول فيها: “أنَّا نوصيكم وأنفسنا بتقوى الله، وأن تلتزموا بثلاث جمل من كتاب الله:

الأولى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فتنزهوا رب السماوات والأرض عن مشابهة الخلق.

الثانية: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]، فتؤمنوا بصفات الجلال والكمال الثابتة في الكتاب والسنة على أساس التنزيه، كما جاء {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.

الثالثة: أن تقطعوا أطماعكم عن إدراك حقيقة الكيفية؛ لأن إدراك حقيقة الكيفية مستحيل، وهذا نص الله عليه في سورة طه، حيث قال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]… فيصير المعنى: لا إحاطة للعلم البشري برب السماوات والأرض، فينفي جنس أنواع الإحاطة عن كيفيتها، فالإحالة المسندة للعلم منفية عن رب العالمين، فلا يشكل عليكم بعد هذا صفة نزول ولا مجيء ولا صفة يد ولا أصابع ولا عجب ولا ضحك؛ لأن هذه الصفات كلها من باب واحد، فما وصف الله به نفسه منها فهو حق، وهو لائق بكماله وجلاله، لا يشبه شيئًا من صفات المخلوقين، وما وصف به المخلوق منها فهو حق مناسب لعجزهم وفنائهم وافتقارهم.

وهذا الكلام الكثير أوضحه الله في كلمتين: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} تنزيه بلا تعطيل، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إيمان بلا تمثيل.

فيجب من أول الآية وهو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} التنزيه الكامل الذي ليس فيه تعطيل، ويلزم من قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الإيمان بجميع الصفات الذي ليس فيه تمثيل، فأول الآية تنزيه، وآخرها إثبات، ومن عمل بالتنزيه الذي في {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، والإيمان الذي في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وقطع النظر عن إدراك الكنه والحقيقة المنصوص في قوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} خرج سالـمًا”([44]).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(المراجع)

([1]) والأصل الأول هو: القول في بعض الصفات كالقول في بعض.

([2]) التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع (ص: 43).

([3]) الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن (ص: 53- 54).

([4]) ينظر: الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن القيم (1/ 230).

([5]) هذه الرسالة مفقودة، وقد نقل جزءًا منها السيوطي في صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام (1/ 137- 147)، وقد قامت دار المنهاج بالقاهرة بإخراجه من كتاب السيوطي وطباعته سنة (1425هـ – 2004 م).

([6]) ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (3/ 167، 5/ 58- 59).

([7]) رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 153).

([8]) المصدر السابق (ص: 281).

([9]) عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص:48).

([10]) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 208).

([11]) في كتابه العرش (2/ 457- 458)، كما أوردها الحافظ الذهبي في كتبه: العلو للعلي الغفار (ص: 253)، وسير أعلام النبلاء (18/ 283- 284)، وتاريخ الإسلام (10/ 175)، وتذكرة الحفاظ (3/ 1142- 1143).

([12]) ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في جوابه عن سؤال أهل دمشق في الصفات، وقد طبعت هذه الرسالة في مكتبة العلم بجدة سنة 1413ه، كما وضعت في ذيل كتاب اعتقاد أهل السنة للإسماعيلي (ص64- 65 ط. دار الريان).

([13]) شرح السنة (1/ 170- 171).

([14]) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 211).

([15]) الحجة في بيان المحجة (1/ 188- 190).

([16]) مجموع الفتاوى (3/ 25).

([17]) سير أعلام النبلاء (8/ 402).

([18]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/ 229).

([19]) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد (ص: 37).

([20]) الرد على القائلين بوحدة الوجود لملا علي القاري (ص: 42).

([21]) أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات (ص: 206- 207).

([22]) العين والأثر في عقائد أهل الأثر (ص: 35- 36).

([23]) ينظر: لوامع الأنوار البهية (1/ 102) ببعض التصرف.

([24]) تقدم كلامه بحروفه.

([25]) مجموع الفتاوى (5/ 59).

([26]) الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 71- 72).

([27]) غاية المرام في علم الكلام (ص: 112).

([28]) ينظر: أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء (ص: 91) نشر وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد – المملكة العربية السعودية.

([29]) الفتوى الحموية الكبرى (ص: 543).

([30]) ينظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ص: 38).

([31]) لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 226).

([32]) ينظر: الفتوى الحموية الكبرى (ص: 544).

([33]) التحفة المدنية في العقيدة السلفية لحمد بن ناصر النجدي (ص: 49- 50).

([34]) غريب القرآن لابن قتيبة (ص: 391).

([35]) معاني القرآن وإعرابه للزجاج (4/ 395).

([36]) تيسير الكريم الرحمن للشيخ السعدي (ص: 754).

([37]) التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع (ص: 43).

([38]) ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 208).

([39]) ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (5/ 58- 59).

([40]) ينظر: التدمرية (ص: 44).

([41]) ينظر: المرجع السابق (ص: 44- 45).

([42]) لوامع الأنوار البهية (1/ 225- 226).

([43]) أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات (ص: 206- 207).

([44]) ينظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص: 43- 44).



الأربعاء، 9 سبتمبر 2020

بحث حول تفسير الفخر الرازي

بحث حول تفسير الفخر الرازي

تأليف المُعلمي اليماني


إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ أُثير حول إتمام الرازي (ت 606 هـ) لتفسيره كلامٌ كثيرٌ، حيثُ يرى ابن أبي أُصيبعة (ت 668 هـ)، وابن خلكان (ت 681 هـ)، والتاج السبكي (ت 771 هـ)، والإسنوي (ت 772 هـ)، والحافظ ابن حجر (ت 852 هـ)، وابن قاضي شهبة (851 هـ)، وحاجي خليفة (ت 1069 هـ)، ومرتضى الزبيدي (ت 1205 هـ)، وغيرهم أن الرازي لم يُكمل تفسيره. وكثيرٌ منهم يرى أنه وقف فيه عند سورة (الأنبياء)، ثم أكمله بعده: الخويى (ت 637 هـ)، والقمُولي (ت 727 هـ).

وزعم بعضهم أن للسيوطي (ت 911 هـ) تكملة على تفسير الفخر، كتب منها من سورة "سبح" إلى آخر القرآن في مجلد، وإنما ذكر صاحب كشف الظنون أن للسيوطي تفسيراً أسمه "مفاتيح الغيب" كتب منه ذاك المقدار، وليس هو موضع البحث أو النظر.

وقد وضع العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المُعلمي اليماني رحمه الله بحثاً قيماً حول هذه المسألة، وهي ضمن مجموعة "آثار المعلمي اليماني"، وقد استقصى ما فيها فحصاً، وتمحيصاً، ومُعارضةً، ونقداً، وجعل لذلك مسائل:

المسألة الأولى: هل أكمل الفخر الرازي تفسيره؟.

المسألة الثانية: إن لم يكمله فمن أكمله؟

المسألة الثالثة: وهذا التفسير المتداول والمشتمل على الأصل والتكملة، كيف يعرف أحدهما من الآخر؟ 

وقد خلُص فيه العلامة اليماني رحمه الله إلى أن التفسير الكبير: ينقسم إلى سبعة أقسام:

الأول، والثالث، والخامس، والسابع من تصنيف الفخر الرازي. 

والثاني، والرابع، والسادس من تصنيف غير الرازي.

وبيان هذه الأقسام، كما يلي:

القسم الأول: (وهو من أول التفسير إلى أخر سورة القصص)، والثالث (أول تفسير الصفات إلى آخر تفسير الأحقاف)، والخامس (الحديد والمجادلة والحشر) والسابع (من أول تفسير سورة الملك إلى آخر الكتاب). 

والثاني (وهو من أول تفسير العنكبوت إلى آخر تفسير يس )، والرابع (أول سورة القتال إلى آخر تفسير الواقعة )، والسادس (من أول الممتحنة إلى آخر التحريم).

 وقد دلَّل على ذلك بقرائن قويَّةٍ، منها:

1-كلام الأئمة الكبار، الذين نصُّوا على ذلك، ممن ترجم للرازي.

2-التواريخ التي ختم بها الرازي السور التي قام بتفسيرها، دون غيرها من السور التي لم يُفسرها.

3-الإحالات الصريحة من الرازي على كتبه وعلى العلماء الذين لقيهم وأخذ عنهم في العديد من المواضع المنتمية إلى الأقسام التي قام الرازي بتفسيرها. 

4-اختلاف الإحالات في النقل والرواية إلى العلماء المتأخرين عن الرازي في الأقسام التي لم تكن من تصنيف الرازي، مع كون الرازي ليس راوياً بالأساس.

5-كون بعض هذه الإحالات لم توجد في هذا التفسير الموجود للرازي؛ ما يؤكد أن هذه الإحالات ليست على هذا التفسير الذي بأيدينا، وأن الذي فسر هذه الأقسام هو غير الرازي.

6-الاختلاف في طريقة ونمط التفسير بين ما كان من تفسير الرازي، وما كان من تفسير غيره، على ما أوضحه العلامة اليماني.

ولا بأس في أن نُلقي نظرةً سريعةً على ما كتبه الدكتور محمد السيد حسين الذهبي (ت 1398 هـ) في كتابه الشهير بـ"التفسير والمفسرون" (1/ 207 - 209)؛ والذي يقول في وصف تفسير الرازي: 

"يقع هذا التفسير فى ثمانى مجلدات كبار، وهو مطبوع ومتداول بين أهل العلم، ويقول ابن قاضى شُهبة: إنه - أى الفخر الرازى - لم يتمه، كما يقول ذلك ابن خلكان فى وفيات الأعيان، إذن فمَن الذى أكمل هذا التفسير؟ 

وإلى أى موضع من القرآن وصل الفخر الرازى فى تفسيره؟

الحق أن هذه مشكلة لم نُوَفَّق إلى حلها حلاً حاسماً، لتضارب أقوال العلماء فى هذا الموضوع، فابن حجر العسقلانى، فى كتابه الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة، يقول: "الذى أكمل تفسير فخر الدين الرازى، هو أحمد بن محمد بن أبى الحزم مكى نجم الدين المخزومى القُمُولى، مات سنة (727 هـ) (سبع وعشرين وسبعمائة من الهجرة) هو مصرى".

وصاحب "كشف الظنون" يقول: "وصنَّف الشيخ نجم الدين أحمد ابن محمد القمولى تكملة له، وتوفى سنة (727 هـ) (سبع وعشرين وسبعمائة من الهجرة)، وقاضى القضاة شهاب الدين بن خليل الخويى الدمشقى، كمَّل ما نقص منه أيضاً، وتوفى سنة (639 هـ) (تسع وثلاثين وستمائة) .

فأنت ترى أن ابن حجر يذكر أن الذى أتم تفسير الفخر هو نجم الدين القُمُولي، وصاحب كشف الظنون يجعل لشهاب الدين الخويى مشاركة على وجه ما فى هذه التكملة، وإن كانا يتفقان على أن الرازى لم يتم تفسيره.

وأما إلى أى موضع وصل الفخر فى تفسيره؟ 

فهذه كالأولى أيضاً، وذلك لأننا وجدنا على هامش كشف الظنون ما نصه: "الذى رأيته بخط السيد مرتضى نقلاً عن شرح الشفا للشهاب، أنه وصل فيه إلى سورة الأنبياء".

يقول الدكتور الذهبي: "وقد وجدت فى أثناء قراءتى في هذا التفسير عند قوله تعالى فى الآية [24] من سورة الواقعة: {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هذه العبارة: "المسألة الأولى أصولية، ذكرها الإمام فخر الدين رحمه الله فى مواضع كثيرة، ونحن نذكر بعضها.. إلخ".

وهذه العبارة تدل على أن الإمام فخر الدين، لم يصل فى تفسيره إلى هذه السورة.

كما وجدتُ عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} .. الآية، أنه تعرَّض لموضوع النيَّة فى الوضوء. واستشهد على اشتراط النيَّة فيه بقوله تعالى فى الآية [5] من سورة البينة: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} .. وبيَّن أن الإخلاص عبارة عن النيَّة، ثم قال: "وقد حققنا الكلام فى هذا الدليل فى تفسير قوله تعالى: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} فليُرجع إليه فى طلب زيادة الإتقان".

وهذه العبارة تُشعر بأن الفخر الرازى فسَّر سورة البيِّنة، أى أنه وصل إليها فى تفسيره، وهذا طبعاً بحسب ظاهر العبارة المجرد عن كل شئ.

والذى أستطيع أن أقوله كـ "حل" لهذا الاضطراب: هو أن الإمام فخر الدين، كتب تفسيره هذا إلى سورة الأنبياء، فأتى بعده شهاب الدين الخويى، فشرع فى تكملة هذا التفسير ولكنه لم يتمه، فأتى بعده نجم الدين القمولى فأكمل ما بقى منه. كما يجوز أن يكون الخويى أكمله إلى النهاية، والقمولى كتب تكملة أخرى غير التي كتبها الخويى، وهذا هو الظاهر من عبارة صاحب كشف الظنون.

وأما إحالة الفخر على ما كتبه فى سورة البيِّنة، فهذا ليس بصريح فى أنه وصل إليها فى تفسيره، إذ لعله كتب تفسيراً مستقلاً لسورة البيِّنة، أو لهذه الآية وحدها، فهو يشير إلى ما كتب فيها ويحيل عليه.

أقول هذا، وأعتقد أنه ليس حلاً حاسماً لهذا الاضطراب، وإنما هو توفيق يقول على الظن يُخطئ ويُصيب".

وفي المقابل يذهب الدكتور محمد صالح الزركان رحمه الله إلى أن التفسير كله للرازي في كتابه "فخر الدين الرازي وآراؤه" (ص 65 -66).

ولا شكَّ أن كلام الدكتور الزركان فيه نظرٌ ظاهر، وأياً كانت حقيقة الأمر في ذلك؛ فينبغي للمتأمل في كتاب التفسير التفرقة بين ما كان من كلام الرازي، وما كان كلاماً لغيره، والتمييز بين الأساليب، وهذا مُفيدٌ في البحث العقدي، والنظر العقلي لدى الرازي.

وأختم بأن عدة ما فسَّره الرازي 90 سورةً تقريباً، وأكمل الخويي تفسير حوالى 24 سورة، ولا يعني هذا أنه لم يُدخل على الرازي فيما اختصَّ به بعض العبارات والجُمل، والتي تتضح عند النظر في السياق والأسلوب واللغة، وبالجملة فقد وصلت إلى هذا الكتاب أيدي التلاميذ، ومن الطبيعي أن يحصل التحريف والتعديل.





الاثنين، 7 سبتمبر 2020

الافتراق: مفهومه -أسبابه -سبل الوقاية

الافتراق

مفهومه -أسبابه -سبل الوقاية

تأليف: د. ناصر بن إبراهيم العقل


بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ في هذا العصر الذي كثرت فيه البدع، وكثرت فيه الأهواء والشُّبه، وسيطرت على الناس الغفلة، وافترق الناس فيه فرقاً وأحزاباً، برز في المسلمين جيلٌ من الدُعاة الذين ابتُلوا بحبِّ الظهور والرياسة، والذين افتتنوا بالدنيا وبهارجها، وأغواهم الشيطان في مزالق الاعتداد بالنفس، والإعجاب بالرأي، فتراهم يميلون مع الباطل مرة، ويميلون مع الحقِّ أخرى؛ ولذا كان لا بُدَّ من وقفةٍ جادَّة نتأمل فيها أحوال هؤلاء الدُّعاة، ونظرةٌ أخرى على هذه الأُمَّة التي عركتها البلايا، وأصابها الداء من كل جهةٍ، ومع ذلك ترى هؤلاء الدُّعاء يتضاحكون ويسمرون ويتبادلون النكات الظريفة، غير آبهين بما يجري من حولهم؛ فهؤلاء الأدعياء حُرموا التوفيق من حيث وفور عقولهم؛ ولكن عقولهم مغلوبةٌ بالهوى، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مُستقيم.

وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لا تزال طائفةٌ من أمته ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، قد جعل الله فيهم الحجة على الناس كافة، يهتدي بهم من أراد الهُدى، ويقتدي بهم من أراد الحق، ولا يُمكن أن تخفى هذه الطائفة عن كل ذي بصيرة، وقد جلّاها لنا المُصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: هم (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).

وليس وقوع هذا الافتراق ذماً على الإسلام، ولا انتقاصاً منه، ولا ذماً لأهل السنة والجماعة، وإنما هو ذمٌّ للمفترقين، والمفترقون ليسوا هم أهل السُّنة، لأن أهل السُّنة والجماعة هم الباقون على الأصل، وأما غيرهم فانحرف عن هذه الأصل.

ولم يحصل من الصحابة رضوان الله عليهم افتراقٌ حقيقيٌّ البتَّة، وإنما حصل بينهم اختلافٌ ينتهي غالباً إما إلى الإجماع، أو الخضوع لرأي الجماعة، والالتفاف حول الإمام، هذا ما حصل بين الصحابة، ولم يحصل من صحابيٍّ أنه كان مفارقاً للجماعة، وليس فيهم من قال ببدعةٍ، أو عمل محدثاً في الدين، ولم يكن فيهم من يُعد قوله أصلاً في البدع، معاذ الله، وحاشاهم رضوان الله عليهم.

وأما الذين نسبوا بعض المقولات أو بعض الفرق إلى الصحابة إنما كذبوا عليهم أعظم الكذب، فلا صحة لما يُقال: إن علي بن أبي طالب هو أصل التشيُّع، أو أن أبا ذرٍّ هو أصل الاشتراكية، أو أن أهل الصُّفة هم أصل الصوفية، أو أن مُعاوية هو أصل الجبرية، أو أن أبا الدرداء هو أصل القدرية، وغير ذلك من المقولات المُحدثة الخبيثة، بل كل ذلك إنما هو لمحض الباطل، ونعوذ بالله من الخذلان.


وقد حصر الشيخ حفظه الله هذا الكتاب في مسائل رئيسية؛ نُجملها فيما يلي:


المسألة الأولى: مفهوم الافتراق:

وهو الخروج عن السنة والجماعة في أصلٍ أو أكثر من أصول الدين القطعية، سوءاً كانت أصولاً اعتقادية، أو عملية متعلقة بالقطعيات، أو مُتعلقة بمصالح الأمة العظمى.


المسألة الثانية: الفرق بين الاختلاف والافتراق، من خمس وجوه:

1-الاختلاف مراتب ودرجات، فمنه الخفيف ومنه الشديد، ومن الكلي ومنه الجزئي، ومنه ما يتعلق بالأصول ومنه ما يتعلق بالفروع، بينما الافتراق هو أشد أنواع الاختلاف؛ ويمكن تعريفه، بأنه: الاختلاف وزيادة.

2-أن الاختلاف أعمُّ من الافتراق؛ فهو يشمل الافتراق وغيره، ولكن الافتراق أخصُّ من الاختلاف، فليس كل اختلاف يُفضي إلى الافتراق، ولكن الافتراق ناشئٌ عن الاختلاف.

3-الافتراق لا يكون إلا على أصولٍ كبرى في الدين، بينما الاختلاف قد يكون في الأصول وقد يكون في الفروع الاجتهادية.

4-أن الاختلاف يكون عن اجتهادٍ وحًسن نية، ويؤجر المخطئ فيه ما دام مُتحرياً للحق، والمُصيب أكثر أجراً، فإذا وصل إلى حد الافتراق كان مذموماً؛ بينما الافتراق يكون مذموماً ابتداءً، ولا يكون إلا عن هوىً وضلال، أو تقليدٍ مذموم، أو جهلٍ مُطبق.

5-أن الاختلاف لا يتعلق الوعيد بجميع أنواعه، لا سيما في الفروع الاجتهادية، بينما الافتراق يتعلق به الوعيد بالنار والهلاك.


المسألة الثالثة: التنبيه على بعض الأخطاء التي يقع فيها من يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، وبيان وجه الصواب فيها:

الخطأ الأول: إنكار أن يكون في الأمة افتراق، والتنكر لحديث الافتراق، ومحاولة تأويله بصرف الفرق إلى من هم ليسوا بمسلمين أصلاً.

والصواب: أن الافتراق واقعٌ في الأمة فعلاً، وهذا حقٌّ، يشهد له الأثر، والنظر، والواقع المُشاهد؛ فلا بُد من الاعتراف به وتصديقه، وهذا يدفع المسلم إلى الاستمساك بالحق، تحريه في نهج الصحابة والسلف.


الخطأ الثاني: اعتقاد أن الافتراق الواقع في الأمة يُوجب الرضى به، والاستسلام له، والقبول بهذا الضلال.

والصواب: أن نؤمن بكون هذا الافتراق قدراً، ولكن ندفعه بقدر الله، وذلك بعدم الرضى به، والسعي في علاجه، وبيان المنهج الحق، وأن على المسلم أن لا يتعاطف مع أهل الأهواء وإنكار البدع، أو يتساهل في أمر التفرق، وأن يسعى لجمعهم على كلمة سواء بعد أن يُخصلهم مما هم فيه من الضلال والبدع.

الخطأ الثالث: الاستعجال في الحكم على المخالفين، بأن يجعل هذا الاختلاف ذريعةً في وصف المخالفين بالمروق من الدين، أو مفارقة الملة. 

والصواب: أنه لا بُدَّ من الرجوع إلى قواعد الشرع، وأصول الدين، ومناهج الأئمة في الحكم على الجماعات والأفراد، فالتكفير والتبديع والتفسيق له أحكامه وضوابطه: من توفر الشروط وانتفاء الموانع؛ لأن هذه الأحكام يترتب عليها أمورٌ أخرى، من فسخ النكاح، والحجر على الأموال، أو عدم قبول الشهادة، أو عدم قبول الرواية، والاستتابة ثم القتل، ونحو ذلك. كذلك لا بُدَّ أن يفترض أن الذي وقع في المخالفة: جاهلٌ، أو متأولٌ، أو مُقلدٌ يحتاج إلى نصحٍ، وبيانٍ، وإرشاد ابتداءً، لأن القصد هدايته لا تجريحه.


الخطأ الرابع: عدم التفريق بين ما يسوغ فيه الاجتهاد، وبين ما لا يسوغ فيه الاجتهاد، وبين الأمور المكفرة والأمور غير المكفرة، وبين القول وبين القائل، وبين الملزوم وبين اللازم ،وبين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية.

والصواب: أنه لا بُدَّ من التفريق في الأحكام على الأمور الخلافية، والأخذ بكافة الاعتبارات التي تدرأ عن المسلمين شُبهة الكفر والردة والعياذ بالله تعالى، وهذه من المسائل الخطيرة، ولذا ينبغي التفريق بين الأصول وبين تطبيق الأصول على الجزئيات والحواث والنوازل.


المسألة الرابعة: توافر الأدلة على وقوع الافتراق في هذه الأمة، وهو محسومٌ بأمور، منها: كتاب الله عز وجل، والأخبار المتواترة عن نبينا صلى الله عليه وسلم تواتراً لفظياً أو معنوياً، وكذلك يشهد له التاريخ والواقع. 


المسألة الخامسة:بيان رؤوس أصحاب البدع، وهم:

1- عبد الله بن سبأ: وهو الأصل الذي انبثقت عنه طائفتي: الخوارج، والشيعة، على الرغم من وجود بعض الفوارق بينهما، وقد بدأت مقولاته بعد سنة (34 هـ) تقريباً.

2-ثم معبد الجهني (ت 80 هـ)، والذي جاء ببدعة القدر سنة (64 هـ) تقريباً؛ حيث أنكر علم اله السابق بأفعال العباد، وحارب بدعته الصحابة وعلى رأسهم ابن عمر وابن عباس.

3-ثم جاء بعده غيلان الدمشقي، والذي أثار مسألة القدر من جديد، وذلك قبل سنة (98 هـ)، وحاول التأويل والتعطيل أسماء الله وصفاته؛ فتصدى له علماء السلف، وجالده عمر بن عبد العزيز، وقُتل غيلان سنة (105 هـ) بعدما استُتيب ولم يتب.

4-ثم جاء بعده الجعد بن درهم، المقتول سنة (124 هـ)؛ فتوسع في هذه المقولات، وجمع بين مقولات القدرية ومقولات المعطلة والمؤولة، وأثار الشبهات بين المسلمين؛ فتصدى له أئمة أهل السنة، وأفتوا بقتله، فقتله خالد بن عبد الله القسري في قصته المشهورة في عيد الأضحى، الذي هو عيدٌ لكل المُسلمين.

5-وجدَّد رأس التعطيل في وقته الجهم بن صفوان أمر التعطيل والتأويل والإرجاء والجبر؛ فجمع بين مساوئ الأولين وضلالهم وززاد عليه، وخرجت عنه بدعة الجهميَّة، وقال بأكثر مقولات غيلان والجعد، وتبعه على ذلك رجالٌ من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب عمرو بن عُبيد بالبصرة، وقُتل حداً سنة (128 هـ).

6-وظهر في وقته واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وقد وضعا أصول المعتزلة القدرية.

7-ثم انفتح باب الافتراق؛ فبدأت الرافضة تُعلن عقائدها، وانقسمت إلى فرقٍ كثيرة، وظهرت المُشبهة من الرافضة على يد داود الجواربي، وهشام بن الحكم، وهشام الجواليقي، وهؤلاء هم أصول المشبهة الأوائل، وهم رافضة.

8-ثم جاء المتكلمون من الكلابية والشعرية والماتريدية، ثم المتصوفة والفلاسفة، وانفتح باب الافتراق على مصراعيه لكل ضالٍّ ومُبتدع، ومتبعٍ للهوى، وبقيت أصول الفرق بين المسلمين.

9-ولا يزال أمر الافتراق يتجدد بين المسلمين حتى عصرنا هذا، وكلما ظهر رجلٌ ببدعةٍ اتبعه طائفةٌ من الناس، فالرافضة وفرقها الباطلة، وكذلك فرق

الشيعة، والخوارج، والقدرية، والمعتزلة، والجهمية، والمتصوفة، والفلاسفة، كلها تنخر بأسلوب أنكى على الأمة من أي وقتٍ مضى، لما تدعيه من التعالم والثقافة والفكر، ولقلة فقه أكثر المسلمين في الدين وجهلهم بالعقيدة؛ فإنه ينطلي عليهم دعوى هؤلاء؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل.


المسألة السادسة: بيان أسباب الافتراق، وهي كثيرةٌ جداً، أهمها:

الجهل بدين الله وشرعه، والعصبية بشتى أنواعها: (القبلية، والعرقية، والشعوبية، والحزبية)، واعتقاد ما لم يرد في القرآن والسنة، أو التعبُّد بما لم يشرعه الله وسوله، وخبيئة السوء والكيد للإسلام، والتقصير في فهم فقه الخلاف والتفرُّق، والتقصير في فهم فقه الجماعة والاجتماع، والجهل بمقاصد الشريعة العامة والجهل بمصالح الأمة الكبرى، والخلل في منهج التلقي، ومصادره، ومظاهره، والتشدد والتعمق في الدين، وأخيراً دعاوي التجديد في الدين، كما يصنع الحداثيون والعلمانيون، والتساهل في مقاومة ومحاربة البدع المنتشرة بين المسلمين، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمداهنة في الدين لبعض الطوائف والفرق.  


المسألة السابعة: أسباب توقي الافتراق، كثيرٌ أيضاً، أهمها: الاعتصام بالكتاب والسنة، والسير على نهج السلف في العبادة والورع والتلقي، والأخذ عن الأشياخ الثقات في دينهم، والمعروفين بعدالتهم، واتباعهم للسُّنة، والحرص على اجتماع أهل الخير والسنة على العلماء الصالحين من هذه الأمة، والنصيحة للمؤمنين.



الأحد، 6 سبتمبر 2020

حديث افتراق الأمة إلى نيِّفٍ وسبعين فرقة؛ للصنعاني

حديث افتراق الأمة إلى نيِّفٍ وسبعين فرقة

للإمام المُحدِّث محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني 

(1099 -1182 هـ)

تحقيق وتخريج: أبو أكثم سعد بن عبد الله بن سعد السعدان

تقديم د. عبد الرحمن بن صالح المحمود

دار العاصمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1415 هـ


بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ لقد اهتمَّ الإسلام بالتعاضد والائتلاف تحت راية الكتاب والسُّنة، وحذَّر من التنازع والاختلاف، وجعل ذلك علامة الخذلان، واتباعٌ لنزغات الشيطان، ذلك أن التفرُّق يقود إلى الضياع، والهلاك، والفشل، وذهاب البركة، وتسلط الأعداء.

وقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: أن أمته ستفترق حتماً لا محالة إلى فرقٍ شتَّى، كُلُّ فرقةٍ ترى أن الحق في قولها، والضلال في قول غيرها، فإذا ما طولبت الأخيرة بإقامة البرهان على دعواها، فإنها تُقيم شُبهاً وأوهاماً لا تقوم بها حجة، ولا يستقيم لها بنيان.

وربما دأبت بعض تلك الفرق: إلى تعداد ما عداها في الفرق الهالكة؛ ليُخلصوا أنفسهم مما توعدهم الله به من الهلاك والعذاب، ووضعوا أنفسهم في لُبِّ الطائفة الناجية كذباً وبُهتاناً، ولو فتشنا في مقالاتهم وعقائدهم لوجدنا فيها ما هو أشنع مما أنكروه على غيرهم من الفرق التي زعموا أنها مُخالفةٌ لأهل الحق.

ولذا نجد أن بعض فرق الضلال -في عصرنا -تدَّعي أنها الفرقة الناجية، وتزيد على ذلك: أن يتهموا أهل السُّنة بأنهم الفرقة الهالكة والمُنحرفة؛ وقد فعل ذلك بعض المُغترين من أهل عصرنا، من أمثال (علي جمعة)، و(محمد سالم أبو عاصي)، و(سعيد فودة)، و(محمد عبد الواحد الحنبلي)، وغيرهم ممن انتكسوا على أعقابهم.

وكل هذا الضلال والافتراء والتشنيع على أهل السُّنة، إنما هو: ابتلاءٌ للمؤمنين الصادقين، وتمحيصٌ لأهل التوحيد والسّنة من هذه الأمة.

وهؤلاء لما أصابهم الكلل من النظر في عيوب أنفسهم، توجَّهوا إلى مناقب غيرهم بالثلب؛ فأولى بهم أن يعتبروا بأحوالهم، ويدعوا ما هنالك من الطعن والغمز واللمز في أهل الحق، فما أرخص ما باعوا به آخرتهم من لُعاعة الدنيا، وشهوة الظهور، لو كانوا يفقهون، وبالجملة:

(فكلٌّ يدَّعي وصلاً بليلى … وليلى لا تُقرُّ لهم بذاكا)

ولو رُزق هؤلاء الذين ذكرتهم، وغيرهم ممن تبعهم على نهجهم -مسكةً من الإنصاف؛ لوزنوا أنفسهم بما يزن به الصالحون أنفسهم؛ وأهون ذلك أن يسألوا أنفسهم، وإنه لعظيم:

هل أنا مُتبعٌ لما كان عليه النبيُّ وأصحابه في العقيدة والعبادة والسلوك أو غير مُتَّبع ؟!

هذا هو السؤال الحقيقي الذي لا حيدة عنه بحال، ومن ادَّعى أنه مُتبعٌ للسُّنة، مُتقيِّدٌ بها:

فلينظر إلى أقواله وأفعاله هل تُصدِّق ذلك أو تُكذِّبه ؟ 

فإن ما عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ظاهرٌ بحمد الله لكل إنسان، فلا يُمكن التباس المتبع بالمبتدع، ولا المُحقُّ بالمبطل.

ولو ذهبنا نُعدد الفرق الهالكة وتشعباتها لما انتهينا إلى عددٍ معلوم؛ ذلك أن التفرُّق لا يزال في هذه الأمة إلى آخر الدنيا، ففي كل عصرٍ تنشأ فرقةً وطريقةٌ لم تكن معروفةً من قبل، وتكون مختلفة في آرائها ومُتعددة في مشاربها.

وإذا كان بعض علماء أهل السنة صنَّف في تعداد هذه الفرق فلا يُعاب عليه ذلك؛ لأنه إنما قصد موافقة حديث المعصوم صلى الله عليه وسلم، لا لغرضٍ في نفسه كما يفعل أهل الأهواء والبدع، ولكن هذا الأمر لا يخلو من الخطأ والتكلُّف.

فطريقنا -معاشر أهل السنة -أن نؤمن بخبر الصادق الذي نقله الثقات، وأن نعلم: أن سبيل الحقِّ واحدٌ لا يتعدد ولا يختلف ولا يتغير، وهو لزوم طريق أهل السُّنة والجماعة، في أصولهم العقدية، وكلياتهم الشرعية (الممتدُّ من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته، إلى يومنا هذا)، وهي المقياس بيننا وبين تلك الفرق المخالفة.

وأخيراً؛ فإن هذه رسالة مختصرة لطيفة في شرح وتوجيه حديث الافتراق؛ للإمام الشريف النسيب محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني الحسني رحمه الله، وهي عبارة عن جواب لسؤالٍ عُرض عليه من قبل العلامة إبراهيم بن أحمد العثماني، عن افتراق الأمة، وهو يتعلق بصحة الحديث ومعناه، وقد حررها في شهر ذي القعدة من سنة (1133 هـ).

ولا شك أن الافتراق الذي جاء في الحديث مُقيَّدٌ بنوعٍ مُعين من أنواع الافتراق، فإنه ليس كُلُّ افتراق واختلافٍ يكون مذموماً، وإنما المقصود به هن (الافتراق في أصول الدين، والكليات العامة للشريعة)، من الشرك بالله، وصرف العبادة لغير الله، والقول بالقدر والجبر، والإباحة، والطعن في الصحابة، ونحو ذلك. 


ويُمكن تقسم شرح الإمام الصنعاني رحمه الله لحديث الافتراق إلى ستِّ مسائل، رئيسية:

المسألة الأولى: ذكر حديث الافتراق: وهو ما رواه: أحمد وأبو يعلى، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افترقتْ اليهودُ على إحدى وسبعينَ فرقةٍ كلُّها في النارِ إلا واحدةٌ، وافترقتْ النصارى على اثنتين وسبعين فرقةٍ كلُّها في النارِ إلا واحدةٌ، وستفترقُ هذه الأمةُ على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةٍ كلُّها في النارِ إلا واحدةٌ. وفي لفظٍ: على ثلاثٍ وسبعينَ ملةٍ، وفي روايةٍ قالوا: يا رسولَ اللهِ مَن الفرقةُ الناجيةُ؟ قال: من كانَ على مثلِ ما أنا عليه اليومُ وأصحابي، وفي روايةٍ قال: هي الجماعةُ يدُ اللهِ على الجماعةِ).


المسألة الثانية: لا يلزم من إثبات حديث الافتراق الحكم على أكثر الأمة بالهلاك والدخول في النار، ذلك أن الحكم على أكثر هذه الفرق بالهلاك ودخول النار، باعتبار ظاهر أعمالها، وهو يدخل ضمن أحاديث الوعيد، ومعلومٌ أنه ليس كل من توعد بالنار يلزمه أن يدخلها، بل قد يتخلف الوعيد لوجود مانعٍ، أو لانتفاء شرطٍ من الشروط التي تُوجب دخولها، فلا يلزم بناء على ذلك أن يكون أكثر أمة الإسلام هالكا أو مخلداً في النار.


المسألة الثالثة: أن الفرقة الناجية، وإن كانت مفتقرةً إلى رحمة الله، لكنها باعتبار ظاهر أعمالها يُحكم لها بالنجاة؛ لإتيانها بما أُمرت به، وانتهائها عما نُهيت عنه.


المسألة الرابعة: أن الافتراق في الأمة، وهلاك من يهلك منها، دائمٌ مُستمرُّ، من بعد زمن تكلم النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذه الجملة إلى قيام الساعة، وبذلك تتحقق أكثرية الهالكين، وأقليَّةُ الناجين.


المسألة الخامسة: أنه كلما تطاول الزمان، وابتعد الناس عن زمن النبوَّة، زادت أعداد الهالكين، وقد وردت أحاديث بفساد آخر الزمان، وخفاء الحق، وأن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، ولكن هذا ليس على إطلاقه؛ فقد يقع في زمنٍ بعد زمن القرون الثلاثة المفضلة من أعداد الهالكين ما هو أكثر من أعداد من بعدهم.


المسألة السادسة: أن أهل السنة والجماعة (أتباع السَّلف) هم الفرقة الناجية، وهم السواد الأعظم في هذه الأمة، ذلك أنهم المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب، وفيهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، ومنهم أعلام الهدى، ومصابيح الدُّجى، وأولو المناقب المأثورة، والكرامات المشهورة، وهم الطائفة المنصورة.