أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 28 يوليو 2020

وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة

وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة
والرد على شُبه المخالفين
الإمام محمد ناصر الدين الألباني
(1/ 3/ 1974 م)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ لم يكن ثمَّة شيءٌ يُعرضنا للمعاطب والمتالف أكثر من إهمالنا لصحيح السُّنن والآثار، وإعراضنا الكبير عنهما، ولو أننا سلَّمنا للكتاب والسنة، وأعطيناهما المَقادة، وطلبنا السلامة، وعرفنا حقيقة قول أسلافنا: "إن الإسلام قنطرةٌ لا تُعبر إلا بالتسليم"، لنجونا ونجا غيرنا…

ولكن لما ركب المُخالفون هودج معقولاتهم وآرائهم، وركَّبوا من نصوص الوحيين مذاهبهم الباطلة، وطلبوا لذلك التأويلات المستكرهة، وسلكوا في ذلك كل صعبٍ وذلول، وأطلقوا لأعنَّةِ عقولهم كل الإطلاق، فهجمت على الكتاب والسنة كل مَهجم، تُأوِّلُ صريحها، وتُشابِه محكمها، فإذا لم يجدوا وجهاً للتأويل: طلبوا ردَّ السُّنة بكل حيلة يحتالونها، ومكيدةٍ يكيدونها، لتستقيم وجهة رأيهم، ووجهة معقولهم، غير آبهين بقداسة النَّص الذي نُقل إلينا بواسطة الأثبات العدول، بل قسَّموا لذلك الأقسام، ونوَّعوا الأنواع، وعرضوا الأحاديث عليها، فما لم يُوافق هواهم فهو ردٌّ، فانظر رحمك الله كيف أساءوا الظنَّ بنقلتها، ورموهم بما نزِّههم الله تعالى عنه.. 

ولا شكَّ أن الأمر في الفروع (الفقه) سهلٌ، والشرع فيه أسمح، وإنما الشأن في العقائد، في أصول التوحيد، وصفات الباري جل وعلا، وأمر القضاء والقدر، حيث صمَّ هؤلاء آذانهم، وأغلقوا أعينهم…

وإننا لنعجب من أقوامٍ علموا أحكام أهل النقد والصنعة في جملةٍ شريفةٍ من أحاديث الآحاد التي صححوها وحكموا بثبوتها، ورووها عن الثقات الأثبات؛ فيرودنها بمعارضٍ عقليٍّ لا يُستساغ، ولم يعلموا: أن ثبوتها وعدم المخالف المعتبر: يجعلها موجبةً للعلم في أصول الدين والعقائد، مثلها مثل الخبر المتواتر أو نص الكتاب، أو ما أجمع عليه السلف..

وأعجب من ذلك ما يزعمه بعض من لا عناية له بالحديث والسُّنة أن "حديث نزول الرب تعالى" من الآحاد، وأنه لا يُفيد العلم ولا يجب اعتقاده، مع كون الحديث متواتراً كما نقله البيهقيُّ عن بضعة عشر صحابياً، وذكر ابن عبد البر وغيره تواتره.. 
ويحكم بعضهم على حديث "الرؤية" بأنه أحاديث آحاد، وهو حديثٌ متواترٌ كذلك، كما صرَّح به أبو الحسن الأشعريّ في "مقالاته"..
ويحكم على حديث "نزول المسيح وظهور الدجال" بأنها أحاديث آحاد، ويُكلف الشباب بعدم الإيمان بها، مع أن حديث نزول عيسى ثابتٌ بالتواتر..

على أننا نفهم تورُّط بعض المصنفين من العلماء الأفذاذ من المتقدمين في بعض هذه القضايا التي لم يسعهم فيها إلا التقليد البعيد عن الإنصاف والنظر- وأعني بذلك بعض ممن نشأ وسط البيئة الأشعريَّة، والتي لم يسمح الوقت بمخالفتها، ولو حقَّقوا النظر لنفروا من ذلك أشدَّ النَّفار..

والغرض المقصود من هذا الكتاب كما يقول الإمام الألباني رحمه الله تعالى: "هو بيان فكرةٍ خاطئةٍ ورأيٍ خطير ظهر عند بعض علماء الكلام المسلمين منذ قرون، وهو قولهم: إن حديث الآحاد ليس بحُجَّةٍ في العقائد الإسلامية، وإن كان حُجَّةً في الأحكام الشرعية".

قال: "وقد أخذ بهذا الرأي عددٌ من علماء الأصول المتأخرين، وتبنَّاه -حديثاً -طائفةٌ من الكُتَّاب والدُّعاة المُسلمين؛ حتى صار عند بعضهم أمراً بدهيَّاً، لا يحتمل البحث والنقاش، وغلا بعضهم؛ فقال: لا يجوز أن تُبنى عليه عقيدةٌ أصلاً، ومن فعل ذلك فهو فاسقٌ آثم!!".

قال الألبانيّ: "وقد كتب في الرد على هذا الرأي الشَّاذ كثيرٌ من علماء الإسلام في القديم والحديث، ومن أهم الردود ما كتبه العلامة ابن القيم في كتاب (الصواعق المرسلة)، والإمام الكبير ابن حزم الظاهري في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام)...".

إلى أن قال رحمه الله: "وجمعتُ فيه ما تيسَّر لي جمعه من البراهين القاطعة، والأدلة الناصعة على فساد الرأي المذكور، وهتك السَّتر عما فيه من المغالطات والتلبيسات، مما كان له أثرٌ طيِّبٌ جداً في تحصين كثيرٍ من الإخوة في هذا الباب، وإفحام الداعين إليه، والمستمسكين به".

وكان قدَّم رحمه الله بفصٍل ذكر فيه: "وجوب الأخذ بأحكام الآحاد في العقائد"، قال: "وإن هذا القول، وإن كنا نعلم أنه قد قال به بعض المتقدمين من علماء الكلام، إلا أنه منقوض من وجوه عديدة"، ذكر الردَّ عليها من عشرين وجهاً، نذكرها باختصار:

الوجه الأول: أن هذا القول بدعةٌ مُحدثة، لم يقل به أحدٌ من الصحابة الكرام، وهو غريبٌ عن هدي الكتاب والسنة، وإنما هو قولٌ اخترعه علماء الكلام، وتبناه من جاء بعدهم دون مناقشة ولا برهان.

الوجه الثاني: افتقار هذه الدعوى إلى الدليل القطعي في الثبوت والدلالة، والذي يُثبت صحة هذه الدعوى الباطلة من عدم الأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد؛ فهذا تفريطٌ وتحكُّمٌ بالهوى، وتفريقٌ من غير موجب للتفريق.

الوجه الثالث: مخالفة هذه الدعوى لجميع أدلة الكتاب والسنة التي توجب الأخذ بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عقائد وأحكام، وهم مجمعون على وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في الأحكام، ولكن هذا التخصيص في الأخذ بالأحكام دون العقائد تخصيصٌ بغير مُخصص، وذلك باطلٌ، وما لزم منه باطلٌ؛ فهو باطل.

الوجه الرابع: مخالفة هذه الدعوى لعمل الصحابة رضوان الله عليهم، فإذا حدَّث أحدهم بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقولوا له: خبرك هذا واحدٌ لا يُفيد العلم حتى يتواتر !، بل كانوا يقبلون أخبار الصفات عن الله عز وجل، ولا يرتابون في ثبوتها، ويثبتون من بعض أحاديث الأحكام، ومن له أدنى التفاتة إلى السنة يعلم ذلك.

الوجه الخامس: أحاديث الآحاد من التبليغ الذي تقوم به حجة الله على عباده، والحجة تقوم بما يحصل به العلم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرسل الواحد من أصحابه يُبلغ عنه، فتقوم الحجة على من بلغه، وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا عن العدول الثقات من أقواله وأفعاله وسننه، ولو لم تُفد العلم لم تقم علينا بذلك حجة، ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة، أو دون عدد التواتر، وهذا من أبطل الباطل.

الوجه السادس: إرسال النبيِّ صلى الله عليه وسلم رسلاً آحاداً يُبلغون عقيدة الإسلام وشرائعه، وذلك كما أرسل علياً ومعاذاً وأبا موسى إلى اليمن في نوبات مختلفة، هذا مع كون العقيدة والتوحيد أهم شيء في الدين، وهو أول ما يدعون إليه الناس، وهو ظاهرٌ جداً في حديث "معاذ".

الوجه السابع: استلزام تلك الدعوى تفاوت المسلمين فيما يجب عليهم اعتقاده؛ فإذا سمع الصحابيُّ من النبيَّ صلى الله عليه وسلم خبر نزول الرب آمن به وحصل له العلم يقيناً، ثُم إذا أخبر ذلك الصحابي غيره من الصحابة والتابعين لم يلزم المُبلَّغ الذي وصله الخبر العلم به أو اعتقاده؛ لأنه جاء من طريق الآحاد، الذي يحتمل عليه الخطأ والنسيان، وهذا لا يقول به عاقلٌ قطعاً، وهو الأمر الذي لم يحصل ألبتة لا من الصحابة ولا من جاء بعدهم !.. وأصل هذا الضلال أنهم قاسوا بعقولهم الرواية على الشهادة بقضية مُعينة، ويا بُعد ما بينهما ..!

الوجه الثامن: استلزام تلك الدعوى إبطالٌ للأخذ بالحديث مطلقاً في العقيدة بعد الصحابة؛ وذلك أن جماهير المسلمين، إنما وصلهم الحديث بطريق الآحاد قبل تدوين الحديث، والذين وصلهم شيءٌ منه من طريق التواتر إنما هم أفرادٌ قليلون في كل عصر؛ توجهوا لتتبع طرق الحديث وإحصائها، فاجتمع عند كل واحدٍ منهم عددٌ لا بأس به من الحديث المتواتر، ويلزم من ذلك: أن يُقال إن العقيدة تثبت بخبر الآحاد؛ لتعذر وصوله متواتراً إلى جماهير الناس في الصدر الأول، وهذا هو الصواب قطعاً؛ للوجوه المتقدمة والآتية.

الوجه التاسع: قبول حكم المحدث على حديث بالتواتر هو احتجاجٌ بخبر الآحاد؛ على أن الاحتمال المذكور غير وارد في الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول عن النبيَِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنها محفوظة بحفظ الله لها.

الوجه العاشر: التفريق بين أحاديث العقائد وأحاديث الأحكام أمرٌ نظري غير عملي؛ لأن تصديق الراوي في نقل أحاديث الأحكام، يوجب على سامعه أن يُصدقه في أخبار الصفات والعقائد؛ إذ لا فرق؛ وإذا صحَّ ذاك صحَّ هذا، وإذا بطل ذاك بطل هذا.

الوجه الحادي عشر: كل حكم شرعي عملي لا بُد أن تقترن به عقيدة ولا بُد؛ والتفريق بين العقيدة والأحكام العملية قام أساساً على أن العقيدة لا يقترن معها عمل، والأحكام العملية لا يقترن معها عقيدة، وكلا الأمرين باطل؛ لأن المطلوب في العقيدة: العلم والعمل (أعني عمل القلب من التصديق، وحُبِّ الحق، وبُغض الباطل الذي يُناقضها) كما يُطلب من الأحكام العملية: العلم والعمال كاعتقاد وجوب الحج، واعتقاد فرضية الجُمعة، فالمسائل العلمية عملية، والمسائل العملية علمية؛ والشارع كلفنا بالعمل والعمل معاً… وإذا كنا متفقين على جواز التحليل والتحريم بأحاديث الآحاد، وأننا به ننجو من التقول على الله، فكذلك يجوز إيجاب العقيدة بحديث الآحاد ولا فرق، ومن ادَّعى الفرق فعليه البرهان من كتاب الله وسنة رسوله، ودون ذلك خرط القتاد.

الوجه الثاني عشر: قبول حديث الآحاد في الأحكام الشرعية أخطر أثراً من قبوله في العقائد؛ فقبوله في العقائد من باب أولى، لأنه لو قيل لمن يُفرق في أحاديث الآحاد بين العقيدة والأحكام العملية: إن العكس هو الصواب، وإن أحاديث الأحكام لا بُد أن تثبت بدليلٍ قطعيٍّ متواتر، لما استطاع الرد على ذلك، لأن التفريق باطلٌ من أصله، وإذا كانت العقيدة ترتبط بذات المؤمن، فإن العمل يرتبط بالمجتمع من حوله؛ فهو إذن أشدُّ خطراً من هذه الناحية، فلا يملك إلا أن يُثبت حُجية الآحاد من هذا الوجه أعني الأحكام العملية؛ ومثال ذلك: لو أن رجلاً أنكر عذاب القبر، وهو من العقائد لأنه من أحاديث الآحاد، فإنه إن مات وحصل له العذاب في قبره فسيتضرر هو وحده، دون من ينكر حُرمة الخمر؛ لأن ضرره سيتعدى غيره من أبناء مجتمعه… وحاصل الأمر: أن الكل شرعٌ، فلا نُفرِّق بين ما سوّى الله تبارك وتعالى فيه، ولا نسوِّي بين ما فرق، بل نؤمن بكل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواتراً كان أو آحاداً.

الوجه الثالث عشر: بعض أحاديث الآحاد تجمع بين العقيدة والحكم الشرعي؛ ومثاله الاستعاذات الأربع بعد التشهُّد الأخير وقبل السلام؛ فقد ثبتت بأحاديث آحاد، وهي حكمٌ عمليٌّ مُستحبٌّ ومع ذلك فإنها تضمنت عقائد مهمة مثل: إثبات عذاب القبر، وفتنة المسيح الدجال، وعذاب جهنم، وهناك أحاديث آحاد أخرى تضمنت عقائد متنوعة: إثبات صفة الوجه لله تبارك وتعالى، ورؤية المؤمنين لربهم في الآخرة؛ والعمل يستلزم الاعتقاد ضرورةً؛ لأنه لا يُتصورُ عملٌ بلا اعتقاد.

الوجه الرابع عشر: بطلان دعوى اتفاق الأصوليين على عدم الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة، لا سيما وأنه قد نصَّ على أن خبر الواحد يُفيد العلم: الإمام مالك، والشافعي، وأصحاب أبي حنيفة، وداود بن علي، وأصحابه: كابن حزم، ونص عليه الحُسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي من الشَّافعية.

الوجه الخامس عشر: تلقي الأمة لحديث الآحاد بالقبول يُفيد العلم؛ فهذا الاختلاف بين المتأخرين سبقه إجماعٌ بين الصحابة والتابعين وتابع التابعين على حجية خبر الآحاد في العلم والعمل، ومنها: إثبات صفات الرب سبحانه، والأمور الغيبية؛ وهم الذين نقلوا لنا: الوضوء، والغسل من الجنابة، وأعداد الصلوات، وأوقاتها، ونقلوا الأذان، والتشهد، ولجمعة، والعيدين، فإن جاز عليهم الخطأ والكذب في نقلها، جاز عليهم ذلك في نقل غيرها، وحينئذٍ لا وثوق لنا بشيءٍ مما نقلوا، وهذا انسلاخٌ من الدين والعلم والعقل؛ وعليه فخبر الآحاد يُفيد العلم، وتثبت العقيدة به، ولا اعتداد بمن خالف ذلك من المتكلمين؛ لأن كلامهم مُخالفٌ للكتاب والسنة والإجماع.

الوجه السادس عشر: انعقاد إجماع السلف على قبول أحاديث الآحاد في العقائد؛ ولا فرق في الآحاد بين أحاديث الخبر وأحاديث الطلب، بحيث يُحتج به في أحدهما دون الآخر ؟! ولا شك أن هذا التفريق باطلٌ بالإجماع، ولا يُحفظ ما ذكره المتكمون إجماعاً بزعمهم عن أحدٍ من علماء المسلمين، وهذه عادة المتكلمين في حكايات الإجماع على ما لم يقل به أحدٌ أئمة المسلمين، بل إن أئمة المسلمين على خلافه؛ وقال أحمد: "من ادَّعى الإجماع فقد كذب".. وهم يحتالون بنقل هذه الإجماعات على إبطال سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أما الإجماع الصحيح فهو لنا؛ لأنه لم يزل الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأهل الحديث والسُّنة يحتجُّون بهذه الأخبار في مسائل الصفات، والقدر، والأسماء، والأحكام، ولم يُنقل عن أحدٍ منهم ألبتة أنه جوَّز الاجتجاج بها في مسائل الأحكام دوون الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته؛ فأين سلف المُفرِّقين بين البابين ؟!!

الوجه السابع عشر: بطلان التفريق بين العقائد والأحكام من حيث الاحتجاج بحديث الآحاد؛ وأما كون الدلالة قطعية أو ظنيةً؛ فهذا يرجع إلى اختلاف المَدرك، وليس صفةً لحديث الآحاد في نفسه؛ بحيث نُثبت الخبر وننفي آخر لمجرد كونه آحاداً.

الوجه الثامن عشر: كون الدليل ظنياً أو قطعياً ليس صفةً في نفسه، بل هو أمرٌ نسبي، فقد يكون الحديث قطعياً عند زيد، وظنياً عند عمرو؛ فقولهم: إن أحاديث الآحاد ظنيةً لا تُفيد العلم، هو إخبارٌ بما عندهم، ولا ينفي ذلك حصول العلم لغيرهم، وإن أنكروا حصوله لأهل الحديث كانوا مُكابرين لأنفسهم، فأهل السُّنة يُعملون العقل في فهم الدلالة، لا في نفي  ثبوت الخبر أو نفي مضمونه، وعليه فخبر الآحاد يُفيد العلم ضرورةً.

الوجه التاسع عشر: استلزام تلك الدعوى الباطلة الاقتصار في العقيدة على ما جاء في القرآن فقط، وهو مذهب ما يُسمون "بالقرآنيين"، فمن يقول بالتفريق يلزمه أن يرُدَّ أكثر سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكتفي بالقرآن وحده! ويكون له مثل السَّوء في جحد سنن علمها وعمل بها السلف الصالح، ويذكر الإمام الألباني في الدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن صريحاً بعض مقالات عن شيخ الأزهر "محمود شلتوت" في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" والذي أنكر فيه الكثير من عقائد أهل السنة، بدعوى أنها أحاديث آحاد.

الوجه العشرون: استلام تلك الدعوى وجوب ردِّ كثيرٍ من العقائد الإسلامية الصحيحة المتوارثة خلفاً عن سلف، والتشكيك فيها.

وذكر الإمام الألباني ثلاثين مثالاً لآحاديث الآحاد يلزم من أنكر حجيتها في العقائد إنكارها، منها:
1-الإيمان بنبوة آدم عليه السلام، وغيره من الأنبياء الذين لم يُذكروا في القرآن !.
2- فضلية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل.
3- شفاعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم العظمى في المحشر.
4-شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته.
5-معجزاته صلى الله عليه وسلم كلها ما عدا القرآن، ومنها معجزة: انشقاق القمر، فإنها مع ذكرها في القرآن تأولوها بما ينافي الأحاديث الصحيحة المصرحة بانشقاق القمر.
6-في صفاته صلى الله عليه وسلم البدنية، وبعض شمائله الخلقية.
7-الأحاديث التي تتحدث عن بدء الخلقة، وصفة الملائكة والجن، والجنة، والنار، وأنهما مخلوقتان، وأن الحجر الأسود من الجنة.
8-خصوصياته صلى الله عليه وسلم والتي جمعها السيوطي في كتاب (الخصائص الكبرى)، مثل دخول الجنة ورؤية أهلها، وما أعد للمتقين فيها، وإسلام قرينه من الجن، وغير ذلك.
9- إنكار القطع بأن العشرة المبشرين بالجنة من أهل الجنة !.
10-الإيمان بسؤال منكر ونكير في القبر.
11-الإيمان بعذاب القبر.
12-الإيمان بضغطة القبر .
13-الإيمان بأن الميزان ذي الكفتين يوم القيامة.
14-الإيمان بالصراط.
15-الإيمان بحوضه صلى الله عليه وسلم، وأن من شرب منه شربةً لا يظمأ بعدها أبداً.
16-دخول سبعين ألفاً من أمته صلى الله عليه وسلم الجنة بغير حساب.
17-سؤال الأنبياء في المحشر عن التبليغ.
18-الإيمان بكل ما صحَّ في الحديث في صفة القيامة، والحشر، والنشر.
19-الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، وأن الله تعالى كتب على كل إنسام سعادته أو شقاوته وأجله.
20-الإيمان بالقلم الذي كتب كل شيء.
21-الإيمان بأن القرآن كتاب الله حقيقةً لا مجازاً.
22-الإيمان بالعرش والكرسيّ حقيقةً لا مجازاً.
23-الإيمان بأن أهل الكبائر لا يُخلدون في النار.
24-وأن أرواح الشهداء في حواصل طيرٍ خُضرٍ في الجنة.
25-وأن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
26-وأن لله ملائكةً سياحين يُبلغون النبيَّ صلى الله عليه وسلم سلام أُمَّته عليه.
27-الإيمان بمجموع أشراط الساعة: كخروج المهدي، ونزول عيسى عليه السلام وخروج الدجال، ودابة الأرض من موضعها، وغيرها مما صحت به الأحاديث.
28-وأن المسلمين يفترقون على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي التي تتمسَّك بما كان عليه الصحابة من عقيدة وعبادة وهدى.
29-الإيمان بجميع أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا مما جاء في السنة الصحيحة، كالعلي، والقدير، وصفة الفوقية، والنزول، وغيرها.
30-الإيمان بعروجه صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى، ورؤيته لآيات ربه الكبرى.


-ما موقف السَّادة الشَّافعيَّة من خبر الآحاد ؟


مفاهيم يجب أن تُصحَّح

-ما موقف السَّادة الشَّافعيَّة من خبر الآحاد ؟

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة

ذهب الإمام الشَّافعيّ رحمه الله إلى أن خبر الآحاد إذا ثبت؛ فإنه يفيد العلم اليقيني مطلقاً، وهو مذهب المُحققين من هذه الأُمَّة، بخلاف بعض المتأخرين من الشافعية والذي اختلط لديهم الفقه بعلم الكلام، ووضعوا لقبول خبر الآحاد عوائق عقلية، وعقبات لا تستقيم في العقل ولا في الشرع، سيما بعد أن وضع أئمة هذا الشأن -وإمامهم الكبير الشَّافعيُّ رحمه الله تعالى -أصول علم الحديث، وتكلمو في الرواة، وبينوا ما يُقبل من الحديث وما يُرد، ولم يُحابوا في ذلك أحداً من الناس.
وقد صرَّح الإمام الشَّافعيُّ بمذهبه في حجية خبر الآحاد، وإفادته العلم في كتبه "الرسالة"، و"اختلاف مالك"، و"جماع العلم"، وقرَّر فيها حُجيَّة خبر الخاصَّة أو خبر الواحد.

وبه قال أصحاب الإمام رحمه الله تعالى؛ كالإمام إسماعيل بن يحيى المُزني (ت 264 هـ)، والإمام الحارث بن أسد المُحاسبي (ت 243 هـ)، والحارث بن سُريج البغدادي (ت 236 هـ)، وحرملة بن يحيى التجيبي (ت 244 هـ)، والحسن بن محمد الزعفراني (ت 260 هـ)، والحسين بن علي الكرابيسي (ت 245 هـ)، والربيع بن سليمان الجيزي (ت 250 هـ)، والربيع بن سليمان المُرادي (ت 207 هـ)، وأبو بكر الحُميدي (ت 219 هـ)، والقاسم بن سلام البغدادي (ت 244 هـ)، وأبو يعقوب البويطي (ت 231 هـ)، ويونس بن عبد الأعلى (ت 264 هـ).
قال الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى في "الرسالة" (1/ 369):
"فقال لي قائل: احْدُدْ لي أقلَّ ما تقوم به الحجة على أهل العلم، حتى يَثْبَتَ عليهم خبرُ الخاصَّة
فقلتُ: خبرُ الواحد عن الواحد حتى يُنْتَهَى به إلى النبي أو مَنْ انتهى به إليه دونه".

وليس المراد بـ"الواحد" هنا قطعاً: كل واحدٍ -كما قد يُغالط الغالطون في فهم كلام الإمام، أو حكايته، بل الإمام رحمه الله إن يُوضح مقصوده، بقوله في "نفس الموضع": 
"لا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يَجْمَعَ أُموراً: 
منها أن يكون مَنْ حدَّثَ به ثِقَةً في دينه، معروفاً بالصِّدق في حديثه، عاقِلاَ لِمَا يُحَدِّثُ به، عالمِاً بما يُحيل مَعَانِيَ الحديث مِنَ اللفظ… ويكونُ هكذا مَنْ فوقَه ممَّن حدَّثه، حتى يُنْتَهَى بالحديث مَوْصُولاً إلى النبي أو إلى مَنْ انْتُهِيَ به إليه دونه".

وما قاله الإمامُ صريحٌ في أنه ليس خبر كل واحدٍ يُفيد العلم، فهذا موضع اتفاقٍ بين أهل الفنِّ من المُحدثين، وبين العقلاء أهل الفقه والدراية، وأما أهل التمويه والتدليس من أهل البدع، فلهم في هذا الكلام بحثٌ ضعيف جداً..
وهذا الأمر من إفادة خبر الواحد العلم اليقيني يُقرره أحد كبار أئمة الشافعية، وهو الإمام ابن خزيمة، حيث يقول في باب الصفات:
يقول في كتابه "التوحيد" (1/ 137):
"ولا نصف معبودنا إلا بما وصف به نفسه، إما في كتاب الله، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، بنقل العدل عن العدل موصولا إليه، لا نحتج بالمراسيل , ولا بالأخبار الواهية، ولا نحتج أيضا في صفات معبودنا بالآراء والمقاييس..".

ويظهر ورع الإمام ابن خزيمة حيث يصف منهجه السُّني السَّلفي (2/ 532): "قد أعلمت ما لا أحصي من مرة أني لا أستحل أن أُمَوِّهَ على طلاب العلم بالاحتجاج بالخبر الواهي، وإني خائف من خالقي، جل وعلا إذا موهت على طلاب العلم بالاحتجاج بالأخبار الواهية، وإن كانت حجة لمذهبي".

ويتوسع الإمام الشَّافعيّ في إيراد حُججه على قبول خبر الواحد، ويُفرق بينه وبين باب الشهادة، وما يلزم فيها، ويرى أن الحُجَّة في تثبيت الرواية، وقبولها وإفادتها للعلم أقوى من مجرد القياس، فإن باب الرواية أصلٌ بنفسه؛ يقول رحمه الله في "الرسالة"(1/ 401):
 "فإن قال قائل: اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنصِّ خبر أو دلالةٍ فيه أو إجماعٍ. 
فقلت له: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي قال: (نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرِ فقيه ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)... فلما نَدَب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظِها وأدائها امرأً يؤديها، والامْرُءُ واحدٌ: دلَّ على أنه لا يأمر أن يُؤدَّى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يُؤدَّى عنه حلال وحرام يُجتَنَب، وحدٌّ يُقام، ومالٌ يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دينٍ ودنيا".

ومن البدهي في القول: أن الإمام هنا حصر مضمون الروايات في الأداء، وهو شاملٌ لأمر الدين كله، ولم يستثن الإمام في قيام الحجة بالرواية بين العقد والعمل.
 ويحتجُّ الإمام الشافعي رحمه الله بإرساله النبيِّ صلى الله عليه وسلم رسله للناس والقبائل، يحملون للناس دعاية التوحيد؛ فيقول في كتابه "الرسالة" (1/ 415): 
بعث أمراء سراياه، وكلُّهم حاكم فيما بعثه فيه؛ لأن عليهم أن يدعوا من لم تبلغه الدعوة، ويقاتلوا من حلَّ قتاله، وكذلك كلُّ والي بعثه أو صاحبِ سريَّة".
فلو لم يقع العلم بخبر الواحد في أمور الدين لم يقتصر صلى الله عليه وسلم على إرسال الواحد من أصحابه في هذا الأمر..

وقال رحمه الله في نفس الموضع من كتابه "الرسالة" (1/ 415): 
"وبعث في دهرٍ واحد اثني عشر رسولاً إلى اثنى عشر ملكاً، يدعوهم إلى الإسلام، ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة، وقامت عليه الحجة فيها، وألاّ يكتب فيها دلالاتٍ لمن بعثهم إليه على أنها كتُبُهُ، وقد تحرّى فيهم ما تحرى في أمرائه: من أن يكونوا معروفين، فبعث دَِحْية إلى الناحية التي هو فيها معروف.ولو أن المبعوث إليه جهل الرسول كان عليه طلبُ علمِ أن النبي بعثه ليستبرىء شكَّه في خبر رسول الله، وكان على الرسول الوقوفُ حتى يستبرئه المبعوثُ إليه، ولم تزل كتب رسول الله تَنْفُذ إلى ولاته بالأمر والنهي، ولم يكن لأحد من ولاته تركُ إنفاذ أمره، ولم يكن ليبعث رسولاً إلا صادقاً عند من بعثه إليه. وإذا طلب المبعوثُ إليه عِلمَ صدقه وَجَدَه حيث هو. ولو شك في كتابه بتغييرٍ في الكتاب أو حالٍ تدل على تهمةٍ، من غفلة رسولٍ حَمَلَ الكتابَ: كان عليه أن يطلب علم ما شك فيه حتى يُنفِذَ ما يَثبت عنده من أمر رسول الله. وهكذا كانت كتب خلفائه بعده وعمالُهم، وما أجمع المسلمون عليه: من أن يكون الخليفة واحداً والقاضي واحدٌ، والأمير واحدٌ، والإمامُ".

ومن ثمَّ ينتقل الإمام في استدلاله كتاب الله تعالى على ما وصف؛ فيذكر إرسال الله تعالى لرسله المكرمين، واحداً، واحداً إلى أقوامهم (1/ 437):
 "فأقام جل ثناؤه حجته على خلقه في أنبيائه في الأعلام التي باينوا بها خلقه سواهم، وكانت الحجة بها ثابتة على من شاهد أمور الأنبياء ودلائلهم التي باينوا بها غيرهم، ومَن بعدهم، وكان الواحد في ذلك وأكثرُ منه سواءً، تقوم الحجة بالواحد منهم قياماً بالأكثر".

ويختم الإمام استدلاله بحجية خبر الواحد، وإفادته العلم القطعي (1/ 453): "وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث، يكفي بعضُ هذا منها، ولم يزل سبيل سلفنا والقرونِ بعدهم إلى من شاهدنا هذا السبيل، وكذلك حُكي لنا عمن حُكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان".

وبيَّن الإمام رحمه الله أن من خالف هذا النَّهج؛ فقد فارق سبيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صار كالإجماع بينهم؛ وقال في اختلاف الحديث (8/ 592):
"فمن فارق هذا المذهب كان عندنا مفارق سبيل أصحاب رسول الله وأهل العلم بعدهم إلى اليوم، وكان من أهل الجهالة، وقالوا معا: لا نرى إلا إجماع أهل العلم في البلدان على تجهيل من خالف هذا السبيل، وجاوزوا أو أكثرهم فيمن يخالف هذا السبيل إلى ما لا أبالي أن لا أحكيه".

ويُلخص لنا مذهب الإمام الشَّافعي المُحدِّث الإمام قوام السُّنة الأصبهانيُّ (ت 535 هـ) حيث يترجم لذلك فصلاً "فصلٌ في تثبيت خبر الواحد من قول علماء السَّلف" يقول في كتابه "الانتصار": "إذا صحَّ الحديث كان كالمشاهدة".

وينقل الإمام الأصبهانيُّ عن شيخ الشَّافعيَّة السلفيين الإمام أبي المُظفي السمعاني (ت 489 هـ) حيث يقول: "قال لنا الإمام أبو المظفر السمعاني (ت 486 هـ): فصلٌ: ونشتغغل الآن بالجواب عن قولهم فيما سبق: إن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم، وهذا رأس شغب المبتدعة في ردِّ الأخبار، وطلب الدليل من النظر والاعتبار؛ فنقول وبالله التوفيق: إن الخبر إذا صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الثقات، وتلقته الأمة بالقبول، فإنه يُوجب العلم، فيما سبيله العلم… وهذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السُّنة".
ثم يذكر أبو المظفر: أن اشتراط التواتر لحصول العلم بمضمون الخبر: من اختراع القدرية، والمعتزلة، ثم أخذه عنهم من لم يعرف حقيقة مذهبهم، أو مآله من الفقهاء، وبيَّن رحمه الله تناقض الفرق الكلامية التي تمنع الاعتماد على خبر الواحد في مسائل تالاعتقاد، وهي في واقع أمرها تحتجُّ به متى لاءم مقالاتها !.
ومشهورٌ ومعلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث، ورجوعهم إليها، فهذا إجماعٌ منهم على القول بأخبار الآحاد.

وقد أجمع أهل الإسلام متقدميهم ومتأخريهم على رواية الأحاديث في صفات الله، وفي مسائل القدر، والرؤية، وأصل الإيمان، والشفاعة، والحوض، وإخراج الموحدين المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار، وفي الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وفضائل النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومناقب أصحابه، وأخبار الأنبياء المتقدمين عليهم السلام، وكذلك أخبار الرقاق والعظات، وغير ذلك مما يكثر عده.

وهذه الأشياء كلها علمية لا عملية، وإنما تُروى لوقوع علم السامع بها، فإذا قيل: إن خبر الواحد لا يوجب العلم ؟! فإن ذلك يعني حمل أمر الأمة في نقل الأخبار على الخطأ، وجعلناهم لاغين، مشتغلين بما لا يُفيد ولا ينفع أحداً شيئاً، وكأنهم دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه، ولا الاعتماد عليه… وهذا الاستدلال من الوضوح بمكان، وهو يلتقي مع تقرير الإمام فيما مضى من كون القرون السالفة على تلك السبيل… وهو أمرٌ ظاهرٌ جداً.

 ولو أن المسلم وضع في قلبه: أنه يسمع الصديق، أو الفاروق، أو غيرهما من وجوه الصحابة، عندما يروي لك حديثاً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أمرٍ من أمور الاعتقاد مثل: جواز الرؤية على الله تعالى، أو إثبات القدر، أو غير ذلك؛ فإنك بالقطع ستجد قلبك مطمئناً إلى ما يُلقى إليك، ولا يتداخلك شكٌّ في اعتقاد ثبوته وصحته… وكذلك اليوم إذا سمعنا عن أولئك السَّلف العظام وما يُقررون من عقائد أهل السُّنة، واحتجاجهم بالأخبار، فإنه لا يختلج مُسلمٌ شكٌّ في صحة ذلك المُعتقد وثبوته…

وكما جاز التعبُّد إلى الله بخبر الآحاد في الفروع لا سيما الحدود من الجلد وقطع الرقاب وقطع يد السارق، وتحليل الفروج وتحريمها، كذلك فإنها تُفيد العلم في الأصول وباب العقائد، فلا فرق بينهما إذن، ومن فرَّق بين العمل والاعتقاد عند ثبوت الخبر، فقد فرَّق بلا بيِّنة ولا دليل...

وأيُّ إيرادٍ آخر يأتي على هذا القول؛ فهو مصادرة للكلم، واحتجاج بما ليس حجَّة، ولكن انتشار هذه المقالة في طوائف المتكلمين، ومن تأثَّر بهم من الفقهاء، ويرى الإمام الشافعي أن الذي يردُّ الحديث لقياسٍ أو لرأيٍ؛ فعليه أن يطرد ذلك في جميع حديث الآحاد؛ فقال الإمام رحمه الله في "اختلاف الحديث" (8/ 593):
"وقلت له: لو صرت إلى غير هذا، قال لك من خالفك مذهبه من أهل الكلام: إذا جاز لك رد حديث واحد... بلا حجة في رده جاز لي رد جميع حديثه؛ لأن الحجة بصدقه أو تهمته بلا دلالة في واحد الحجة في جميع حديثه ما لم يختلف حاله في حديثه… وقلت لبعضهم: ولو جاز لك غير ما وصفت جاز لغيرك عليك أن يقول: أجعل نفسي بالخيار فأرد من حديثه ما قبلت، وأقبل من حديثه ما رددت بلا اختلاف لحاله في حديثه، وأسلك في ردها طريقك فيكون لي ردها كلها؛ لأنك قد رددت منها ما شئت فشئت أنا ردها كلها، وطلب العلم من غير الحديث ثم اعتل فيها بمعنى علتك، ثم لعله أن يكون ألحن بحجته منك…".

وقال الإمام الشَّافعيُّ رحمه الله أيضاً في "اختلاف الحديث" (8/ 594):
"قلت له: فما قلت فيمن قال هذا من أهل ناحيتنا؟ قال: قلت له: خالف السنن فيما ذكرنا، وكان أقل عذرا لما خالف فيها من الذين أصل دينهم طرح الحديث، ولم يدخل أهل الرد للحديث في معنى إلا فيما خالف منه في مثله، بل هم أحسن حجة فيما خالفوه منه، وتوجيها له منه، فقلت: فإذا كانت لنا ولك بهذه الحجة على من سلك هذه السبيل فهي عليك إذا سلكت في غير هذه الأحاديث طريقه، فإذا حمدتك باتباع حديث لرسول الله ذممتك على رد آخر مثله ولا يجوز أن أحمدك بموافقة الحديث وخلافه؛ لأنك لا تخلو من الخطأ في أحدهما، قال: أجل".

ويرى الإمام الشافعيّ رحمه الله أن تفريق أهل الكلام في شأن الأخبار وحجيتها: إنما هي بداوات أنظار، واستخراجات أفكار، لم تُبن على نظرٍ سديد، ولا أصلٍ وطيد.
يقول رحمه الله في "جماع العلم" (ص: 3): "ثم تفرق أهل الكلام في تثبيت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقاً، أما بعضهم فقد أكثر من التقليد والتخفيف من النظر، والغفلة والاستعجال بالرياسة".

وهكذا يمضي الإمام رحمه الله في سائر كتبه، على سوف أصوله، مع ما آتاه الله من جودة القريحة، وصفاء الذهن، وسيلان القلم يُقرر حُجيَّة خبر الآحاد في العقائد والأحكام علماً وعملاً، لا يلوي على شيء من تلك الاستخراجات، والغفلات، والإيرادات، وسوء النِّصفة، لا يُفرق بين العقائد والأحكام لا بإشارة ولا بصريح عبارة.

وليت شعري؛ لو كان الإمام ممن يردُّ خبر الواحد، أو لا يراه حُجَّةً في العقائد والأصول، أو كانت أصوله تسع ذلك التفريق، فبأيِّ حُجَّةٍ كنتَ تراهُ يُحاجِّ المُغفلين، وغير المنصفين في هذا المقام ؟! أم بأيِّ وجهٍ كان سيلقى المختصمين من أهل الكلام ؟!.

وقال الإمام الكبير الماوردي في كتابه "الحاوي" في الفصل الثاني عند ذكره الأصناف الذين يجوز تقليدهم ما نصُّه (1/ 22):  "وأما الصنف الثاني وهم المخبرون عنه صلى الله عليه وسلم؛ فتقليدهم فيما أخبروا به ورووه عنه واجب إن كان المخبر واحداً، وقال بعض الناس ممن لا يقول بأخبار الآحاد: إني لا أقبل إلا خبر اثنين حتى يتصل ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم، لأنه عليه السلام لم يعمل على خبر ذي اليدين في سهوه في الصلاة حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ولم يعمل أبو بكر على خبر المغيرة في إعطاء الجدة السدس حتى أخبره محمد بن سلمة. وهذا خطأ، لأن الصحابة قد عملت على خبر عائشة في التقاء الختانين وعمل عمر على خبر حمل بن مالك في دية الجنين، وليس فيما ذكروه من العدول عن خبر الواحد دليل على العدول عن خبر كل واحد، فإذا ثبت أن خبر الواحد مقبول فلا يجوز العمل به إلا بعد ثبوت".

وقال الماورديّ رداً على الأحناف في حديث: "من مسَّ ذكره فليتوضأ" فأبطل الحنفية العمل به بحجة أن الوضوء مما مسَّ الذكر مما عمَّت به البلوى، وما عمَّت به البلوى لا يؤخذ فيه بحديث الآحاد، بل لا بُد أن يكون متواتراً مستفيضاً.. قال (1/ 192): "والجواب عنه: أن هذا أصلٌ بخلافكم" أي أنَّ الحديث أصلٌ بذاته، "وليس يجبُ أن يكون ما يعمُّ به البلوى عاماً، بل يجوز أن يكون خاصَّاً وآحاداً على حسب ما يراه صاحب الشرع من المصلحة في العموم والخصوص… ثم قد خالفوا هذا الًل في بيان الوتر، ونقض الوضوء بالقيء، وغير ذلك".

وقال الماوردي في "الحاوي" (5/ 238): "وأخبار الآحاد إذا وردت مورداً صحيحاً لم يمنع الشرع من العمل بها.."، وكذلك فإنها تُفيد العلم؛ وهذا لازمُ هذا؛ إذ لا فرق بينهما.

وقال الإمام النوويُّ في المجموع (4/ 342): "ومتى خالف خبر الآحاد نصَّ القرآن أو إجماعاً وجب ترك ظاهره"، ونلاحظ هنا أنه لم يقل بردِّه كما يفعل بعض الجهلة من المتكلمين، وإنما المصيرُ إلى تأويل ذلك الخبر، ويُفهم منه أنه إذا لم يكن ثمَّة تعارض فإنه يُعمل به، ويجب العلم به.

وأختم هنا بمسألةٍ مُهمَّةٍ في هذا الباب، وهي تلزم كل من أنكر حجية خبر الآحاد في العقائد، وهي: من قال إن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُفيد العلم، يلزمه أحد أمرين:
1-إما أن يقول: إن الرسول لم يُبلغ غير القرآن، أو ما روي عنه بالتواتر، وما سوى ذلك لم يقم به حُجةٌ ولا تبليغ !.
2-وإما أن يقول: إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علماً، ولا يقتضي عملاً !.

وإذا بطل هذان الأمران، بطل القول بأن أخباره صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات العدول الحفاظ، ونتلقتها الأمر بالقبول لا تُفيد علماً، وهذا ظاهرٌ لا خفاء به.

والحقُّ الذي ندين الله به: أن التفريق الذي حصل لدى بعض المتأخرين من فقهاء ومُحدثي الشافعية في أحاديث الآحاد، والذي اختلط لديهم الفقه والحديث بعلم الكلام: هو نظريٌّ بالنسبة إليهم غير عملي، بمعنى أنه لا ثمرة له في الواقع، فهم لا يُفرقون في حُجية خبر الآحاد في العلم والعمل معاً، سواءٌ كان في أحاديث الأحكام أو في العقائد، ولذى ترى كثيراً منهم يستدلون يحديث الآحاد في العقائد، وإنما تابعوا غيرهم من المتكلمين في هذا التفريق من غير بيِّنةٍ أو استيثاق.

والحمد لله رب العالمين

السبت، 25 يوليو 2020

حُجيَّة خبر الآحاد في العقائد والأحكام


حُجيَّة خبر الآحاد في العقائد والأحكام
إعداد الدكتور: عامر حسن صبري
أستاذ الحديث النبوي وعلومه
بجامعة الإمارات العربية المتحدة

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ ما أكثر ما يُثيره المتكلمون حول السُّنة النبويَّة من عجاج الشُّبه، وتخرُّصات الظنون، فالثقة قد ينسى، والفطن قد يغفل، والحافظ قد يخطئ، كل ذلك إيرادات جدليَّة، تُغفل أن علم الرواية علمٌ قائمٌ بنفسه، له أصوله المنهجيَّة، وموازينه الدقيقة، التي لم تُعرف عند أمةٍ أخرى من الأمم...
ولم يكن أهل الحديث في غفلةٍ عن احتمالات الغلط، أو ضعف الرواة، أو حتى وجود الكذابين والوضاعين، كيف وهم الذين وضعوا لذلك أصولاً، وجمعوا أخبار الرواة، وتكلموا عن أحوالهم، كلٌّ بما يليق به، لكن كما أن لكلِّ علمٍ رجاله، ولكلِّ فنٍّ أهله، فهكذا الحديث: له أهله الذين لا يُحابون فيه آباءهم، ولا أبناءهم …
كما أن فتح الباب للتخرُّصات والظنون من غير أصولٍ منهجية، ولا قواعد علمية، يعني -في التحليل الأخير -أننا تركنا العلم ومنهاجه، وأسقطنا باب الرواية من أساسه، وفتحنا الباب لحوارات الطُّرشان، وعبث الصبيان !.
وإننا لا نقول باستحالة الخطأ على جميع النقلة ولا بعصمتهم من تعمد الكذب، ولكننا نقول بالجزم والتصديق عند ظهور علامات تؤيد ذلك..
وإذا وقف المرء على هذا الذي من شأنهم، وعرف حالهم، وصدق خبرهم، وورعهم، وأمانتهم، ظهر له العلم فيما نقلوه ووروه..
ولا يجوز إخضاع هذا الباب إلى قضايا التجويز العقلية، أو استخدامها في إبطال المرويات وأخبار الثقات؛ إذ احتمال الخطأ والوهم لا يُستمد من قضايا التجويز العقلية، بل نعلم أن الحديث إذا رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك ثبوته.. ولا يبطل الخبر بإنكار من أنكره بمجرد الهوى والتخرُّص ...
وأنا أقف هنا على كُتيِّبٍ لا يتجاوز الأربعين صحيفة، ولكنه جمع شتات الأمر إجمالاً، فجزى الله كاتبه خيير الجزاء… ولي أن أُعرِّج على أهم النقاط في هذا المؤلَّف؛ حيث:
1- ابتدأ المؤلف كتابه ببيان علاقة السُّنة بالقرآن الكريم، من حيث: تفصيل مجمله، وتقييد مطلقه، وتخصيص عامه، بل وانفرادها بتشريعات خاصَّة.
2- ومن ثمَّ بيَّن مكانة السنة من علوم الدين، ووجوب امتثالها، والتحاكم إليها.
3- وتحدث -أيضاً -عن خدمة العلماء للسنة النبوية المُشرَّفة، وما وضعوه من علوم المصطلح وعلم الجرح والتعديل، الذي يُفيد في قبول الأخبار أو ردِّها، والتميز بين الحديث الصحيح وغيره.
4- وتحدث عن طائفةٍ من علوم المصطلح؛ وهي: تقسيم الحديث إلى (آحاد) و(متواتر)، وهي قسمة من حيث عدد الرواة في حلقات الإسناد، وبيَّن مذاهب الأئمة في قبول خبر الآحاد في الفروع والعقائد، وبيَّن أن مذهب المُحقِّقين من سلف هذه الأمة، وإجماعها منعقدٌ على قبول خبر الواحد إذا ثبتت صحته. 

وأنقل هنا أهم ما ورد في الكتاب...

تعريف الحديث المتواتر، هو: 
ما رواه جمعٌ تحيل العادة تواطؤَهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه، ويكون مستند خبرهم الحسُّ والمشاهدة.

والمتواتر قسمان:
1- لفظي، وهو: ما تواتر لفظه ومعناه. 
ومن أمثلته، حديث: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، وقد رواه أكثر من ثمانيةٍ وستين من الصحابة رضوان الله عليهم.

2- معنوي، وهو: ما تواتر معناه وإن لم يتواتر لفظه. 
ومن أمثلته: أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أكثرُ من مائة حديثٍ فيه أنه صلى الله عيله وسلم رفع يديه في الدعاء لكنها في قضايا مختلفة لم تتواتر بمفردها.

ما يفيده المتواتر:
اتفقت كلمة العلماء على أن الحديث المتواتر يفيد العلم القطعي الضروري لا النظري، وهذا عند عامة المسلمين خلافاً للمعتزلة وبعض الفرق الضَّالة، ولذا لا يصح إنكار الحديث المتواتر، ولا البحث عن استدلاله لأنه ثابت قطعاً.

تعريف حديث الآحاد، هو: 
وهو: ما لم يجمع شروط المتواتر أو أحدها، سواء كان رواته واحداً أو عدداً.

وينقسم الآحاد باعتبار عدد طرقه ورواياته إلى ثلاثة أقسام:
1- الغريب، وهو: ما ينفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند، وقد يعبر علماء الحديث عنه بالفرد.
ومثاله: حديث: "إنما الأعمال بالنيات"؛ فقد تفرد به عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يرويه عن عمر إلا علقمة بن وقاص، ولا يرويه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا يرويه عن التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر الحديث.

2- العزيز، وهو: ما يرويه اثنان عن اثنين في طبقة أو أكثر من طبقات الإسناد.
ومثاله: ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة، والشيخان من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"؛ فقد رواه من الصحابة: أنس وأبوهريرة، ورواه عن أنس اثنان: قتادة وعبد العزيز بن صُهَيب، ورواه عن قتادة اثنان: شعبة وسعيد، ورواه عن عبد العزيز اثنان: إسماعيل ابن عُلية وعبد الوارث، ثم رواه عن كل منهما جماعة.

3- المشهور، وسماه جماعة من الفقهاء: المستفيض، وهو: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين ولم يبلغ حد التواتر.
ومثاله: حديث أنس رضي الله عنه الذي رواه الشيخان: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رِعْل وذكوان"، فقد رواه عن أنس: قتادة وعاصم وأبو مِجْلَز: لاحق بن حُميد، وأنس بن سيرين، ورواه عن كل واحد جماعة.

ما يفيده خبر الآحاد:
ذهب العلماء في مجال الأخذ به مذاهب مختلفة، وإليك بيانها مع ذكر حُجج كل مذهب:

المذهب الأول: أن خبر الواحد الثقة يفيد العلم اليقيني مطلقاً.
وهو مذهب داود الظاهري، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي، ورواية عن أحمد، وحكاه ابن خويزمنداد عن الإمام مالك، وجزم به الإمام الشافعي في كتاب "الرسالة"، و"اختلاف مالك"، و"جماع العلم"، ونصره ابن حزم في "الإحكام"، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، واختاره من المتأخرين العلامة صديق حسن خان في كتابه "الدين الخالص"، والعلامة أحمد شاكر في "الباعث الحثيث"، والدكتور صبحي الصالح في كتابه "علوم الحديث"، وهو الذي اختاره المؤلف الدكتور عامر صبري.

المذهب الثاني: أنه يفيد العلم اليقيني إذا احتفت به قرائن، وإلا أفاد الظن، مع كونه حُجَّةٌ يجبُ العمل بها.
ومن هذه القرائن أن يُخرجه الشيخان أو أحدهما في صحيحيهما، أو يكون مسلسلاً بالأئمة الحُفاظ، وهذا مذهب عامة أهل الحديث وكثير من محققي الفقه والأصول وكثير من متكلمي الأشعرية، وعامة الفقهاء من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة وغيرهم، وهو اختيار ابن حجر في "النزهة"، وإليه ذهب أبو إسحاق الإسفراييني، وابن فورك، وأبو عبد الله الحميدي، وأبو الفضل ابن طاهر، وأبو عمرو بن الصلاح، وغيرهم.

المذهب الثالث: أن خبر الواحد الثقة يفيد الظن ولا يفيد العلم، ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك، ولكنه حُجة من حُجج الشرع يلزم العمل به سواء أكان في العقائد أم في الأحكام العملية. 
وهو مذهب ابن عبد البر المالكي، والإمام النووي، والعز بن عبد السلام، وابن الأثير.

والحقُّ: أن الخلاف بين أصحاب المذهب الثالث والثاني هو خلافٌ نظريٌّ ليس له أثر في الواقع، فالجميع يوجبون العمل بخبر الواحد إذا توافرت فيه شروط القبول.

وفي إطار الردِّ على المذهبن الأخيرين: ينبغي أن نشير إلى أنه لا يمكن أن يكلف الله عز وجل بأمر لم يثبت من طريق التواتر - ثم يعمل المسلم بذلك التكليف وهو يعتقد أن هذا الذي يفعله أمر ظني أو احتمالي والعلم بصحته غير واجب شرعاً !.

المذهب الرابع: أن خبر الآحاد يفيد الظن، لا يصح الاعتماد عليه في العقيدة وفي الغيبيات، أما ما سوى ذلك في الأحكام العملية وغيرها فإنه يجب العمل به.
وهو مذهب طائفةٍ من المتأخرين، كالشيخ عبد الوهاب النجار، والشيخ محمود شلتوت، ويحتجُّ هؤلاء بأن العقائد قطعية فلا يجوز أن يحتج عليها إلا بقطعي.

وقولهم هذا ضعيف؛ لأن كل ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو واجب التصديق واجب الاتباع خبراً كان أو إنشاء، عقيدة كان أو غير عقيدة، للنصوص الكثيرة المتواترة الآمرة بطاعة الله وطاعة رسوله، وأما النهي عن اتباع الظن، فالمقصود هو النهي عن اتباع الظن المذموم الذي لا يقوم عليه دليل. وبهذا يتبين أن قول بعضهم: الأئمة قاطبة يرون أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن، هي عبارة خاطئة تماماً...

المذهب الخامس: وهو مذهب الخوارج والمعتزلة، وهؤلاء لا يحتجون بأحاديث الآحاد لا في العقائد ولا في الأحكام.
وحجة هؤلاء هي نفس حجة المذهب السابق الذكر، أي أن هذه الأحاديث لا تفيد إلا الظن ولا تفيد علماً مقطوعاً به لما فيها من احتمال الخطأ والوهم والكذب.
ولا شك أن هذا القول باطل؛ لأن من لوازمه الاقتصار على ما جاء في القرآن الكريم، وعلى الأحاديث المتواترة، والتي لا يصل عددها إلى مائتي حديث.

القول الحق في قبول خبر الآحاد:
 إن الحق الذي ندينُ الله به: أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل جميعاً، إذا توافرت فيه شروط القبول، ولم يطعن فيه أحد من العلماء المعتبرين، وأنه حجة قاطعة فى الدين سواء أكان فى العقائد أم في غيرها، وأن الادعاء بأن أحاديث الآحاد تفيد الظن أو لايعمل بها في العقائد ليس عليه أي دليل من القرآن والسنة وعمل الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
ولا شك أن نسبة أحاديث الآحاد إلى المتواترة (99 %)، وقد ألف العلامة المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى كتاباً سماه "وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة والأحكام" وذكر عشرين وجهاً تدل على وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة وغيرها، ورد على هذا المذهب القائل بأنه لا يُحتجُّ بهذه الآحاد فى العقيدة لأنها لا تفيد اليقين، ومعلومٌ أن كل حديث يُعمل به لا بُدَّ أن يكون للقلب حظُّ اعتقادٍ فيه، بل إن كثيراً من الأحاديث العملية تتضمن أموراً اعتقادية..

وأما الأدلة باختصار على حجية خبر الآحاد في العلم والعمل؛ فهي:
1- قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 122): والطائفة تصدق على الواحد والاثنين فهي جزء من الفرقة.
2-قوله سبحانه:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6): فإذا كان الفاسق لا يُقبل خبره، فقبول خبر العدل من باب أولى.
3-ومن السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل رسله إلى الملوك فى مختلف الأمصار، لدعوتهم إلى دين الإسلام، فقاموا بذلك وهم فرادى.
والحمد لله رب العالمين..