أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 7 سبتمبر 2020

الافتراق: مفهومه -أسبابه -سبل الوقاية

الافتراق

مفهومه -أسبابه -سبل الوقاية

تأليف: د. ناصر بن إبراهيم العقل


بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ في هذا العصر الذي كثرت فيه البدع، وكثرت فيه الأهواء والشُّبه، وسيطرت على الناس الغفلة، وافترق الناس فيه فرقاً وأحزاباً، برز في المسلمين جيلٌ من الدُعاة الذين ابتُلوا بحبِّ الظهور والرياسة، والذين افتتنوا بالدنيا وبهارجها، وأغواهم الشيطان في مزالق الاعتداد بالنفس، والإعجاب بالرأي، فتراهم يميلون مع الباطل مرة، ويميلون مع الحقِّ أخرى؛ ولذا كان لا بُدَّ من وقفةٍ جادَّة نتأمل فيها أحوال هؤلاء الدُّعاة، ونظرةٌ أخرى على هذه الأُمَّة التي عركتها البلايا، وأصابها الداء من كل جهةٍ، ومع ذلك ترى هؤلاء الدُّعاء يتضاحكون ويسمرون ويتبادلون النكات الظريفة، غير آبهين بما يجري من حولهم؛ فهؤلاء الأدعياء حُرموا التوفيق من حيث وفور عقولهم؛ ولكن عقولهم مغلوبةٌ بالهوى، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مُستقيم.

وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لا تزال طائفةٌ من أمته ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، قد جعل الله فيهم الحجة على الناس كافة، يهتدي بهم من أراد الهُدى، ويقتدي بهم من أراد الحق، ولا يُمكن أن تخفى هذه الطائفة عن كل ذي بصيرة، وقد جلّاها لنا المُصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: هم (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).

وليس وقوع هذا الافتراق ذماً على الإسلام، ولا انتقاصاً منه، ولا ذماً لأهل السنة والجماعة، وإنما هو ذمٌّ للمفترقين، والمفترقون ليسوا هم أهل السُّنة، لأن أهل السُّنة والجماعة هم الباقون على الأصل، وأما غيرهم فانحرف عن هذه الأصل.

ولم يحصل من الصحابة رضوان الله عليهم افتراقٌ حقيقيٌّ البتَّة، وإنما حصل بينهم اختلافٌ ينتهي غالباً إما إلى الإجماع، أو الخضوع لرأي الجماعة، والالتفاف حول الإمام، هذا ما حصل بين الصحابة، ولم يحصل من صحابيٍّ أنه كان مفارقاً للجماعة، وليس فيهم من قال ببدعةٍ، أو عمل محدثاً في الدين، ولم يكن فيهم من يُعد قوله أصلاً في البدع، معاذ الله، وحاشاهم رضوان الله عليهم.

وأما الذين نسبوا بعض المقولات أو بعض الفرق إلى الصحابة إنما كذبوا عليهم أعظم الكذب، فلا صحة لما يُقال: إن علي بن أبي طالب هو أصل التشيُّع، أو أن أبا ذرٍّ هو أصل الاشتراكية، أو أن أهل الصُّفة هم أصل الصوفية، أو أن مُعاوية هو أصل الجبرية، أو أن أبا الدرداء هو أصل القدرية، وغير ذلك من المقولات المُحدثة الخبيثة، بل كل ذلك إنما هو لمحض الباطل، ونعوذ بالله من الخذلان.


وقد حصر الشيخ حفظه الله هذا الكتاب في مسائل رئيسية؛ نُجملها فيما يلي:


المسألة الأولى: مفهوم الافتراق:

وهو الخروج عن السنة والجماعة في أصلٍ أو أكثر من أصول الدين القطعية، سوءاً كانت أصولاً اعتقادية، أو عملية متعلقة بالقطعيات، أو مُتعلقة بمصالح الأمة العظمى.


المسألة الثانية: الفرق بين الاختلاف والافتراق، من خمس وجوه:

1-الاختلاف مراتب ودرجات، فمنه الخفيف ومنه الشديد، ومن الكلي ومنه الجزئي، ومنه ما يتعلق بالأصول ومنه ما يتعلق بالفروع، بينما الافتراق هو أشد أنواع الاختلاف؛ ويمكن تعريفه، بأنه: الاختلاف وزيادة.

2-أن الاختلاف أعمُّ من الافتراق؛ فهو يشمل الافتراق وغيره، ولكن الافتراق أخصُّ من الاختلاف، فليس كل اختلاف يُفضي إلى الافتراق، ولكن الافتراق ناشئٌ عن الاختلاف.

3-الافتراق لا يكون إلا على أصولٍ كبرى في الدين، بينما الاختلاف قد يكون في الأصول وقد يكون في الفروع الاجتهادية.

4-أن الاختلاف يكون عن اجتهادٍ وحًسن نية، ويؤجر المخطئ فيه ما دام مُتحرياً للحق، والمُصيب أكثر أجراً، فإذا وصل إلى حد الافتراق كان مذموماً؛ بينما الافتراق يكون مذموماً ابتداءً، ولا يكون إلا عن هوىً وضلال، أو تقليدٍ مذموم، أو جهلٍ مُطبق.

5-أن الاختلاف لا يتعلق الوعيد بجميع أنواعه، لا سيما في الفروع الاجتهادية، بينما الافتراق يتعلق به الوعيد بالنار والهلاك.


المسألة الثالثة: التنبيه على بعض الأخطاء التي يقع فيها من يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، وبيان وجه الصواب فيها:

الخطأ الأول: إنكار أن يكون في الأمة افتراق، والتنكر لحديث الافتراق، ومحاولة تأويله بصرف الفرق إلى من هم ليسوا بمسلمين أصلاً.

والصواب: أن الافتراق واقعٌ في الأمة فعلاً، وهذا حقٌّ، يشهد له الأثر، والنظر، والواقع المُشاهد؛ فلا بُد من الاعتراف به وتصديقه، وهذا يدفع المسلم إلى الاستمساك بالحق، تحريه في نهج الصحابة والسلف.


الخطأ الثاني: اعتقاد أن الافتراق الواقع في الأمة يُوجب الرضى به، والاستسلام له، والقبول بهذا الضلال.

والصواب: أن نؤمن بكون هذا الافتراق قدراً، ولكن ندفعه بقدر الله، وذلك بعدم الرضى به، والسعي في علاجه، وبيان المنهج الحق، وأن على المسلم أن لا يتعاطف مع أهل الأهواء وإنكار البدع، أو يتساهل في أمر التفرق، وأن يسعى لجمعهم على كلمة سواء بعد أن يُخصلهم مما هم فيه من الضلال والبدع.

الخطأ الثالث: الاستعجال في الحكم على المخالفين، بأن يجعل هذا الاختلاف ذريعةً في وصف المخالفين بالمروق من الدين، أو مفارقة الملة. 

والصواب: أنه لا بُدَّ من الرجوع إلى قواعد الشرع، وأصول الدين، ومناهج الأئمة في الحكم على الجماعات والأفراد، فالتكفير والتبديع والتفسيق له أحكامه وضوابطه: من توفر الشروط وانتفاء الموانع؛ لأن هذه الأحكام يترتب عليها أمورٌ أخرى، من فسخ النكاح، والحجر على الأموال، أو عدم قبول الشهادة، أو عدم قبول الرواية، والاستتابة ثم القتل، ونحو ذلك. كذلك لا بُدَّ أن يفترض أن الذي وقع في المخالفة: جاهلٌ، أو متأولٌ، أو مُقلدٌ يحتاج إلى نصحٍ، وبيانٍ، وإرشاد ابتداءً، لأن القصد هدايته لا تجريحه.


الخطأ الرابع: عدم التفريق بين ما يسوغ فيه الاجتهاد، وبين ما لا يسوغ فيه الاجتهاد، وبين الأمور المكفرة والأمور غير المكفرة، وبين القول وبين القائل، وبين الملزوم وبين اللازم ،وبين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية.

والصواب: أنه لا بُدَّ من التفريق في الأحكام على الأمور الخلافية، والأخذ بكافة الاعتبارات التي تدرأ عن المسلمين شُبهة الكفر والردة والعياذ بالله تعالى، وهذه من المسائل الخطيرة، ولذا ينبغي التفريق بين الأصول وبين تطبيق الأصول على الجزئيات والحواث والنوازل.


المسألة الرابعة: توافر الأدلة على وقوع الافتراق في هذه الأمة، وهو محسومٌ بأمور، منها: كتاب الله عز وجل، والأخبار المتواترة عن نبينا صلى الله عليه وسلم تواتراً لفظياً أو معنوياً، وكذلك يشهد له التاريخ والواقع. 


المسألة الخامسة:بيان رؤوس أصحاب البدع، وهم:

1- عبد الله بن سبأ: وهو الأصل الذي انبثقت عنه طائفتي: الخوارج، والشيعة، على الرغم من وجود بعض الفوارق بينهما، وقد بدأت مقولاته بعد سنة (34 هـ) تقريباً.

2-ثم معبد الجهني (ت 80 هـ)، والذي جاء ببدعة القدر سنة (64 هـ) تقريباً؛ حيث أنكر علم اله السابق بأفعال العباد، وحارب بدعته الصحابة وعلى رأسهم ابن عمر وابن عباس.

3-ثم جاء بعده غيلان الدمشقي، والذي أثار مسألة القدر من جديد، وذلك قبل سنة (98 هـ)، وحاول التأويل والتعطيل أسماء الله وصفاته؛ فتصدى له علماء السلف، وجالده عمر بن عبد العزيز، وقُتل غيلان سنة (105 هـ) بعدما استُتيب ولم يتب.

4-ثم جاء بعده الجعد بن درهم، المقتول سنة (124 هـ)؛ فتوسع في هذه المقولات، وجمع بين مقولات القدرية ومقولات المعطلة والمؤولة، وأثار الشبهات بين المسلمين؛ فتصدى له أئمة أهل السنة، وأفتوا بقتله، فقتله خالد بن عبد الله القسري في قصته المشهورة في عيد الأضحى، الذي هو عيدٌ لكل المُسلمين.

5-وجدَّد رأس التعطيل في وقته الجهم بن صفوان أمر التعطيل والتأويل والإرجاء والجبر؛ فجمع بين مساوئ الأولين وضلالهم وززاد عليه، وخرجت عنه بدعة الجهميَّة، وقال بأكثر مقولات غيلان والجعد، وتبعه على ذلك رجالٌ من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب عمرو بن عُبيد بالبصرة، وقُتل حداً سنة (128 هـ).

6-وظهر في وقته واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وقد وضعا أصول المعتزلة القدرية.

7-ثم انفتح باب الافتراق؛ فبدأت الرافضة تُعلن عقائدها، وانقسمت إلى فرقٍ كثيرة، وظهرت المُشبهة من الرافضة على يد داود الجواربي، وهشام بن الحكم، وهشام الجواليقي، وهؤلاء هم أصول المشبهة الأوائل، وهم رافضة.

8-ثم جاء المتكلمون من الكلابية والشعرية والماتريدية، ثم المتصوفة والفلاسفة، وانفتح باب الافتراق على مصراعيه لكل ضالٍّ ومُبتدع، ومتبعٍ للهوى، وبقيت أصول الفرق بين المسلمين.

9-ولا يزال أمر الافتراق يتجدد بين المسلمين حتى عصرنا هذا، وكلما ظهر رجلٌ ببدعةٍ اتبعه طائفةٌ من الناس، فالرافضة وفرقها الباطلة، وكذلك فرق

الشيعة، والخوارج، والقدرية، والمعتزلة، والجهمية، والمتصوفة، والفلاسفة، كلها تنخر بأسلوب أنكى على الأمة من أي وقتٍ مضى، لما تدعيه من التعالم والثقافة والفكر، ولقلة فقه أكثر المسلمين في الدين وجهلهم بالعقيدة؛ فإنه ينطلي عليهم دعوى هؤلاء؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل.


المسألة السادسة: بيان أسباب الافتراق، وهي كثيرةٌ جداً، أهمها:

الجهل بدين الله وشرعه، والعصبية بشتى أنواعها: (القبلية، والعرقية، والشعوبية، والحزبية)، واعتقاد ما لم يرد في القرآن والسنة، أو التعبُّد بما لم يشرعه الله وسوله، وخبيئة السوء والكيد للإسلام، والتقصير في فهم فقه الخلاف والتفرُّق، والتقصير في فهم فقه الجماعة والاجتماع، والجهل بمقاصد الشريعة العامة والجهل بمصالح الأمة الكبرى، والخلل في منهج التلقي، ومصادره، ومظاهره، والتشدد والتعمق في الدين، وأخيراً دعاوي التجديد في الدين، كما يصنع الحداثيون والعلمانيون، والتساهل في مقاومة ومحاربة البدع المنتشرة بين المسلمين، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمداهنة في الدين لبعض الطوائف والفرق.  


المسألة السابعة: أسباب توقي الافتراق، كثيرٌ أيضاً، أهمها: الاعتصام بالكتاب والسنة، والسير على نهج السلف في العبادة والورع والتلقي، والأخذ عن الأشياخ الثقات في دينهم، والمعروفين بعدالتهم، واتباعهم للسُّنة، والحرص على اجتماع أهل الخير والسنة على العلماء الصالحين من هذه الأمة، والنصيحة للمؤمنين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق