بحث حول تفسير الفخر الرازي
تأليف المُعلمي اليماني
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ أُثير حول إتمام الرازي (ت 606 هـ) لتفسيره كلامٌ كثيرٌ، حيثُ يرى ابن أبي أُصيبعة (ت 668 هـ)، وابن خلكان (ت 681 هـ)، والتاج السبكي (ت 771 هـ)، والإسنوي (ت 772 هـ)، والحافظ ابن حجر (ت 852 هـ)، وابن قاضي شهبة (851 هـ)، وحاجي خليفة (ت 1069 هـ)، ومرتضى الزبيدي (ت 1205 هـ)، وغيرهم أن الرازي لم يُكمل تفسيره. وكثيرٌ منهم يرى أنه وقف فيه عند سورة (الأنبياء)، ثم أكمله بعده: الخويى (ت 637 هـ)، والقمُولي (ت 727 هـ).
وزعم بعضهم أن للسيوطي (ت 911 هـ) تكملة على تفسير الفخر، كتب منها من سورة "سبح" إلى آخر القرآن في مجلد، وإنما ذكر صاحب كشف الظنون أن للسيوطي تفسيراً أسمه "مفاتيح الغيب" كتب منه ذاك المقدار، وليس هو موضع البحث أو النظر.
وقد وضع العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المُعلمي اليماني رحمه الله بحثاً قيماً حول هذه المسألة، وهي ضمن مجموعة "آثار المعلمي اليماني"، وقد استقصى ما فيها فحصاً، وتمحيصاً، ومُعارضةً، ونقداً، وجعل لذلك مسائل:
المسألة الأولى: هل أكمل الفخر الرازي تفسيره؟.
المسألة الثانية: إن لم يكمله فمن أكمله؟
المسألة الثالثة: وهذا التفسير المتداول والمشتمل على الأصل والتكملة، كيف يعرف أحدهما من الآخر؟
وقد خلُص فيه العلامة اليماني رحمه الله إلى أن التفسير الكبير: ينقسم إلى سبعة أقسام:
الأول، والثالث، والخامس، والسابع من تصنيف الفخر الرازي.
والثاني، والرابع، والسادس من تصنيف غير الرازي.
وبيان هذه الأقسام، كما يلي:
القسم الأول: (وهو من أول التفسير إلى أخر سورة القصص)، والثالث (أول تفسير الصفات إلى آخر تفسير الأحقاف)، والخامس (الحديد والمجادلة والحشر) والسابع (من أول تفسير سورة الملك إلى آخر الكتاب).
والثاني (وهو من أول تفسير العنكبوت إلى آخر تفسير يس )، والرابع (أول سورة القتال إلى آخر تفسير الواقعة )، والسادس (من أول الممتحنة إلى آخر التحريم).
وقد دلَّل على ذلك بقرائن قويَّةٍ، منها:
1-كلام الأئمة الكبار، الذين نصُّوا على ذلك، ممن ترجم للرازي.
2-التواريخ التي ختم بها الرازي السور التي قام بتفسيرها، دون غيرها من السور التي لم يُفسرها.
3-الإحالات الصريحة من الرازي على كتبه وعلى العلماء الذين لقيهم وأخذ عنهم في العديد من المواضع المنتمية إلى الأقسام التي قام الرازي بتفسيرها.
4-اختلاف الإحالات في النقل والرواية إلى العلماء المتأخرين عن الرازي في الأقسام التي لم تكن من تصنيف الرازي، مع كون الرازي ليس راوياً بالأساس.
5-كون بعض هذه الإحالات لم توجد في هذا التفسير الموجود للرازي؛ ما يؤكد أن هذه الإحالات ليست على هذا التفسير الذي بأيدينا، وأن الذي فسر هذه الأقسام هو غير الرازي.
6-الاختلاف في طريقة ونمط التفسير بين ما كان من تفسير الرازي، وما كان من تفسير غيره، على ما أوضحه العلامة اليماني.
ولا بأس في أن نُلقي نظرةً سريعةً على ما كتبه الدكتور محمد السيد حسين الذهبي (ت 1398 هـ) في كتابه الشهير بـ"التفسير والمفسرون" (1/ 207 - 209)؛ والذي يقول في وصف تفسير الرازي:
"يقع هذا التفسير فى ثمانى مجلدات كبار، وهو مطبوع ومتداول بين أهل العلم، ويقول ابن قاضى شُهبة: إنه - أى الفخر الرازى - لم يتمه، كما يقول ذلك ابن خلكان فى وفيات الأعيان، إذن فمَن الذى أكمل هذا التفسير؟
وإلى أى موضع من القرآن وصل الفخر الرازى فى تفسيره؟
الحق أن هذه مشكلة لم نُوَفَّق إلى حلها حلاً حاسماً، لتضارب أقوال العلماء فى هذا الموضوع، فابن حجر العسقلانى، فى كتابه الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة، يقول: "الذى أكمل تفسير فخر الدين الرازى، هو أحمد بن محمد بن أبى الحزم مكى نجم الدين المخزومى القُمُولى، مات سنة (727 هـ) (سبع وعشرين وسبعمائة من الهجرة) هو مصرى".
وصاحب "كشف الظنون" يقول: "وصنَّف الشيخ نجم الدين أحمد ابن محمد القمولى تكملة له، وتوفى سنة (727 هـ) (سبع وعشرين وسبعمائة من الهجرة)، وقاضى القضاة شهاب الدين بن خليل الخويى الدمشقى، كمَّل ما نقص منه أيضاً، وتوفى سنة (639 هـ) (تسع وثلاثين وستمائة) .
فأنت ترى أن ابن حجر يذكر أن الذى أتم تفسير الفخر هو نجم الدين القُمُولي، وصاحب كشف الظنون يجعل لشهاب الدين الخويى مشاركة على وجه ما فى هذه التكملة، وإن كانا يتفقان على أن الرازى لم يتم تفسيره.
وأما إلى أى موضع وصل الفخر فى تفسيره؟
فهذه كالأولى أيضاً، وذلك لأننا وجدنا على هامش كشف الظنون ما نصه: "الذى رأيته بخط السيد مرتضى نقلاً عن شرح الشفا للشهاب، أنه وصل فيه إلى سورة الأنبياء".
يقول الدكتور الذهبي: "وقد وجدت فى أثناء قراءتى في هذا التفسير عند قوله تعالى فى الآية [24] من سورة الواقعة: {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هذه العبارة: "المسألة الأولى أصولية، ذكرها الإمام فخر الدين رحمه الله فى مواضع كثيرة، ونحن نذكر بعضها.. إلخ".
وهذه العبارة تدل على أن الإمام فخر الدين، لم يصل فى تفسيره إلى هذه السورة.
كما وجدتُ عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} .. الآية، أنه تعرَّض لموضوع النيَّة فى الوضوء. واستشهد على اشتراط النيَّة فيه بقوله تعالى فى الآية [5] من سورة البينة: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} .. وبيَّن أن الإخلاص عبارة عن النيَّة، ثم قال: "وقد حققنا الكلام فى هذا الدليل فى تفسير قوله تعالى: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} فليُرجع إليه فى طلب زيادة الإتقان".
وهذه العبارة تُشعر بأن الفخر الرازى فسَّر سورة البيِّنة، أى أنه وصل إليها فى تفسيره، وهذا طبعاً بحسب ظاهر العبارة المجرد عن كل شئ.
والذى أستطيع أن أقوله كـ "حل" لهذا الاضطراب: هو أن الإمام فخر الدين، كتب تفسيره هذا إلى سورة الأنبياء، فأتى بعده شهاب الدين الخويى، فشرع فى تكملة هذا التفسير ولكنه لم يتمه، فأتى بعده نجم الدين القمولى فأكمل ما بقى منه. كما يجوز أن يكون الخويى أكمله إلى النهاية، والقمولى كتب تكملة أخرى غير التي كتبها الخويى، وهذا هو الظاهر من عبارة صاحب كشف الظنون.
وأما إحالة الفخر على ما كتبه فى سورة البيِّنة، فهذا ليس بصريح فى أنه وصل إليها فى تفسيره، إذ لعله كتب تفسيراً مستقلاً لسورة البيِّنة، أو لهذه الآية وحدها، فهو يشير إلى ما كتب فيها ويحيل عليه.
أقول هذا، وأعتقد أنه ليس حلاً حاسماً لهذا الاضطراب، وإنما هو توفيق يقول على الظن يُخطئ ويُصيب".
وفي المقابل يذهب الدكتور محمد صالح الزركان رحمه الله إلى أن التفسير كله للرازي في كتابه "فخر الدين الرازي وآراؤه" (ص 65 -66).
ولا شكَّ أن كلام الدكتور الزركان فيه نظرٌ ظاهر، وأياً كانت حقيقة الأمر في ذلك؛ فينبغي للمتأمل في كتاب التفسير التفرقة بين ما كان من كلام الرازي، وما كان كلاماً لغيره، والتمييز بين الأساليب، وهذا مُفيدٌ في البحث العقدي، والنظر العقلي لدى الرازي.
وأختم بأن عدة ما فسَّره الرازي 90 سورةً تقريباً، وأكمل الخويي تفسير حوالى 24 سورة، ولا يعني هذا أنه لم يُدخل على الرازي فيما اختصَّ به بعض العبارات والجُمل، والتي تتضح عند النظر في السياق والأسلوب واللغة، وبالجملة فقد وصلت إلى هذا الكتاب أيدي التلاميذ، ومن الطبيعي أن يحصل التحريف والتعديل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق