مفاهيم يجب أن تُصحَّح
-ما موقف السَّادة الشَّافعيَّة من خبر الآحاد ؟
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة
ذهب الإمام الشَّافعيّ رحمه الله إلى أن خبر الآحاد إذا ثبت؛ فإنه يفيد العلم اليقيني مطلقاً، وهو مذهب المُحققين من هذه الأُمَّة، بخلاف بعض المتأخرين من الشافعية والذي اختلط لديهم الفقه بعلم الكلام، ووضعوا لقبول خبر الآحاد عوائق عقلية، وعقبات لا تستقيم في العقل ولا في الشرع، سيما بعد أن وضع أئمة هذا الشأن -وإمامهم الكبير الشَّافعيُّ رحمه الله تعالى -أصول علم الحديث، وتكلمو في الرواة، وبينوا ما يُقبل من الحديث وما يُرد، ولم يُحابوا في ذلك أحداً من الناس.
وقد صرَّح الإمام الشَّافعيُّ بمذهبه في حجية خبر الآحاد، وإفادته العلم في كتبه "الرسالة"، و"اختلاف مالك"، و"جماع العلم"، وقرَّر فيها حُجيَّة خبر الخاصَّة أو خبر الواحد.
وبه قال أصحاب الإمام رحمه الله تعالى؛ كالإمام إسماعيل بن يحيى المُزني (ت 264 هـ)، والإمام الحارث بن أسد المُحاسبي (ت 243 هـ)، والحارث بن سُريج البغدادي (ت 236 هـ)، وحرملة بن يحيى التجيبي (ت 244 هـ)، والحسن بن محمد الزعفراني (ت 260 هـ)، والحسين بن علي الكرابيسي (ت 245 هـ)، والربيع بن سليمان الجيزي (ت 250 هـ)، والربيع بن سليمان المُرادي (ت 207 هـ)، وأبو بكر الحُميدي (ت 219 هـ)، والقاسم بن سلام البغدادي (ت 244 هـ)، وأبو يعقوب البويطي (ت 231 هـ)، ويونس بن عبد الأعلى (ت 264 هـ).
وبه قال أصحاب الإمام رحمه الله تعالى؛ كالإمام إسماعيل بن يحيى المُزني (ت 264 هـ)، والإمام الحارث بن أسد المُحاسبي (ت 243 هـ)، والحارث بن سُريج البغدادي (ت 236 هـ)، وحرملة بن يحيى التجيبي (ت 244 هـ)، والحسن بن محمد الزعفراني (ت 260 هـ)، والحسين بن علي الكرابيسي (ت 245 هـ)، والربيع بن سليمان الجيزي (ت 250 هـ)، والربيع بن سليمان المُرادي (ت 207 هـ)، وأبو بكر الحُميدي (ت 219 هـ)، والقاسم بن سلام البغدادي (ت 244 هـ)، وأبو يعقوب البويطي (ت 231 هـ)، ويونس بن عبد الأعلى (ت 264 هـ).
قال الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى في "الرسالة" (1/ 369):
"فقال لي قائل: احْدُدْ لي أقلَّ ما تقوم به الحجة على أهل العلم، حتى يَثْبَتَ عليهم خبرُ الخاصَّة.
فقلتُ: خبرُ الواحد عن الواحد حتى يُنْتَهَى به إلى النبي أو مَنْ انتهى به إليه دونه".
وليس المراد بـ"الواحد" هنا قطعاً: كل واحدٍ -كما قد يُغالط الغالطون في فهم كلام الإمام، أو حكايته، بل الإمام رحمه الله إن يُوضح مقصوده، بقوله في "نفس الموضع":
"لا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يَجْمَعَ أُموراً:
منها أن يكون مَنْ حدَّثَ به ثِقَةً في دينه، معروفاً بالصِّدق في حديثه، عاقِلاَ لِمَا يُحَدِّثُ به، عالمِاً بما يُحيل مَعَانِيَ الحديث مِنَ اللفظ… ويكونُ هكذا مَنْ فوقَه ممَّن حدَّثه، حتى يُنْتَهَى بالحديث مَوْصُولاً إلى النبي أو إلى مَنْ انْتُهِيَ به إليه دونه".
وما قاله الإمامُ صريحٌ في أنه ليس خبر كل واحدٍ يُفيد العلم، فهذا موضع اتفاقٍ بين أهل الفنِّ من المُحدثين، وبين العقلاء أهل الفقه والدراية، وأما أهل التمويه والتدليس من أهل البدع، فلهم في هذا الكلام بحثٌ ضعيف جداً..
وهذا الأمر من إفادة خبر الواحد العلم اليقيني يُقرره أحد كبار أئمة الشافعية، وهو الإمام ابن خزيمة، حيث يقول في باب الصفات:
يقول في كتابه "التوحيد" (1/ 137):
"ولا نصف معبودنا إلا بما وصف به نفسه، إما في كتاب الله، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، بنقل العدل عن العدل موصولا إليه، لا نحتج بالمراسيل , ولا بالأخبار الواهية، ولا نحتج أيضا في صفات معبودنا بالآراء والمقاييس..".
ويظهر ورع الإمام ابن خزيمة حيث يصف منهجه السُّني السَّلفي (2/ 532): "قد أعلمت ما لا أحصي من مرة أني لا أستحل أن أُمَوِّهَ على طلاب العلم بالاحتجاج بالخبر الواهي، وإني خائف من خالقي، جل وعلا إذا موهت على طلاب العلم بالاحتجاج بالأخبار الواهية، وإن كانت حجة لمذهبي".
ويتوسع الإمام الشَّافعيّ في إيراد حُججه على قبول خبر الواحد، ويُفرق بينه وبين باب الشهادة، وما يلزم فيها، ويرى أن الحُجَّة في تثبيت الرواية، وقبولها وإفادتها للعلم أقوى من مجرد القياس، فإن باب الرواية أصلٌ بنفسه؛ يقول رحمه الله في "الرسالة"(1/ 401):
"فإن قال قائل: اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنصِّ خبر أو دلالةٍ فيه أو إجماعٍ.
فقلت له: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي قال: (نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرِ فقيه ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)... فلما نَدَب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظِها وأدائها امرأً يؤديها، والامْرُءُ واحدٌ: دلَّ على أنه لا يأمر أن يُؤدَّى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يُؤدَّى عنه حلال وحرام يُجتَنَب، وحدٌّ يُقام، ومالٌ يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دينٍ ودنيا".
ومن البدهي في القول: أن الإمام هنا حصر مضمون الروايات في الأداء، وهو شاملٌ لأمر الدين كله، ولم يستثن الإمام في قيام الحجة بالرواية بين العقد والعمل.
ويحتجُّ الإمام الشافعي رحمه الله بإرساله النبيِّ صلى الله عليه وسلم رسله للناس والقبائل، يحملون للناس دعاية التوحيد؛ فيقول في كتابه "الرسالة" (1/ 415):
"وبعث أمراء سراياه، وكلُّهم حاكم فيما بعثه فيه؛ لأن عليهم أن يدعوا من لم تبلغه الدعوة، ويقاتلوا من حلَّ قتاله، وكذلك كلُّ والي بعثه أو صاحبِ سريَّة".
فلو لم يقع العلم بخبر الواحد في أمور الدين لم يقتصر صلى الله عليه وسلم على إرسال الواحد من أصحابه في هذا الأمر..
وقال رحمه الله في نفس الموضع من كتابه "الرسالة" (1/ 415):
"وبعث في دهرٍ واحد اثني عشر رسولاً إلى اثنى عشر ملكاً، يدعوهم إلى الإسلام، ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة، وقامت عليه الحجة فيها، وألاّ يكتب فيها دلالاتٍ لمن بعثهم إليه على أنها كتُبُهُ، وقد تحرّى فيهم ما تحرى في أمرائه: من أن يكونوا معروفين، فبعث دَِحْية إلى الناحية التي هو فيها معروف.ولو أن المبعوث إليه جهل الرسول كان عليه طلبُ علمِ أن النبي بعثه ليستبرىء شكَّه في خبر رسول الله، وكان على الرسول الوقوفُ حتى يستبرئه المبعوثُ إليه، ولم تزل كتب رسول الله تَنْفُذ إلى ولاته بالأمر والنهي، ولم يكن لأحد من ولاته تركُ إنفاذ أمره، ولم يكن ليبعث رسولاً إلا صادقاً عند من بعثه إليه. وإذا طلب المبعوثُ إليه عِلمَ صدقه وَجَدَه حيث هو. ولو شك في كتابه بتغييرٍ في الكتاب أو حالٍ تدل على تهمةٍ، من غفلة رسولٍ حَمَلَ الكتابَ: كان عليه أن يطلب علم ما شك فيه حتى يُنفِذَ ما يَثبت عنده من أمر رسول الله. وهكذا كانت كتب خلفائه بعده وعمالُهم، وما أجمع المسلمون عليه: من أن يكون الخليفة واحداً والقاضي واحدٌ، والأمير واحدٌ، والإمامُ".
ومن ثمَّ ينتقل الإمام في استدلاله كتاب الله تعالى على ما وصف؛ فيذكر إرسال الله تعالى لرسله المكرمين، واحداً، واحداً إلى أقوامهم (1/ 437):
"فأقام جل ثناؤه حجته على خلقه في أنبيائه في الأعلام التي باينوا بها خلقه سواهم، وكانت الحجة بها ثابتة على من شاهد أمور الأنبياء ودلائلهم التي باينوا بها غيرهم، ومَن بعدهم، وكان الواحد في ذلك وأكثرُ منه سواءً، تقوم الحجة بالواحد منهم قياماً بالأكثر".
ويختم الإمام استدلاله بحجية خبر الواحد، وإفادته العلم القطعي (1/ 453): "وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث، يكفي بعضُ هذا منها، ولم يزل سبيل سلفنا والقرونِ بعدهم إلى من شاهدنا هذا السبيل، وكذلك حُكي لنا عمن حُكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان".
وبيَّن الإمام رحمه الله أن من خالف هذا النَّهج؛ فقد فارق سبيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صار كالإجماع بينهم؛ وقال في اختلاف الحديث (8/ 592):
"فمن فارق هذا المذهب كان عندنا مفارق سبيل أصحاب رسول الله وأهل العلم بعدهم إلى اليوم، وكان من أهل الجهالة، وقالوا معا: لا نرى إلا إجماع أهل العلم في البلدان على تجهيل من خالف هذا السبيل، وجاوزوا أو أكثرهم فيمن يخالف هذا السبيل إلى ما لا أبالي أن لا أحكيه".
ويُلخص لنا مذهب الإمام الشَّافعي المُحدِّث الإمام قوام السُّنة الأصبهانيُّ (ت 535 هـ) حيث يترجم لذلك فصلاً "فصلٌ في تثبيت خبر الواحد من قول علماء السَّلف" يقول في كتابه "الانتصار": "إذا صحَّ الحديث كان كالمشاهدة".
وينقل الإمام الأصبهانيُّ عن شيخ الشَّافعيَّة السلفيين الإمام أبي المُظفي السمعاني (ت 489 هـ) حيث يقول: "قال لنا الإمام أبو المظفر السمعاني (ت 486 هـ): فصلٌ: ونشتغغل الآن بالجواب عن قولهم فيما سبق: إن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم، وهذا رأس شغب المبتدعة في ردِّ الأخبار، وطلب الدليل من النظر والاعتبار؛ فنقول وبالله التوفيق: إن الخبر إذا صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الثقات، وتلقته الأمة بالقبول، فإنه يُوجب العلم، فيما سبيله العلم… وهذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السُّنة".
ثم يذكر أبو المظفر: أن اشتراط التواتر لحصول العلم بمضمون الخبر: من اختراع القدرية، والمعتزلة، ثم أخذه عنهم من لم يعرف حقيقة مذهبهم، أو مآله من الفقهاء، وبيَّن رحمه الله تناقض الفرق الكلامية التي تمنع الاعتماد على خبر الواحد في مسائل تالاعتقاد، وهي في واقع أمرها تحتجُّ به متى لاءم مقالاتها !.
ومشهورٌ ومعلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث، ورجوعهم إليها، فهذا إجماعٌ منهم على القول بأخبار الآحاد.
وقد أجمع أهل الإسلام متقدميهم ومتأخريهم على رواية الأحاديث في صفات الله، وفي مسائل القدر، والرؤية، وأصل الإيمان، والشفاعة، والحوض، وإخراج الموحدين المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار، وفي الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وفضائل النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومناقب أصحابه، وأخبار الأنبياء المتقدمين عليهم السلام، وكذلك أخبار الرقاق والعظات، وغير ذلك مما يكثر عده.
وهذه الأشياء كلها علمية لا عملية، وإنما تُروى لوقوع علم السامع بها، فإذا قيل: إن خبر الواحد لا يوجب العلم ؟! فإن ذلك يعني حمل أمر الأمة في نقل الأخبار على الخطأ، وجعلناهم لاغين، مشتغلين بما لا يُفيد ولا ينفع أحداً شيئاً، وكأنهم دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه، ولا الاعتماد عليه… وهذا الاستدلال من الوضوح بمكان، وهو يلتقي مع تقرير الإمام فيما مضى من كون القرون السالفة على تلك السبيل… وهو أمرٌ ظاهرٌ جداً.
