حُجيَّة خبر الآحاد في العقائد والأحكام
إعداد الدكتور: عامر حسن صبري
أستاذ الحديث النبوي وعلومه
بجامعة الإمارات العربية المتحدة
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ ما أكثر ما يُثيره المتكلمون حول السُّنة النبويَّة من عجاج الشُّبه، وتخرُّصات الظنون، فالثقة قد ينسى، والفطن قد يغفل، والحافظ قد يخطئ، كل ذلك إيرادات جدليَّة، تُغفل أن علم الرواية علمٌ قائمٌ بنفسه، له أصوله المنهجيَّة، وموازينه الدقيقة، التي لم تُعرف عند أمةٍ أخرى من الأمم...
ولم يكن أهل الحديث في غفلةٍ عن احتمالات الغلط، أو ضعف الرواة، أو حتى وجود الكذابين والوضاعين، كيف وهم الذين وضعوا لذلك أصولاً، وجمعوا أخبار الرواة، وتكلموا عن أحوالهم، كلٌّ بما يليق به، لكن كما أن لكلِّ علمٍ رجاله، ولكلِّ فنٍّ أهله، فهكذا الحديث: له أهله الذين لا يُحابون فيه آباءهم، ولا أبناءهم …
كما أن فتح الباب للتخرُّصات والظنون من غير أصولٍ منهجية، ولا قواعد علمية، يعني -في التحليل الأخير -أننا تركنا العلم ومنهاجه، وأسقطنا باب الرواية من أساسه، وفتحنا الباب لحوارات الطُّرشان، وعبث الصبيان !.
وإننا لا نقول باستحالة الخطأ على جميع النقلة ولا بعصمتهم من تعمد الكذب، ولكننا نقول بالجزم والتصديق عند ظهور علامات تؤيد ذلك..
وإذا وقف المرء على هذا الذي من شأنهم، وعرف حالهم، وصدق خبرهم، وورعهم، وأمانتهم، ظهر له العلم فيما نقلوه ووروه..
ولا يجوز إخضاع هذا الباب إلى قضايا التجويز العقلية، أو استخدامها في إبطال المرويات وأخبار الثقات؛ إذ احتمال الخطأ والوهم لا يُستمد من قضايا التجويز العقلية، بل نعلم أن الحديث إذا رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك ثبوته.. ولا يبطل الخبر بإنكار من أنكره بمجرد الهوى والتخرُّص ...
وأنا أقف هنا على كُتيِّبٍ لا يتجاوز الأربعين صحيفة، ولكنه جمع شتات الأمر إجمالاً، فجزى الله كاتبه خيير الجزاء… ولي أن أُعرِّج على أهم النقاط في هذا المؤلَّف؛ حيث:
1- ابتدأ المؤلف كتابه ببيان علاقة السُّنة بالقرآن الكريم، من حيث: تفصيل مجمله، وتقييد مطلقه، وتخصيص عامه، بل وانفرادها بتشريعات خاصَّة.
2- ومن ثمَّ بيَّن مكانة السنة من علوم الدين، ووجوب امتثالها، والتحاكم إليها.
3- وتحدث -أيضاً -عن خدمة العلماء للسنة النبوية المُشرَّفة، وما وضعوه من علوم المصطلح وعلم الجرح والتعديل، الذي يُفيد في قبول الأخبار أو ردِّها، والتميز بين الحديث الصحيح وغيره.
4- وتحدث عن طائفةٍ من علوم المصطلح؛ وهي: تقسيم الحديث إلى (آحاد) و(متواتر)، وهي قسمة من حيث عدد الرواة في حلقات الإسناد، وبيَّن مذاهب الأئمة في قبول خبر الآحاد في الفروع والعقائد، وبيَّن أن مذهب المُحقِّقين من سلف هذه الأمة، وإجماعها منعقدٌ على قبول خبر الواحد إذا ثبتت صحته.
وأنقل هنا أهم ما ورد في الكتاب...
تعريف الحديث المتواتر، هو:
ما رواه جمعٌ تحيل العادة تواطؤَهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه، ويكون مستند خبرهم الحسُّ والمشاهدة.
والمتواتر قسمان:
1- لفظي، وهو: ما تواتر لفظه ومعناه.
ومن أمثلته، حديث: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، وقد رواه أكثر من ثمانيةٍ وستين من الصحابة رضوان الله عليهم.
2- معنوي، وهو: ما تواتر معناه وإن لم يتواتر لفظه.
ومن أمثلته: أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أكثرُ من مائة حديثٍ فيه أنه صلى الله عيله وسلم رفع يديه في الدعاء لكنها في قضايا مختلفة لم تتواتر بمفردها.
ما يفيده المتواتر:
اتفقت كلمة العلماء على أن الحديث المتواتر يفيد العلم القطعي الضروري لا النظري، وهذا عند عامة المسلمين خلافاً للمعتزلة وبعض الفرق الضَّالة، ولذا لا يصح إنكار الحديث المتواتر، ولا البحث عن استدلاله لأنه ثابت قطعاً.
تعريف حديث الآحاد، هو:
وهو: ما لم يجمع شروط المتواتر أو أحدها، سواء كان رواته واحداً أو عدداً.
وينقسم الآحاد باعتبار عدد طرقه ورواياته إلى ثلاثة أقسام:
1- الغريب، وهو: ما ينفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند، وقد يعبر علماء الحديث عنه بالفرد.
ومثاله: حديث: "إنما الأعمال بالنيات"؛ فقد تفرد به عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يرويه عن عمر إلا علقمة بن وقاص، ولا يرويه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا يرويه عن التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر الحديث.
2- العزيز، وهو: ما يرويه اثنان عن اثنين في طبقة أو أكثر من طبقات الإسناد.
ومثاله: ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة، والشيخان من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"؛ فقد رواه من الصحابة: أنس وأبوهريرة، ورواه عن أنس اثنان: قتادة وعبد العزيز بن صُهَيب، ورواه عن قتادة اثنان: شعبة وسعيد، ورواه عن عبد العزيز اثنان: إسماعيل ابن عُلية وعبد الوارث، ثم رواه عن كل منهما جماعة.
3- المشهور، وسماه جماعة من الفقهاء: المستفيض، وهو: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين ولم يبلغ حد التواتر.
ومثاله: حديث أنس رضي الله عنه الذي رواه الشيخان: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رِعْل وذكوان"، فقد رواه عن أنس: قتادة وعاصم وأبو مِجْلَز: لاحق بن حُميد، وأنس بن سيرين، ورواه عن كل واحد جماعة.
ما يفيده خبر الآحاد:
ذهب العلماء في مجال الأخذ به مذاهب مختلفة، وإليك بيانها مع ذكر حُجج كل مذهب:
المذهب الأول: أن خبر الواحد الثقة يفيد العلم اليقيني مطلقاً.
وهو مذهب داود الظاهري، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي، ورواية عن أحمد، وحكاه ابن خويزمنداد عن الإمام مالك، وجزم به الإمام الشافعي في كتاب "الرسالة"، و"اختلاف مالك"، و"جماع العلم"، ونصره ابن حزم في "الإحكام"، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، واختاره من المتأخرين العلامة صديق حسن خان في كتابه "الدين الخالص"، والعلامة أحمد شاكر في "الباعث الحثيث"، والدكتور صبحي الصالح في كتابه "علوم الحديث"، وهو الذي اختاره المؤلف الدكتور عامر صبري.
المذهب الثاني: أنه يفيد العلم اليقيني إذا احتفت به قرائن، وإلا أفاد الظن، مع كونه حُجَّةٌ يجبُ العمل بها.
ومن هذه القرائن أن يُخرجه الشيخان أو أحدهما في صحيحيهما، أو يكون مسلسلاً بالأئمة الحُفاظ، وهذا مذهب عامة أهل الحديث وكثير من محققي الفقه والأصول وكثير من متكلمي الأشعرية، وعامة الفقهاء من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة وغيرهم، وهو اختيار ابن حجر في "النزهة"، وإليه ذهب أبو إسحاق الإسفراييني، وابن فورك، وأبو عبد الله الحميدي، وأبو الفضل ابن طاهر، وأبو عمرو بن الصلاح، وغيرهم.
المذهب الثالث: أن خبر الواحد الثقة يفيد الظن ولا يفيد العلم، ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك، ولكنه حُجة من حُجج الشرع يلزم العمل به سواء أكان في العقائد أم في الأحكام العملية.
وهو مذهب ابن عبد البر المالكي، والإمام النووي، والعز بن عبد السلام، وابن الأثير.
والحقُّ: أن الخلاف بين أصحاب المذهب الثالث والثاني هو خلافٌ نظريٌّ ليس له أثر في الواقع، فالجميع يوجبون العمل بخبر الواحد إذا توافرت فيه شروط القبول.
وفي إطار الردِّ على المذهبن الأخيرين: ينبغي أن نشير إلى أنه لا يمكن أن يكلف الله عز وجل بأمر لم يثبت من طريق التواتر - ثم يعمل المسلم بذلك التكليف وهو يعتقد أن هذا الذي يفعله أمر ظني أو احتمالي والعلم بصحته غير واجب شرعاً !.
المذهب الرابع: أن خبر الآحاد يفيد الظن، لا يصح الاعتماد عليه في العقيدة وفي الغيبيات، أما ما سوى ذلك في الأحكام العملية وغيرها فإنه يجب العمل به.
وهو مذهب طائفةٍ من المتأخرين، كالشيخ عبد الوهاب النجار، والشيخ محمود شلتوت، ويحتجُّ هؤلاء بأن العقائد قطعية فلا يجوز أن يحتج عليها إلا بقطعي.
وقولهم هذا ضعيف؛ لأن كل ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو واجب التصديق واجب الاتباع خبراً كان أو إنشاء، عقيدة كان أو غير عقيدة، للنصوص الكثيرة المتواترة الآمرة بطاعة الله وطاعة رسوله، وأما النهي عن اتباع الظن، فالمقصود هو النهي عن اتباع الظن المذموم الذي لا يقوم عليه دليل. وبهذا يتبين أن قول بعضهم: الأئمة قاطبة يرون أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن، هي عبارة خاطئة تماماً...
المذهب الخامس: وهو مذهب الخوارج والمعتزلة، وهؤلاء لا يحتجون بأحاديث الآحاد لا في العقائد ولا في الأحكام.
وحجة هؤلاء هي نفس حجة المذهب السابق الذكر، أي أن هذه الأحاديث لا تفيد إلا الظن ولا تفيد علماً مقطوعاً به لما فيها من احتمال الخطأ والوهم والكذب.
ولا شك أن هذا القول باطل؛ لأن من لوازمه الاقتصار على ما جاء في القرآن الكريم، وعلى الأحاديث المتواترة، والتي لا يصل عددها إلى مائتي حديث.
القول الحق في قبول خبر الآحاد:
إن الحق الذي ندينُ الله به: أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل جميعاً، إذا توافرت فيه شروط القبول، ولم يطعن فيه أحد من العلماء المعتبرين، وأنه حجة قاطعة فى الدين سواء أكان فى العقائد أم في غيرها، وأن الادعاء بأن أحاديث الآحاد تفيد الظن أو لايعمل بها في العقائد ليس عليه أي دليل من القرآن والسنة وعمل الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
ولا شك أن نسبة أحاديث الآحاد إلى المتواترة (99 %)، وقد ألف العلامة المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى كتاباً سماه "وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة والأحكام" وذكر عشرين وجهاً تدل على وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة وغيرها، ورد على هذا المذهب القائل بأنه لا يُحتجُّ بهذه الآحاد فى العقيدة لأنها لا تفيد اليقين، ومعلومٌ أن كل حديث يُعمل به لا بُدَّ أن يكون للقلب حظُّ اعتقادٍ فيه، بل إن كثيراً من الأحاديث العملية تتضمن أموراً اعتقادية..
وأما الأدلة باختصار على حجية خبر الآحاد في العلم والعمل؛ فهي:
1- قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 122): والطائفة تصدق على الواحد والاثنين فهي جزء من الفرقة.
2-قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6): فإذا كان الفاسق لا يُقبل خبره، فقبول خبر العدل من باب أولى.
3-ومن السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل رسله إلى الملوك فى مختلف الأمصار، لدعوتهم إلى دين الإسلام، فقاموا بذلك وهم فرادى.
والحمد لله رب العالمين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق