مجموعة نقولات من مؤلفات محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
في مسائل العذر بالجهل وتكفير المُعيَّن
والفرق بين قيام الحجة وفهمها
جمع وإعداد: الشيخ طلعت مرزوق
تقديم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ ذكر المؤرخون كابن غنام وابن بشر وغيرهما حالة أهل نجد، والعالم الإسلامي عموماً إبان ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وذكروا أن هذه البلاد كانت تعجُّ بالبدع والخرافات والشرك، ففي نجدٍ كانت تُعبد القبور والأشجار والأحجار والمغارات، ويتقرب الناس إليها بأنواع من القربات، وكان ذلك منتشراً من البلاد في ذلك الشيء الكثير، وقد نظم العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني قصيدةً وصف فيها حال الناس في تلك الفترة، مُثنياً على دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب، ولن تُخطئ العين الفاحصة صدق ذلك الوصف، وشواهد هذه المنكرات لا زالت باقية إلى يومنا هذا.
وبعدما أشرقت دعوة الشيخ في شبه الجزيرة العربية، وتفاءل الناس بظهورها: انقطع رهج البدعة، وخفت ضوؤها، وأظلمت على المبتدعة مساكنهم، وشاهت وجوه المشعوذين وعبدة الطاغوت، وظهر للناس ضلال هؤلاء في مقابل صورة الإسلام النيِّرة التي بلغ نورها أرجاء العالم الإسلامي، وخابت مساعي المُطففين، ولم يعد في قدرتهم إذلال العوام واستعباد الناس، وأكل أموالهم بالباطل، الأمر الذي لم يرق لبعض الحثالة المرتزقة الذين وظفوا الدين والآثار لجمع الأموال والثروات؛ وكان مجدهم الزائف الذي بُني على القباب والمشاهد قد ذهب بذهابها، ولم يعد بالإمكان استعادته.
حينها انبرت ألسنة المبتدعة وأقلامهم، بمداد قلوبهم السوداء ليؤلبوا الناس على دعوة الشيخ، فأبصروا القذى في الدعوة النجدية، وعيونهم تطرف على الأجذاع والشرك، وقد سودوا الصفحات بالقذارات من الأكاذيب والبهتان، والتي منها ما يُثير الاشمئزاز، ومنها ما يُثير السُّخرية، كل ذلك لينالوا من دعوة الشيخ المباركة، ويفتُّوا من عضدها، فروَّجوا الكذب وأشاعوه بين الخلق بالرسائل المؤلَّفة والقصص المخترعة والمخاطبات الممزوجة بالحقد والكراهية.
ولم يتهم هؤلاء أنفسهم بخيانة أمانة العلم والدين، أنهم تركوا دعوة الحق وتمسَّكوا بعبادة الأحجار والأوثان والقبور، ولو عاد إليهم رشدهم وتأمَّلوا دعوة الشيخ لوجدوها ناصعة البياض تستمدُّ إشراقها وصفاءها من وحي النبوَّة المُحمَّدي، ولكنه الكبر والعناد، وحُبِّ الرياسة والرغبة في الأتباع، والطغيان الذي أعمى أبصارهم وقلوبهم، فتباكوا على لعاعة الباطل باسم الحق المظلوم، وليتهم وضعوا أهواءهم الدنسة تحت أقدامهم؛ لأنه حينئذٍ سيتضح لهم صحة المنهج، ويتسع لهم ولغيرهم المخرج، ولكن {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ}، وذهبوا عن وجه هذه الدُّنيا، لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال، ودانت لدعوة الشيخ مشارقها ومغاربها.
وهذه مادةٌ نفسية تضمنت مجموعةً مباركة من كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي الحنبلي، وفيها دفاعٌ عن الشيخ أولاً، وبيان أنه رحمه الله لم يكن يُكفِّر الناس بالعموم ولا بالظن، ولا بالموالاة له وعليه، وأنه رحمه الله لم يكن رحمه الله يكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، وقيام الحُجَّة يكون بإقامة الدلائل والبراهين على دعوة التوحيد، وإزالة الشُّبهات، ومثل هذه المقدمة تطول، ولكن من المناسب ذلك هذه الأقوال؛ فنشرع فيها مباشرةً:
[1] قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى في رسالته إلى محمد بن عيد من مطاوعة "ثرمدا"؛ قال: "الثالثة: تكفير من بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله ثم أبغضه ونفّر الناس عنه. وجاهد من صدَّق الرسول فيه. ومن عرف الشرك وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بإنكاره وأقر بذلك ليلاً ونهاراً ثم مدحه وحسَّنه للناس وزعم أن أهله لا يخطئون لأنهم السواد الأعظم. وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن الله ورسوله" (الرسائل الشخصية: 3 /25).
[2] وقال في رسالته إلى السويدي من علماء العراق: "وأما التكفير، فأنا أكفّّر من عرف دين الرسول، ثم بعد ما عرفه سبَّه ونهى الناس عنه، وعادى مَن فعله؛ فهذا هو الذي أكفّره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك" (الرسائل الشخصية: 38/6).
[3] وقال في رسالة أرسلها لعالمٍ من أهل المدينة: "فإن قال قائلهم: إنهم يكفرون بالعموم، فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! الذي نكفّر: الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة، ثم بعد هذا يكفّر أهل التوحيد، ويسميهم الخوارج، ويتبين مع أهل القبب على أهل التوحيد. ولكن نسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبساً علينا فنضل. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}(آل عمران: 31).
وقال الشيخ سلمان بن سحمان في "منهاج أهل الحق والاتباع" (ص 76): قال الشيخ حسين بن محمد بن عبد الوهاب، وأخوه عبد الله بن عبد الوهاب، لما سُئلا عن قول الشيخ وغيره: إنا لا نُكفِّر بالعموم؟ قالا: فالفرق بين العموم والخصوص ظاهر؛ فالتكفير بالعموم أن يكفر الناس كلهم عالمهم وجاهلهم ومن قامت عليه الحجة ومن لم تقم عليه, وأما التكفير بالخصوص فهو أن لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة بالرسالة التي يكفر من خالفها".
[4] وقال في رسالته إلى حمود التويجري: "بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا، بأن من عمل بالتوحيد، وتبرأ من الشرك وأهله، فهو المسلم في أي زمان وأي مكان. وإنما نكفّر مَن أشرك بالله في إلهيته، بعد ما نبين له الحجة على بطلان الشرك. وكذلك نكفّر من حسنه للناس، أو أقام الشُّبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه دون هذه المشاهد التي يشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها وسعى في إزالتها؛ والله المستعان. والسلام" (الرسائل الشخصية: 60 /6).
[5] وقال في رسالته إلى أهل القصيم: "بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم (*) قد وصلت إليكم، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم؛ والله يعلم أن الرجل افترى عليَّ أموراً لم أقلها، ولم يأت أكثرها على بالي. "فمنها": إني أكفّر من توسل بالصالحين (**)، وإني أكفّر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق (***)، وإني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب، وإني أحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفّر من حلف بغير الله (****)، وإني أكفّر ابن الفارض وابن عربي، وإني أحرق دلائل الخيرات، وروض الرياحين وأسميه روض الشياطين (*****)، جوابي عن هذه المسائل أن أقول: سبحانك هذا بهتانٌ عظيم ! (الرسائل الشخصية: 6 /12).
(*) سليمان بن أ؛مد بن سحيم العنزي خصمٌ شديد العداوة للشيخ الإمام، وقد بذل وسائل عديدة في التشنيع بالدعوة الوهابية وتحريض العلماء في الرد عليها، ولد سنة (1130 هـ)، وتوفي في الزبير سنة (1181 هـ).
(**) قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في "منهاج التأسيس" (ص 267): "إن لفظ التوسل صار مشتركاً، وهو في عرف عباد القبور يستعمل في دعاء الصالحين وعبادتهم، فعباد القبور يُطلقون التوسل على الاستغاثة بغير الله ودعائه رغباً ورهباً، والذبح والنذر، والتعظيم بما لم يشرع في حق مخلوق، وأهل العلم يُطلقونه على المتابعة، والأخذ بالسنة فيتوسلون إلى الله بما شرعه لهم من العبادات وبما جاء به عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا هو التوسل في عرف القرآن والسنة.
ومنهم من يُطلقه على سؤال الله ودعائه بجاه نبيّه أو بحقِّ عبده الصالح، أو بعباده الصالحين، وهذا هو الغالب عند الإطلاق في كلام المأخرين؛ كالسبكي، والقسطلاني وابن حجر -أي الهيثمي". وقد استغل خصوم الدعوة الوهابية هذا الإجمال والاشتراك في لفظ التوسل؛ فقلبوا الحقائق وأجازوا دعاء الموتى، والاستغاثة بهم، باسم التوسُّل، ثم زعموا أن الشيخ الإمام يُكفر من توسل بالأنبياء والصالحين!!.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان في "الصواعق المرسلة الشهابية": "والتوسل له أقسام؛ فقسم مشروع؛ وهو التوسل بالأعمال الصالحة وبدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وطلب الاستغفار منه وبدعاء الصالحين وأهل الفضل والعلم كما استسقى عمر رضي الله عنه بدعاء العباس، ومعاوية رضي الله عنهما بدعاء يزيد بن الأسود، الجرشي؛ وكذلك بالأعمال الصالحة؛ وقسم محرم وبدعة مذمومة وهو التوسل بحق العبد وجاهه وحرمته نبياً كان ذلك أو وليا ًأو صالحا؛ كأن يقول الإنسان: اللهم إني أسألك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو بجاه عباد الله الصالحين أو بحقهم أو بحرمتهم؛ ونحو ذلك لأن ذلك لم يرد به نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين رضي الله عنهم؛ فإذا عرقت أن معنى التوسل في لغة الصحابة طلب الدعاء؛ وأن هذا هو الشرع؛ وأن ما عداه إما شرك أو محرم أو مكروه مبتدع؛ عرفت أن قصد هؤلاء بالتوسل هو دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين؛ وصرف خالص حق الله تعالى لهم بجميع أنواع العبادات من الدعاء والخوف والرجاء والنذر والتوكل والاستغاثة والاستعانة والاستشفاع بهم وطلب الحوائج من الولائج في المهمات والملمات وكشف الكربات وإغاثة اللهفات ومعافاة أولى العاهات والبليات؛ إلى غير ذلك من الأمور التي صرفها المشركون لغير فاطر الأرض والسماوات؛ نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه؛ فمن صرف من هذه الأنواع شيئا لغير الله؛ فهو كافر مشرك بإجماع المسلمين".
(***) وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه "التوحيد" (ص 113): "باب (43) قول: ما شاء الله وشئت، المسألة الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله ندا؟ " فكيف بمن قال " ما لي من ألوذ به سواك ".
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في "مجمزعة الرسائل والمسائل" (1/ 47): إن صاحب البردة وغيره ممن يوجد الشرك في كلامه، والغلو في الدين، وماتوا لا يُحكم بكفرهم، وإنما الواجب إنكار هذا الكلام، وبيان أن من اعتقد هذا على الظاهر فهو مُشركٌ كافر، وأما القائل فيُردُّ أمره إلى الله سبحانه وتعالى،والبوصيري هو محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري، ولد ببهتيم سنة (608 هـ)، وتوفي بالإسكندرية سنة (696 هـ).
(****) واعلم أن الحلف بغير الله من الشرك الأصغر، والحلف بالله كذباً كبيرةُ من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر وإن كان أصغر. وقد يصل الحلف بغير الله إلى الشرك الأكبر إذا قصد تعظيم المحلوف كتعظيم الله تعالى، كمن يحلف بالله كذباً؛ فإذا استحلف بمن يُعظمه من الموتى ويعتقد له السر والتصرف تكعكع وصدق، وإن كان في ذلك ذهاب بعض ما يُحرص عليه من منفعة يُضحي بها خوفاً من عقاب وانتقام وتصرف ذلك الولي فيه، وذلك أن حقيقة اليمين والقصد منه إنما هو تأكيد الحالف قوله بالقسم المحلوف به، الذي يقدر أن ينتقم منه ويُعاقبه إن كان كاذباً.
(*****) وقد أنشد أحد خصوم الدعوة الوهابية شعراً في هذه الفرية؛ فقال:
يا مُحرقاً روض الرياحين الذي … يحكي حكايَ الصالحين الزُّهَّدِ
يا مُفتياً بخراب قبة أحمدٍ … كـــــــــل العلــــــــوم الهاشميِّ السيِّد
وكتاب روض الرياحين تأليف عبد الله بن سعد بن علي الييافعي، المتوفى سنة (768 هـ)، أما دلائل الخيرات في كيفية الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفضله، فمن تأليف محمد بن سليمان المغربي الشاذلي، المتوفى سنة (854 هـ).
قال الشيخ الإمام في "مجموعة مؤلفاته" (6/ 37): وأما دلائل الخيرات فله سببٌ وذلك أني أشرتُ إلى من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجلَّ من كتاب الله، ويظنُّ أن القراءة فيه أجلّ من قراءة القرآن، وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأيِّ لفظٍ كان، فهذا من البُهتان!.
[6]وقال في رسالته لعبد الله بن سحيم مطوع "أهل المجمعة" (*): " فالمسائل التي شنع بها، منها ما هو من البهتان الظاهر:
وهي قوله: إني مبطل كتب المذاهب.
وقوله: إني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء.
وقوله: إني أدعي الاجتهاد.
وقوله: إني خارج عن التقليد (**).
وقوله: إني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة (***).
وقوله: إني أكفّر من توسل بالصالحين.
وقوله: إني أكفّر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق.
وقوله: إني أقول: لو أقدر على هدم حجرة الرسول لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب.
وقوله: إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم.
وقوله: وإني أكفّر من يحلف بغير الله.
فهذه اثنتا عشرة مسألة، جوابي فيها أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! (الرسائل الشخصية: 6 / 64).
(*) هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن سحيم ولد في "المجمعة" وقرأ على علماء سدير، وصار قاضياً على بلدان سدير، وقد كتب له الشيخ الإمام رسالتين، مُجيباً فيهما على شبهات المويس وسليمان بن سحيم، وكان سليمان بن محمد بن سحيم مطوع من أهل الرياض، قد أرسل رسالةً إلى أهل البصرة والحسا يُشنِّع فيها على الشيخ بالكذب والبهتان والزور والباطل.
(**) قال الشيخ الإمام في "مجموعة مؤلفاته" (6/ 40): "فنحن ولله الحمد مُتبعين غير مبتدعين، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وحتى من البهتان الذي أشاع الأعداء أني أدعي الاجتهاد، ولا أتبع الأئمة". وقال أيضاً (ص 94): "وأما ما ذكرت من حقيقة الاجتهاد فنحن مُلدون للكتاب والسنة وصالح سلف الأمة، وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى". وقال (ص 107): "وأما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، ولا يُنكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة إجماع الأمة"، وقال (ص 276): "وأشهد الله وملائكته أنه إن أتاني منه -يقصد عبد الله بن عيسى مطوع الدرعية، أو ممن دونه في هذا الأ/ر كلمةٌ من الحق لأقبلنَّها على الرأس والعيد، وأترك قول كل إمامٍ اقتديتُ به حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يُفارق الحق".
(***) "اختلاف أمتي رحمة" لا أصل له، قال ابن حزم، والمناوي، والسبكي، والألباني. انظر الضعيفة (1/ 57/ 76).
[7] وقال في رسالته إلى أحمد بن يحيى مطوع من "أهل رغبة": "ولا يخفاك أن الذي عادانا في هذا الأمر هم الخاصة الذين ليسوا بالعامة؛ هذا ابن إسماعيل والمويس وابن عبيد، جاءتنا خطوطهم في إنكار دين الإسلام الذي حكي في الإقناع، في باب حكم المرتد: الإجماع من كل المذاهب أن من لم يدن به فهو كافر. وكاتبناهم، ونقلنا لهم العبارات، وخاطبناهم بالتي هي أحسن، ما زادهم ذلك إلا نفوراً، وزعموا أن أهل العارض ارتدّوا لما عرفوا شيئاً من التوحيد. وأنت تفهم أن هذا لا يسعك التكفي عنه، فالواجب عليك نصر أخيك ظالماً ومظلوماً" (الرسائل الشخصية: 6 /300).
[8] وقال في رسالته إلى أهل المغرب: "فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر إلى أن كفّرونا وقاتلونا، واستحلوا دماءنا وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم. وهو الذي ندعو الناس إليه، ونقاتلهم عليه بعد ما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة، ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (الأنفال: 39)، فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان، قاتلناه بالسيف والسنان" (الرسائل الشخصية: 6 /114).
[9] وقال في رسالته لابن صياح: "من قال: إن دعوة الصالحين واستغاثتهم، والنذر لهم وصيرورة الإنسان فقيراً لهم، أمر حسن، ولو ذكر الله ورسوله، أنه كفر؛ فهو مصر بتكذيب الله ورسوله، ولا خفاء في كفره؛ فليس لنا معه كلام.
وإنما كلامنا مع رجل يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله؛ لكنه جاهل قد لبست عليه الشياطين دينه، ويظن أن الاعتقاد في الصالحين حق؛ ولو يدري أنه كفرٌ يدخل صاحبه في النار، ما فعله، ونحن نبين لهذا ما يوضح له الأمر" (الرسائل الشخصية: 6 /52 -53).
[10] وقال في رسالته لإسماعيل الجراعي من أهل اليمن: "وأما القول: إنا نكفّر بالعموم، فذلك من بهتان الأعداء الذين يصدون به عن هذا الدين؛ ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! وأما الصالحون، فهم على صلاحهم، رضي الله عنهم، ولكن نقول: ليس لهم شيء من الدعوة، قال الله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18)" (الرسائل الشخصية: 6 / 101).
[11] وقال في الرسالة التاسعة: "وبعد، فما ذكر لكم عني: أني أكفّر بالعموم، فهذا من بهتان الأعداء. وكذلك قولهم: إني أقول: من تبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده، وأنه ما يكفيه حتى يجيء عندي، فهذا أيضاً من البهتان. إنما المراد: اتباع دين الله ورسوله في أي أرض كانت.
ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله ثم عاداه وصد الناس عنه، وكذلك من عبد الأوثان بعد ما عرف أنها دين للمشركين وزينة للناس؛ فهذا الذي أكفّره. وكل عالم على وجه الأرض يكفّر هؤلاء، إلا رجلاً معانداً أو جاهلاً؛ والله أعلم. والسلام.
[12] وقال في الفتاوى والمسائل (ص 11): "وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنا نكفّر من لم يكفّر ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه.
فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله. وإذا كنا لا نكفّر مَن عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، ولم يكفّر ويقاتل؟ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16)".
[13] وقال في كتاب "مُفيد المستفيد" (ص 307): "إن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرك وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم كفر صريح بالفطر والعقول والعلوم الضرورية".
[14] وقال في المسائل التي لخصها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (12/ 99 -100): "لما استحلَّ طائفةٌ من الصحابة والتابعين الخمر، كقدامة وأصحابه، ظنوا أنها تُباح لمن عمل صالحاً على ما فهموا من آية المائدة، اتفق علماء كعمر وعليّ وغيرهما على أنهم يُستتابون فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقرُّوا بالتحريم خُلدوا؛ فلم يُكفروهم بالاستحلال باتداءً لأجل الشبهة حتى بيَّن لهم الحق، فإن أصروا كفروا، ولهذا كنتُ أقول للجهمية الذين نفوا أن يكون الله فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنتُ كافراً، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جُهَّال
ونحن نعلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأحياء ولا الأموات، لا الأنبياء ولا غيرهم، لا بلفظ الاستعانة، ولا بلفظ الاستغاثة ولا غيرهما، كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت ولا إلى غير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن ذلك، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثيرٍ من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول.
ولهذا ما بينتُ هذه المسألة قط لمن يعرف أصل دين الإسلام إلا تفطن له، وقال: هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض أكابر الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذا أعظم ما بيَّنته له".
[15] وقال في مُفيد المستفيد نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية (ص 289): "قال رحمه الله تعالى أنا من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تبديع أو تفسيق أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى. انتهى كلامه (*).
قال: وصرَّح رحمه الله أيضاً أن كلامه أيضاً في غير المسائل الظاهرة (**) فقال في الرد على المتكلمين (يعني "نقض المنطق")، لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا. قال: وهذا إن كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم؛ فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر، ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين. وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين، كما فعل أبو عبد الله الرازي (يعني الفخر الرازي). قال: وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين" (***).
(*) والشيخ محمد بن عبد الوهاب يردُّ على من يزعم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لا يُكفر المُعين حتى لو أقيمت عليه الحجة!! يقول الشيخ في نفس الكتاب "مُفيد المستفيد": "انتهى كلام الشيخ وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين أنه لا يُكفر المعين". فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام الذي ينسب عنه من أزاغ الله قلبه عدم تكفير المُعين. ويقول (ص 301): "فتأمل كلامه رحمه الله في تكفير المُعين والشهادة عليه إذا قتل بالنار وسبى حريمه وأولاده".
(**) قوله (في غير المسائل الظاهرة)، وقال في موضعٍ آخر: "كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وإذا كان كلام الشيخ ليس في الشرك والردة، بل في المسائل الجزئيات، سواء كانت من الأصول أو الفروع". يُريد رحمه الله تعالى أن الفرق بين كفر النوع وكفر العين إنما هو في المسائل التي لم ينتشر علمها بين المسلمين عامة، وهو ما يُسميه العلماء (من المعلوم من الدين بالضرورة)، أي لا يحتاج إلى نظر واستدلال لتواتره بين المسلمين. وانظر قول شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى: 4/ 54 -55): "لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث بها، وكفر من خالفها". وقد كان رحمه الله تعالى يتكلم عن طائفة خاصة من المتكلمين الذين انسلخوا عن الدين في أشياء ظاهرة مع ادعائهم العلم. قال: "فقد حكي عن الجهم بن صفوان أنه ترك الصلاة أربعين يوماً لا يرى وجوبها. قال: وبلغ من ذلك أن منهم من يُصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب والأصنام، وأقام الأدلة على حسن ذلك، ومنفعته، ورغَّب فيه، وهذه ردةٌ باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون تاب منه وعاد إلى الإسلام". ولا بُد من التنبيه على أن المعلوم من الدين بالضرورة أمرٌ نسبي إضافي، يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص؛ فالمعلوم من الدين بالضرورة في الأزمنة التي تشرق في عباد الله غير المعلوم من الدين بالضرورة إذا غابت شمس الشريعة، وكان علماء السوء بلبسون على الناس دينهم وأهل الحق قليلون وصوتهم لا يصل إلى الناس كلهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (13/ 118): "وأيضاً كون الشيء معلوماً من الدين بالضرورة أمر إضافي؛ فحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية فضلا عن كونه يعلمه بالضرورة وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو وقضى بالدية على العاقلة وقضى أن الولد للفراش وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة وأكثر الناس لا يعلمه ألبتة".
وأما أن يُحمل كلام الشيخ على أنه يعذر في المقالات الخفية فقط؛ فنقول كما كان الشيخ يقول "سبحانك هذا بهتانٌ عظيم"، فماذا يُقال في قوله في "مسائل" (ص 11): "وإذا كنا لا نكفّر مَن عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم"، ماذا يُقال في نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية وإقراره له، ونحن نعلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأحياء ولا الأموات، لا الأنبياء ولا غيرهم، لا بلفظ الاستعاثة ولا لفظ الاستعاذة، ولا غيرهما، كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت ولا إلى غير ميت، ونحو ذلك. بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثيرٍ من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم".
(***) تنبيه: قوله (وهذه ردةٌ باتفاق المسلمين) لا يستلزم تكفيره للرازي بعينه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (23/ 345): " وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفرا فيطلق القول بتكفير صاحبه ويقال من قال كذا فهو كافر لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها".
وقال أيضاً في "الفتاوى" (3/ 230): " وكنت أبين لهم أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين".
ومما يدل على أن كلامه رحمه الله على العموم لا على التعيين قوله (4/ 53 -55): "وفي التعميم ما يُغني عن التعيين"، وقوله: "وذلك يقتضي وجود الردة فيهم"، وقوله: "وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون إلى الإسلام". وقال أيضاً في "اقتضاء الصراط" (ص 405): "أنهم ألفوا مذهب المشركين"، و "دخلوا في الشرك"، ولم يقل أن المؤلف مشرك". وقال في "الفتاوى" (5/562): "والرازي - وإن كان يقرر بعض ذلك - فالغالب على ما يقرره أنه ينقضه في موضع آخر لكن هو أحرص على تقرير الأصول التي يحتاج إلى معرفتها من الآمدي".
وقال الحافظ الذهبيُّ في "ميزان الاعتدال" (3/ 340): "وله كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى"، ونقل ذلك الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (4/ 426) وأقرَّه.
وقال الحافظ ابن كثير في "" (1/ 251): " وقد استقصى في (كتاب السر المكتوم، في مخاطبة الشمس والنجوم) المنسوب إليه، كما ذكرها القاضي ابن خلكان وغيره، ويقال إنه تاب منه، وقيل بل صنفه على وجه إظهار الفضيلة، لا على سبيل الاعتقاد، وهذا هو المظنون به".
[16] قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في "مُفيد المستفيد" (ص 290): "على أن الذي نعتقده وندين الله به ونرجو أن يثبتنا عليه، أنه لو غلط هو (أي: شيخ الإسلام ابن تيمية) أو أجل منه في هذه المسألة، وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين أو يزعم أنه على حق، أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر الذي بينه الله ورسوله وبينه علماء الأمة، أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره، ولو غلط، من غلط فكيف والحمد لله ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة".
[17] وقال في مُفيد المستفيد أيضاً (ص 328- 329): "ومن جواب له (يعني شيخ الإسلام ابن تيمية) رحمه الله لما سئل عن الحشيشة، ما يجب على من يدعي أن أكلها جائز؟
فقال: أكل هذه الحشيشة حرام، وهي من أخبث الخبائث المحرمة، سواء أكل منها كثيراً أو قليلاً، لكن الكثير المسكر منها حرام باتفاق المسلمين.
ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتداً، لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن بين المسلمين.
وحكم المرتد أشر من حكم اليهودي والنصراني، وسواءٌ اعتقد أن ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الذكر والفكر، وأنها تحرك العزم الساكن، وتنفع في الطريق وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر يباح للخاصة متأولا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} (المائدة: 93) "فاتفق عمر وعلي وغيرهما من علماء الصحابة على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا". انتهى ما نقلته من كلام الشيخ رحمه الله تعالى.
قال: فتأمل كلام هذا الذي ينسب إليه عدم تكفير المعين إذا جاهر بسب دين الأنبياء وصار مع أهل الشرك ويزعم أنهم على الحق ويأمر بالمصير معهم، وينكر على من لا يسب التوحيد ويدخل مع المشركين، لأجل انتسابه إلى الإسلام.
انظر كيف كفر المعين ولو كان عابدا باستحلال الحشيشة، ولو زعم حلها للخاصة الذين تعينهم على الفكرة، واستدل بإجماع الصحابة على تكفير قدامة وأصحابه إن لم يتوبوا، وكلامه في المعين وكلام الصحابة في المعين فكيف بما نحن فيه مما لا يساوي استحلال الحشيشة جزء من ألف جزء منه؟ والله أعلم".
[18] وقال في الفتاوى والمسائل" (ص 12): "فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف (*)، فلا يكفر حتى يعرّف.
وأما أصول الدين التي أوضحها الله في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن؛ فمن بلغه فقد بلغته الحجة (**).
ولكن أصل الإشكال: أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة (***)؛ فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله، مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 44).
وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها نوع آخر.
(*) الصرف: عمل سحري يُقصد منه تغيير الإنسان عما يهواه كصرف الرجل عن محبة زوجته إلى بغضها، والعطف: عمل سحري يُقصد منه ترغيب الإنسان فيما لا يهواه بطرق شيطانية.
(**) وبلوغ القرآن في حق المسلم الذي ثبت إسلامه لا بُد أن يكون على التفصيل لا على الإجمال؛ لأنه لا يمكن الجزم بتكذيبه لله ولرسوله، وهو لم يعرف الدليل التفصيلي.
(***) ولا بُد هنا من التنبيه على أن هناك فرقاً بين فهم الدلالة وفهم الهداية، فليس كل من بلغته الحجة وفهمها يهتدي بها لكن الله قد جعل فهم الدلالة شرطاً في تكليف عموم الناس: مؤمنهم وكافرهم، ولم يجعل فهم الهداية والتوفيق إلا لمن أراد لهم ذلك، وهو محض فضل من الله تعالى أو بفضل منه جزاءً لمن سعى في طلب العدى؛ فالفهم المشروط في قيام حجة الله على العباد غير الفهم الذي هو مقتضى هداية الله تعالى وتوفيقه. والشبهة التي تتعلق بفهم الحجة غير الشبهة التي هي لعدم الهداية ولو بلغت الحجة، وهذا فرقٌ ظاهرٌ؛ فالسمع والفهم المنفيِّ هنا: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} هو مقتضى الهداية لا أنهم صُمٌ لا يسمعون شيئاً، أو مجانين لا يفهمون ما يُقال لهم.
قال ابن القيم في "شفاء العليل" (ص 97) في تفسير قوله سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (الأنفال: 22 -23): " فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم".
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله تعالى في "تفسيره" (ص 318): " والسمع الذي نفاه الله عنهم، سمع المعنى المؤثر في القلب، وأما سمع الحجة، فقد قامت حجة الله تعالى عليهم بما سمعوه من آياته، وإنما لم يسمعهم السماع النافع، لأنه لم يعلم فيهم خيرا يصلحون به لسماع آياته".
وقال الشيخ ياسر برهامي في "لا إله إلا الله كلمة النجاة" (ص 47 -48): "الذي يُشترط في قيام الحجة: وضوحها بطريقة نفهمها مثله، وإزالة الشبهات عنه بحيث لا تبقى شبهة عند مثله، ولا يشترط أن يفهمها هو، أو لا تبقى شبهة عنده هو، فهذا أمرٌ لا قدرة للبشر عليه، ولا علم لهم به، ولا يلزم أن يكون الكفر عناداً بل قد يكون كفر جهلٍ وتكذيبٍ، وهو كفر من بلغه الحقَّ فأصرَّ على الباطل والشرك لإعراضه عن فهمه، وأما إذا بلغه الحق بطريقةٍ لا يفهمها مثله، كإنسانٍ لا يعرف العربية تُتلى عليه الآيات بغير ترجمة، فإذا ترجمت له فأصرَّ قامت عليه الحجة".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (23/ 346): "وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها؛ فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها".
قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر في "النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين" (ص 638): "وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهماً جلياً كما يفهمها من هداه الله ووفقه وانقاد لأمره".
قال الشيخ محمد رشيد رضا في "نبذة شريفة" (ص 638) مُعلقاً على العبارة السابقة: "هذا القيد الذي قيَّد الشيخ به الفهم هنا قد أزال اللبس الذي يتبادر إلى الذهن من بعض إطلاقاته في مواضع أخرى، وابتعه فيه بعض علماء نحد، فصار بعضهم يقول بأن الحجة تقوم على الناس ببلوغ القرآن وإن لم يفهمه من بلغه مطلقاً. وهذا لا يُعقل ولا يتفق مع قوله: {ومن يُشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهُدى} (النساء: 115)، الذي بنى عليه المحققو قولهم أن فهم لدعوة بدليلها شرطٌ لقيام الحجة، وقد علمنا من هذا القيد أن الفهم الذي لايشترطه الشيخ هو فقه نصوص القرآن المؤثر في النفس، الحامل لها على ترك الباطل كما يفهمها من اهتدى بها، ففقهم التفقه في الحقيقة أخص من فهم المعنى اللغوي.
ثم قال: والمشركون الذين شبههم بالصم البكم المحتوم على قلوبهم كلهم قد فهموا مدلول آيات القرآن في التوحيد والبعث والرسالة؛ لأنهم أهل اللغة".
[19] وقال في رسالته إلى أحمد بن عبد الكريم من أهل الحسا: "فإذا كان المعين يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به، فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} (الأنعام: 25)، قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} (الأنفال: 22).
وإذا كان كلام الشيخ (يعني ابن تيمية) ليس في الشرك والردة، بل في المسائل الجزئيات، سواء كانت من الأصول أو الفروع.
ومعلوم أنهم يذكرون في كتبهم في مسائل الصفات أو مسألة القرآن أو مسألة الاستواء أو غير ذلك مذهب السلف، ويذكرون أنه الذي أمر الله به ورسوله، والذي درج عليه هو وأصحابه، ثم يذكرون مذهب الأشعري أو غيره، ويرجحونه ويسبون من خالفه. فلو قدرنا أنها لم تقم الحجة على غالبهم، قامت على هذا المعين الذي يحكي المذهبين: مذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ثم يحكي مذهب الأشعري ومن معه.
فكلام الشيخ في هذا النوع يقول: إن السلف كفّروا النوع، وأما المعين: فإن عرف الحق وخالف كفر بعينه، وإلا لم يكفّروا.
** تمت بحمد الله **
فعادى الذي عادى لدين مُحمَّدٍ … وكفّر من قد شاع بالكفر باطله
وقد بلغتهم قبل ذلك حجةٌ … وقامت عليهم بالبلاع دلائله
الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق