قاعدة
(القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر)
دراسة وتحليل
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السّلام حنُّونة
غزَّة -فلسطين
تمهيد/ هذه القاعدة مُتممة لقاعدة: (القول في الصفات كالقول في الذات)، فإذا كانت الذات الإلهية مخالفة لذوات المخلوقين، في كل ما هو من حقيقتها، وخصائصها، وليس لله من خلقه شبيهٌ، ولا ندٌّ، ولا شريكٌ سبحانه، فكذلك ليس له في صفاته شبيهٌ، ولا ندٌّ، ولا مثيلٌ سبحانه.
وقد رأينا كيف أن بعض أئمة الأشاعرة قد استخدموا تلك القاعدة، إما بنصها، وإما بمفهومها في الرد على مخالفيهم، كالغزالي، وابن فورك، والآمدي، وغيرهم… سوءً اكان هؤلاء المخالفين: يُخالفون في أصل إثبات الصفات؛ كالمعتزلة وأهل التعطيل على حد تعبير "ابن فورك" أو كان يُخالف في إثبات الصفات الخبرية كما رأيناه عند غير واحدٍ من أئمة الأشاعرة.
لكن القاعدة السابقة وحدها لا تُميز "الإتجاه السلفي" عن الاتجاه "الأشعري الكلامي"؛ لأنه بإمكان من ينفي الصفات الخبرية من متأخري الأشاعرة أن يُطبق قاعدة (القول في الصفات كالقول في الذات) على ما يُثبته من الصفات المعنوية، ثم يُفرق بين ما أثبته وبين ما نفاه من الصفات الخبرية، لأنه يرى أن الصفات الخبرية التي يثبتها الخصوم، هي التي تستلزم التشبيه، أو التجسيم، أو ما شئت من المقالات واللوازم المعلومة البطلان.
أما السلفيُّون الخُلَّص فقد طردوا طريقتهم في إثبات جميع ما جاءت به النصوص، بقاعدة (القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر)؛ وهذا مسلك تطبيقي صحيح، في سبيل إثبات أنه لا فرق بين ما اتفق الجميع على إثباته، وما اختلفوا حوله؛ لأن باب الصفات واحد، والواجب طرد الأصل في الجميع؛ لأنه لا فرق بين صفةٍ وأخرى.
وعليه؛ فالبناء على قاعدة (القول في الصفات كالقول في الذات) والتخريج عليها؛ يقتضي على المتكلم طرد الباب وجوباً، فيما يُثبته، أو ينفيه، فالواجب عليه إن أثبت شيئاً أن يُثبت نظيره، وإن نفى شيئاً أن ينفي نظيره، وإلا صارت فكرته تحكماً محضاً، ما لم يُمكنه أن يذكر فرقاً معيارياً صحيحاً ومُحرراً، يصلح لأن يُعلق عليه مبدأ التفريق في الباب.
ويُمكن اعتبار هذه القاعدة، ردَّاً على طائفتين من الناس، وهم:
(1)- الأشاعرة الذين يثبتون بعض الصفات دون بعض.
(2)- المعتزلة والجهمية الذي يثبتون وجود ذاتٍ مجرَّدةٍ عن الصفات.
ومعنى هذه القاعدة إجمالاً:
أن من أقر بصفات الله عز وجل؛ كالعلم والإرادة والسمع، والبصر، والقدرة، والإرادة، فإنه يلزمه أن يقر بمحبة الله، ورضاه، وغضبه، وكراهيته، وأن من فرق بين صفة وصفة، مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز؛ كان متناقضاً في قولـه، متهافتاً في مذهبه، مشابهاً لمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض.
وأما مذهب أهل السُّنة رضي الله عنهم فهو وسطٌ في صفات الباري سبحانه بين الغالي فيها والجافي عنها، فجمعوا بين الأدلة، وآمنوا بكل ما جاء من صفات الله في كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بينما بقيَّة الطوائف تأخذ بجانبٍ من الأدلة وتتراك الجانب الآخر، مع تخبُّط أكثرهم وتعسُّفهم في التأويل والتعطيل والتكييف والتمثيل.
وأما الصفات التي لا توافق أهواءهم، فتارةً يتجرأون عليها بالطعن في الصَّحابيِّ الراوي للسُّنة، وتارةً يقولون: أخبار آحاد، وتارةً يؤولون الأدلة بقصد تعطيلها عن دلالتها، والتجنِّي على رواتها، ويأبى الله إلا أن يُتمَّ نوره، ويُظهر حجته، في كُلِّ بلدٍ من بلاد المسلمين؛ وصدق رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرُّهم من خالفهم، حتَّى يأتي أمر الله وهم على ذلك) "متفق عليه بهذا المعنى".
وأذكر هنا بعض ما تضمنه كلام أئمة أهل السُّنة والجماعة في معنى هذه القاعدة، وما ساروا عليه من طرد القول بها في جميع الصفات الثابتة لله تعالى، وتطبيقات ذلك على بعض الصفات؛ فنقول بعون الله:
1-قال الإمام أبو محمد عثمان بن سعيد الدارمي (ت 208 هـ) معالجاً للأصول المنهجية التي تبناها الأشاعرة، وبنوا عليها قضاياهم المعرفية:
"ولو قد آمنتم باستواء الرب على عرشه وارتفاعه فوق السماء السابعة بدءاً إذ خلقها -كإيمان المصلين به- لقلنا لكم: ليس نزوله من سماء إلى سماء بأشد عليه ولا بأعجب من استوائه عليها إذ خلقها بدءاً، فكما قدر على الأولى منهما كيف يشاء؛ فكذلك يقدر على الأخرى كيف يشاء!
وليس قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نزوله بأعجب من قول الله تبارك وتعالى {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} (البقرة: 210)، ومن قوله: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} (الفجر: 22)، فكما يقدر على هذا يقدر على ذاك".
فظاهر كلام الإمام الدارمي هو رفض منهج هؤلاء المؤولة؛ لأن المُراد في هذه النصوص بيِّنٌ في نفسه، لا يحتاج إلى تأويلٍ أصلاً.
وعلى فرض احتمالها للتأويل إجمالاً؛ فإن حملها على تأويلٍ مُعيَّن يحتاج إلى دليلٍ خاصٍّ من الأثر، كما أن الظاهر المفصوم منها تؤيده النصوص التي يذكرها أهل الإثبات، وإلا كان ذلك تكذيباً للنصوص ومعانيها.
2-وقال أبو محمد ابن قتيبة (ت: 276 هـ) في "تأويل مختلف الحديث": "والذي عندي -والله تعالى أعلم- أن الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع، والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد".
فيرى الإمام ابن قتيبة أن ما تُثبته الأحاديث من الصفات، هو من نفس الباب الذي نطق به الكتاب، وأجمع عليه المُسلمون .
3- وقال الإمام أبو جعفر ابن جرير الطبري (ت: 310) في تفسيره "جامع البيان" في معرض إثبات صفة الغضب لله تعالى:
"وقال بعضهم: الغضب منه -أي: من الله تعالى -معنى مفهوم، كالذي يُعرف من معاني الغضب، غير أنه وإن كان كذلك من جهة الإثبات؛ فمخالفٌ معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم؛ لأنّ الله جل ثناؤه لا تحلُّ ذاته الآفات، ولكنه له صفة، كما العلم له صفة، والقدرة له صفة، على ما يعقل من جهة الإثبات، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد، التي هي معارف القلوب، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها".
فبيَّن الإمام ابن جرير -رحمه الله -أن علم الله وقدرته وغضبه كلها صفات كمال لله عز وجل من كل وجه، وأنها لا تُشابه صفات المخلوقين لا في حقيقة المعنى، ولا في كيفية الصفة.
4-وقال الإمام أبو الحسن الأشعري (ت: 324 هـ) في "الإبانة" في معرض ردِّه على المعتزلة الذين نفوا الصفات عن الباري بدعوى أن إثباتها يقتضي مشابهة المخلوقين، وبيَّن تناقضهم في هذا الباب:
"ويقال لهم: لِمَ أنكرتم أن يكون الله تعالى عنى بقوله: (بيديَّ): يدين ليستا نعمتين؟ فإن قالوا: لأنّ اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة.
قيل لهم: ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة، فقالوا: اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إلا جارحة، وإن رُجعَونا إلى شَاهِدنا، أو إلى ما نجده فيما بيننا من الخلق.
قيل لهم: إن عملتم على الشاهد وقضيتم به على الله تعالى، فكذلك لم نجد حياً من الخلق إلا: جسماً، لحماً، ودماً، فاقضوا بذلك على الله - تعالى عن ذلك، وإلا كنتم لقولكم تاركين ولاعتلالكم ناقضين.
وإن أثبتم حياً لا كالأحياء منا، فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر الله تعالى عنهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين، ولا كالأيدي؟
وكذلك يقال لهم: لم تجدوا مدبراً حكيماً إلا إنساناً، ثم أثبتم أن للدنيا مدبراً حكيماً ليس كالإنسان، وخالفتم الشاهد ونقضتم اعتلالكم، فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف الشاهد".
وأصل نفي هؤلاء الجهمية لصفات الله عز وجل، صادرٌ عن أمرين، الأول: أنهم شبَّهوا الله بخلقه، والثاني: أنهم لما أرادوا تنزيهه؛ عطلوه عن صفاته سبحانه؛ فجمعوا بين التشبيه والتعطيل.
5-ويقول شيخ الإسلام، أبو عثمان الصابوني الشَّافعي (ت 449 هـ) في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث" في تقرير طرد الباب في الصفات، وأن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر:
"أصحاب الحديث، حفظ الله أحياءهم، ورحم أمواتهم، يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له جل جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسم، ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه".
فبيَّن -رحمه الله -أن منهج أهل السُّنة إجمالاً في هذا الباب، هو: إثبات الصفات الخبرية، وإثبات أصل معناها في اللغة، مع نفي العلم بكيفيتها، ونفي المشابهة لصفات المخلوقين.
6-ويذكر إمام أهل المغرب: أبو عمر بن عبد البر المالكي (ت 463 هـ) في كتابه "التمهيد" أن باب الصفات واحدٌ عند أهل السنة؛ فيقول:
"فالقول في كيفية النزول، كالقول في كيفية الاستواء، والمجيء، والحجة في ذلك واحدة". ويقول في موضعٍ آخر: "فنسألهم أتقولون إن الله موجود؟ فإن قالوا: نعم. قيل لهم: يلزمكم على دعواكم أن يكون مشبهاً للموجودين. وإن قالوا موجود ولا يوجب وجوده الاشتباه بينه وبين الموجودات. قلنا: فكذلك هو حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم يعني ولا يلزم اشتباهه بمن اتصف بهذه الصفات".
وهذا تقريرٌ واضحٌ منه رحمه الله لهذه القاعدة (القول في الصفات كالقول في البعض الآخر) من حيث الإثبات، ونفي العلم بالكيفية، ونفي التشبيه عنها.
7-وقال محيي السنة البغوي (ت: 510 هـ) في تفسيره "معالم التنزيل":
"ويد الله صفةٌ من صفات ذاته كالسمع، والبصر والوجه، وقال جل ذكره: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: 75) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلتا يديه يمين» والله أعلم بصفاته، فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم".
وهذا منهجٌ عامٌّ لدى أهل السُّنة والجماعة: الإيمان بالصفات الثابتة، وإثبات أصل معناها، مع التسليم لله بالكيفية، ونفي المماثلة بينها وبين صفات المخلوقين.
8- ويهتم ابن الزغواني الحنلبي (ت 527 هـ) بهذا التقرير؛ فيقول في كتابه "الإيضاح في أصول الدين": "قد اتفقنا على وصفه بالعلم والقدرة والإرادة، وكانت هذه الصفات مناسبةً لذاته، لا على سبيل صفة المشاهدة...؛ فليكن في مسألتنا مثله، ولأن الأصل في هذا إنما هو عندنا اتباع النقل…".
فيُقرر رحمه الله أن الأصل في باب الصفات اتباع الخبر إيماناَ وتصديقاً؛ وامتناع تمثيل صفات الله بصفات المخلوقين المُشاهدة.
9-وقال قوام السُّنة الأصبهاني (ت 535 هـ) في "الحجة في بيان المحجة" في طرد هذا المعنى في جميع الصفات: "إن جاز أن يقال: إنه لم يتكلم بحرف وصوت، لأنه يؤدي إلى إثبات الأدوات، وجب أن لا يثبت له العلم، لأنه لا يوجد في الشاة علم إلا علم ضرورة أو علم استدلال، وعلم الله يخرج عن هذين القسمين".
وأنت ترى كيف أن قوام السُّنة يلزمهم أن ينفوا ما أثبتوه، بدعوى مشابهة المخلوقات، وذلك نظير ما نفوه.
10-وقال أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت 548 هـ) في "الملل والنحل":
اعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون الله تعالى صفات أزلية من العلم، والقدرة، والحياة، والإرادة والسمع، والبصر، والكلام، والجلال، والإكرام، والجود، والإنعام، والعزة، والعظمة، ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل، بل يسوقون الكلام سوقا واحداً، وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين، والوجه ولا يؤولون ذلك إلا أنهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع، فنسميها صفات خبرية".
فأنت ترى أن القاعدة مطردة عند سلف هذه الأمة في جميع الصفات، وأن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
11-وقال الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني (ت 558 هـ) في كتابه "الانتصار" في ردِّه على الأشاعرة الذين ينفون أصل معنى الكلام عن الله عز وجل، الذي هو بحرفٍ وصوت: "ويقال للأشعري: قد أقررت بأن لله سمعاً وبصراً وعلماً وقدرةً، وحياةً وكلاماً لتنفي عنه ضد هذه الصفات، فلما كان السمع الذي أثبته لله هو السمع المعهود في لغة العرب، وهو إدراك المسموعات وكذلك ضده المنفي عنه هو المعهود في كلام العرب وهو الصمم، وكذلك البصر الذي أثبته لله هو المعهود في كلام العرب وهو إدراك المبصرات، والعلم هو إدراك المعلومات، وجب أن يكون الكلام لله هو الكلام المعهود في كلام العرب، وهو ما كان بحرف وصوت، كما أن ضده المنفي وهو الخرس المعهود عندهم، فأما إثبات كلام لا يفهم ولا يعلم فمحال".
فبيَّن الإمام العمراني: أن إثبات صفة الكلام لله عز وجل، بأصل معناه المعهود في كلام العرب، هو من جنس إثبات صفة السمع، والبصر، والإرادة، والقدرة، والحياة، والعلم، التي لها معاني معهودة في كلام العرب، وإن كانت حقائق تلك المعاني أكمل وأعظم في حقِّ الرب سبحانه.
12- وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) في العقيدة "التدمرية": "فإن كان المخاطب ممن يقرّ بأن الله حيٌّ بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة. ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهيته، فيجعل ذلك مجازاً، ويفسره إما بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات.
قيل له: لا فرق بين ما نفيتَه وبين ما أثبتَّه، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل !!
وإن قلت: له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به.
قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به.
وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به.
وإن قال: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، قيل له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة.
فإن قلت: هذه إرادة المخلوق. قيل لك: وهذا غضب المخلوق.
وكذلك يُلْزَم بالقول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته… فهذا المُفرِّق بين بعض الصفات وبعض، يُقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته. فإذا قال المعتزلي: ليس له إرادة ولا كلام قائم به، لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يُبَيِّن للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات. فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك".
وتطبيق هذه القاعدة ظاهرٌ جداً في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وليس هو من أنشأ هذه القاعدة، بل كانت معروفة مشهورة في أذهان السلف وعقولهم، ثُمَّ ظهر معناها في بعض عبارات التابعين، وأتباعهم، ثُمَّ نصَّ عليها علماء السلف، واشتهرت بينهم، وتواترت، وأودعوها في كتبهم ومصنفاتهم.
13-وقال الحافظ الذهبي (ت: 748) في رسالته "إثبات صفة اليد" بعد ذكره للآيات والأحاديث والآثار: "وصفة كل شيء بحسبه، فإن سبق إلى ذهننا كيفية الموصوف وتصوّرناه: تصورنا صفاته، وإن لم يسبق إلى ذهننا ولم نتصوره: لم يسبق إلى ذهننا فننفيه ولم نتصوره، هذا لا شك فيه. فإن قيل: قد صار العرف أنّ اليد هي الجارحة المعهودة. قلنا: وكذلك قد صار العرف أنّ العلم والسمع والبصر أعراضٌ قائمةٌ بأجسام، فما الفرق؟".
وهذا كلامٌ نفيسٌ من الإمام الذهبيِّ رحمه الله؛ لأنَّه قرَّر أن الله غيب، وصفاته أيضاً غيب، ولم يسبق إلى الذهن أن تصوَّر كيفية ذات الله عز وجل، فكذلك لا يمكن للذهن أن يتصور كيفية صفاته سبحانه، وبيَّن أن عُرف المخلوقين ومشاهداتهم لا تُقيد صفات الخالق؛ لأنه ليس كمثله شيء؛ فنعود إلى إثبات الصفة الواردة في الخبر، وإثبات أصل معناها، ونفي العلم بالكيفية.
13-بل إننا نجد هذه الفكرة في تقريرات المذهب الأشعري، منذ شيخه القديم ابن كلاب (ت 240 هـ) في كتاب "التوحيد" له، واعتمد عليها الباقلاني (ت 402 هـ) أيضاً في كتابه "تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل"؛ حيث يقول: "فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا أنكرتم أَن يكون وَجهه وَيَده جارحة إِذْ كُنْتُم لم تعقلوا يَدٌ صفة، وَوجهٌ صفة، لَا جارحة؟!
يُقَال لَهُ: لَا يحب ذَلِك، كَمَا لَا يجب إِذا لم نعقل حَياً، عَالماً، قَادِرًاً إِلَّا جسماً أَن نقضي نَحن وَأَنْتُم على الله تَعَالَى بذلك.
وكما لَا يجب، مَتى كَانَ قَائِما بِذَاتِهِ أَن يكون جوهراً، أَو جسماً؛ لأَنا وَإِيَّاكُم لم نجد قَائِما بِنَفسِهِ فِي شاهدنا إِلَّا كَذَلِك…".
ويُلاحظ أن الإمام الباقلاني رحمه الله يدمج بين مضمون هذه القاعدة، أعني (القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر)، وبين قاعدة (القول في الصفات كالقول في الذات).
14-وإذا كان مفهوماً أن توجد هذه الفكرة عند مثبتة الصفات الخبرية من شيوخ الأشعرية الأوائل؛ فلقد يبدو غريباً -نوعاً ما -أن نجد الجويني (ت 478 هـ)، وهو معلم بارزٌ في منحنى التأويل يحتجُّ بهذه الفكرة أيضاً على مُخالفية من الكرَّاميَّة؛ فيقول في "الإرشاد إلى أصول الاعتقاد":
"نقول لهم: إذا جوَّزتم قيام ضروبٍ من الحوادث بذاته، فما المانع من تجويز قيام ألوانٍ حادثةٍ بذاته على التعاقب. وكذلك سبيل الإلزام فيما يوافقوننا على استحالة قيامه به سبحانه من الحوادث، ومما يلزمهم: تجويز قيام قدرة حادثة، وعلم حادثٍ بذاته سبحانه، على أصلهم في القول والإرادة الحادثتين، ولا يجدون بين ما جوزوه، وامتنعوا منه: فضلاً!!!" أي فرقاً.
وهذا ظاهرٌ جداً في كلامه رحمه الله، ولكن يلزم الجويني ما ألزم به غيره في بقيَّة الصفات الثابتة في الكتاب والسُّنة، لأن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
10-وكذلك القرطبيُّ (ت 671 هـ)؛ حيث ينقل في كتابه "الأسنى" احتجاج الحنابلة على إثبات الحرف والصوت، بأن ذلك نظير ما أثبته المتكلمون من السمع والبصر؛ ويقول: "فالصفات الثبوتية هي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات كمالٍ لا نقص فيها بوجهٍ من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه واليدين، فيجب إثباتها لله تعالى حقيقةً على الوجه اللائق به…".
هذا، والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق