لا تبطل الصلاة بمرور الكلب والحمار والمرأة
[دراسة حديثية فقهية]
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
وردت أحاديث صحيحة في أن مرور المرأة البالغة، والكلب الأسود، والحمار بين يدي المُصلي إلى غير سُترة يقطع صلاته؛ فما حقيقة ذلك القطع؛ وهل المُرد به بطلان الصَّلاة بالكلية أم نُقصان ثواباها وذهاب خشوعها ؟!
أولاً: اختلاف الصحابة في قطع الصلاة بمرور هذه الأشياء:
1- وقد ورد عن ثمانيةٍ من الصحابة أن الصلاة لا يقطعها شيء؛ وهم: عثمان، وعلي، وحذيفة، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وإحدى الروايتين عن ابن عباس، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم.
وثبت ذلك بأسانيد صحيحة عن خمسةٍ فقط، وهم: الثمانية كلهم إلا أبا سعيد، وجابر، وحُذيفة، ومن الخمسة الذين صحَّ عنهم ذلك: ثلاثةٌ اختلفت الروايةُ عنهم في القطع وعدمه؛ فلم يبقَ إلا صحابيان على هذا القول، وهما عليٌّ وعثمان رضي الله عنهما.
2- بينما ورد عن تسعةٍ من الصحابة بأسانيد صحيحة: القول بالقطع بمرور هذه الثلاث؛ وهم أنس بن مالك وأبو هريرة، وابن مسعود، والحكم بن عمرو الغفاري وأبو ذر، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس وابن عمر، وعائشة؛ وعند استثناء الثلاثة الذين اختلفت عنهم الرواية، يتبقى لنا ستَّةٌ من الصحابة صحَّ عنهم القول بالقطع.
ثانياً: اختلاف الفقهاء في قطع الصلاة بمرور هذه الأشياء:
1- واختلف الفقهاء والعلماء في هذا؛ فقال بعضهم: يقطع الصلاة مرور هذه الثلاثة؛ وقال أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين، عنه: يقطعها الكلب الأسود، قال: وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء!. وفي الرواية الأخرى عنه: تقطعها هذه الثلاثة، وهو ما اختاره المجد ابن تيمية ورجحه، ومال إليه عبد الغني في "المغني"، واختاره الشيخ تقيُّ الدين ابن تيمية، وهو مشهور مذهب الحنابلة، ومذهب الظاهرية، واختاره ابن حزم، وأبو بكر بن المنذر من الشافعية، وذهب إليه الحسن البصري، وأبو الأحوص -صاحب ابن مسعود من التابعين، ومن المتأخرين الإمام الألباني رحمه الله.
2- وذهب الإمام مالك، وأبو حنيفة، والشّافعي، وجمهور العلماء من السلف والخلف، لا تبطل الصلاة بمرور شيءٍ من هؤلاء ولا من غيرهم، وتأول هؤلاء حديث القطع على المراد نقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد إبطالها، وهو جواب الشَّافعيِّ والخطابي، والمحققين من الفقهاء والمحدثين، وهو أن المراد بالقطع: قطع الخشوع والذكر في الصلاة، وهو قول طاووس، وعبد الله بن الزبير، ذكر ذلك النوويُّ، وابن عبد البرِّ، وغيرهم.
واستدلَّ القائلون ببطلان الصلاة بمرور هذه الأشياء، بأدلةٍ منها:
1-روى الإمام أحمد، ومسلم، والأربعة، عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرجل: المرأة، والحمار، والكلب الأسود).
قالوا: وهذا ظاهرٌ في إبطال الصلاة بمرور هذه الأشياء
2-واستدلوا بما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقطع الصلاة: المرأة، والحمار، والكلب، ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل).
قالوا: قد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن مرور هذه الثلاثة من أمام المُصلي الذي لم يتخذ سُترةً تقطع عليه صلاته: أي تُبطلها، وأن الذي يمنع بطلانها اتخاذ سُترةٍ له في صلاته.
3-واستدلوا بما رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قال: (يقطع الصلاة: الكلب، والحمار، والمرأة).
وصحح إسناده ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق"، وقال العيني في "نخب الأفكار": إسناده صحيح، وقال شعيب الأرناؤوط في "تخريج ابن حبان": رجاله رجال الصحيح، إلا أن الحسن عنعنه، وصححه الألباني.
4-وروى البزار في "مسنده"، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن، حدثنا يحيى بن كثير، حدثنا شعبة، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: (يقطع الصلاة: الكلب، والحمار، والمرأة).
وقال الهيثميُّ في "مجمع الزوائد": رجاله رجال الصحيح، وقال العراقيُّ: رجاله ثقات، قاله المباركفوري في "تحفة الأحوذي".
5-وروى أحمد، وأصحاب السنن، من طريق شعبة عن قتادة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قال: (يقطع الصلاة: الكلب والحمار والمرأة الحائض). ولفظ ابن ماجه (الكلب الأسود).
وقال أبو داود في "سننه": وقفه سعيدٌ، وهشام، وهمام عن قتادة، عن جابر بن زيد، على ابن عباس. ولكن هذا الحديث جاء من طرق عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس؛ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرفوعاً. قال النوويُّ في "المجموع": رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح، وصححه الألباني.
6- وروى أحمد في "مسنده"، عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة)؛ فقالت عائشة: يا رسول الله، لقد قرنا بدواب سوء!.
قال الهيثمي في "المجمع": رجاله موثقون، وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": رجاله موثقون، وقال المباركفوري، عن العراقي، قال: رجاله ثقات؛ وفي لفظ (الكافر) غرابة، وضعفه الألباني في "الضعيفة"، وقال: منكرٌ بذكر الكافر، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف، وفي متنه نكارة.
7-واستدلوا بما رواه مسلم وابن حبان، وابن خزيمة؛ عن أبي ذر الغفاري، قال: (تُعادُ الصَّلاةُ مِن ممرِّ الحمارِ المرأة والكلبِ الأسودِ) قُلْتُ: ما بالُ الأسودِ مِن الأصفرِ مِن الأحمرِ؟ فقال: فسأَلْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كما سأَلْتَني فقال: (الكلبُ الأسودُ شيطانٌ).
8- وروى ابن أبي شيبة وغيره -بأسانيد صحيحه، عن: أنس بن مالك، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة في إحدى الروايتين عنهم، وعبد الله بن أبي عياش، وابن حزم في "المحلى" عن أبي هريرة، موقوفاً عليهم: (يقطع الصلاة: المرأة، والحمار، والكلب).
واستدلَّ القائلون بعدم القطع، بما يلي:
1-بما رواه الدارقطني، والبيهقي، من طريق صخر بن عبد الله بن حرملة، أنه سمع عمر بن عبد العزيز، يقول: عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلى بالناس فمرَّ بين أيديهم حمار؛ فقال عياش بن أبي ربيعة: سبحان الله! سبحان الله!؛ فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: من المسبح آنفًا؟ سبحان الله وبحمده؟! قال (يعني عياش): أنا يا رسول الله، إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة. قال: (لا يقطع الصلاة شيء).
وهذا الحديث ضعف إسناده الحافظ ابن حجر في "الفتح، والشوكاني في "نيل الأوطار"، والزرقاني، وقال الحافظ مرة في "الدراية تخريج أحاديث الهداية": إسناده حسن. وقال أحمد شاكر في"تخريج المحلى": إسناده صحيح إلا أن عمر بن عبد العزيز لم يسمع من عياش ولكنه محمول على الرواية الأخرى عن أنس وكأن عمر لما سمعه من عياش صار يرويه مرة عنه ومرة يرسله عن عياش، وقال الذهبيُّ في "المهذب": صخر بن عبد الله بن حرملة المدلجي، اتهم بالوضع! وهذا خبر منكر جداً، وقال فيه النسائيُّ: صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليُّ: ثقة، وقال بشار عواد: ذكره ابن خلفون في الثقات. وخالفهم آخرون؛ فضعفوه؛ فقال ابن القطان: مجهول الحال لا يُعرف، وسكت عنه أبو حاتم في "الجرح والتعديل"، وقال الحافظ في "التقريب": أنه مقبول. وقد نصَّ في "مقدمة التقريب" أن المقبول عنده ليِّنُ الحديث ما لم يُتابع، ولم يُتابعه أحدن فثبت فيه اللين عل قاعدته.
قال جمهور الفقهاء: فهذا الحمار مرَّ من بين يديِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وقد قال: (لا يقطع الصلاة شيء).
وأجاب القائلون بالقطع؛ بأن مرور الحمار يحتمل أن يكون من وراء السترة، أو من أمامها؛ ومع توارد الاحتمال يضعف به الاستدلال.
ورُدَّ عليهم؛ بأنه لو مرَّ ذلك الحمار من أمام السُّترة، لما كان في قول عياش: (إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة) فائدة، وعليه فهذا دليلٌ ظاهر الدلالة؛ ولكنه كما رأينا أن هذا الحديث ضعيف الإسناد.
2- واستدلوا بما رواه أبو داود، والدارقطني، والبغويُّ من طريق مُجالد بن سعيد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (لا يقطع الصلاة شيء؛ وادرءوا ما استطعتم؛ فإنما هو شيطان).
قال الحافظ في "البلوغ": وفي سنده ضعف. وضعفه المنذري في "مختصر السنن"، والنووي في "المجموع"، وأبو الطيب شمس الحق آبادي في "حاشية الدارقطني"، وعلته في أحد رواته، وهو مجالد بن سعيد فإنه ضعيف وقد تغيَّر بأخرة، قال فيه ابن معين: لا يُحجت به، وقال أحمد: يرفع كثيراً مما لا يرفعه الناس، ليس بشيء، وقال النسائيُّ: ليس بالقوي، وقال الدارقطني: ضعيف، وفي سنده أبو الوداك جبر بن نوف؛ ضعفه ابن حزم، وقال الحافظ في "التقريب": صدوق يهم، ثم هو قد اضطرب في الحديث فمرة رفعه ومرة أوقفه؛ فرواه مرَّةً، وكذلك هو مُعارضٌ لما رُوي عن أبي سعيدٍ موقوفاً: (يقطع الصلاة: الكلب، والحمار، والمرأة)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع".
3-واستدلوا بما رواه الدارقطني، والطبراني، من طريق عفير بن معدان، عن سليم بن عامر؛ عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: (لا يقطع الصلاة شيء).
قال الهيثميُّ في "المجمع": إسناده حسن"، بل إسناده ضعيفٌ جداً؛ لأن فيه عُفير بن معدان الحمصي، قال الذهبيُّ في "الميزان": قال أحمد والبخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: يُكثر عن سليم بن أبي أمامة بما لا أصل له، وقال يحيى بن سعيد: ليس بشيء، وقال مرة: ليس بثقة.
4-واستدلوا بما رواه الدارقطني وابن حبان، من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقطع صلاة المرء امرأة، ولا كلب، ولا حمار، وادرأ من بين يديك ما استطعت).
قال ابن حبان في "المجروحين": إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قلب إسناد هذا الخبر ومتنه جميعاً، وإنما هو عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم يُصلي؛ فلا يدعنَّ أحداً يمرُّ بين يديه، فإن أبى فليُقاته؛ فإنما هو شيطان). قال: فجعل مكان أبي سعيد أبا هريرة، وقلب متنه؛ وجاء بشيءٍ ليس فيه اختراعاً من عنده؛ فضمَّه إلى كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وهو قوله (لا يقطع الصلاة امرأة ولا كلب ولا حمار)، والأخبار الصحيحة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بإعادة الصلاة إذا مرَّ بين يديه الحمار والكلب والمرأة. وقال ابن حبان -أيضاً: كان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل.
وقال الذهبيُّ في "ميزان الاعتدال": قال البخاريُّ في إسحاق بن أبي فروة: تركوه، وقال الجوزجاني: سمعتُ أحمد يقول: لا تحلُّ الرواية عندي عن إسحاق بن أبي فروة. وقال أبو زُرعة وغيره: متروك. وقال الذهبيُّ: لم أرَ أحداً مشّاه. وقال ابن معين، وغيره: لا يُكتب حديثه، وأورد له ابن عديٍّ مناكير، منها لإسماعيل بن عياس عن أبي فروة.. عنه عن زيد بن أسلم عن عطاء، عن أبي هريرة مرفوعاً، وذكر هذا الحديث.
وقد جاءت أحاديثُ أُخر: عن ابن عمر، وجابر، وغيرها وكلها مُتكلَّمٌ فيها، وضعفها شديد، وفي أسانيدها متروكين ونحوهم، إلا حديث أنس، فهو ضعيف، ولكن ضعف ليس شديد.
وقد حكم جهابذة الأئمة على هذه الأحاديث التي ذكرناها وغيرها مما لم نذكرها بالضعف؛ منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن قيم الجوزية، والنووي في "شرح مسلم"، وابن الجوزي في "العلل المتناهية"، والحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، والشوكاني في "نيل الأوطار"، وابن حزم في "المُحلى"، وأبو حفص الموصلي في "جنة المرتاب"، والفيروز آبادي في "التنكيت والإفادة"، والأمير الصنعاني في "سبل السلام"، والإمام الألباني في "تمام المنة".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": والذين خالفوا أحاديث القطع للصلاة لم يعارضوها إلا بتضعيف بعضهم وهو تضعيف من لم يعرف الحديث كما ذكر أصحابه أو بأن عارضوها بروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقطع الصلاة شيء)، أو بما روي عن الصحابة وقد كان الصحابة مختلفين في هذه المسألة أو برأي ضعيف.
وقال ابن القيِّم في "زاد المعاد": "وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة حصول القطع؛ ومعارض هذه الأحاديث قسمان صحيح غير صريح وصريح غير صحيح فلا يترك لمعارض هذا شأنه.." (بمعناه).
5-واستدلوا بما رواه أن أبي شيبة، وغيره بأسانيد مقبولة (صحيحة، وحسنة): عن عائشة، وعلي، وعثمان، وابن عمر، وابن عباس في إحدى الروايتين عنه؛ موقوفاً عليهم: (لا يقطع الصلاة شيء إلا الكلب الأسود).
وهذه الآثار أخرجها عبد الرزاق، والطبراني، والطحاوي والبيهقي، وأسانيدها صحيحة أو حسنة، ووردت موقوفةً عن أبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وبعض الروايات عن عائشة، وابن عباس بأسانيد ضعيفة.
مناقشة الأقوال والترجيح بينها:
أولاً: لا يصحُّ أن يُقال بأن أحاديث القطع منسوخة بهذه الأحاديث الضعيفة التي جاءت بعدم القطع؛ لأنه إذا ثبت ضعف هذه الأحاديث لم يجز الاحتجاج بها في الأحكام الشرعية، فضلاً عن القول بالنسخ.
ثانياً: وأما من قال: إن حديث القطع (منسوخ) بحديث ابن عباس في حجة الوداع: (أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى بمنى إلى غير جدار)؛ فهذا أيضاً ضعيف غير مقبول، إذ لا دليل عليه، ومن الممكن أن تكون أحاديث القطع بعده؛ وممن قال بالنسخ: الإمام الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، واختاره أحمد شاكر في "حاشيته على سنن الترمذي"، وهو قولٌ ضعيف كما ذكرنا.
ثالثاً:أن القطع في الحديث هنا هو قطعٌ للخشوع؛ ودليل ذلك ما جاء في الصحيحبن، عن ابن عباس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى بمنى إلى غير جدار، ولم يُعد الصلاة، ولم يأمر أحداً من أصحابه بالإعادة.
فأجاب القائلون بالقطع: إذا سلَّمنا لكم بحديث ابن عباس، فإن القاعدة الأصولية: إذا تعارض قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفعله؛ فإننا نُقدم القول على الفعل.
ورُدَّ عليهم الجمهور: بأن الأخذ بالأحاديث والجمع بينها، أولى من طرح بعضها والأخذ بالبعض الآخر.
فأجاب القائلين بالقطع، قالوا: نحن لم نطرح الأدلة كلها، بل بإمكاننا الجمع بينها أيضاً، وهو أن يُقال: إن الصلاة لا يقطعها شيء إلا ما خصَّه الدليل بالقطع، وهو مرور المرأة، والحمار، والكلب الأسود، والخاص يُقدم على العام.
ويُجيب الجمهور: بأن الحمار الأتان مرَّت من بين يدي رسول الله ولم تقطع عليه صلاته، ولم تكن بين يديه سترة؛ فخروج بعض أفراد الخاص من اللفظ العام دليلٌ على أن ظاهر اللفظ غير مُراد، وأن المراد بالقطع أمرٌ آخر غير البطلان، وهو نقصان أجرها وثوابها.
وقال الجمهور: وأنتم يا معشر الحنابلة والظاهرية تقولون: إن الكلب الذي يقطع الصلاة هو الكلب الأسود كما جاء تقييده في حديث أبي ذر، وقد جاء تعليل ذلك في الحديث بكونه شيطان: (الكلب الأسود شيطان)، وأنتم تقولون: إن غير هذه الأشياء الثلاثة لا تقطع الصلاة، وقد جاء في حديث ابن عمر: إذا أراد أحدهم أن يمُرَّ (فليُقاتله فإن معه القرين)؛ أي من الجن، وفي رواية (فليُقاتله فإنه شيطان) فسماه شيطاناً؛ فلم تبطلوا صلاة هذا مع مرور الشيطان معه، وأبطلتم صلاته مع مرور الكلب لقوله (الكلب الأسود شيطان)، والغرض المقصود: أنه يُقال في الكلب ما يُقال هناك من عدم القطع بمرور الرجل، ومثله يُقال في مرور المرأة والحمار.
وكذلك فأنتم -يا معشر الحنابلة -تُقيدون الحمار بكونه أهلياً لا وحشياً، وهذا يُضعف قولكم؛ لأنه لم يأتِ بذلك تفريقٌ في الحديث؛ حيثُ أطلق في الحمار، وخصَّص في الكلب.
وقال الجمهور: وأنتم يا معشر الحنابلة تقولون باستحباب السُّترة على المشهور من مذهبكم، وقد جاء في تعليل اتخاذ السُّترة (لا يقطع الشيطان عليه صلاته)، والشيطان يُطلق على الجنِّ حقيقةً، وعلى الإنس مجازاً، وأنتم لا تقولون بقطع شيطان الجنِّ للصلاة في إحدى الروايتين عندكم؛ فما الفرق بين مرور الشيطان وحده، وبين مرور الكلب الأسود وحده، وبين مرور الإنسان الذي معه القرين، وفي روايةٍ: (فليقاتِلْهُ -يعني هذا الذي يمرُّ -فإنَّهُ شيطانٌ).
وقال الجمهور -أيضاً: وأنتم يا معشر الحنابلة: تُفرقون في مرور المرأة في مكة فتجيزونه لأجل الازدحام، وقضاء النُّسك، وعدم التضييق على الناس، مع أن الظاهر أنه لا يوجد فرق حقيقي في نفس الأمر، بينما يمنع الظاهرية ذلك التفريق، ولا يُخصصونه بشيء، وهذا دليلٌ آخر على ضعف هذا المذهب.
كذلك: صحَّ عدم القطع عن خمسةٍ من الصحابة الأجلاء، ولبعضهم روايتان في القطع وعدمه كابن عمر، وعائشة، وابن عباس، فلم يبق على هذا القول إلا عليٌّ وعثمان رضي الله عنهما.
والخلاصة: أن القطع محمولٌ في الحديث على نقصانٌ الأجر والثواب: هو الأقرب للصواب، والله أعلم.
مصادر البحث:
المجموع شرح المهذب.
شرح النووي على مسلم.
أحكام السترة في مكة وغيرها؛لمحمد بن رزق طرهوني.
التمهيد لابن عبد البر.
الدرر السنية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق