أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 28 سبتمبر 2020

الرحلة في طلب الحديث -الخطيب البغدادي -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

الرحلة في طلب الحديث

تأليف الإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت

الخطيب البغدادي (ت 463 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ الرحلة في طلب العلم والحديث سُنَةٌ ذكرها الله عز وجل في كتابه في قصة موسى والخضر عليهما السلام، وذكرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في سُّنته، وقد رحل أكابر الصَّحابة لسماع حديثٍ بلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت القبائل تفد إليه صلى الله عليه وسلم فتسمع منه القرآن، وتحفظ عنه أمور الإسلام، وقد قال الله عز وجل: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) /التوبة 122/، فكان أعظم مقاصد طلب العلم: حفظ هذه الشريعة، ثُم تبليغها للناس، وقد نبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك  بقوله: (مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سلَك اللهُ به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ والملائكةُ تضَعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العِلمِ) /صحيح ابن حبان/

وقد جمع الإمام الخطيب البغدادي في كتابه هذا (الرحلة في طلب الحديث) مُلحاً رائقة من أخبار بعض الأئمة الحفاظ من الطبقة الثانية والثالثة، الذين رحلوا في طلب العلم، ولم تشتهر أخبارهم، جمعها من متفرقات كتبه، وأودعها في هذا الجزء اللطيف، وهو أول من أفرد (الرحلة) بتصنيفٍ مستقل.

وقد كتب الأئمة قبله في الرحلة وجمعوا فيها بعض الأخبار، وضمنوها كتبهم، فقد بوَّب الإمام البخاريُّ في صحيحه: "باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله"، وكذلك ابن أبي شيبة قال في "المصنف": "باب في الرحلة في طلب العلم"، ولكن الخطيب هو أول من أفرد الرحلة في التصنيف.

أما صفة الرحلة؛ فيقول الحافظ ابن حجر في كتابه "النزهة": وصفةِ الرحلة فيه، حيث يبتدئ بحديثِ أهل بلدِهِ، فيستوعبه، ثم يرحل، فيحصِّل في الرحلة ما ليس عنده، ويكون اعتناؤه بتكثير المسموع أَوْلى من اعتنائه بتكثير الشيوخ.

  ومن جميل ما يُذكر أن كلمة الرحلة وردت في كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه (لإيلاف قريشٍ إيلافهم، رحلة الشتاء والصَّيف)، وكذلك قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إنَّما الرِّحلةُ إلى ثلاثةِ مساجِدَ: إلى المسجِدِ الحرامِ ومسجِدِكم هذا وإِيلِياءَ)/صحيح ابن حبان/؛ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذا المعنى في كلامه كما هو ظاهرٌ من الحديث.

وقد قسَّم الخطيب البغدادي كتابه إلى خمس فصول، وبدأه بذكر (الرحلة في طلب الحديث والأمر بها والحثُّ عليها، وبيان فضلها) وذكر فيه ثمانيةً وعشرين أثراً. وأعقبه بذكر (رحلة نبي الله موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم، وفتاه في طلب العلم) وما اشتملت عليه من الآداب وقوانين الطلب، وفيها أنه كلما طالت الرحلة عظمت الفائدة. وأتبع ذلك بذكر (من رحل في حديث واحد من الصحابة الأكرمين رضي الله عنهم أجمعين)، وذكر فيه رحلة جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أُنيس، ورحلة أبي أيوب الأنصاري إلى عُقبة بن عامر، ورحلة رجلٍ من الصحابة إلى فَضالة بن عُبيد،  ثم ذكر (الرواية عن التابعين والخالفين في مثل ذلك) يعني في طلب العلم، والرحلة فيه، وذكر فيه أخبار سعيد بن المسيب وغيره، وبيَّن فيه مقاصد الطلب؛ فمنهم من رحل في طلب أصل الحديث؛ كالأوزاعي إلى الحسن البصري، وابن سيرين، ومنهم من رحل لأجل التثبُّت من الحديث؛ مثل رحلة شعبة في حديث: "من توضأ فأحسن الوضوء؛ ثم صلى ركعتين فاستغفر الله إلا غفر له"، ومنهم من رحل لطلب علو الإسناد، مثل رحلة زيد بن الحُباب، وختم كتابه بذكر (ذكر من رحل إلى شيخ يبتغي علو إسناده، فمات قبل ظفر الطالب منه ببلوغ مراده)، ونذكر هنا بعض الفوائد التي يستفيد منها القارئ بين يدي الكتاب.

  • أولاً: ومن أعظم الفوائد التي يجنيها طالب العلم من رحلته:

1- حفظ الشريعة التي هي الكتاب والسنة؛ وهذا عملٌ دينيٌّ محض؛ فيحتاج إلى إخلاص اليَّة لله عز وجل.

2- الاستزادة من العلم، والظفر بعلوم جديدة لم يكن يُتقنها؛ لأنك ستلقى في رحلتك من هو واسع العلم، ومن هو متوسط العلم، ومن هو أقل علماً، وتجد عند كل صنفٍ من هؤلاء ما لا تجده عند غيره، فيؤثر فيك الأعلى في فهم علوم الشريعة، وسعة الفهم، ويؤثر فيك الأدنى بحسن سمته، وهديه ودلِّه، وتطلع على شروحات جديدة، قد لا تكون متوفرة في بلدك الأصل.

3-حسن الفهم عن الله في كتابه، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، لأن من يرحل يرى من طبائع الناس وعاداتهم وثقافاتهم ما تُوسع عنده مدارك الفتوى، وطرق الاستدلال، وتنزيل الأحكام على الواقع، والتعرف على معاني آيات الله في الكون والآفاق والنفس، فيتفتق ذهنه، ويتسع أفقه، ولا يكون نسخةً مطابقةً عن شيوخ بلده.

رابعاً: زيادة الخبرة في طرق التعليم والتدريس، وتعلم الحكمة، وسعة الصدر، والدقة في النظر والاستدلال، وفهم اختلافات الفقهاء، ورؤية آثار السلف وجهادهم، ومنازلهم، ومدى صبرهم في الرحلة، والالتقاء بالإخوان الصالحين، والتعاون معهم على نشر الخير، وبذل العلم، والاستفادة منهم، وترسيخ الإيمان في القلب بما يراه من النوازل والأحداث والعجائب والأمور في سفره.

خامساً: نشر العلم في المناطق التي يغلب عليها الجهل في طريق سفره، ونشر الخير والتوحيد، وتعبيد الناس لربهم سبحانه، ونصح الناس بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، وهذه هبةٌ وكرامةٌ لك في طريق التحصيل والطلب.

سادساً: زيادة الإيمان والخلوة بالله، ومعرفة حقيقة صدق اللجوء إلى الله، وزيادة الأنس به سبحانه، فترى أن الإيمان يزيد زيادةً مُضاعفة عما أنت عليه في الحضر، بما تراه من كفاية الله، وإعانته، وكرامته، لا سيما إذا خرجت تقصد وجه الكريم سبحانه، وخرجت من محبوبك إلى محبوبه.

سابعاً: التثبت في العلم والمسائل، ومعرفة وجه الحقِّ فيها من خلال سؤال العلماء والرحلة إليهم، وطلب العلوم غير المتوفرة في بلدك مثل علوم القراءات، أو علوم اللغة، أو علوم الصرف والبلاغة، أو علوم أصول الفقه والحديث، وطلب الإسناد العالي، وجمع الطرق والأسانيد.

ثامناً: الرحلة هي وسيلة تربوية يحصل الإنسان خلالها شيم الصبر، والتفاني، والجد، والبذل، والسخاء، وسعة الصدر، والاحتساب، وتعظيم الله، وحسن الخلق، ولين النفس والطبيعة.

  • ثانياً: قواعد الرحلة في طلب العلم وقوانينها:

1- الصدق مع الله عز وجل في طلب العلم، لا التباهي بكثرة المسموعات، والتفاخر بعدد الإجازات، وتقوى الله عز وجل بامتثال ما أمر، واجتناب ما نهى عنه من المعاصي والذنوب.

2-الاشتغال بصغار العلم قبل كباره، فلا يهجم على المسائل الكبيرة، وإرادة تحريرها قبل النضوج، واكتمال العقل وعلوم الآلة، ولذا ترى كثيراً من طلبة العلم يعتنون بترجيح الشذوذات؛ لأجل هوى النفس، وأكثر ما تجد ذلك عند أهل الأهواء والبدع.

3-البداءة بالأهم فالأهم من كتب أهل العلم؛ فيبدأ بقراءة كتب أهل السنة من أصحاب الاعتقاد السَّلفيِّ الصحيح، والحرص على استغلال الوقت، والنوم مبكراً، والاستيقاظ مبكراً، وعلى قدر انفاق الوقت في طلب العلم تكون بركة العلم، والاستفادة منه، وكان السلف يتواصون بالإكثار من المسموعات والمقروءات على المشايخ، مع تقليل المحفوظ، وتكثير زمن المراجعة، وكذلك ضبط ألفاظ الكتب والمسموعات.

4- الحرص على طلب العلم عند العلماء الثقات الأثبات، حتَّى كان السَّلف يتفقدون صلاة من يطلبون عندهم العلم، هل هي موافقةٌ للسُّنة أم لا ؟ ورأينا كثيراً من طلبة العلم من انحرفوا أثناء طلبهم بسبب سوء اختيار شيوخهم الذين أخذوا عنهم، وتساهلهم في ذلك.

5- مراعاة العادات العامة والأعراف في البلدان المختلفة التي تطلب فيها العلم؛ وألا يفخر طالب العلم بما منَّ الله به عليه من حسن الفهم، وسرعة الحفظ أو يُبدي ذلك أمام شيخه أو أقرانه، وتجنُّب آفات الرحلة والطلب من الحسد، والبغضاء، والمشاحنة، وسوء الأدب، والكذب، والرياء، وغيرها من الأخلاق الذميمة.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق