لماذا ندعو غير الله عز وجل؟
تأليف الشيخ:
أبو عبد الله ليث الحيالي
اعتنى به: أ. محمد ناهض عبد السم حنُّونة
تمهيد/ لقد فضل الله نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل، وجعل أمته ظاهرةً على جميع الأمم، فجعلها أمةً وسطاً، وأنعم عليها بتحقيق التوحيد الخالص لله، والدعوة إلى عبادته وحده، وإعلاء كلمته ودعوته، وإظهار دينه وشرعه، وكان السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم رضوان الله عليهم ممتثلين مُتبعين، لا يخرجون عن أمره ونهيه، وذلك في القرون الثلاثة المفضلة.
وقد ابتليت أمة الإسلام بعد هذه القرون المُعظَّمة، بأقوامٍ من المبتدعين والزنادقة: الذين دعوا إلى عبادة الأموات، والاستغاثة بالمقبورين، ودعاء الغائبين، ولم يعتبروا قول الله عز وجل، وهو أصدق القائلين: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الأعراف: 194).
وقد أمر الله نبيَّه مُحمداً صلى الله عليه وسلم بتوحيد العبادة، والدُّعاء له وحده لا شريك له: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} (الجن: 20)، وقال: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (القصص: 87).
وأخبر النبيُّ صلوات الله وسلامه عليه: أن (الدُّعاء هو العبادة)؛ كما في الحديث الحسن، الذي أخرجه أبو داود والترمذيِّ عن النعمان بن بشيرٍ مرفوعاً.
وقال جل شأنه في معرض التمثيل لهذا الأمر: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج: 73)؛ فإذا كان هؤلاء الأولياء والصالحين والمقبورين عاجزين عن خلق ذبابة، مع اجتماعهم لذلك، فهم عاجزون عن ذلك بمفردهم، وأنى لهم التصرف في هذا الكون بمخلوقاته وكائناته التي تفوق الذباب في الحجم والدقة والإتقان، وكيف يستطيعون شفاء المرضى، أو إخراج السجين، أو إحياء الموتى، أو المنع والعطاء من دون الله، لا شك أن هذا مُحالٌ في حقهم وقد أرموا وماتوا.
وقال سبحانه مُبيناً حال المشركين عند الاضطرار أنهم لا يلجأون إلا إليه، وأنهم يتركون دعاء الأصنام والأوثان والوسطاء من الملائكة والصالحين في هذه الحالة، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} (الإسراء: 67)، وهذا يدلُّ على أنه من كان لا يُنجي في البحر غيره، فإنه لا يُنجي في البر غيره؛ ولهذا أنكر الله عليهم دعاءهم لغيره في حالة الرخاء والأمن.
وقال سبحانه: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (يونس: 106)؛ وهذه الآية واضحةٌ في النهي عن دعاء غير الله؛ لأنه لا يملك أحدٌ من المخلوقين جلب النفع ولا دفع الضر، فكيف يستغيث هؤلاء المشركون بهؤلاء الضعفاء العاجزين، ويتوجهون إليهم بالدعاء والاستغاثة والتوسل دون ربهم جل في علاه، وهو أقرب إليهم، وأسمع لدعائهم منهم.
وقد أنكر سبحانه على من يتخذ أرباباً يدعونهم ويستغيثون بهم من دون الله، فقال: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (المائدة: 76).
ويواصل القرآن التحذير من هذا الشرك في العبادة؛ فلا الأنبياء ولا غيرهم من البشر، ولا أحدٌ من الخلق يملك لأحدٍ من الخلق ضراً ولا نفعاً، بل ولا لنفسه، وإن كان أفضل الخلق، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (الجن: 21) وقال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (الأنعام 50).
وقد شيَّع أولئك الزنادقة المشركون هذه الضلالات في بلاد المسلمين بإغراء العوام بأن لهؤلاء الشيوخ كرامات، وقوَّوا في الناس العزائم على الاستغاثة بالغائبين، وسولوا لهم ذلك بالقصص المخترعة، وخوَّفوهم من إذاية المقبورين لهم، وسوء فعلهم بمن يُنكر الاستغاثة بهم، فانفرط بسوء فعلهم عقد التوحيد، وعظم الخطب بما أجلبوا على عقول البسطاء والعوام من سيل الشبهات، وظلمات الأهواء، وفُتن بسببهم كثيرين من هذه الأمة، فضلُّوا الطريق؛ وانجفل الناس بسببهم عن حقائق التوحيد، وتسلَّط الروم والتتار على بلاد المسلمين.
وعظم إضلال الشيطان لهم ولأتباعهم، حينما ادَّعوا -كذباً - أن لهم الولاية الخاصة دون عموم المسلمين، فزعموا أنهم أولياء الله وخواصّه، وأما بقيَّة المسلمين فهم من جملة العوام المحورمين، ونسبوا إلى أوليائهم العصمة المُطلقة، وزعموا التقاءهم بالخضر، وأنهم يجتمعون برجال الغيب ويتلقون عنهم الأوردا والأأحزاب والأدعية والاستغاثات المشتملة على السحر والاستعانة بالجان، والمتضمنة للكفر بالله والشرك به.
وزعموا أنهم يرون الأنبياء يقظةً، ويأخذون عنهم العلم والدين، وأنهم يقفون مع الحجاج يوم عرفة، بل قالوا: إنهم يتلقون الوحي من الله عز وجل مباشرةً، واشتغلوا بعلوم السحر والكهانة فيما يظُّنه الناس كرامات، ثم قالوا: بأن الأولياء يديرون العالم، ويتحكمون في الكون، فغوى بسببهم كثيرٌ من الخلق -عياذاً بالله تعالى.
وقد ساعدتهم الشياطين في شرك الربوبية الذي زيَّنوه باسم التوسُّل، فعبدوا القبور، وسجدوا للأضرحة، وطافوا بالقباب، ودعوا الأموات، واستغاثوا بغير الله من الشياطين والمردة والجان، وطلبوا من الأموات: المدد والولد والمال والشفاء والسعادة والرزق على رءوس الأشهاد !!
وبهذا الغلو المُفرط ترك هؤلاء المبتدعة المارقون حق الله عز وجل من عبادته وحده، وجعلوا هؤلاء المقبورين أرباباً تُدعى من دون الله، واشتغلوا بالشرك وغيره، وبطلب حوائجهم ممن يستغيثون به، ويتوسلون إليه، من الملائكة والنبيين وغيرهم من الصالحين.
وقد ضرب الله مثلاً لهؤلاء المشركين في كتابه؛ فكان مثلهم كأُناسٍ بلغ بهم العطش كل مبلغ، فلما كانوا على كثيب الرمل بعد طول سفر، رأوا ماءً يلمع في الأفق؛ فحسبوه ماءً بقيعة؛ فلما أتوه لم يجدوه شيئاً، كما قال الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} (النور: 39).
ولو أن هؤلاء الذين المشركين، الذين اتخذوا هذه المخلوقات أرباباً مع الله يخلقون ويرزقون -استسلموا لعقولهم، واستجابوا لكلام ربهم في كتابه، وكلام رسولهم صلى الله عليه وسلم في سنته، لوجدوا أن كل أعمالهم وسعيهم هباءً منثوراً، وضلالاً مبيناً؛ إذ لا يقبل الله عمل عامل أشرك فيه معه غيره، قال سبحانه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (النساء: 48)، وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النساء: 116).
فإذا اسقطت هذه الخمائر العفنة عن تلك القلوب الخربة، التي علاها ران الشرك والبدع، والتي اسودَّت لطول تعلقها بغير الله، تبيَّن ما قاله الله في كتابه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: 31).
ونحن نعلم ضرورةً أن الناس كلهم مطبوعون على الإيمان بوحدانية الله، واعتقاد أنه الخالق الرازق، الذي لا يُغيث غيره، ولا يُعين سواه، ولا يُقصد غيره بالرغب والرهب والخشوع والخوف والرجاء والدعاء؛ فلماذا يدعو هؤلاء غير الله سبحانه، ويتوجهون إلى غيره ؟!!.
وقد صوَّر القرآن الكريم حال هؤلاء المشركين عند رؤيتهم لمن اتخذوهم أرباباً وأولياء يدعونهم ويستغيثون بهم؛ فيقول: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} (النحل: 86)، وحينها يتبرأ هؤلاء البشر من أولئك المشركين ومن دعائهم لهم، وإذا كانت الإجابة من الله وحده، فلماذا ندعو غير الله ؟ والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ جداً.
وهذه الصفحات المباركة في كلماتها، البسيطة في أسلوبها، والسهلة في نثرها، جاءت لبيان بيان أهمية الدُّعاء وكونه عبادة من العبادات التي يُتقرب بها إلى الله عز وجل، كما وضحكت حكم دعاء غير الله عز وجل وأن فاعل ذلك حكم على نفسه بالشرك والضلال، كل ذلك مقروناً بالأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة، وآل البيت رضوان الله عليهم، ومشفوعةً ببعض القصص الواقعية التي جرت للشيخ المؤلف، ولبعض من ذكرهم من المتقدمين، وفيها بيان فضل الدُّعاء، وأن الدعاء كله مُستجاب.
وقد بيَّن فيها المؤلف معنى الدُّعاء في اللغة (والذي يأتي بمعنى الطلب والسؤال -والعبادة -والاستغاثة والاستعانة -والنداء -والقول -والتوحيد -الثناء)، وكذلك الدعاء في الشرع بأنه: (طلب العبد للمعونة والعناية من الله)، وحقيقته (إظهار الافتقار إلى الله، والتبرؤ من الحول والقوة)، وأنواعه (دعاء المسألة -ودعاء العبادة)، وبيَّن أن الدُّعاء هو العبادة، .
وقد شرحها الشيخ في ثلاثة مجالس في هذا الرابط:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق