قاعدة القول في صفات الله تعالى كالقول في الذات
دراسة وتحليل
إعداد: علاء إبراهيم عبد الرحيم
باحث بمركز سلف للبحوث والدراسات
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد؛ فإن من أجلِّ ما ينبغي على المؤمن معرفتُه والوقوفُ عليه هو معرفةُ الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، وقد ذكر علماء أهل السنة والجماعة جملةً من القواعد التي تضبط القولَ في صفات الباري سبحانه، وتعصم المؤمنَ من الانحراف والزلل، وتحفظه من الزيغ والضلال، ومن جملة هذه القواعد وأشهرها قاعدة: “القول في الصفات كالقول في الذات”، وهي قاعدة قد اتفق عليها أهل السنة والجماعة قاطبةً، ولأهميتها جعلها شيخ الإسلام ابن تيمية الأصلَ الثاني([1]) من الأصلين اللذين بنى عليهما كتابه التدمرية، حيث يقول فيه: “وهذا يتبين بالأصل الثاني – وهو أن يقال: القول في الصفات كالقول في الذات”([2]).
وفيما يلي ذكر جملة من أقوال العلماء في تقرير هذه القاعدة؛ لبيان شهرتها عندهم.
أقوال العلماء في تقرير القاعدة:
أجمع أهل السنة والجماعة قاطبةً على القول بهذه القاعدة، ووافقهم على القول بها جمعٌ من علماء أهل الإسلام عامّةً، تارة تصريحًا مع اختلاف ألفاظهم، وتارة تلميحًا وإشارة، وفيما يلي جملة من هذه الأقوال مرتبةً على سني وفاة أصحابها:
1- قول الإمام أبي الحسن عبد العزيز الكناني المكي (ت 240 هـ):
قال الإمام عبد العزيز الكناني في كتابه (الحيدة): “فقلت له [أي: لبشر المريسي]: قال الله عز وجل. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} [آل عمران: 185]، أفتقول: إن نفس رب العالمين داخلة في هذه النفوس التي تذوق الموت؟! فصاح المأمون بأعلى صوته -وكان جهير الصوت- معاذَ الله، معاذَ الله، معاذَ الله، فقلت: إذًا -ورفعت صوتي- معاذَ الله معاذ الله أن يكون كلام الله داخلًا في الأشياء المخلوقة، كما أن نفسه ليست بداخلة في الأنفاس الميتة، وكلامه خارج عن الأشياء المخلوقة، كما أن نفسه خارجة عن الأنفس الميتة“([3]).
2- قول الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ):
قال الإمام أحمد: “إنما التشبيه أن يقول: يد كيد أو وجه كوجه. فأما إثبات يد ليست كالأيدي، ووجه ليس كالوجوه، فهو كإثبات ذات ليست كالذوات، وحياة ليست كغيرها من الحياة، وسمع وبصر ليس كالأسماع والأبصار”([4]).
3- قول الإمام أبي سليمان الخطابي (ت 388 هـ):
قال الخطابي في رسالته المشهورة (الغنية عن الكلام وأهله)([5]): “فأما ما سألت عنه من الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة، فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين، فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي والمقصر عنه.
والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلومًا أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.
فإذا قلنا: يد وسمع وبصر وما أشبهها، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه؛ ولسنا نقول: إن معنى اليد: القوة أو النعمة، ولا معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات”. هذا كله كلام الخطابي([6]).
4- قول الإمام أبي نصر السِّجزي (ت 444 هـ):
قال أبو نصر السِّجزي: “واتفق المنتمون إلى السّنة بأجمعهم على أنه [يعني القرآن الكريم] غير مخلوق، وأنّ القائل بخلقه كافر، فأكثرهم قال: إنه كافر كفرًا ينقل عن الملة، ومنهم من قال: هو كافر بقول غير الحق في هذه المسألة. والصحيح الأوّل؛ لأن من قال: إنه مخلوق؛ صار منكرًا لصفة من صفات ذات الله عز وجل، ومنكر الصفة كمنكر الذات، فكفره كفر جحود لا غير”([7]).
وقال أيضًا: “الفصل الثامن: في بيان أن الذي يزعمون بشاعته من قولنا في الصفات ليس على ما زعموه، ومع ذلك فلازم لهم في إثبات الذات مثل ما يلزمون أصحابنا في الصفات“([8]).
5- قول شيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني (ت 449 هـ):
قال الشيخ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني في كتابه (عقيدة السلف وأصحاب الحديث): “فلما صحَّ خبر النزول عن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرَّ به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعتقدوا تشبيهًا له بنزول خلقه، ولم يبحثوا عن كيفيته؛ إذ لا سبيل إليها بحال، وعلموا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الله سبحانه لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق، تعالى الله عما يقول المشبهة والمعطلة علوًّا كبيرًا، ولعنهم لعنًا كثيرًا”([9]).
6- قول أبي يعلى الحنبلي (ت 457 هـ):
قال ابن أبي يعلى في كتابه (طبقات الحنابلة): “اعتقد الوالد السعيد [يعني: أبا يعلى محمد بن الحسين] ومن قبله ممن سبقه من الأئمة: أن إثبات صفات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد لها، حقيقة في علمه، لم يُطْلع الباري سبحانه على كنْه معرفتها أحدًا من إنس ولا جان، واعتقدوا: أن الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات ويحتذي حذوه ومثاله، وكما جاء”([10]).
7- قول الخطيب البغدادي (ت 463 هـ):
أسند الحافظ الذهبي([11]) عن الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي قوله: “أما الكلام في الصفات، فأما ما روي منها في السنن الصحاح، فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيف والتشبيه عنها.
والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله، وإذا كان معلومًا أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته، فإنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.
فإذا قلنا: يد وسمع وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله لنفسه، ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة، ولا نقول: إن معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح وأدوات الفعل، ونقول: إنما وجب إثباتها؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]([12]).
8- قول الإمام محيي السنة البغوي (ت 516 هـ):
قال الإمام أبو محمد البغوي الشافعي في كتابه (شرح السنة) -بعد ذكره جملةً من صفات الله تعالى-: “فهذه ونظائرها صفات لله عز وجل، ورد بها السمع، يجب الإيمان بها، وإمرارها على ظاهرها، معرضًا فيها عن التأويل، مجتنبًا عن التشبيه، معتقدًا أن الباري سبحانه وتعالى لا يشبه شيءٌ من صفاته صفاتِ الخلق، كما لا تشبه ذاتُه ذواتِ الخلق، قال الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]، وعلى هذا مضى سلف الأمة وعلماء السنة، تلقّوها جميعًا بالإيمان والقَبول، وتجنّبوا فيها عن التمثيل والتأويل، ووكلوا العلمَ فيها إلى الله عز وجل”([13]).
9- قول ابن أبي يعلى (ت 526 هـ):
قال ابن أبي يعلى في (طبقات الحنابلة): “ومما يدل على أن تسليم الحنبلية لأخبار الصفات من غير تأويل، ولا حمل على ما يقتضيه الشاهد، وأنه لا يلزمهم في ذلك التشبيه: إجماع الطوائف من بين موافق للسنة ومخالف أن الباري سبحانه ذات وشيء وموجود، ثم لم يلزمنا وإياهم إثبات جسم ولا جوهر ولا عرض، وإن كانت الذات في الشاهد لا تنفك عن هذه السمات، وهكذا لا يلزم الحنبلية ما يقتضيه العرف في الشاهد في أخبار الصفات”([14]).
10- قول الإمام قوام السنة إسماعيل بن محمد الأصبهاني (ت 535هـ):
قال أبو القاسم إسماعيل بن محمد الأصبهاني الملقب بقِوام السنة في كتابه (الحجة في بيان المحجة): “الكلام في صفات الله عز وجل ما جاء منها في كتاب الله، أو روي بالأسانيد الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمذهب السلف -رحمة الله عليهم أجمعين- إثباتُها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وذهب قوم من المثبتين إلى البحث عن التكييف.
والطريقة المحمودة هي الطريقة المتوسطة بين الأمرين؛ وهذا لأن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات، وإنما أثبتناها؛ لأن التوقيف ورد بها، وعلى هذا مضى السلف.
قال مكحول والزهري: “أمرّوا هذه الأحاديث كما جاءت”، فإن قيل: كيف يصح الإيمان بما لا نحيط علمًا بحقيقته؟ قيل: إن إيماننا صحيحٌ بحق من كلَّفَناه، وعلمُنا محيطٌ بالأمر الذي ألزمَناه، وإن لم نعرف ما تحتها حقيقة كيفيته، وقد أمرَنا بأن نؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالجنة ونعيمها، وبالنار وعذابها، ومعلوم أنا لا نحيط علمًا بكل شيء منها على التفصيل، وإنما كلفناه الإيمان بها جملة”([15]).
11- قول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ):
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “القول في الصفات كالقول في الذات؛ فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقةً لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقةً لا تماثل سائر الصفات”([16]).
12- قول الحافظ الذهبي (ت 748هـ):
قال الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء): “ومعلوم عند أهل العلم من الطوائف أن مذهب السلف إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت، من غير تأويل ولا تحريف، ولا تشبيه ولا تكييف؛ فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات المقدسة. وقد علم المسلمون أن ذات الباري موجودة حقيقةً، لا مِثلَ لها، وكذلك صفاته تعالى موجودة، لا مثل لها”([17]).
13- قول الإمام ابن القيم (ت 751هـ):
قال الإمام ابن القيم في (الصواعق المرسلة): “فكان الباب عندهم [يعني: عند السلف] بابًا واحدًا، قد اطمأنت به قلوبهم، وسكنت إليه نفوسهم، فأنِسوا من صفات كماله ونعوت جلاله بما استوحش منه الجاهلون المعطلون، وسكنت قلوبهم إلى ما نفرَ منه الجاحدون، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات، فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، فصفاته لا تشبه الصفات، فما جاءهم من الصفات عن المعصوم تلقَّوه بالقَبول، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار؛ لعلمهم بأنه صفة من لا شبيه لذاته ولا لصفاته”([18]).
14- قول الشيخ يوسف بن محمد السرمري (ت 776هـ):
قال الشيخ في نظمه (نهج الرشاد): “….كَمَا كَالصِّفاتِ الذّاتُ صِينَتْ عَنِ الْحَزْرِ”([19]). والمعنى: أن الكلام في صفات الباري سبحانه كالكلام في ذاته سبحانه، وأنها تصان عن الحزر والتخمين والتكييف.
15- قول ملا علي القاري (1014 هـ):
قال في ردّه على القائلين بوحدة الوجود: “ثم اعلم أنه سبحانه كما أن ليس له مثل في الذات ليس له مثل في الصفات، وهذا بطريق الإجمال مستفاد من قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، أي: ذاتًا وصفة وفعلًا”([20]).
16- قول مرعي الكرمي (ت 1033هـ):
قال الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي: “فإن الصفات كالذات، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس ذوات المخلوقين، فكذلك صفاته ثابتة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات”([21]).
17- قول ابن فقيه فُصَّة (ت 1071هـ):
قال الشيخ عبد الباقي المعروف بابن فقيه فُصَّة في كتابه (العين والأثر): “وعلى كل حال مهما خطر بالبال، أو توهمه الخيال، فهو بخلاف ذي الإكرام والجلال، فيحرم تأويل ما يتعلق به تعالى، وتفسيره، كآية الاستواء وحديث النزول، وغير ذلك من آيات الصفات، إلا بصادر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعض الصحابة، وهذا مذهب السلف قاطبة، فلا نقول في التنزيه كقول المعطلة، بل نثبت ولا نحرف، ونصف ولا نكيف، والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فمذهبنا حق بين باطلين، وهدًى بين ضلالتين، وهو إثبات الأسماء والصفات، مع نفي التشبيه والأدوات”([22]).
18- قول السفاريني (ت 1188هـ):
قال السفاريني في (لوامع الأنوار البهية): “فالكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، فصفاته تعالى قديمة ثابتة كذاته تعالى، فليس لنا أن نتأول في صفات الله تعالى، ولا في ذاته، من غير ما إثبات عن صاحب الشرع وأصحابه، وأئمة التابعين المعتبرين من علماء السلف وأتباعهم، فهم العمدة دون غيرهم”([23]).
وهذه الأقوال غيض من فيض؛ إذ تتعذر الإحاطة بأقوال من أيّد القاعدة من العلماء؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – في بيان كثرة من نقل عنه تقرير هذه القاعدة ونصرها -: “وهذا الكلام الذي ذكره الخطابي([24]) قد نقل نحوًا منه من العلماء من لا يحصى عددهم: مثل أبي بكر الإسماعيلي، والإمام يحيى بن عمار السِّجزي، وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي صاحب (منازل السائرين) و(ذم الكلام)، وهو أشهر من أن يوصف، وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني، وأبي عمر بن عبد البر النمري إمام المغرب، وغيرهم”([25]).
إقرار أئمة الاشاعرة بصحة الاستدلال بالقاعدة:
ذكر بعض علماء الأشاعرة هذه القاعدةَ في كتبهم، على جهة الإقرار بصحة الاستدلال بها في باب صفات الباري سبحانه، ومن أقوالهم:
قال الغزالي (ت 505هـ) في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد): “ينبغي أن يعتقد أن كلامه سبحانه صفة قديمة ليس كمثلها شيء، كما أن ذاته ذات قديمة ليس كمثلها شيء“([26]).
وقال أبو الحسن الآمدي (ت 631هـ) في كتابه (غاية المرام): “نعم؛ لو قيل: إن كلامه [سبحانه] بحروف وأصوات، لا كحروفنا وأصواتنا، كما أن ذاته وصفاته ليست كذاتنا وصفاتنا، كما قال بعض السلف، فالحق أن ذلك غير مستبعد عقلًا…”([27]).
شرح القاعدة:
القول في الصفات كالقول في الذات، وبيانها: أن الله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله؛ فإذا كان لله ذات حقيقية لا تماثل الذوات بلا خلاف، فكذلك الصفات الثابتة له في الكتاب والسنة، هي صفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات، فالقول في الذات والصفات من باب واحد يطرد في الجميع([28]).
وقد أفادت القاعدة: أنه إذا كانت ذات لله تعالى ثابتة حقيقة، من غير أن تكون من جنس ذوات المخلوقين، فكذلك يقال في صفاته تعالى: إنها ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين.
وبها يرد على من شبه صفات الله تعالى بصفات المخلوقين: فمن قال: لا أعقل علمًا ويدًا إلا من جنس العلم واليد المعهودين. قيل له: فكيف تعقل ذاتًا من غير جنس ذوات المخلوقين؟
ومن المعلوم أن صفات كلِّ موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب سبحانه -الذي ليس كمثله شيء- إلا ما يناسب المخلوق، فقد ضل في عقله ودينه([29]).
كما أفادت القاعدة أيضًا: أن إثبات الذات لله سبحانه إذا كان إثبات وجود وإيمان، لا إثبات كيفية وتحديد، فكذلك إثبات صفات الباري سبحانه إثبات وجود وإيمان، لا إثبات كيفية وتحديد([30]).
قال بعض المحققين: صفات الرب تعالى معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد، فالمؤمن مبصر بها من وجه، أعمى من وجه، مبصر من حيث الإثباتُ والوجود، أعمى من حيث التكييفُ والتحديد([31]).
وبها يرد على الجهمية النافين للصفات: فإذا قال الجهمي: كيف استوى على العرش؟ وكيف ينزل إلى السماء الدنيا؟ وكيف يداه؟ ونحو ذلك.
يقال له -جوابًا عن شبهته-: كيف هو في نفسه؟! تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
فإذا قال لك الجهمي: لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري غير معلوم للبشر.
فيقال له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف، ولم تعلم كيفيته، وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي له([32]).
وبها يرد على من توهم المماثلة بين صفات الله تعالى وصفات خلقه: فمن توهم في كثير من الصفات أو أكثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فإنه يقع في محاذير:
منها: أنه مثّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.
ومنها: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بلا علم، فيكون معطلًا لما يستحقه الرب من صفات الكمال ونعوت الجلال، فيكون قد عطل ما أثبته الله ورسوله من الصفات الإلهية اللائقة بجلال الله وعظمته.
ومنها: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الجمادات أو صفات المعدومات، فيكون قد عطّل صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثلَّه بالمنقوصات والمعدومات، وعطَّل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحدًا في أسمائه وآياته([33]).
دليل القاعدة:
قد دل على هذه القاعدة الكتابُ العزيز، كما أجمع عليها علماء الأمة، وفيما يلي بيان ذلك:
أولًا: الدليل من الكتاب العزيز:
قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. يقول ابن قتيبة: “أي: ليس كهو شيء، والعرب تقيم المثل مقام النفس، فتقول: مثلي لا يقال له هذا، أي: أنا لا يقال لي هذا”([34]). ويقول الزجاج: “هذه الكاف مؤكدة، والمعنى: ليس مثله شيء، ولا يجوز أن يقال: المعنى مثل مثله شيء؛ لأن من قال هذا فقد أثبت المثل لله، تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا”([35]).
وجه الدلالة: في الآية الكريمة نفي صريح للمماثلة والمشابهة بين الله تعالى وبين مخلوقاته، فهو تعالى لا يماثله ولا يشبهه شيء من خلقه، لا في ذاته ولا في صفاته.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: “أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأن أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفة كمال وعظمة، وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك، فليس كمثله شيء؛ لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه”([36]).
وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “فإذا كان له [تعالى] ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات”([37]).
ثانيًا: الإجماع:
يقول ابن أبي يعلى: وقد أجمع أهل القبلة: أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وكيفية، وأن إثبات الصفات للباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وكيفية، وأنها صفات لا تشبه صفات البرية، ولا تدرك حقيقة علمها بالفكر والروية([38]).
تطبيقات القاعدة:
لا تنحصر تطبيقات القاعدة في بعض الصفات دون بعض، بل تتسع تطبيقاتها لتشمل القول في جميع صفات الباري سبحانه، ومن الأمثلة على إعمالها:
نثبت لله تعالى صفة اليد والسمع والبصر، ولا نقول: إن معنى اليدِ: القوةُ أو النعمة، ولا معنى السمعِ والبصر: العلمُ؛ ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لأن الله ليس كمثله شيء؛ وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات([39]).
نثبت لله تعالى الاستواء على العرش، فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ قيل له -كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضي الله عنهما-: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة؛ لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه([40]).
ينزل ربنا سبحانه إلى السماء الدنيا كل ليلة نزولًا يليق بجلاله، فإذا قال السائل: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: لا أعلم كيفيته، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله؛ إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره، وتكليمه، واستوائه ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته، وإذا كنت تقر بأن له حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره وكلامه، ونزوله واستواؤه، ثابت في نفس الأمر، وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم، ونزولهم واستواؤهم([41]).
من الصفات الثابتة له تعالى صفة الوجه، إثبات وجود لا إثبات تكييف وتحديد، وهذا الذي نقل الخطابي وغيره أنه مذهب السلف والأئمة الأربعة، وبه قال الحنفية والحنابلة وكثير من الشافعية وغيرهم، وهو إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها؛ محتجين بأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فإذا كان إثبات الذات وجودًا لا إثبات تكييف، فكذلك إثبات الصفات، وقالوا: إنا لا نلتفت في ذلك إلى تأويل لسنا منه على ثقة ويقين؛ لاحتمال أن يكون المراد غيره؛ لأنه مأخوذ بالظن والتخمين، لا بالقطع واليقين، فلا نبني اعتقادنا عليه، ولا نرجع عن النص الثابت إليه، فإن هذا عند السلف مذموم، وناهج هذا المنهج معيب ملوم([42]).
العلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب، ونحو ذلك في حق العبد أعراض، والوجه واليد والعين في حقه أجسام، فإذا كان الله موصوفًا عند عامة أهل الإثبات بأن له علمًا وقدرة وكلامًا ومشيئة -وإن لم تكن أعراضًا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين- فكذلك الوجه واليد والعين صفات له تعالى ليست كصفات المخلوقين، وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح؛ فإن الصفات كالذات، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس ذوات المخلوقين، فكذلك صفاته ثابتة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات([43]).
وما أحسن ما نختتم به هذه الورقة العلمية بوصية للشيخ محمد الأمين الشنقيطي يقول فيها: “أنَّا نوصيكم وأنفسنا بتقوى الله، وأن تلتزموا بثلاث جمل من كتاب الله:
الأولى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فتنزهوا رب السماوات والأرض عن مشابهة الخلق.
الثانية: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]، فتؤمنوا بصفات الجلال والكمال الثابتة في الكتاب والسنة على أساس التنزيه، كما جاء {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
الثالثة: أن تقطعوا أطماعكم عن إدراك حقيقة الكيفية؛ لأن إدراك حقيقة الكيفية مستحيل، وهذا نص الله عليه في سورة طه، حيث قال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]… فيصير المعنى: لا إحاطة للعلم البشري برب السماوات والأرض، فينفي جنس أنواع الإحاطة عن كيفيتها، فالإحالة المسندة للعلم منفية عن رب العالمين، فلا يشكل عليكم بعد هذا صفة نزول ولا مجيء ولا صفة يد ولا أصابع ولا عجب ولا ضحك؛ لأن هذه الصفات كلها من باب واحد، فما وصف الله به نفسه منها فهو حق، وهو لائق بكماله وجلاله، لا يشبه شيئًا من صفات المخلوقين، وما وصف به المخلوق منها فهو حق مناسب لعجزهم وفنائهم وافتقارهم.
وهذا الكلام الكثير أوضحه الله في كلمتين: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} تنزيه بلا تعطيل، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إيمان بلا تمثيل.
فيجب من أول الآية وهو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} التنزيه الكامل الذي ليس فيه تعطيل، ويلزم من قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الإيمان بجميع الصفات الذي ليس فيه تمثيل، فأول الآية تنزيه، وآخرها إثبات، ومن عمل بالتنزيه الذي في {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، والإيمان الذي في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وقطع النظر عن إدراك الكنه والحقيقة المنصوص في قوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} خرج سالـمًا”([44]).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) والأصل الأول هو: القول في بعض الصفات كالقول في بعض.
([2]) التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع (ص: 43).
([3]) الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن (ص: 53- 54).
([4]) ينظر: الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن القيم (1/ 230).
([5]) هذه الرسالة مفقودة، وقد نقل جزءًا منها السيوطي في صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام (1/ 137- 147)، وقد قامت دار المنهاج بالقاهرة بإخراجه من كتاب السيوطي وطباعته سنة (1425هـ – 2004 م).
([6]) ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (3/ 167، 5/ 58- 59).
([7]) رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 153).
([8]) المصدر السابق (ص: 281).
([9]) عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص:48).
([10]) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 208).
([11]) في كتابه العرش (2/ 457- 458)، كما أوردها الحافظ الذهبي في كتبه: العلو للعلي الغفار (ص: 253)، وسير أعلام النبلاء (18/ 283- 284)، وتاريخ الإسلام (10/ 175)، وتذكرة الحفاظ (3/ 1142- 1143).
([12]) ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في جوابه عن سؤال أهل دمشق في الصفات، وقد طبعت هذه الرسالة في مكتبة العلم بجدة سنة 1413ه، كما وضعت في ذيل كتاب اعتقاد أهل السنة للإسماعيلي (ص64- 65 ط. دار الريان).
([13]) شرح السنة (1/ 170- 171).
([14]) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 211).
([15]) الحجة في بيان المحجة (1/ 188- 190).
([16]) مجموع الفتاوى (3/ 25).
([17]) سير أعلام النبلاء (8/ 402).
([18]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/ 229).
([19]) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد (ص: 37).
([20]) الرد على القائلين بوحدة الوجود لملا علي القاري (ص: 42).
([21]) أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات (ص: 206- 207).
([22]) العين والأثر في عقائد أهل الأثر (ص: 35- 36).
([23]) ينظر: لوامع الأنوار البهية (1/ 102) ببعض التصرف.
([24]) تقدم كلامه بحروفه.
([25]) مجموع الفتاوى (5/ 59).
([26]) الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 71- 72).
([27]) غاية المرام في علم الكلام (ص: 112).
([28]) ينظر: أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء (ص: 91) نشر وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد – المملكة العربية السعودية.
([29]) الفتوى الحموية الكبرى (ص: 543).
([30]) ينظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ص: 38).
([31]) لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 226).
([32]) ينظر: الفتوى الحموية الكبرى (ص: 544).
([33]) التحفة المدنية في العقيدة السلفية لحمد بن ناصر النجدي (ص: 49- 50).
([34]) غريب القرآن لابن قتيبة (ص: 391).
([35]) معاني القرآن وإعرابه للزجاج (4/ 395).
([36]) تيسير الكريم الرحمن للشيخ السعدي (ص: 754).
([37]) التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع (ص: 43).
([38]) ينظر: طبقات الحنابلة (2/ 208).
([39]) ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (5/ 58- 59).
([40]) ينظر: التدمرية (ص: 44).
([41]) ينظر: المرجع السابق (ص: 44- 45).
([42]) لوامع الأنوار البهية (1/ 225- 226).
([43]) أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات (ص: 206- 207).
([44]) ينظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص: 43- 44).