ولو أن المسلم وضع في قلبه: أنه يسمع الصديق، أو الفاروق، أو غيرهما من وجوه الصحابة، عندما يروي لك حديثاً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أمرٍ من أمور الاعتقاد مثل: جواز الرؤية على الله تعالى، أو إثبات القدر، أو غير ذلك؛ فإنك بالقطع ستجد قلبك مطمئناً إلى ما يُلقى إليك، ولا يتداخلك شكٌّ في اعتقاد ثبوته وصحته… وكذلك اليوم إذا سمعنا عن أولئك السَّلف العظام وما يُقررون من عقائد أهل السُّنة، واحتجاجهم بالأخبار، فإنه لا يختلج مُسلمٌ شكٌّ في صحة ذلك المُعتقد وثبوته…
وكما جاز التعبُّد إلى الله بخبر الآحاد في الفروع لا سيما الحدود من الجلد وقطع الرقاب وقطع يد السارق، وتحليل الفروج وتحريمها، كذلك فإنها تُفيد العلم في الأصول وباب العقائد، فلا فرق بينهما إذن، ومن فرَّق بين العمل والاعتقاد عند ثبوت الخبر، فقد فرَّق بلا بيِّنة ولا دليل...
وأيُّ إيرادٍ آخر يأتي على هذا القول؛ فهو مصادرة للكلم، واحتجاج بما ليس حجَّة، ولكن انتشار هذه المقالة في طوائف المتكلمين، ومن تأثَّر بهم من الفقهاء، ويرى الإمام الشافعي أن الذي يردُّ الحديث لقياسٍ أو لرأيٍ؛ فعليه أن يطرد ذلك في جميع حديث الآحاد؛ فقال الإمام رحمه الله في "اختلاف الحديث" (8/ 593):
"وقلت له: لو صرت إلى غير هذا، قال لك من خالفك مذهبه من أهل الكلام: إذا جاز لك رد حديث واحد... بلا حجة في رده جاز لي رد جميع حديثه؛ لأن الحجة بصدقه أو تهمته بلا دلالة في واحد الحجة في جميع حديثه ما لم يختلف حاله في حديثه… وقلت لبعضهم: ولو جاز لك غير ما وصفت جاز لغيرك عليك أن يقول: أجعل نفسي بالخيار فأرد من حديثه ما قبلت، وأقبل من حديثه ما رددت بلا اختلاف لحاله في حديثه، وأسلك في ردها طريقك فيكون لي ردها كلها؛ لأنك قد رددت منها ما شئت فشئت أنا ردها كلها، وطلب العلم من غير الحديث ثم اعتل فيها بمعنى علتك، ثم لعله أن يكون ألحن بحجته منك…".
وقال الإمام الشَّافعيُّ رحمه الله أيضاً في "اختلاف الحديث" (8/ 594):
"قلت له: فما قلت فيمن قال هذا من أهل ناحيتنا؟ قال: قلت له: خالف السنن فيما ذكرنا، وكان أقل عذرا لما خالف فيها من الذين أصل دينهم طرح الحديث، ولم يدخل أهل الرد للحديث في معنى إلا فيما خالف منه في مثله، بل هم أحسن حجة فيما خالفوه منه، وتوجيها له منه، فقلت: فإذا كانت لنا ولك بهذه الحجة على من سلك هذه السبيل فهي عليك إذا سلكت في غير هذه الأحاديث طريقه، فإذا حمدتك باتباع حديث لرسول الله ذممتك على رد آخر مثله ولا يجوز أن أحمدك بموافقة الحديث وخلافه؛ لأنك لا تخلو من الخطأ في أحدهما، قال: أجل".
ويرى الإمام الشافعيّ رحمه الله أن تفريق أهل الكلام في شأن الأخبار وحجيتها: إنما هي بداوات أنظار، واستخراجات أفكار، لم تُبن على نظرٍ سديد، ولا أصلٍ وطيد.
يقول رحمه الله في "جماع العلم" (ص: 3): "ثم تفرق أهل الكلام في تثبيت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقاً، أما بعضهم فقد أكثر من التقليد والتخفيف من النظر، والغفلة والاستعجال بالرياسة".
وهكذا يمضي الإمام رحمه الله في سائر كتبه، على سوف أصوله، مع ما آتاه الله من جودة القريحة، وصفاء الذهن، وسيلان القلم يُقرر حُجيَّة خبر الآحاد في العقائد والأحكام علماً وعملاً، لا يلوي على شيء من تلك الاستخراجات، والغفلات، والإيرادات، وسوء النِّصفة، لا يُفرق بين العقائد والأحكام لا بإشارة ولا بصريح عبارة.
وليت شعري؛ لو كان الإمام ممن يردُّ خبر الواحد، أو لا يراه حُجَّةً في العقائد والأصول، أو كانت أصوله تسع ذلك التفريق، فبأيِّ حُجَّةٍ كنتَ تراهُ يُحاجِّ المُغفلين، وغير المنصفين في هذا المقام ؟! أم بأيِّ وجهٍ كان سيلقى المختصمين من أهل الكلام ؟!.
وقال الإمام الكبير الماوردي في كتابه "الحاوي" في الفصل الثاني عند ذكره الأصناف الذين يجوز تقليدهم ما نصُّه (1/ 22): "وأما الصنف الثاني وهم المخبرون عنه صلى الله عليه وسلم؛ فتقليدهم فيما أخبروا به ورووه عنه واجب إن كان المخبر واحداً، وقال بعض الناس ممن لا يقول بأخبار الآحاد: إني لا أقبل إلا خبر اثنين حتى يتصل ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم، لأنه عليه السلام لم يعمل على خبر ذي اليدين في سهوه في الصلاة حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ولم يعمل أبو بكر على خبر المغيرة في إعطاء الجدة السدس حتى أخبره محمد بن سلمة. وهذا خطأ، لأن الصحابة قد عملت على خبر عائشة في التقاء الختانين وعمل عمر على خبر حمل بن مالك في دية الجنين، وليس فيما ذكروه من العدول عن خبر الواحد دليل على العدول عن خبر كل واحد، فإذا ثبت أن خبر الواحد مقبول فلا يجوز العمل به إلا بعد ثبوت".
وقال الماورديّ رداً على الأحناف في حديث: "من مسَّ ذكره فليتوضأ" فأبطل الحنفية العمل به بحجة أن الوضوء مما مسَّ الذكر مما عمَّت به البلوى، وما عمَّت به البلوى لا يؤخذ فيه بحديث الآحاد، بل لا بُد أن يكون متواتراً مستفيضاً.. قال (1/ 192): "والجواب عنه: أن هذا أصلٌ بخلافكم" أي أنَّ الحديث أصلٌ بذاته، "وليس يجبُ أن يكون ما يعمُّ به البلوى عاماً، بل يجوز أن يكون خاصَّاً وآحاداً على حسب ما يراه صاحب الشرع من المصلحة في العموم والخصوص… ثم قد خالفوا هذا الًل في بيان الوتر، ونقض الوضوء بالقيء، وغير ذلك".
وقال الماوردي في "الحاوي" (5/ 238): "وأخبار الآحاد إذا وردت مورداً صحيحاً لم يمنع الشرع من العمل بها.."، وكذلك فإنها تُفيد العلم؛ وهذا لازمُ هذا؛ إذ لا فرق بينهما.
وقال الإمام النوويُّ في المجموع (4/ 342): "ومتى خالف خبر الآحاد نصَّ القرآن أو إجماعاً وجب ترك ظاهره"، ونلاحظ هنا أنه لم يقل بردِّه كما يفعل بعض الجهلة من المتكلمين، وإنما المصيرُ إلى تأويل ذلك الخبر، ويُفهم منه أنه إذا لم يكن ثمَّة تعارض فإنه يُعمل به، ويجب العلم به.
وأختم هنا بمسألةٍ مُهمَّةٍ في هذا الباب، وهي تلزم كل من أنكر حجية خبر الآحاد في العقائد، وهي: من قال إن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُفيد العلم، يلزمه أحد أمرين:
1-إما أن يقول: إن الرسول لم يُبلغ غير القرآن، أو ما روي عنه بالتواتر، وما سوى ذلك لم يقم به حُجةٌ ولا تبليغ !.
2-وإما أن يقول: إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علماً، ولا يقتضي عملاً !.
والحقُّ الذي ندين الله به: أن التفريق الذي حصل لدى بعض المتأخرين من فقهاء ومُحدثي الشافعية في أحاديث الآحاد، والذي اختلط لديهم الفقه والحديث بعلم الكلام: هو نظريٌّ بالنسبة إليهم غير عملي، بمعنى أنه لا ثمرة له في الواقع، فهم لا يُفرقون في حُجية خبر الآحاد في العلم والعمل معاً، سواءٌ كان في أحاديث الأحكام أو في العقائد، ولذى ترى كثيراً منهم يستدلون يحديث الآحاد في العقائد، وإنما تابعوا غيرهم من المتكلمين في هذا التفريق من غير بيِّنةٍ أو استيثاق.
والحمد لله رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق