القول في الصفات كالقول في الذات
دراسة وتحليل
إعداد: علاء إبراهيم عبد الرحيم
مركز سلف للبحوث والدراسات، أوراق علمية، (37)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ هذا البحث يتناول واحدةً من القواعد المهمة في باب أسماء الله عز وجل وصفاته، وتكمن أهميتها في كونها محل اتفاق بين أهل السُّنة قاطبةً، وكونها صالحةً للرد على كل من ينفي صفات الله تعالى: كلها أو بعضها، أو يمنع إطلاق ما وردت به النصوص في هذا الباب، لذا لا بُدَّ لمن يُثبت لله تعالى ذاتاً، أن يُثبت لهذه الذات صفاتاً، وتكون لهذه الصفات خصوصيَّة الكمال من كل وجه، وينفي عنها مماثلة صفات المخلوقين.
ومعنى هذه القاعدة: (القول في الصفات كالقول في الذات) أننا إذا كُنّا نُثبت لله تعالى ذاتاً حقيقيَّةً لا تُشبه الذوات، فكذلك نُثبت له سبحانه صفاتاً حقيقيَّةً لا تُشبه الصفات، وليس في إثبات الصفات ما يُفضي إلى التشبيه، كما أنه ليس في إثبات الذات ما يُفضي إلى التشبيه.
وقد دلَّ على هذه الصفة، قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11)، وكذلك أجمعت الأمة على معنى هذه القاعدة.
وهذه القاعدة ليست من إنشاء ابن تيمية (ت 728 هـ) رحمه الله، الذي احتفى بها في كثيرٍ من كتبه، وقررها بعده أصحابه والمتأثرون به، ولكنها قاعدةٌ أصيلة عند سلف هذه الأمة، وإن اختلفت الصياغة، أو كانت العبارات شرحاً لها.
وقد أثبتها من أصحابنا الشافعية السلفيين: أبو الحسن عبد العزيز الكناني المكي (ت 240 هـ) في كتابه (الحيدة). وأبو سليمان الخطابي (ت 388 هـ) في رسالته المشهورة (الغنية عن الكلام وأهله). وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني (ت 449 هـ) في كتابه (عقيدة السلف وأصحاب الحديث). والإمام الخطيب البغدادي (ت 463 هـ)، وقد أسنده الذهبيُّ في (العرش). والإمام محيي السنة البغوي (ت 516 هـ) في كتابه "شرح السُّنة". والإمام قوام السنة إسماعيل بن محمد الأصبهاني (ت 535 هـ) في كتابه (الحجة في بيان المحجة). الحافظ الذهبي (ت 748هـ) في (سير أعلام النبلاء)، وغيرهم الكثير.
ومن السادة المالكية: الإمام ابن عبد البر النمري المالكي (ت 463 هـ) في كتابه (التمهيد)..
ومن أعيان المذهب الحنبلي: الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ)، كما جاء في (الصواعق المرسلة). وأبو يعلى الحنبلي (ت 457 هـ) في كتابه (طبقات الحنابلة). وابن أبي يعلى الحنبلي (ت 526 هـ) في كتاب (طبقات الحنابلة). وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) في (مجموع الفتاوى). والإمام ابن القيم (ت 751 هـ) في (الصواعق المرسلة). والشيخ يوسف بن محمد السرمري (ت 776 هـ) في نظمه (نهج الرشاد). والشيخ مرعي الكرمي الحنبلي (ت 1033 هـ) في كتابه "أقاويل الثقات". والشيخ عبد الباقي المعروف بابن فقيه فُصَّة (ت 1071هـ) في كتابه (العين والأثر). وشمس الدين السفاريني (ت 1188هـ) في (لوامع الأنوار البهية).
ومن أعلام المذهب الحنفي: الإمام أبي نصر السِّجزي (ت 444 هـ) في (رسالته إلى أهل زبيد). وملا علي القاري (1014 هـ) في كتابه (الرد على القائلين بوحدة الوجود).
وهذا كله ليس على سبيل الحصر، وإنما على سبيل التمثيل، وإلا فالسلف قاطبةً متفقون عليها.
واقتصر هنا على ذكر أصحابنا من الشَّافعية السلفيين:
يقول الإمام أبو سليمان الخطابي (ت 388 هـ) في رسالته المشهورة "الغنية عن الكلام وأهله: "فأما ما سألت عنه من الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة: فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قومٌ فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، وإنما القصد: في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي والمقصر عنه. والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله. فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية؛ فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف…" (مجموع الفتاوى: 5/ 59).
ويُقرر ذلك الإمام الخطيب البغدادي (ت 461 هـ)، حيثُ يقول: "أما الكلام في الصفات، فإن ما روي منها في السنن الصحاح، فمذهب السلف: إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ونحتذي في ذلك حذوه ومثاله، وإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته فإنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا: يد وسمع وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله لنفسه، ولا نقول إن معنى اليد: القدرة، ولا نقول: إن معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح وأدوات الفعل، ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها" (انظر العرش؛ للذهبي: 2/ 457).
وكذلك قوام السُّنة الأصبهاني (ت 535 هـ)، الذي يُكرر في كتابه "الحجة في بيان المحجَّة"(1/ 189 -190، 313)، نفس النصين السابقين، عن الخطابي، والخطيب، دون تسميةٍ لأيٍّ منهما، ويقول: "وعلى هذا مصى السلف".
وأما التخريج على هذه القاعدة والبناء عليها؛ فكثيرٌ جداً، وإن لم تُذكر بهذه الصيغة بعينها؛ ولذلك شواهد كثيرةٌ في التراث الشافعي؛ مثل "عبد العزيز بن يحيى الكناني" (ت 240 هـ) في رده على بشر المريسي في كتابه "الحيدة"؛ وقوله "ذكر جل جلاله كلامه، كما ذكر نفسه... فدل بذلك على أن كلامه شيءٌ لا كالأشياء، كما أن ذاته شيءٌ لا كالأشياء".
وكذلك شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني (ت 449 هـ) الذي يقول في وصيته الذي ذكرها السُّبكي في "طبقاته" كاملةً: "إن صفاته لا تُشبه صفات المربوبين، كما لا تُشبه ذاته ذوات المحدثين، تعالى الله عما يقول المُعطلة والمُشبهة علواً كبيراً".
ويقول في كتابه "عقيدة السلف وأصحاب الحديث": "واعتقدوا أن صفات الله سبحانه لا تُشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تُشبه ذوات الخلق، تعالى الله عما يقول المُعطلة والمُشبهة علواً كبير".
ويسير على نفس النهج مُحيي السُّنة البغويّ (ت 516 هـ)؛ ويُثبت عامة ما جاء به النصوص من الصفات، ويسوقها مساقاً واحداً، وكذلك الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني (ت 558 هـ) الشَّافعي.
وحتى الأشاعرة أنفسهم يبنون على هذه القاعدة في إثبات الصفات:
فيقول الباقلاني (ت 403 هـ) في "الإنصاف" (ص 38) لبيان مذهبه: "فكما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق، فكذلك علمه لا يُشبه علم الخلق… وكذلك قدرته وإرادته لا تُشبه قدرة الخلق ولا إرادتهم، ولا يُوصف شيءٌ من صفاته بصفات الخلق، فاعلم ذلك، وتحققه، تُوفق للصواب".
وابن فورك (ت 406 هـ) في "مشكل الحديث" يستعين بها في الرد على نُفاة صفة الوجه لله تعالى من المعتزلة وأهل التعطيل على حدِّ قوله: "... وجه، بخلاف معقول الشاهد، كما أن إثبات من أضيف إليه الوجه، إثبات موجودٍ بخلاف معقول الشاهد".
يقول الغزالي (ت 505 هـ) في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد): "ينبغي أن يعتقد أن كلامه سبحانه صفة قديمة ليس كمثلها شيء، كما أن ذاته ذات قديمة ليس كمثلها شيء".
ويقول الآمدي (ت 631هـ) في كتابه (غاية المرام): "نعم؛ لو قيل: إن كلامه بحروف وأصوات، لا كحروفنا وأصواتنا، كما أن ذاته وصفاته ليست كذاتنا وصفاتنا، كما قال بعض السلف، فالحق أن ذلك غير مستبعد عقلًا…".
بل ينسب القرطبي (ت 671 هـ) ذلك الأصل إلى أئمة الأشاعرة عند كلامه عن الصفات الخبرية، كالوجه والعين واليدين، ونحو ذلك؛ فيقول في كتابه "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى": "قال أئمتنا: هذه صفاتٌ طريق إثباتها السَّمعُ؛ فنثبتها لورود ما صحَّ من ذلك، ولا نُكيفها، والكلام في هذه الصفات: فرعٌ عن الكلام في الذات".
ولكن يلزمهم الطرد في بقيَّة الصفات التي لم يُثبتوها لله عز وجل؛ لأن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر"...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق